مجله البيان (صفحة 4279)

لماذا نكره أمريكا؟ (قراءة في وثيقة المثقفين الأمريكيين الستين) (1 - 2)

في دائرة الضوء

لماذا نكره أمريكا؟

(قراءة في وثيقة المثقفين الأمريكيين الستين)

(1 - 2)

خالد أبو الفتوح

abulfutoh@hotmail.com

في سابقة غير معتادة على الوسط الثقافي الأمريكي أصدر ستون مثقفاً ومفكراً

وأكاديمياً أمريكياً في فبراير الماضي وثيقة أعدها معهد القيم الأمريكية بعنوان:

(على أي أساس نقاتل؟) يشرحون فيها مسوغات تأييدهم للحرب الدائرة الآن

ضد ما يسمى بالإرهاب.

بدأت الوثيقة بمقدمة توضح أن الحرب تكون أحياناً خياراً لا مفر منه، ولكنها

عندئذ لا بد من التصريح بالمبادئ الأخلاقية التي على أساسها يخوض الوطن هذه

الحرب، ومن ثم ذكروا خمس حقائق عدوها أساسية ومتعلقة بجميع البشر بدون

تمييز، هي:

1 - أن جميع الناس يولدون أحراراً متساوين في الكرامة والحقوق.

2 - أن الإنسان هو العنصر الأساس للمجتمع، أما دور الحكومات الشرعية

فهو المساعدة في تطوير الازدهار البشري وحمايته.

3 - أن من طبيعة البشر الرغبة في البحث عن الحقيقة في معنى الحياة

ومصيرها.

4 - أن حرية الضمير والاعتقاد والحرية الدينية من الحقوق العامة لجميع

البشر والتي لا تقبل أي انتقاص.

5 - أن القتل باسم الله مخالف للإيمان بالله، وهو يعد أعظم خيانة لشمولية

معنى الإيمان لدى البشر.

ثم أردفوا: «نحن نقاتل للدفاع عن أنفسنا وعن هذه المبادئ العالمية» .

ثم أوضحوا «ما هي القيم الأمريكية» مبينين أساسها ومنابعها وعالميتها

وفرادة تكوُّن أمة عليها (الأمة الأمريكية) ، مع الإشارة إلى أهم هذه القيم، ولم

ينسوا الإشارة إلى أن من قاموا بتنفيذ تفجيرات سبتمبر كانوا «لا يحقدون على

حكومتنا فحسب، ولكن على كامل مجتمعنا وطريقتنا في الحياة، فبصورة أساسية

يتجاوز كرههم لما يفعله زعماؤنا إلى هويتنا كأمة» ، كما لم ينسوا ذكر بعض القيم

السلبية في المجتمع الأمريكي، والتعريج على أن بعض ممارسات وسياسات أمريكا

قد لا تتفق مع هذه القيم والمبادئ، ولكن في الوقت نفسه فإن هذه القيم السلبية

والتباين بين القيم والممارسة لا ينبغي «أن تسوغ أو حتى تفسر التذبيح الجماعي

للأبرياء» الذي حدث في سبتمبر.

وتحت عنوان: «ماذا عن الله؟» تحدثوا عن موقف المجتمع الأمريكي من

الدين، وأنه أكثر الشعوب الغربية تديناً، وأن علمانية الدولة الأمريكية علمانية غير

مخاصمة ولا محاربة للدين، بخلاف من يقمعون الدين بالكلية أو يعتنقون العلمانية

الأيديولوجية أو يعتنقون الثيوقراطية، مع احترامهم كأمة لتعدد الأديان وحرية

الاعتقاد، وفي ثنايا ذلك تعرضت الوثيقة لخطورة شن حرب دينية سواء كانت باسم

(الحرب المقدسة) أو (الحرب الصليبية) على العدالة والإيمان الديني نفسه.

وقبل الخاتمة وصلت الوثيقة إلى بيت القصيد الذي جاء تحت عنوان:

(حرب عادلة) ، فذكروا أولاً أن الحرب بجميع أنواعها أمر شنيع، ولكنها قد

تكون أحياناً شراً لا بد منه، وذلك عندما تكون «في مقابلة أعمال عنيفة هائلة

ظالمة ناشئة عن الحقد والبغضاء، وهذه أحد الأوقات» ، ولكنها مع ذلك لا بد أن

تكون حرباً عادلة وليست لغرض «تعزيز الوطن أو للانتقام لما مضى من الظلم أو

لضم الأراضي أو لأي غرض آخر غير الدفاع» ، فالمسوغ الأخلاقي الرئيس

للحرب هو «صيانة الأبرياء من الخطر الأكيد» وليس المشكوك فيه أو القليل أو

الذي يمكن إزالته بطريقة أخرى غير الحرب.

ومن شروط الحرب العادلة - كما ذكروها - ألا يقوم بها «إلا السلطة

الشرعية التي تتولى التدبير العام للشعب؛ فالعنف الصادر من الأفراد على سبيل

اغتنام الفرص أو بدون نظام لن يقبل أبداً من ناحية الأخلاق» ، كما أن من

شروطها عدم قيامها ضد غير المقاتلين بالقصد والتعمد، أما وقوع ضحايا مدنيين

أثناء الحرب بغير قصد ولا تعمد فذلك أمر جائز وغير مناف لأخلاقية الحرب كما

ذكرت الوثيقة.

ثم عادت الوثيقة وذكَّرت بأن من قاموا بتفجيرات سبتمبر استهدفوا مدنيين

أبرياء بالقصد والتعمد، ولم يكن لهم هدف سوى قتل أكبر عدد ممكن من الأفراد أياً

كان جنسهم أو دينهم أو عملهم، وأنهم كانوا ضمن شبكة عالمية واسعة الانتشار لا

تعادي السياسات الأمريكية والغربية فحسب، ولكنهم يعادون التسامح الديني وحقوق

الإنسان الأساسية.. وقالوا: إنها حركة متطرفة تدعي الإسلام ولكنها في الحقيقة

تخالف تعاليمه ومبادئه، فهم «خطر يهدد الإسلام وحرمته مثل تهديدهم للنصرانية

واليهودية وغيرهما من الأديان» ، وهي فوق استخفافها بحياة البشر وإنكارها

للاحترام المتساوي لجميع الناس ورفضها أساس الحياة الحضارية واحتمال تعايش

الأمم بسلام.. تملك إمكانات وخبرات واستعدادات تمكنهم من بعث الخراب الهائل

فيمن يستهدفونهم.. ولأنهم يهددوننا جميعاً «فإننا باسم الأخلاق العالمية للبشر مع

الوعي التام بقيود ومقتضيات الحرب العادلة نقوم بتأييد قرار حكوماتنا ومجتمعاتنا

في القيام ضد هؤلاء بالقوة المسلحة» .

