المسلمون والعالم
حسن الرشيدي
«إن الرؤساء الأمريكيين ومعاونيهم ينحنون أمام الصهاينة كما ينحني العابد
أمام قبر مقدّس» .
هكذا عبّر الكاتب اليهودي الأمريكي جون بيتر عن واقع أمريكا سابقاً ولاحقاً،
وتكشف هذه الكلمات القليلة في عباراتها الكثير من المعاني الخاصة بالصراع
الدائر الآن على أرض فلسطين، ولعل الصورة الملتقطة لجورج بوش الابن وهو
واقف في خشوع يصلي أمام ما يسميه اليهود بحائط المبكى في القدس لأكبر دليل
على صدق هذه العبارة، وعلى مدى العلاقة العقيدية بين اليهود والأمريكيين؛
خاصة أن هذه العلاقة أضحت حلفاً غير مقدس ضد كل من يحاول المساس به.
ولكي نتفهم حقيقة الموقف الأمريكي من التطورات الأخيرة التي تمر بها
الانتفاضة الفلسطينية، وندرك أبعاد رد فعل الإدارة الأمريكية تجاه معاناة الشعب
الفلسطيني لا بد من دراسة أمرين اثنين:
1- الاستراتيجية الأمريكية لمنطقة الشرق الأوسط عامة، والصراع الدائر
حالياً بأرض فلسطين بصفة خاصة.
2 - السياسات الأمريكية التي يتم بها تنفيذ هذه الاستراتيجية وتطبيقها على
أرض الواقع.
الأمر الأول: الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة العربية:
بانتهاء الحرب الباردة كانت نهاية عصر ثنائية القطبين، وتهيأت الظروف
للولايات المتحدة الأمريكية لتكون تقريباً القوة العظمى الوحيدة في العالم؛ فلم تعد
تواجه الآن أي منافس عالمي، ولا أي تحالف معاد ذي شأن، ولكن غياب أي قوة
منافسة عالمية جعل صناع القرار في واشنطن يعيدون النظر في خياراتهم
وتوجهاتهم في العالم، وتبلورت ثلاث نظريات استراتيجية أمام أمريكا:
الاستراتيجية الأولى: وتتلخص في انعزال أمريكا بحيث تنطوي على نفسها
لمواجهة مشكلاتها الداخلية.
والاستراتيجية الثانية: هي تعدد القطبية ويعتمد هذا الخيار على إحداث
توازن بين عدة قوى للحيلولة دون ظهور قوة عظمى تنافس الولايات المتحدة
الأمريكية، وحين تتناوب هذه القوى على التنافس والتعاون فإنها ستحول دون
نشوب حرب عالمية، كما تؤدي إلى تخفيض الأعباء الدفاعية للولايات المتحدة.
أما الاستراتيجية الثالثة: فهي الزعامة العالمية حيث تمنع الولايات المتحدة
ظهور منافس لها، وفي الوقت ذاته تحول دون تعدد الأقطاب، ويبدو أن هذا
الخيار الأخير هو الذي تتبناه الإدارة الأمريكية الحالية وتسعى لتحقيقه.
هذا بخصوص التوجه العام للاستراتيجية الأمريكية. وبالنسبة لمنطقة الشرق
الأوسط تركزت الاستراتيجية الأمريكية على ثلاث دوائر متداخلة:
1 - ضمان أمن إسرائيل.
2 - تأمين منابع وإمدادات النفط.
3 - مكافحة الإرهاب.
أولاً: ضمان أمن إسرائيل:
يعتقد كثير من الناس أن الانحياز الأمريكي لإسرائيل نابع من مصلحة
أمريكية في علاقتها الخاصة بإسرائيل، ولا شك أنه يحقق لها مصالح كثيرة،
ويُبْقِي على أطماعها في المنطقة، ولكن في الوقت نفسه يضع مصالح هذه الدولة
في خطر كبير؛ لأنه يزيد حجم العداء لهذه الدولة. ومن أجل هذه المصالح نجد
دولاً مثل فرنسا وإيطاليا تغير موقفها من الصراع، وتصبح أكثراً توازناً من ذي
قبل. فأي مصلحة اقتصادية أو عسكرية أو سياسية ستعود على أمريكا من نقل
سفارتها إلى القدس؛ على الرغم من إدراك صانعي القرار في أمريكا بالمكانة
الخاصة للقدس في قلوب ملايين العرب والمسلمين والنصارى؟ بالطبع لا توجد أي
مصلحة؛ حيث إن هذا القرار كغيره من القرارات الأمريكية السابقة سيلحق ضرراً
كبيراً بالمصالح الأمريكية، ليس في العالم العربي فحسب، بل في العالم الإسلامي
أيضاً عاجلاً أم آجلاً.