ثم جاءت خاتمة الوثيقة مذكرة بأن الفوز في هذه الحرب أمر ضروري

لأمريكا وجميع حلفائها، لأنها حرب للدفاع عن المبادئ الإنسانية العالمية وعن

جميع البشر، ثم في خطاب أقرب ما يكون إلى نفسية (يكاد المريب يقول خذوني!)

وجهت كلامها إلى «إخواننا وأخواتنا في المجتمعات الإسلامية، نحن نقول لكم

بكل صدق: لسنا أعداءكم، بل نحن أصدقاؤكم، من الضروري ألا تكون بيننا

عداوة فإننا مشتركون في أمور كثيرة جداً ... نعرف أن لدى بعضكم سوء ظن بنا،

ونعرف أيضاً أننا نحن الأمريكيين نساهم في مسؤولية هذا الظن السيئ، ولكن من

الضروري ألا نكون أعداءكم ... » .

كان هذا ملخصاً لأهم ما ورد في الوثيقة [1] ، وهي كما ترى تدور حول ثلاثة

محاور:

1 - تحديد المبادئ والقيم المرجعية التي على أساسها بنى هؤلاء المثقفون

موقفهم.

2 - رصد مفصل لقيم المجتمع الأمريكي وما تفرد به، وهو ما أسموه

بالنموذج الأمريكي.

3 - تقديم مسوغات تأييدهم موقف الإدارة الأمريكية وحلفائها فيما أسموه

بالحرب ضد الإرهاب.

وقبل التعرض لمناقشة الوثيقة والتعليق عليها موضوعياً أذكر بعض

الملحوظات الشكلية التي أخذت على الوثيقة، منها:

1 - أن الوثيقة رغم أنهما ضمت توقيعات شرائح متعددة من المثقفين

الأمريكيين - معظمهم رسميون أو شبه رسميين - إلا أنها تعد معبرة عن اتجاه

واحد تقريباً من اتجاهات المثقفين الأمريكيين، هو ما يطلق عليه اتجاه يمين الوسط،

وقد أصدر لاحقاً اتجاه ثقافي آخر هو الاتجاه اليساري الاشتراكي في 10 /4/ 2002م وثيقة أخرى موقعة من 128 مفكراً وناشطاً أمريكياً، يعارضون فيها

الوثيقة الأولى ويعارضون توجه الإدارة الأمريكية في هذه الحرب، ومع ذلك فإن

الوثيقتين وإن كانتا تدلان على وجود قدر من تعدد المواقف في الوسط الثقافي

الأمريكي إلاط أنهما لا تدلان على وجود تعدد متساوٍ أو متكافئ في المواقف لدى

الرأي العام الأمريكي، فالوثيقة الثانية «تبقى عند هامش الهامش، إذ ليس من

يناقشها ولا من يتفاعل معها خارج إطار جمهورها (اليساري) الضيق شبه

العشائري» - كما يقول حسن منيمنة (الحياة 14/4/2002م) - ومن هنا كان

الاهتمام بالوثيقة الأولى التي تعبر عن رأي عام كاسح في أمريكا.

2 - وإضافة إلى كون إصدار الوثيقة بهذه الصورة الجماعية سابقة غير

مألوفة في تعاطي المثقفين الأمريكيين مع الأحداث العامة، وإلى كون الموقعين على

الوثيقة رسميين أو شبه رسميين.. فإنها نشرت بالأساس خارج أمريكا في صحف

فرنسية وألمانية وإيطالية وغيرها من الصحف الأوروبية، واقتصر نشرها في

أمريكا على نطاق ضيق في مواقع إنترنيتية، أي أنها تخاطب الرأي العام الخارجي

في الأساس، وإذا أضفنا إلى ذلك كونها صدرت بعد بدء الحرب وظهور فظاعاتها..

فإن الشبهة التسويغية لممارسات الإدارة الأمريكية ستلقي بظلالها على هدف

الوثيقة.

3 - وقد ظهرت بوضوح هذه السمة في الوثيقة، سواء في منهجها أو في

طريقة صياغتها، فقد بدأت الوثيقة بمقدمة تقريرية لمبادئ يصعب معارضتها،

وذلك ما يسهل التسليم بالنتائج التالية لهذه المقدمة، عندما يغفل عن انطباق تلك

المبادئ على هذه النتائج، كما أن الوثيقة استبقت مضمونها بعدة إجراءات احترازية،

منها: تقرير كونية المبادئ التي ساقتها المقدمة، وأن المجتمع الأمريكي أكثر

المجتمعات الغربية تديناً، وأن الحرب الأخلاقية العادلة تقرها اليهودية والنصرانية

والإسلام، وأن المبدأ الأخلاقي يقتضي التدخل لحماية الأبرياء.

كما أنها - لإضفاء مزيد من المصداقية - مارست نوعاً من النقد الذاتي على

القيم الأمريكية والمجتمع الأمريكي، ولكنه نقد أقرب إلى ذر الرماد في العيون، فقد

وجه هذا النقد بالأساس إلى المجتمع الأمريكي وليس إلى السياسات الأمريكية التي

تنتهجها الإدارات المتتابعة، كما أنه جاء بشكل وجيز وغير محدد ودون الإفصاح

عن كون هذه الأخطاء تفوق الالتزام بالمبادئ المذكورة أم لا، وفي المقابل: ذكرت

الوثيقة بالتفصيل (جرائم) القتل التي ارتكبت بحق الأمريكان من قبل عرب

ومسلمين (مسوغات الحرب العادلة) ، مع إغفال ذكر الآلاف الذين قتلوا من

هؤلاء على أيدي الأمريكان أو بأسلحتهم ودعمهم، ومع إغفال تقديم إجابة مقنعة

قائمة على تحليل علمي أو منطق عقلي لسؤال جوهري مطروح، هو: لماذا

يكرهوننا؟ !