ويقول آخرون: إن سيطرة اللوبي اليهودي في أمريكا على الحياة السياسية
والاقتصادية الأمريكية له أثر كبير في ظل النظام الانتخابي الأمريكي على انحياز
الإدارات الأمريكية المتعاقبة لإسرائيل وتضخيم الصوت الانتخابي اليهودي في
الانتخابات الأمريكية أمر مبالغ فيه. نعم إن الجالية اليهودية نشطة ولها تأثير؛
ولكن القول إنها تحكم أمريكا ليس صحيحاً؛ فلم يحدث أبداً أن كان الرئيس أو نائبه
يهودياً، ونسبة اليهود في الكونجرس لا تزيد إلا قليلاً عن نسبة اليهود في أمريكا
أي 2 - 3% حيث يبلغ تعدادهم حوالي 6 ملايين نسمة تقريباً، أي أن أصواتهم
الانتخابية لا تتعدى 2 - 3% من نسبة الأصوات الانتخابية في أمريكا، وهذه
النسبة ليست بالنسبة الكبيرة التي تمكن اليهود من التأثير على الانتخابات، ولو كان
لهذه النسبة أي تأثير لكان للمسلمين والعرب في أمريكا أثر في تشكيل السياسة
الأمريكية؛ لأن تعدادهم يزيد على تعداد اليهود هناك. كما أن السود يشكلون نسبة
كبيرة من السكان بالإضافة إلى أقليات أخرى؛ وبالرغم من ذلك لم نسمع عن أي
أثر لأصواتهم الانتخابية، ولم نسمع عن أي رئيس أمريكي سعى لاسترضائهم كما
يفعل مع اليهود. إذاً فالقضية ليست قضية صوت انتخابي فحسب.
إذاً ما هو السر في هذا الانحياز الأمريكي المطلق لإسرائيل؟ إن الإجابة
تكمن في العلاقة بين البروتستانتية واليهودية؛ حيث يستمد التراث الديني في
أمريكا أصوله من المذهب البروتستانتي في إنجلترا؛ والذي نشأ مع حركة
الإصلاح الديني التي قادها مارتن لوثر في القرن السادس عشر ضد الكنيسة
الكاثوليكية في روما.
ولقد أحدثت حركة الإصلاح الديني تغييراً جوهرياً بالمقارنة مع موقف
الكنيسة الكاثوليكية والكنائس الأخرى في موقفها من اليهود؛ وبذلك أسهمت هذه
الحركة في بعث اليهود من جديد. بالنسبة للعهد القديم التوراة فقد كان مهمَلاً قبل
حركة الإصلاح الديني؛ حيث كان الاعتماد على العهد الجديد الإنجيل - المحرّف-
ورسائل البابوات في تفسيره، وكانت اللغة العبرية لغة ميتة يرى الكاثوليك أن
تعلمها بدعة.
ثم جاء البروتستانت في القرن السادس عشر، ودعا مارتن لوثر إلى وجوب
إقامة الحقيقة الدينية على أساس الفهم الشخصي دون الخضوع لفهم رجال الدين لها،
فأصبح كل بروتستانتي حراً في دراسة الكتاب المقدس وتفسيره؛ وهذا أدى إلى
فتح الباب على مصراعيه أمام أصحاب البدع والضلالة؛ وأدى هذا إلى تعدد الفرق
البروتستانتية التي وصلت إلى أكثر من 200 فرقة في فترة أربعة قرون فقط. في
ظل هذا المذهب ازداد الاهتمام بالعهد القديم التوراة تحت شعار: العودة إلى الكتاب
المقدس؛ باعتباره مصدر العقيدة النقية، مع عدم الاعتراف بالإلهامات والتعاليم
غير المكتوبة التي يتناقلها الباباوات.
وإذا كان العهد القديم يتكون من 39 سِفْراً؛ فإن أغلب الباحثين يذهبون إلى
أنه لا يمكن نسبة إلا خمسة أسفار تجاوزاً إلى موسى - عليه السلام -. أما البقية
فهي عبارة عن سجل لتاريخ بني إسرائيل في فلسطين بالإضافة إلى بعض التنبؤات
التي كتبها أحبار اليهود على فترات متفاوتة. وفي ظل هذا الوضع رسخ لدى
البروتستانت تاريخ فلسطين مستمداً فقط من العهد القديم، بحيث لا يبدو فيه وجود
للشعوب الأخرى في فلسطين، وأنه لا بد من عودة اليهود إلى وطنهم الذي أُخْرِجوا
منه طبقاً لتنبؤات العهد القديم.
وهذا أدى إلى إحياء اللغة العبرية لفهم العهد القديم؛ ولذلك كانت الكنيسة
الكاثوليكية تصف مارتن لوثر بأنه يهودي أو نصف يهودي. وكثير من الباحثين
في التاريخ يذهبون إلى القول بأن المذهب البروتستانتي من صنع اليهود،
والماسون.
إن أهمية الأفكار التي جاءت بها حركة الإصلاح الديني على يد لوثر تعود
إلى أنها مهدت الطريق أمام الأفكار التي نادت بها الحركة الصهيونية في القرن
التاسع عشر، فهذه الأفكار التي أكدتها البروتستانتية لا تختلف كثيراً عن اليهودية
التي تنطوي في جوهرها على دعوة اليهود للعودة إلى صهيون؛ أي: إلى أرض
إسرائيل بحدودها التي ورد ذكرها في الكتب المقدسة لدى اليهود.
وهكذا تحولت فلسطين في الضمير البروتستانتي من الأرض المقدسة
للنصارى إلى أرض الشعب المختار، ومن الملاحظ أن بعض البروتستانت قد آمن
بضرورة اعتناق اليهود للنصرانية تمهيداً لقدوم المسيح، وآمن بعضهم بإمكان
تحولهم هذا بعد قدومه.
ومما قوّى هذه الأفكار التجارب التي مر بها المهاجرون البروتستانت من
أوروبا إلى أمريكا حينما قارنوا بينها وبين التجارب التي مر بها اليهود القدماء
عندما فروا من ظلم فرعون إلى أرض فلسطين.
فكثير من البروتستانت فر من الاضطهاد الديني؛ ولذلك عندما واجه
المهاجرون مقاومة أهل البلاد الأصليين من الهنود الحمر؛ فإنهم تذكروا اليهود
ومقاومة أهل فلسطين القدماء لهم. لقد كان هؤلاء المستوطنون بحاجة إلى شيء
يسوّغ أفعالهم هذه، ويضفي عليها نوعاً من الشرعية والأخلاقية، فلم يجدوا هذا
التسويغ إلا في العهد القديم. بل إنهم ادعوا أن الله اختار العنصر الأنجلو -
سكسوني البروتستانتي الأبيض لقيادة العالم، كما جعل الله اليهود شعبه المختار.
بل وصل تطرفهم أن زعم أحد الكتاب ويدعى ريتشارد بروتزر في كتابه:
(المعرفة المنزلية للنبوءات والأزمنة) أن الإنجليز من أصل يهودي؛ على أساس
أنهم ينحدرون من سلالات الأسباط التي ادّعى اليهود أن أفرادها فُقدوا بعد اجتياح
الآشوريين لمملكة إسرائيل عام 721 قبل الميلاد. وفي نهاية النصف الأول من
القرن التاسع عشر بدأ التعاطف الأمريكي مع اليهود يتحول إلى عمل ملموس من
خلال جماعات وأفراد؛ فعلى صعيد الأفراد في عام 1985م قام وارد كريون
القنصل الأمريكي في القدس بتأسيس مستوطنة زراعية في منطقة القدس، وخطط
لتأسيس مستوطنات أخرى ولكن لم يجد الدعم المطلوب من اليهود.
كما ظهر القس وليم بلاكستون الذي طالب بعمل شعبي لإعادة اليهود إلى
فلسطين، وألف كتاب: (عيسى قادم) الذي بيع منه عام 1878م أكثر من مليون
نسخة، وتُرجم إلى 48 لغة، ويتحدث فيه عن عودة اليهود لفلسطين باعتبارها
المقدمة لعودة المسيح.
وعلى صعيد الجماعات ظهرت جماعة «أخوة المسيح» وجماعة «بناي
بريث» أي: أبناء العهد، «وشهود يهوه» ، ثم جاء دور الرؤساء الأمريكيين في
دعم الحركة الصهيونية، وزاد هذا الدعم في بداية الأربعينيات مع انتقال مركز
الثقل في النظام العالمي إلى الولايات المتحدة. فالرئيس روزفلت اتخذ نجمة داود
شعاراً رسمياً للبريد، والخوذات التي يلبسها الجنود، وعلى أختام البحرية، وجاء
بعده ترومان الذي أصدر بياناً طالب فيه بإدخال مائة ألف يهودي فوراً إلى فلسطين،
وكان له دور مشهود بجانب اليهود في حرب 1948م، لقد عارض ترومان في
سياساته الصهيونية كثيرٌ من المستشارين الحكوميين الذين كانوا يرسمون سياسة
بلادهم الخارجية بناءً على مصالح بلادهم القومية؛ ولكن ترومان كان ينظر بمنظار
مختلف قائم على أساس الدين؛ فعندما قدّمه زعماء اليهود الحاضرون في إحدى
الاحتفالات ووصفوه بأنه الرجل الذي ساعد على تأسيس دولة إسرائيل رد ترومان
قائلاً: وماذا تعني بقولك: ساعد على تأسيس ... إنني قورش ... إنني قورش؛
حيث شبه نفسه بقورش ملك فارس الذي أعاد اليهود من منفاهم في بابل إلى
فلسطين. ولتوضيح أثر العقيدة البروتستانتية في دفع رؤساء أمريكا إلى الانحياز
لإسرائيل نسوق موقف الرئيس الأمريكي جون كنيدي الذي كان الرئيس الكاثوليكي
الوحيد في تاريخ أمريكا، حيث قال: «إن الانحياز الأمريكي في النزاع العربي
الإسرائيلي لا يهدد الولايات المتحدة فحسب بل يهدد العالم بأسره» ، فالأفكار
والتنبؤات التوراتية لم تكن في وجدانه أو عقله مثل سابقيه ولاحقيه.
فالرئيس جونسون الذي قدم الدعم لإسرائيل أثناء حرب 1967م صرح بعدها
قائلاً في إحدى الاحتفالات للحاضرين: «إن بعضكم - إن لم يكن كلكم - لديه
روابط عميقة بأرض إسرائيل مثلي تماماً؛ لأن إيماني النصراني ينبع منكم،
وقصص التوراة منقوشة في ذاكرتي تماماً مثل قصص الكفاح البطولي ليهود العصر
الحديث من أجل الخلاص من القهر والاضطهاد» .
ويقول الرئيس كارتر أمام الكنيست الإسرائيلي: «إن علاقة أمريكا بإسرائيل
أكثر من علاقة خاصة؛ لأنها علاقة متأصلة في وجدان وأخلاق وديانة ومعتقدات
الشعب الأمريكي نفسه» ، وفي حفل أقامته على شرفه جامعة تل أبيب وضح
كارتر الأمر أكثر؛ حيث ذكر أنه باعتباره نصرانياً مؤمناً بالله يؤمن أيضاً أن هناك
أمراً إلهياً بإنشاء دولة إسرائيل. لقد كان كارتر مثالاً للرئيس الملتزم بالصلاة في
الكنيسة كل أحد، وكان عضواً في أكبر كنائس بلدته، وشماساً في مدرسة الأحد.