وعوضاً عن ذلك مارست الوثيقة نوعاً من التزلف المفضوح عبر تأكيد

تفريقها بين (إسلام بن لادن والقاعدة) و (الإسلام الحقيقي) ؛ في محاولة

لاستقطاب وتحييد شريحة المثقفين المسلمين المستهدفين، وهم الذين وجه الخطاب

إلى مجتمعاتهم مباشرة في نهاية الوثيقة بأسلوب دعائي مكشوف.

4 - كما يظهر في الوثيقة نوع من ممارسة الأبوية الثقافية التي تتحدث

بوصفها الوصية على قيم العدالة والحرية والإنسانية، حيث بدا وكأن الحقيقة

يمتلكها بصورة أحادية طرف واحد، وبدا وكأن هذا الطرف يكفيه التعريف بنفسه

لاستجلاب حب الآخرين له وإقناعهم بما يقوله.. فها هي أمريكا (المعلم) تتحدث،

وعلى العالم أن يصغي ويفهم ويتعلم عساه يكتسب القيم الأمريكية المطلقة التي

أوصلتها إلى سيادة العالم..! وهي روح تجافي (قيم ومبادئ) التعددية واحترام

الآخر وحرية الرأي.

ورغم هذه الملحوظات (الشكلية) فإننا سوف نتعامل مع الوثيقة بجدية

باعتبارها صادرة عن شريحة لا يستهان بها من مثقفي أمريكا، وباعتبارها معبرة

عن قطاع كبير من الرأي العام الأمريكي، وسوف نتعامل معها أيضاً بصراحة

وشفافية يقتضيهما أي (حوار) صادق وموضوعي.

وفيما يأتي مناقشة لبعض الملحوظات الموضوعية التي تَرِد على الوثيقة.

* مفاهيم على المحك:

المبادئ المقدسة:

حاولت الوثيقة نفي أن تكون الحرب الدائرة حالياً التي أسموها بالحرب ضد

الإرهاب حرباً انتقامية أو لتحقيق مصالح، وذلك للوصول إلى كونها حرباً (عادلة) ،

فركزت على تأصيل أنها حرب من أجل المبادئ والقيم دفاعاً عن مبادئ عالمية

هي المبادئ الخمسة التي ذكرتها في بداية تلخيص الوثيقة، ودفاعاً عن أنفسهم،

وأنفسهم هنا لا تعني ذواتهم فقط، بل هويتهم ومكتسباتهم (الحضارية) ، وفي

معرض التعريف بـ (من نحن؟ وما هي قيمنا؟) أوردوا أربع قيم (أمريكية)

يعتزون بها ويعدونها مبادئهم الأساسية، كما يعدونها في الحقيقة ميراثاً مشتركاً

للبشرية على أساسها يمكن بناء المجتمع العالمي على السلم، والعدل، وهذه القيم

هي:

1 - يملك الأفراد حرمة ذاتية كحق مكتسب بمجرد وجوده كإنسان، ومن ثم:

يجب أن يعامل كل إنسان كغاية لا وسيلة.

2 - الإيمان بوجود حقائق أخلاقية شمولية (قوانين الطبيعة وقوانين إله هذه

الطبيعة) وأنها في متناول جميع الناس.

3 - أكثر الاختلافات حول القيم تلزم الاتجاه إلى المدنية والانفتاح على آراء

الآخرين والمناقشات السليمة في سبيل البحث عن الحقيقة.

4 - حرية الضمير والحرية الدينية مترابطتان، يعترف بهما في أمريكا

وخارجها كانعكاس للاحترام الأساسي للبشر وكشرط مسبق للحريات الفردية الأخرى.

ومن أجل أن تكون هذه الحرب العادلة قائمة على أساس متين فقد أضفت

الوثيقة على المبادئ التي أوردتها صفات تليق بمكانتها.. فهي - بحسبهم - مبادئ:

صحية، مصدرها الآباء المؤسسون لأمريكا، إنسانية تتعلق بجميع البشر بدون

تمييز، كونية تنتشر في جميع الأرجاء لا تقتصر على دولة أو أمة أو دين رغم

انفراد أمريكا بقيامها عليها وتبنيها لها مجتمعاً ودولة.

وإذا تجاوزنا أن بعض هذه المبادئ والقيم هي من قبيل تحصيل الحاصل الذي

تدعيه كل أمة وترفعه كل ثقافة (وكلٌّ يدعي وصل ليلى!) ، وأن بعضها الآخر

يستحق المناقشة ويحتاج إلى أخذ ورد [2] ، فإن السؤال البدهي الذي يبرز هو: أين

هو وجه التفرد الأمريكي الذي يميز هذه المبادئ والقيم؟ وهنا تكمن خطورة النهج

الذي انتهجته الوثيقة في التعامل مع هذه المبادئ والقيم؛ فخطورة هذا النهج ليس

في المبادئ نفسها ولكنها تكمن في الصفات التي أضفتها الوثيقة على هذه المبادئ

والقيم:

فمن المعروف أن الآباء المؤسسين كما يطلق عليهم لم يكونوا أنبياء

معصومين بحيث يمكن جعلهم مثالاً ومرجعيات لقيم إنسانية عامة، أو لتؤخذ أقوالهم

مسلَّمات وحججاً يقينية، بل من المعروف أن بعض هؤلاء الآباء كانوا يمارسون

أنواعاً من المعاملات غير الإنسانية كالاجتياح الاستعماري لأراضي وخيرات

غيرهم، أو الإبادة والتطهير العرقي أو التمييز العنصري واستعباد الآخرين، ومن

هنا ركزت الوثيقة على الاقتباس من أقوال الدكتور مارتن لوثر كينج الذي يعد بطل

أمريكا القومي لمحاربة العنصرية.

وبمعنى آخر: فإن القيم والمبادئ (الأمريكية) التي عرضتها الوثيقة على

أنها قيم مطلقة خالدة هي في الحقيقة قيم لم تكن مستقرة وثابتة، بل متغيرة

ومتطورة.. وإذا كانت كذلك، فما الذي يمنع من استمرار تغيرها وتطورها؟ ! ..

محاولة الإجابة على هذا السؤال تقربنا أكثر من مكمن الخطورة في نهج الوثيقة عند

تعاملها مع هذه المبادئ والقيم، فالوثيقة عندما تضع هذه المبادئ والقيم (الأمريكية)

على أنها قيم مطلقة وثابتة و (عالمية) فإنها تقول إن تطور التجربة الأمريكية

وصل إلى حد النضج والكمال، والنموذجية التي ينبغي معها أن يحتذيها كل البشر-،

وهو مفهوم يتسق مع المعنى الغربي لمصطلح (الحضارة) -، وهو ما

يذكرنا بطرح فوكوياما -، وهو أحد الموقعين على الوثيقة - حول (نهاية التاريخ) .

والوثيقة عندما تنحو هذا المنحى فإنها في الحقيقة ترفض وجود تعددية

(حضارية) وإن كانت تقبل بوجود تعددية (ثقافية) ، وبمعنى آخر فإنه إذا كانت

هذه المبادئ والقيم مطلقة ويقينية وإنسانية فإن أي (حضارة) لا تقوم عليها تكون

(حضارة) غير إنسانية، وفي هذا النطاق يمكن قبول تنوع في (التطبيق الحضاري)

الذي قد يظهر تعدداً في (التجارب الحضارية) بحسب كل بيئة وكل ثقافة،

ولكنه لا بد أن يكون دوماً على أسس المبادئ والقيم التي ذكروها.

وإذا كان الأمر كذلك فما مصير من يدعون امتلاكهم لقيم ومبادئ أخرى تقوم

عليها (حضارات) مخالفة؟ .. الإجابة على هذا السؤال تقودنا إلى طرح خطير

آخر لمفكر أمريكي آخر - من الموقعين أيضاً على الوثيقة - وهو صموئيل

هانتينجتون، وهو أن المصير المحتوم هو (صدام وصراع الحضارات) .

وإذا كان ذلك على المستوى الفكري والثقافي فإننا نجد صداه أيضاً على

المستوى السياسي فيما يمس (الحرب العادلة) التي تؤصل لها الوثيقة، فتقسيم

العالم إلى محورين: محور الخير تمثله أمريكا وحلفاؤها، ومحور الشر يمثله

المناهضون لأمريكا أياً كانت انتماءاتهم وثقافاتهم.. هو في الحقيقة انعكاس لهذا

التأصيل الفكري.

كما أن الإعداد لحرب تطال أكثر من ستين دولة وتدوم عشرات السنين - كما

صرح ساستهم - وإعلان أن من ليس معنا فهو ضدنا، ناهيك عن فلتات

التصريحات بكون الحرب حملة صليبية، وما يعنيه وصول جهود المكافحة

والحصار إلى معاقل الفكر والتعليم والإعلام.. هو في الحقيقة تنفيذ لهذا التأصيل.

وإذا كان هذا التأصيل ينافي التعددية واحترام الرأي الآخر التي تقوم عليها

الديمقراطية والتي تنادي بها الوثيقة نفسها، فما المغزى من التأكيد على هذا

التأصيل وجعله أساس تسويغ (الحرب العادلة) وتوطئة للإقناع بها؟ .. المغزى

في نظري هو وضع من يخالف ذلك (القاعدة حالياً والموسومين بالأصولية

الإسلامية لاحقاً) في موقع المضادين والمناوئين (للحضارة الإنسانية) ، الذين

يجب القضاء عليهم، لأنهم ضد البشر وضد التطور الإنساني وضد التاريخ؛ أي

تحويل أمريكا إلى وكيلة عن البشر للدفاع عن مكتسباتهم، وتحويل حربها ضد

الآخرين إلى حرب إنسانية نبيلة ينبغي دعمها والوقوف معها، ليس من أجل أمريكا

بل من أجل الإنسانية.

بين المبادئ والممارسة:

ولأن لأمريكا سجلاً أسود من المظالم والاضطهاد والهيمنة - سنعرض لبعضه

لاحقاً - فقد استبقت الوثيقة نقد المجتمع الأمريكي بوجوب التفريق بين المبادئ

والقيم (الخالدة) التي يتبناها هذا المجتمع ويحاربون من أجلها، وبين التقصير في

تطبيق هذه المبادئ أو الوقوع في ممارسات قد يورد عليها الخطأ والتجاوز، والتي

قد يشترك الموقعون على الوثيقة في نقدها أيضاً.. كما أنهم أكدوا على أن هذه

الممارسات الخاطئة لا تخول لأحد استهداف المجتمع الأمريكي ومعاقبته عليها.

وفي المقابل فإنهم ذكروا أكثر من مرة أن القائمين بأحداث سبتمبر كانوا

يستهدفون المجتمع الأمريكي وقيمه ومبادئه بالأساس، وأنه لم يكن لهم هدف سام أو

مبدأ إلا القتل لأجل القتل.

وهكذا وضعت الوثيقة حاجزاً مزدوج الاستخدام: لحماية المجتمع الأمريكي

من الاستهداف، ولكشف المستهدفين من الحرب أمام الهجوم عليهم.

قد يبدو هذا التفريق منطقياً وعادلاً من أول وهلة، ولكن عند التأمل يبرز

تساؤل: بغض النظر عن أحداث سبتمبر: هل مجرد إقرار مبادئ سامية يصلح

لأن يكون مسوغاً لعدم معاقبة والتهاون مع من يمارسون مظالم وانتهاكات وخاصة

أن الوثيقة تفاخر بأنه «في ديمقراطية مثل التي عندنا، تنبع سلطة الحاكم من إرادة

محكومه، وتستمد السياسات جذورها من قيم وأولويات المجتمع ككل» ؟ ألا يعد

ذلك قريباً من إسباغ للمشروعية على منطق (روبن هود) وعلى نظرية مكيافللي؟

وتبرز إشكالية إذا كانت الوثيقة تريد استغلال ذلك الفصل بين القيم والمبادئ

والممارسات للحيلولة دون إعطاء شرعية لاستهداف المجتمع الأمريكي ونظامه..

فإن المنطق نفسه ينبغي إعماله مع المجتمع الإسلامي الذي يحمل ويعلن مبادئ وقيماً

سامية ولكن تقع من بعض المنتسبين إليه ممارسات سيئة سواء من وجهة نظر

المسلمين أنفسهم أو من وجهة نظر غيرهم، فتكون الحرب الدائرة الآن هي

استهداف وعقوبة لشعوب ومجتمعات إسلامية على جريمة لم تقترفها وممارسات

ليست مسؤولة عنها، وهو ما يتنافى مع الحرب التي يدعمها هؤلاء المثقفون.