أما ريجان فقد قال في أحد خطبه موجهاً كلامه إلى بعض اليهود الأمريكيين:
«حينما أتطلع إلى نبوءاتكم القديمة في العهد القديم وإلى العلامات المنبئة
بمعركة هرمجدّون أجد نفسي متسائلاً عما إذا كنا نحن الجيل الذي سيرى ذلك لاحقاً» .
بهذا تحدد الهدف الاستراتيجي الأمريكي في هذا الصراع، وهو ضمان وجود
دولة يهودية لبناء الهيكل على أنقاض الأقصى تمهيداً لنزول مسيحهم.
ثانياً: مكافحة الإرهاب:
أعلنت الولايات المتحدة الحرب ضد ما أسموه «الإرهاب» منذ عقدين على
الأقل؛ وتأكيداً لمتابعتها لهذه الحرب حرصت على إصدار قوائم سنوية تتضمن
أسماء دول داعمة للإرهاب وقوائم بأسماء منظمات وشخصيات «إرهابية»
مطلوبة للعدالة الأمريكية، ورغم إعلانها عن هذه الحرب، وما رصدته لها من
إمكانات، وما بذلته من جهود مالية وعسكرية، وما نفذته من عمليات مضادة؛ فقد
كان حصادها قليلاً جداً كما تأكد ذلك خلال الزلزال الجوي الذي دمر برجي مركز
التجارة العالمية وجزءاً من مبنى البنتاجون والذي كاد يعصف بأبنية مهمة أخرى.
وتقول الإدارة الأمريكية: إن الأولوية المطلقة في سياستها الخارجية هي
محاربة الإرهاب، وكرر المسؤولون الأمريكيون مقولة: إن محاربتهم للإرهاب،
لن تنحصر في أفغانستان، بل سيتسع وتتفرع عنه أهداف أخرى، لتشمل الحملة
على الإرهاب عشرات التنظيمات الإسلامية من إندونيسيا والفليبين إلى كشمير
وأفغانستان وآسيا الوسطى، وصولاً إلى المشرق العربي (حماس والجهاد)
والقرن الإفريقي.
ويكشف تقرير قدمه خبراء للإدارة الأمريكية في منتصف العام الماضي أي
قبل أحداث سبتمبر أن الإرهاب هو الخطر الأكبر في منطقة الشرق الأوسط ومنه
سيصدر إلى غيرها من المناطق؛ لذلك يجب على الإدارة - كما يقول التقرير - أن
تدرس قصص النجاح التي شهدتها المنطقة في مجال مقاومة الإرهاب، وأهمها
تجربة مصر في التعامل مع الجماعات الإسلامية. كما يجب على الإدارة تشجيع
أوسع لتعاون دولي وإقليمي ممكن لمواجهة خطر الإرهاب خصوصاً من شبكات
التطرف الإسلامي والتدخّل بدور نشيط في مقاومة الإرهاب بواسطة التنسيق بين
أجهزة المخابرات، وتشجيع تبادل المعلومات سراً؛ لأن هناك دوائر في العالم
العربي والإسلامي على استعداد للتعاون، لكنها لا تريد لأحد أن يسمع ما تقول أو
يرى ما تفعل.
ثالثاً: تأمين منابع النفط وضرب العراق.
تقوم الاستراتيجية النفطية الأمريكية على عدة مبادئ:
- تعدد مصادر النفط والطاقة عموماً، بمعنى عدم الاعتماد بصفة أساسية على
بترول الخليج الذي يشكل حوالي ثلثي الاحتياطي العالمي من النفط، وهنا نجد أن
نفط بحر قزوين الذي يقدر مخزونه بحوالي 200 مليار برميل هو الداعم الأساسي
لأمن طاقتها.
- تعدد طرق النقل وخطوط الإمداد؛ إذ لا يكفي تعدد المصادر بل يجب تعدد
المسارات لتقليل احتمال تعرضها للمخاطر، ومن هنا كان رفض واشنطن القاطع
لمرور خط بترول قزوين بإيران رغم قلة تكاليفه؛ لأنه في النهاية سيصب في
الخليج العربي ليمر بناقلاته مع بترول الخليج عبر مضيق هرمز، فتزداد مخاطر
تأثير أي صراعات أو تغييرات في الخليج على إمدادات المصدرين معاً، وللسبب
ذاته رفضت واشنطن مروره بروسيا فالبحر الأسود فمضيق البوسفور.
- الحصول على النفط بأسعار مناسبة رخيصة، وهو ما يوفره تعدد المصادر
وتعدد الطرق الآمنة، وقد كان لضخامة تقديرات بترول قزوين الأثر في دفع الدول
المنتجة إلى المسارعة بزيادة إنتاجها قبل دخول بحر قزوين حلبة الإنتاج فتنخفض
الأسعار.
- حرمان أعداء واشنطن من تكنولوجيا النفط.
- استخدام النفط ورقة مساومة لفرض الهيمنة الأمريكية على بقية الدول
الكبرى كالصين واليابان وأوروبا. أدركت الولايات المتحدة أن الاعتماد على
بترول الخليج وحده أمر محفوف بالمخاطر في ظل التطورات التي تشهدها المنطقة؛
خصوصاً أن منطقة الشرق الأوسط والخليج تشهد تصعيداً بفعل القضية
الفلسطينية وانعكاساتها على المنطقة والسياسة العربية ومنها الخليجية.
من هنا جاء الاهتمام الأمريكي خاصة والغربي عامة بمفهوم أمن الطاقة
والسعي للعثور على مناطق بديلة للخليج العربي لإنتاج الطاقة، وظهر الاهتمام
ببحر قزوين في أواخر التسعينيات من القرن الماضي، وقد أشارت التقارير
الأمريكية أن احتياطيه من الطاقة يكفي لعشرات الأعوام المقبلة.