والأهم من ذلك: كيف يكون الأمر عندما تتحول هذه الممارسات (الخاطئة)

إلى انتهاكات للمبادئ والقيم نفسها التي تدعي الوثيقة الدفاع عنها؟ ألا يكون حينئذ

الأخذ على يد من يمارسون هذه الانتهاكات هي للدفاع عن هذه المبادئ؟ .. فإبادة

الهنود الحمر كان قتلاً باسم الله، وشن حروب الاستعمار كان استعباداً لأناس

يولدون أحراراً وهدراً لكرامتهم وحقوقهم، والتدخل في كيفية فهم الإسلام والمناهج

التعليمية انتهاك للحرية الدينية، وإجبار الشعب الياباني على ترك معتقده في

الإمبراطور بعد هزيمتهم في الحرب العالمية الثانية انتهاك لحرية الضمير والمعتقد،

بحسب المبادئ التي أعلنتها الوثيقة.

إن من المغالطة المتاجرة باسم المبادئ رغم التفاصيل البشعة التي تصل كل

يوم عن ممارسات تنتهك هذه المبادئ، فعندما يوجد ظالم يمارس ظلمه على

ضحاياه ليل ونهار، فلن يغني عنه ولن يحول موقف هؤلاء الضحايا منه كونه يلقي

عليهم من حين لآخر دروساً في العدل وأهميته ومفهومه، بل سيعدون ذلك نوعاً من

الازدواجية أو الانفصام أو النفاق، فالواقع يشهد أن له التغني بعدله ولهم التلظي

بظلمه.

والوثيقة تشير - ضمناً - على من يتضرر من هذه الممارسات والتجاوزات

أن يجتهد في التأليب السياسي والثقافي فقط، وحتى ندرك أن الأزمة الحالية

تجاوزت المستويات الخلقية والقانونية وتحتاج إلى وقفة صادقة مع النفس وتحليل

أعمق من التسطيح المتداول، إليكم ما ذكره الكاتب الأمريكي نعوم تشومسكي في

مقالٍ له بعنوان: (الإرهاب سلاح الأقوياء) ، إذ يقول:

«حرب إدارة ريجان ضد نيكاراجوا أوقعت 75 ألف ضحية بينهم 29 ألف

قتيل ودمار بلد لا رجاء لقيامته.

في ذلك الوقت ردت نيكاراجوا، ليس بتفجير قنابل في واشنطن، بل باللجوء

إلى محكمة العدل الدولية التي حكمت في 27/6/1986م لصالح سلطات ماناغوا؛

إذ دانت» استعمال الولايات المتحدة غير الشرعي للقوة «والتي لغمت مرافئ

نيكاراجوا، كما طلبت المحكمة من واشنطن وضع حد لجرائمها مع دفع تعويضات

كبيرة، جاء رد الولايات المتحدة برفض الانصياع للحكم وتوقفها عن الاعتراف

بشرعية محكمة العدل الدولية!

عند ذلك طلبت نيكاراجوا من مجلس الأمن الدولي تبني قرار يطالب الدول

باحترام القانون الدولي، لم يشر إلى أي دولة بالاسم لكن كان مفهوماً أن المقصود

هي الولايات المتحدة التي مارست حق النقض لرد هذا القرار. فتكون الولايات

المتحدة البلد الوحيد الذي حكمت عليه محكمة لاهاي واعترض على قرار يطالب

باحترام القانون الدولي.

ثم توجهت نيكاراجوا إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة ولم يلق اقتراح القرار

الذي تقدمت به اعتراضاً إلا من ثلاث دول هي: الولايات المتحدة وإسرائيل

والسلفادور، وفي التصويت على القرار نفسه في العام التالي لم يبق سوى إسرائيل

هذه المرة لمساندة إدارة ريجان، لم يعد بعد ذلك في يد نيكاراجوا أي وسيلة قانونية

تلجأ إليها. فلقد أخفقت جميعها في عالم تحكمه القوة.

فكم مرة تكلمنا عنها في الجامعة وفي الصحف» [3] .

ترى، ما هو ملجأ نيكاراجوا بعدئذ؟ ما العمل لتطبيق المبادئ العادلة مع من

يمارسون الظلم والإجحاف والإرهاب ويطؤون (الديمقراطية) بحق النقض،

ويطؤون (الشرعية الدولية) بالقوة والغطرسة؟

حقاً، لقد كان أوْلى بالمثقفين والمفكرين الوقوف في وجه كل منتهك للمبادئ

والأخذ على يده أيًّا كان، حتى يكونوا بالفعل حماة لهذه المبادئ، فلم تعد تجدي

المحافظة على قيم ومبادئ يساء دوماً استخدامها وتنتهك في ممارسات المنادين بها.

الحرب العادلة:

صرحت الوثيقة بأن الحرب الدائرة حالياً ليست حرباً انتقامية أو لتحقيق

مصالح، ولأجل الوصول إلى كونها حرباً (عادلة) ألحت على اعتبارها حرباً

شنت دفاعاً عن المبادئ والقيم ومؤسسة على دعائم أخلاقية.

ورغم أن المجتمع الغربي عامة باعتراف مفكري الغرب تخلى بعد الحرب

العالمية الأولى عن الأخلاق والمبادئ، وأثر فيه ذلك إخفاقاً أخلاقياً واجتماعياً ذريعاً،

كما أثر على نظرتهم إلى (الآخر) وعلاقاتهم الدولية التي باتت تحددها المصالح

قبل كل شيء، وهو ما جسدته الفلسفة البراجماتية في نموذجها الأمريكي الصارخ..

فإن سؤالاً يبرز بإلحاح: هل بالفعل لا يحدث الصراع تنظيراً وواقعاً إلا عندما

يكون دفاعاً عن المبادئ فقط، أم أنه من الممكن أن يكون أيضاً بسبب المصالح

(لاكتسابها أو دفاعاً عنها) ؟ أليس ما تدعو إليه الوثيقة يعد (مثالية) تجافي

(البراجماتية) التي يؤمنون بها ويعيشون في ظلها؟

ومع أن (الحرب العادلة) هي قاعدة تسويغ الحرب الدائرة حالياً، والتي

خرجت الوثيقة لتأييدها ودعمها، إلا أن الوثيقة لم تقدم لنا مفهوماً محدداً لها، فلم

تذكر ما هي طبيعتها؟ ومن الذي له حق إطلاقها وإيقافها؟ وإلى من توجه؟ وما

الممارسات المشروعة والممنوعة فيها؟ وما حدودها الأخلاقية والعملية؟ وما مصير

من يختلف معهم في تحديدها؟ .. إلى آخر الأسئلة التي كان يفترض أن تهتم بها

الوثيقة.

لقد جاء الحديث عن (الحرب العادلة) غامضاً وفضفاضاً وضبابياً، تماماً

مثل مصطلح (الإرهاب) الغامض والمعقد والفضفاض سياسياً وقانونياً، تلك

الصفات التي تستغل في كلا المصطلحين لخدمة الهيمنة المحلية والدولية وغلبة القوة

والقهر على الحق والعدالة، وهو ما بدا واضحاً في الحرب الدائرة الآن في انتهاك

حقوق مسلمين - أمريكيين أو مقيمين في أمريكا - بعد أحداث سبتمبر، وفي

استهداف مؤسسات فكرية وإعلامية وتعليمية إسلامية، وفي إجراءات اقتصادية

ومصرفية، وفي قتل مدنيين ومستسلمين، واستخدام أسلحة محرمة دولياً.. ثم في

فتح نطاق الحرب لتطال دول (محور الشر) الذي حدد بناءً على مفهوم الإدارة

الأمريكية للخير! .. كل ذلك مع التعامي عن بل تأييد وتعضيد الممارسات

الإرهابية الصهيونية.. وغيرها مما يدل على ازدواجية المعايير، وهو ما قد

نعرض لطرف منه.

نعود إلى الوثيقة لنجد أنها ذكرت (ملامح) لهذه الحرب العادلة، فكان مما

ذكرته:

- أنها حرب للدفاع عن المبادئ، والقيم وليست من أجل المصالح أو الانتقام

أو لأي غرض آخر سوى الدفاع.

- وأنها لحماية الأبرياء من الخطر الأكيد.

- وأنها لا تجوز ضد غير المقاتلين قصداً.

- وأنها لا يقوم بها إلا سلطة شرعية معترف بها، وتتولى التدبير العام

للشعب.

وهي ملامح - كما نرى - محاكة على مقاس الحرب الأمريكية الحالية، ومع

ذلك فإنها لا تخلو من اعتراضات وتحفظات، سواء في المفاهيم التي تحملها أو

الإسقاطات التي تراد لها، ولكن قبل أن نذكر هذه الاعتراضات نذكر بأنه ما من

أمة أو جماعة شنت حرباً على آخرين إلا وهي تعتقد أنها تملك أسباباً مشروعة

ووجيهة للحرب، وكما يقول بيان المثقفين الثاني المعارض للحرب ولتسويغها باسم

الحرب العادلة فإن «الحكومات التي تشن الحروب العدوانية تحاول دائماً الحصول

على الدعم الوطني من خلال إقناع الناس العاديين بأن الحرب ضرورية للدفاع عن

الأفكار النبيلة ونشرها!» .

لقد فات الموقعين على الوثيقة أن هذا المنطق الذي استخدموه لتسويغ (حربهم

العادلة) من الممكن أيضاً أن يتحول إلى ذريعة لآخرين للقيام بالفعل نفسه، أي:

شن (حرب عادلة) من أجل (مبادئ سامية) أخرى غير تلك التي ذكروها،

وحينها لن يعدم أحد وجود مبادئ ما لتسويغ حربه حتى ولو كانت انتقامية أو

مصلحية أو توسعية، ولعل ذلك ما دعاهم إلى إغلاق هذا الباب بادعائهم يقينية

وعالمية المبادئ والقيم التي ذكروا أن حربهم هي للدفاع عنها،

فماذا عن الملامح المذكورة؟ :

- النقطة الأولى سبق نقاشها، ولكنا نضيف أيضاً: أن هؤلاء المثقفين

والمفكرين عندما أسبغوا على الحرب الحالية مشروعية مستمدة من القانون الأخلاقي

الطبيعي - كما ذكرت - وأن القيادة الأمريكية عندما تبنت موقفاً متصاعداً «في

اتجاه فضاء ميتافيزيقي أكثر فأكثر، يتماهى فيه بوش وأعوانه (كما يتجلى في اسم

الحملة العسكرية ذاته» عملية الحرية الدائمة «) مع الاستقامة والنقاوة والخير

والاعتقاد بأن أمريكا هي أرض موعودة» كما يقول الدكتور إدوارد سعيد.. فإنهم

في الحقيقة أصبحوا يحاربون ما أسموه بالإرهاب بعقلية وروح تتشابهان مع من

ينعتونهم ويؤاخذونهم بهذه الصفة، فمصادرة معايير الحق والباطل، وتصنيف

الناس إلى أخيار وأشرار بناء على تلك المعايير، ورفض التوسط والحوار،

وحصر الناس بين طرفي نقيض بلا خيار ثالث لهم، وفرض الآراء والتحيز عليهم..

هي نفسها الصفات التي ينعون على الطرف الآخر اتصافهم بها وينكرونها عليهم.

وعندما تسود ثنائية (الخير والشر) لدى طرف متمتع ومنفرد بالقوة

العسكرية الساحقة وفي الوقت نفسه أحادي الرأي ورافض للحوار ومصاب بحالة

فخر قومي مرضية.. فإن كل أشكال العنصرية والتعصب التي انتقدتها الوثيقة

ستكون مباحة وممكنة، وسيتحول مفهوم (استئصال الإرهاب) المعلن إلى

استئصال لكل من يعارض أمريكا (الخيرة) ، بل ستتحول (الحرب العادلة) إلى

(صك بالذبح) يملكه القائمون عليها، ليكون حقاً مطلقاً وتسويغاً سهلاً لإطلاق يد

الضحية المفترضة (أمريكا) دون مساءلة أو حساب، ودون مراعاة لأي (مبادئ)

إنسانية، وهو ما شاهدناه في مسيرة الحرب الحالية.

وإذا كانت الوثيقة ذكرت من مبادئها أن القتل باسم الله يعد خيانة للإيمان بالله،

فكان ينبغي أن تذكر أيضاً أن القتل باسم الحرية والديمقراطية يعد خيانة للمبادئ

الإنسانية.

كان يجب على المثقفين عندما أصلوا لهذه الحرب أن يتساءلوا: من الذي

يملك حق تحقيق العدالة؟ وبأي حق تتدخل حكومتهم في أي مكان في العالم؟ ..

وكيف يلجمون انفلات قوة منفردة عندما تتحول إلى ممارسة عبثية وشهوة انتقامية؟

وما هي الحدود الفاصلة بين الدفاع عن المبادئ والقيم والدفاع عن النفس وبين

التدخل في شؤون الآخرين والإملاء عليهم؟ ... ولكن يبدو أن إثارة مثل هذه

التساؤلات لا يتسق مع هدف الوثيقة.