ويزيد من الاهتمام الأمريكي وفق مصادر كثيرة أن حاجة الولايات المتحدة
والمجتمعات الغربية للنفط تزايدت؛ ففي عام 1998م بلغت حاجة الولايات المتحدة
والاتحاد الأوروبي واليابان 37 مليون برميل من البترول يومياً، استوردت منه
25 مليون برميل بمعنى أن هذه الدول حصلت على 68% من احتياجاتها من النفط
عن طريق الاستيراد.
وتصدر دول الخليج 18 مليون برميل من إنتاجها النفطي الذي يبلغ 40
مليوناً في اليوم إلى هذه الدول، وحسب تقديرات وزارة الطاقة الأمريكية فإن حصة
دول الخليج من تصدير النفط العالمي التي بلغت 45% عام 1998م سترتفع إلى
65% في عام 2020م.
والأمريكيون يريدون إيجاد مصادر بديلة عن نفط الشرق الأوسط الذي يشكل
أكثر من 50% من استيراداتهم، فيما أكد خبير النفط لدى معهد الطاقة في لندن
محمد علي زيني أن الغرب لن يتمكن من تعويض النفط العربي لا بالاستيراد من
روسيا ولا من غيرها.
في هذا الشأن قال ريتشارد ميرفي مساعد وزير الخارجية الأمريكية السابق
في محاضرة له في دبي بنادي دبي للصحافة: إن المصالح الأمريكية في المنطقة
تتمثل في أمرين: الأول: ضمان الوصول إلى مصادر الطاقة بهدف الهيمنة،
والأمر الثاني: ضمان أمن إسرائيل.
الأمر الثاني: السياسات الأمريكية في الشرق الأوسط:
بعد أن يتم تحديد الاستراتيجيات الأساسية التي لا تحيد عنها أي إدارة أمريكية
سواء كانت جمهورية أو ديموقراطية يبدأ الفريق التنفيذي داخل كل إدارة في رسم
السياسات الخاصة به لتنفيذ تلك الاستراتيجية، وبتتبع السياسات الأمريكية بالنسبة
للصراع بين العرب واليهود نجد أنها لا تخرج أو لا تتجاوز خيارين:
الخيار الأول: هو التدخل الكامل لإيجاد إطار أو آلية يمكن التوفيق بمقتضاها
بين أطراف الصراع، وذلك مثل ما حدث في كامب ديفيد عام 1978م في عهد
إدارة كارتر عندما نجح في إقناع السادات ليوقع ما يسمى بمعاهدة كامب ديفيد مع
مناحيم بيجين رئيس الوزراء الإسرائيلي حينئذ، وهو أيضاً ما فعله جورج بوش
الأب في مؤتمر مدريد عام 1991م في أعقاب حرب الخليج الثانية وهو نفسه خيار
كلينتون في كامب ديفيد الثانية عام 2000م عندما قام بجمع إيهود باراك رئيس
الوزراء الإسرائيلي وياسر عرفات رئيس ما يعرف بالسلطة الوطنية الفلسطينية.
الخيار الثاني: هو الانعزال الجزئي عن مجريات أحداث الصراع اليومية
والاكتفاء بالمراقبة عن بعد والإبقاء على مستوى معين من التصعيد، التدخل إذا
تجاوز الصراع حداً معيناً.
وتمثل ذلك الخيار واضحاً في زمن حكم ريجان في الثمانينيات وبعض
الفترات في رئاسة كلينتون، وهذه الأيام أثناء تولي بوش الابن مقاليد الأمور في
السياسة الأمريكية.
كما تمثل في جولات هنري كيسنجر بعد حرب أكتوبر 1973م وجولات
المبعوث الأمريكي فيليب حبيب إبان الغزو الاسرائيلي للبنان عام 1982م وجولات
باول الآن.
ولكن ما هي المحددات التي تجعل الإدارة الأمريكية تميل لأي خيار منهما؟
بتتبع السلوك السياسي للإدارات الأمريكية المتعاقبة تبين أن هناك محددين على
ضوئهما يتضح ميل الإدارة الأمريكية لاستعمال أحدهما عند تطبيق سياستها على
أرض الواقع.
1 - إعادة خلط الخيارات الاستراتيجية بالنسبة لأمريكا في المنطقة:
فقبل أحداث 11 سبتمبر كانت نصيحة اللجنة التي شكلها بوش لرسم خياراته
الاستراتيجية وأولويات السياسة الأمريكية تدور حول ضرورة الفصل بين التوجهات
الاستراتيجية الثلاث: النفط، والإرهاب، والصراع العربي الإسرائيلي؛ لأنه لا
بد أن يظل كل منهم مستقلاً بذاته وبعيداً عن الآخر: الخليج وما حوله من ناحية،
وفلسطين وما حولها ناحية أخرى، والإرهاب كوجهة ثالثة؛ لأن المزج بين الثلاثة
يخلق تفاعلات تنشأ عنها شحنات خطر يصعب تقديرها.
يضاف إلى ذلك أن الفصل بين هذه النطاقات هو الضمان لإحكام السيطرة
على إدارة كل واحد منهما في حدوده المعينة وفي إطاره المحسوب.