- النقطتان الثانية والثالثة قد لا يختلف عليهما اثنان نظرياً، ولكن الوثيقة

وهي في معرض وضع قواعد من يستحق القتل ومن لا يستحق فاتها التعامل مع

قتل الأبرياء مبدئياً وليس انتقائياً؛ فالوثيقة صدرت بعد بداية الحرب التي وقع فيها

قتلى أبرياء ومدنيون لم يحصوا بعد، ومع ذلك فإنها نهجت نهجاً مثيراً للاشمئزاز

عندما حاولت أن تقنعنا أن من المدنيين والأبرياء من يُقتل فيقتص من قاتله ومنهم

من يقتل فيعفى عن قاتله!

إذا كانت الوثيقة تقول إن غطرسة أمريكا وممارساتها الظالمة بحق الشعوب

الأخرى لا تسوغ ولا حتى تفسر الجزر الجماعي الذي حدث في سبتمبر لضحايا

نيويورك وواشنطن، فكان عليها أن تقول أيضاً حتى يكون لكلامها مصداقية إن هذه

الأحداث نفسها لا تسوغ أيضاً الجزر الجماعي لمدنيين وأبرياء في أفغانستان ولا في

غيرها من البلاد؛ فأرواح ودماء أبرياء مدنيي هذه البلاد (الفقيرة) المستضعفة

ليست بأقل قيمة وحرمة من أرواح ودماء من قضوا في نيويورك وواشنطن.

ولأن هذه اللفتة تبدو بدهية فإن الوثيقة فرقت بين أمرين: بين وقوع الضحايا

المدنيين نتيجة قصد وعمد ووقوعهم بالخطأ أثناء أعمال عسكرية، وهو ما يبدو

تفريقاً وجيهاً عند النظرة الأولى، ولكن عند التأمل فيه نجد أن حقيقة (الخطأ) في

هذه الأعمال العسكرية هو أيضاً قصد وعمد؛ لأن القنابل والصواريخ المدمرة

والضخمة التي يبلغ وزن بعضها مئات الأطنان ويقترب مفعولها من مفعول القنابل

الذرية وصيغ الحرب الحديثة التي تقلل إلى أكبر حد من المواجهات المباشرة بين

المتقاتلين.. تجعل وقوع ضحايا مدنيين وأبرياء يقيناً لا مجال للشك فيه، فمن يلقي

مثل هذه القنابل والصواريخ خاصة على المدن والقرى والمناطق المحيطة بها يلقيها

وهو يعلم يقيناً أنها سوف توقع ضحايا من غير المقاتلين، ورغم ذلك فهو يعمد إلى

إلقائها والقضاء على هؤلاء من منطلق (الاضطرار) أو لفرض (احتمال) وجود

عناصر وأهداف قتالية في المنطقة التي استهدفها، أي الزعم بأنه لم يستهدف

مدنيين أبرياء - حتى وإن وقعوا ضحايا - ولكنه استهدف أهدافاً عسكرية قتالية أو

داعمة لها، وهو المنطق نفسه الذي يقول به من أوقعوا ضحايا أحداث سبتمبر،

فهم يقولون إنهم لم يستهدفوا مدنيين أبرياء لذواتهم وإلا فملاعب الكرة مثلاً تحوي

أعداداً أكبر! ولكنهم استهدفوا ضرب اقتصاد أمريكا وقوتها العسكرية وربما رمزها

السياسي، وهي القوى التي تنفذ غطرسة أمريكا وهيمنتها في العالم.

فهل من (عدالة الحرب) وأخلاقيتها التي تروج لها الوثيقة الثأر لدماء

ضحايا سبتمبر بهدر دماء أبرياء القرويين ورعاة الأغنام في أفغانستان لمجرد أن

هؤلاء الأخيرين لا بواكي ولا بوارج حربية ولا صواريخ توماهوك لهم؟

ما الفرق الحقيقي بين ضحايا نيويورك وبين ضحايا أفغانستان وفلسطين

والعراق وقبلهم فيتنام وهيروشيما ونجازاكي؟

وما المسوغ الأخلاقي - غير التركيع والإذلال! - في قتل هؤلاء المدنيين

الأبرياء؟

- النقطة الأخيرة من ملامح (الحرب العادلة) هي حقاً مثيرة للاشمئزاز،

فواضح فيها أنها تتجاوز الحرب (الأمريكية) العادلة! لتجيَّر إلى الحرب

(الإسرائيلية) العادلة! .. وغيرها من الحروب العادلة بحسب الهوى السياسي

والمصالح الاقتصادية، والتي يتضح فيها ازدواج المعايير والبراجماتية السياسية بما

لا يدع مجالاً للشك.

فعندما تقرر الوثيقة أن «الحرب العادلة لا تقوم بها إلا السلطة الشرعية التي

تتولى التدبير العام للشعب، والعنف الصادر من الأفراد على سبيل اغتنام الفرص

أو بدون نظام لن يقبل أبداً من ناحية الأخلاق» فإنها في الحقيقة تصادر حق

الشعوب في مقاومة المحتل وحقها في مكافحة الديكتاتورية، كما أنها تكرس سيادة

قانون الغاب الذي تكون فيه الغلبة للأقوى ولا مكان للمستضعفين فيه.

فبقانون الغاب هذا احتكرت أمريكا ونظراؤها حق الدفاع عن النفس بالشكل

الذي تريده وفي الوقت الذي تحدده، وبالقانون نفسه لم يسمح لدول استهدفت ظلماً

كـ (ليبيا والسودان وفيتنام ونيكاراجوا ... ) بممارسة حقها في الدفاع عن نفسها.

والآن تأتي الوثيقة لتضيف إضافة جديدة إلى هذا القانون، وهو نزع

الأخلاقية عن حروب الشعوب المستضعفة التي تقاوم بها المحتلين والمغتصبين،

وهكذا يمكن القول: إن مقاومة الهنود الحمر كانت غير أخلاقية، والثورة الفرنسية

كانت غير أخلاقية، وحرب تحرير الجزائر من فرنسا كانت غير أخلاقية.. وهكذا

في فيتنام وغيرها إلى أن نصل إلى فلسطين وكشمير والشيشان والفلبين.