أما بعد أحداث 11 سبتمبر فقد تنامى الاتجاه داخل الإدارة الأمريكية لجعل
موضوع مكافحة الإرهاب في سلم أولويات هذه الإدارة لاستعادة الهيمنة المفقودة
وتنفيذ أجندات مؤجلة؛ إذ شكلت تلك الأحداث صدمة أمنية نالت من هيبة أمريكا،
وشكلت إطاراً عاماً لرسم السياسة الخارجية بل والداخلية وأعادت رسم أولويات
الإدارة الأمريكية الحالية.
لقد شكلت أحداث سبتمبر الماضي إطاراً نظرياً وفكرياً جديداً يتم الاسترشاد به
في رسم السياسة الخارجية الامريكية وبعلاقات أمريكا بأشخاص المجتمع الدولي،
وعليه فقد قسم بوش الدول إما معنا أو ضدنا، وبذلك فقد أعاد للعلاقات الدولية أطر
الحرب الباردة بما تضمنته تلك التصورات من تأزيم للعلاقات الدولية وتفجير
الصراعات الدولية وهيمنة ظاهرة الصراع الدولي على مظاهر التعاون في العلاقات
الدولية، كما أسهمت تلك النظرة بتأجيج حدة التوترات الدولية لا سيما في البؤر
المشتعلة أصلاً والتي أهمها على الإطلاق بؤرة الصراع العربي الإسرائيلي.
وأسهمت هذه الأحداث كثيراً في تعظيم الدعم المقدم لاسرائيل في عدوانها ضد
الشعب الفلسطيني وعلى أعلى المستويات. فعلى مستوى الرئاسة فإن الرئيس
الأمريكي لم يتورع عن إظهار تحيزه السافر للسياسات الإرهابية الصهيونية، كما
أنه لم يتوقف عن كيل التهم ضد الشعب الفلسطيني واصفاً أعمال المقاومة بالإرهاب،
ولعل ما يفسر ذلك المرارة التي مني بها من جراء أحداث سبتمبر الماضي وتعثر
جهود مقاومة «الإرهاب» في أفغانستان واستئصال جذوره، أما على المستوى
الشعبي فأصبح الأمريكيون لا يريدون سماع عمليات انتحارية، حتى لو كانت
موجهة ضد العسكريين الإسرائيليين؛ لأنها تذكرهم بـ 11 سبتمبر.
وسربت جهات أمنية أمريكية أن بن لادن قد قام بتدريب عشرات الآلاف من
أنصاره، وأن هؤلاء ينتشرون في أكثر من ستين دولة! ووصف بوش هؤلاء بأنهم
قتلة خطرون ينتشرون في مختلف أنحاء العالم، ويمثلون قنابل موقوتة يمكن أن
تنفجر في أية لحظة. وما دام هؤلاء موجودين فإن الحرب على الإرهاب لا تزال
في بدايتها. وستواصل أمريكا تعقب هؤلاء الإرهابيين في كل مكان في العالم..
وعلى جميع الدول أن تساعدها في هذه المهمة، وفي مقدمتها بالطبع تلك الدول التي
يوجد فيها «الإرهابيون» . وأضاف مهدداً: إذا لم يتحركوا فإن أمريكا ستتحرك! !
وبذلك تعطي الولايات المتحدة لنفسها حرية التدخل في أكثر من ستين دولة
تفترض أمريكا وجود جماعات إسلامية «متطرفة» على أراضيها إذا لم تقم هذه
الدول بتصفية تلك الجماعات بالطريقة التي تراها واشنطن مقنعة! وهكذا فإنه إذا لم
يتحرك عرفات لتصفية حماس والجهاد فإن واشنطن ستطلق يد تل أبيب في تخريب
البنية التحتية للسلطة الفلسطينية، وقتل كوادر تنظيمات المقاومة والمواطنين
الأبرياء والأطفال والشيوخ على السواء.
ويأتي في هذا الإطار قول شارون أثناء زيارة باول الأخيرة للمنطقة: إن
إسرائيل تقوم بحملتها في إطار الحرب الأمريكية ضد الإرهاب، وإنه يرحب بالسيد
كولن باول في القدس الموحدة كعاصمة لإسرائيل، فما كان من الوزير الأمريكي إلا
أن قال مبتسماً إنه يتحدث كصديق مقرب لإسرائيل، ثم أطلق تصريحه؛ مما يعني
أن المخطط الأمريكي قارب مداه بالتناغم مع المخطط الصهيوني تجاه الشعب
الفلسطيني وتجاه القدس، مسقطاً بذلك ما يقال حول القدس كعاصمة للدولة
الفلسطينية المنتظرة، بل ومسقطاً ما جاء باتفاقيات أوسلو.
وارتبط بأحداث سبتمبر الماضي ادعاءات أمريكا أنها لا تستطيع أن تضغط
على إسرائيل لوقف حربها ضد ما أسمته بالإرهاب طالما أن أمريكا تفعل ذلك،
ولديها التزام ليس فقط بدعم الدول التي تواجه الإرهاب، بل والإسهام ميدانياً في
المعارك الجارية ضد الارهاب كما هو الحال في الفلبين وكشمير وفلسطين وغيرها،
وبالطبع فان مسرح العمليات دائماً البلاد العربية والإسلامية والأقليات المسلمة
حيثما كانت، وبذلك فإنه وبالرغم من معارضة العالم أجمع لما يحدث من قمع
وإرهاب بحق الشعب الفلسطنيي تأتي أمريكا وتجد لها المسوغات الكافية للاستمرار
في عدوانها؛ كما تعطيها الغطاء السياسي والدبلوماسي والمادي والعسكري اللازم
لتنفيذ مخططاتها.