أما الازدواجية والبراجماتية السياسية فواضحة بنظرة محايدة إلى بؤر الصراع

الحالية: فالمتمردون على الحكومة السودانية الشرعية مقاتلون من أجل الحرية

والديمقراطية يستحقون الدعم العسكري والسياسي، ويضغظ على حكومة السودان

لأجل الاستجابة لمطالبهم، بينما المنظمات الجهادية في فلسطين ضد عدو محتل

ومغتصب.. حركات إرهابية لها الشجب والمطاردة ولعدوهم الدعم والتأييد،

والإرهابيون الانفصاليون في تيمور الشرقية يُمَكَّنون من الاستقلال عن إندونيسيا

بحراب الأمم المتحدة، بينما المنظمات الجهادية في الفلبين وكشمير تحاصر وتطارد،

والشيشانيون قبل (الحرب العادلة) كانوا مقاتلين من أجل الحرية، أما بعدها

ولمصلحة هذه الحرب فقد أصبحوا إرهابيين وخارجين عن القانون.. والأكراد في

تركيا تُدعَم الحكومة التركية لمحاربتهم بينما هم في العراق يُمَكَّنون من الانحياز في

مناطقهم وإقامة (حكومتهم) عليها، وهم أنفسهم الذين كانوا في السابق يسامون

سوء العذاب في حلبجة وغيرها بأسلحة كيميائية مطورة أمريكياً، ولا يسمع أحد

لاستغاثاتهم وأنينهم.

هل يظن الموقعون على الوثيقة أن التلاعب بالمفاهيم وتطويعها لتوافق

ممارسات سياسية وعسكرية مقصودة.. سينطلي دوماً على الضحية المستهدفة؟ ..

لا أظن أنهم بذلك يخدمون (العدالة) التي يتحدثون عنها.

النظرة إلى الدين:

حرصت الوثيقة على إبراز مكانة الدين ومفهومه في المجتمع الأمريكي، كما

حرصت على تقديم هذه الصورة باعتبارها نموذجاً يحتذى لعلاقة الدين مع الحداثة

والأفراد والدولة، ولعلها تريد بذلك فوق الترويج لهذا النموذج التخفيف من حدة

استهداف الآخرين للمجتمع الأمريكي باعتباره مجتمعاً (كافراً) ، وفي الوقت نفسه

الخروج به من دائرة الاتهام بالتعصب الديني و (الصليبية) .

وإشكالية علاقة الدين بالعلم وبالدولة أو بالحياة عموماً إشكالية قديمة في الفكر

الغربي، وقد حسمت الثقافة الغربية هذه الإشكالية لصالح التوجه العلماني العقلاني-

كما هو معروف -.

ولكن الملفت هنا هو محاولة تقديم هذه التجربة على أنها النموذج الذي ينبغي

أن يحتذى باعتبار إنجازات الغرب وحداثته دليلاً على نجاح تجربته، وإذا كان ذلك

على مستوى المثقفين والمفكرين فإنا نشاهد على مستوى السياسيين العمل الدؤوب

على فرض هذا النموذج للعلاقة بين الدين والحياة على الشعوب الأخرى، ووأد كل

محاولة لمقاومة هذا التدخل، فهل يليق بمثقفين ومفكرين أحرار أن ينساقوا في هذا

السياق؟

إن النصرانية عندما انحرفت عن النهج الرباني وما تلا ذلك من تسلط الكنيسة

على المجتمع الأوروبي وتعطيلها مسيرة تقدمه، كانت السبب الرئيس لاعتقاد هذا

المجتمع أن الحل في إقصاء الكنيسة والدين عن تسيير شؤون الحياة، وصاحب هذا

الاعتقاد الطرف عن البديل الإسلامي الصحيح نتيجة جهله بهذا البديل وتعصبه

ضده الذي زرعته الكنيسة وجذرته فيه، فافترض أن كل دين هو (المسيحية

والكنيسة) وافترض أن نجاحه المادي التالي كان لإقصاء الدين عن غير دائرة

الاعتقاد والضمير الفردي.

ولكن الحقيقة أن هذه الإنجازات التي يتحدثون عنها عند ذكرهم نجاح تلك

التجربة لم تكن إنجازات (حياتية) عامة وشاملة، بل كانت فقط إنجازات مادية،

أما مناحي الحياة الأخرى فكان الإخفاق الذريع على المستوى النفسي والأخلاقي

والاجتماعي والروحي للإنسان هو توابع إنجازات هذه التجربة.. فحداثتهم هذه

بجميع ألوانها تقف عاجزة منذ زمن أمام تحقيق آمال جميع البشر واجتثاث آفات

الفقر وآليات الاستبداد وفظائع العنف ومتاهات المخدرات والشذوذ الجنسي

والانتحار والتفكك الأسري.. إضافة إلى ما سببته إنجازات هذه الحداثة من تلوث

للبيئة وتهديد للحياة الفطرية وإهلاك للموارد الطبيعية ... وغيرها من المساوئ التي

يصعب حصرها، والتي تشهد بأن هذه التجربة تجربة مادية عوراء.

لم يكن النجاح المادي الذي حققته هذه التجربة بسبب تنحية الدين، بل كان

بسبب كسر العوائق التي كانت أمام العلم والتي كانت الكنيسة تقيمها وترعاها، وهو

ما لا وجود له في الإسلام، ومن ثم: فإن من الجهل والظلم أن يسعى إلى إقحام

هذه التجربة على شعوب العالم الإسلامي، فضلاً عن كون ذلك تدخلاً غير مقبول

في شؤون الشعوب الأخرى.

ولم يكن انتشار هذه التجربة (النموذج) في العالم راجعاً إلى صحتها أو

بداهتها، بل كان راجعاً إلى ضعف حاملي البديل، وإلى الهيمنة التي مارسها

أصحاب هذه التجربة التي روجوا لها وأقاموها على بحار من دماء مستضعفي

(العالم الثالث) في القرنين الماضيين. إن ما يهمنا هنا هو التوجه الغربي عامة

والأمريكي خاصة نحو تغيير المناهج في بلادنا والتأثير في الإعلام.. لمحاولة

الدعوة لمحاربة فرض هذا النموذج (الحداثي) على شعوبنا.. إننا لا نستطيع ولا

نقبل أن تفصل مفاهيمنا وثقافتنا على مقياس القيم الأمريكية.. هذا ما ينبغي أن

يفهمه الغرب مثقفوه وسياسيوه.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015