واختلطت أوراق الصراع الدائر بين اليهود والمسلمين في فلسطين بأوراق
النفط أيضاً بعد أحداث 11 سبتمبر؛ فالاعتماد الأميركي على النفط العربي تحول،
في أذهان القادة الأميركيين إلى معضلة قومية واستراتيجية منذ حرب تشرين الأول
اكتوبر عام 1973م؛ فبعد الحرب أعلن الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون عزم
إدارته على تنفيذ سياسة نفطية جديدة خلال السبعينيات، بحيث تكون بلاده قد
وفرت قدرات كافية لتأمين حاجاتها من النفط من دون الاعتماد على أي مصدر
أجنبي. بالطبع أخفق نيكسون في تحقيق هذه الغاية، كما أخفق في تحقيقها كافة
الرؤساء الذين جاؤوا من بعده. فلقد أنشأ جيرالد فورد الاستراتيجي الاحتياطي
النفطي وأنشأ جيمي كارتر وزارة الطاقة.
وفي عام 1991م استطاعت الإدارة الأمريكية تحت إدارة جورج بوش الأب
تأليب الرأي العام العالمي ضد العراق، وأعلنت أنه يملك رابع قوة عسكرية في
العالم، وحشدت في مواجهته أكبر حشد عسكري بعد الحرب الكونية الثانية، كما
تقول بذلك أدق مصادر المعلومات الغربية، واستخدمت تلك القوة لقهر العراق
وإبعاده عن التحكم في النفط أو طرق إمداداته.
ونفذ بيل كلينتون قانون سياسة الطاقة الذي وضع في عهد سلفه جورج بوش
الأب، إلا أن هذه التدابير والسياسات لم تنجح في تحقيق هدف تحرير الولايات
المتحدة من الاعتماد على النفط العربي. الدليل الحاسم على هذا الإخفاق قدمه
الرئيس الأميركي الحالي جورج بوش الابن خلال شهر أيار مايو من العام الماضي
عندما أعلن سياسة الطاقة القومية وقدم لها بقوله: الاعتماد على مصدر واحد للطاقة،
خصوصاً أي مصدر أجنبي، يتركنا عرضة لتقلبات الأسعار المفاجئة، وانقطاع
التموين، وفي أسوأ الأحوال للابتزاز.
ولقد أوضحت سياسة الطاقة القومية الجديدة حجم الابتزاز الذي تخشاه إدارة
بوش؛ إذ جاء فيها أن الولايات المتحدة تستورد حالياً قرابة 53% من حاجاتها من
النفط من الخارج. ولهذه المستوردات النفطية أهمية بالغة لتأمين حاجات
المواصلات ولتشغيل حوالي 200 مليون سيارة وشاحنة يملكها ويستخدمها
الأميركيون.
ونسبة الاعتماد على النفط العربي في تزايد مستمر نظراً لما هو معروف من
تضاؤل حجم احتياط النفط في الدول العربية التي تستورد منها الولايات المتحدة
نفطها. ويجدر بالذكر أن البلد العربي الذي يحتل المصدر الثاني في صادراته
النفطية إلى الولايات المتحدة بعد المملكة العربية السعودية، هو العراق. وهذا
يكفي وحده لتفسير المخاوف الأميركية من انقطاع أو عرقلة مستورداتها النفطية من
المنطقة العربية.
الاستراتيجية النفطية الأمريكية تسعى إلى معالجة هذه الأوضاع الخطرة، من
وجهة نظر أميركية، ابتداء من التسليم باستحالة تحقيق الهدف الذي وضعه نيكسون
أي تحقيق الاكتفاء الذاتي النفطي، وصولاً إلى تحقيق هدف أكثر واقعية ألا وهو
محاولة ضمان حاجات الولايات المتحدة من الطاقة عن طريق تنمية المصادر
الداخلية وتنويع المصادر الخارجية. وعلى رغم الآمال الكبرى التي يعقدها
مخططو السياسة الأميركية النفطية على تنمية المصادر الداخلية إلا أن التوقعات لا
تتوازى هنا مع حجم الآمال والأماني، مما يدفع بأصحاب القرار في واشنطن إلى
الاهتمام الحثيث بتنويع المصادر الخارجية وهي - فضلاً عن المصادر العربية
نفسها - المناطق الأربع الآتية: دول حوض بحر قزوين، إفريقيا، أميركا
اللاتينية، وروسيا.
حققت الولايات المتحدة بعض النجاح في إيجاد الأجواء والظروف الملائمة
لتنمية وارداتها من النفط ومن الغاز الطبيعي من دول هذه المناطق. فالعلاقات
السياسية بين واشنطن ودول هذه المناطق، خصوصاً روسيا وبعض دول بحر
قزوين، في تحسن مستمر. كذلك تنمو علاقات واشنطن مع بعض دول حوض
بحر قزوين. إلا أن هذه النجاحات تبقى محدودة الأثر بالمقارنة مع الهدف الذي
تتوخاه الولايات المتحدة وهو ضمان تدفق النفط الأجنبي من دون أي عقبات تذكر.
فحتى تتمكن واشنطن من تحقيق هذا الهدف مع تنويع مصادر النفط فإن عليها أن
تذلل صعوبات أمنية وسياسية واقتصادية وفنية متعددة.
فعلى الصعيد الأمني تواجه الولايات المتحدة في أميركا اللاتينية صعوبة في
ضمان تدفق النفط من كولومبيا بسبب الصراع المسلح بين الحكومة الكولومبية
والحركات المسلحة المعارضة. ولقد دأبت تلك الحركات على توجيه ضربات
مباشرة إلى منشآت النفط. وفي إفريقيا فإن مساعي الولايات المتحدة للحصول على
النفط الأنغولي تصطدم بالمعارك المسلحة بين الحكومة الأنغولية، من جهة،
وحركة أونيتا المعارضة التي دعمتها واشنطن. إن مقتل سافيمبي، زعيم أونيتا قد
يفتح الباب أمام تخفيف حدة النزاع العسكري بين الطرفين. ولكن إلى أن تستتب
الأمور في ذلك البلد الأفريقي الغني بالنفط، وكذلك في نيجيريا التي تعاني من عدم
الاستقرار؛ فإنه من الصعب أن تشكل القارة الأفريقية مصدراً آمناً لواردات النفط
الأميركية. أخيراً لا آخراً تواجه الولايات المتحدة متاعب أمنية تعرقل ضمان تدفق
النفط عبر دول بحر قزوين وجمهوريات آسيا الوسطى. فالأوضاع في أفغانستان لم
تستتب بعد، كما أن العديد من دول المنطقة التي تمر عبرها أنابيب النفط تواجه
مصاعب أمنية.
كذلك تواجه الولايات المتحدة مصاعب سياسية في تلك المناطق. ففي دول
أميركا اللاتينية النفطية الرئيسية المكسيك، فنزويلا وكولومبيا توجد تقاليد سياسية
قديمة. وهذه التقاليد تمنع واشنطن من التدخل في الشؤون النفطية في هذه البلاد،
بينما يرى الأميركيون أن مثل هذا التدخل ضروري من أجل تنشيط القطاعات
النفطية فيها وتنمية قدراتها الإنتاجية على نحو يمكنها من تلبية حاجات السوق
الأميركية. وما يقال في هذا المجال عن أميركا اللاتينية يقال أيضاً عن روسيا
وعن دول بحر قزوين. ثم إنه على واشنطن التي تريد تحصين أمنها القومي ضد
ما تسميه بعض الدوائر الغربية الابتزاز النفطي العربي، أن تفكر بالحصول على
مثل هذه الضمانات ضد الابتزاز الروسي. فروسيا هي الأخرى لها مصالح
ومطالب وثأرات عند واشنطن. وبوتين اكتسب شعبية في روسيا؛ لأنه بدا مؤهلاً
للوقوف في وجه التبعية للغرب، ولأنه أقصى أصدقاء الولايات المتحدة وإسرائيل
عن بعض القطاعات الاقتصادية الاستراتيجية. فإذا بدا بوتين متساهلاً على هذا
الصعيد اشتدت المعارضة ضده بيمينها ويسارها.
ومن الصعب أن يخلو الجو لواشنطن في حوض بحر قزوين حتى تحوله إلى
البديل الموعود عن الخليج. فإذا كانت واشنطن قد حققت بعض التقدم فلأسباب من
بينها النزاع بين دول الحوض على تقاسم نفط البحر. وهذا النزاع يتجه إلى
التراجع. فستجتمع دول الحوض ومن بينها روسيا وإيران لكي تتوصل إلى تسوية
هذا الأمر. ثم إن لروسيا مصالح وذكريات في هذه المنطقة ليس من السهل تناسيها
والتغاضي عنها، كما أن بكين تمد بصرها ومطامحها إلى هذه المنطقة أملاً
بالحصول على نفطها أيضاً. وهي ستكون منافساً عنيداً لواشنطن.
كل ذلك لا يعني أن واشنطن لن تنجح في تنمية مستورداتها النفطية من
مصادر عربية. إنها تحقق بعض هذا الغرض، وستحقق المزيد منه في المستقبل،
كما جاء في سياسة النفط القومية التي تتبناها إدارة بوش. لكن مثل هذا التطور لن
يمكنها من التحرر من العرب ولا من الخلاص من الابتزاز العربي في نظرها،
وستبقى تعتمد بصورة رئيسية على مستورداتها من النفط العربي. وبحكم هذا
الاعتماد ومن أجل ضمان مصالحها العربية وأمنها النفطي فإنها ستكون مضطرة إما
إلى استخدام الهراوة مع العرب، كما تفعل الآن بصورة مباشرة أو عبر
الإسرائيليين، وإما إلى أن تمد لهم يد الصداقة والتعاون وهو ما تهرب منه واشنطن
وتأباه.
ويشكل العراق هاجساً أمريكياً يحول دون سيطرتها على النفط العربي؛
فحرب الخليج الثانية لم تقض نهائياً على ذلك الخطر؛ لذلك جاءت أحداث سبتمبر
وما صاحبها من تدمير أفغانستان لتفتح الشهية العسكرية الأمريكية لتكرار نفس
السيناريو الأفغاني في العراق ولتنهي مشكلته المزمنة للأبد، ولقد وجهت صحيفة
(يو. إس. إيه توداي) نقداً للتعنت الإسرائيلي قائلة إنه يعطل سير الخطط
الأمريكية لتوجيه الضربة المقبلة للعراق، وأن الطريق الأمريكي إلى بغداد أصبح
طويلاً؛ لأنه سيمر من خلال القدس، بمعنى أنه لا بد من حل المشكل العربي
الاسرائيلي أولاً ولو مؤقتاً، ثم الانتقال إلى قصف العراق، وإلا تصور العرب أي
هجوم أمريكي على العراق على انه هجوم أمريكي إسرائيلي مشترك، وأذاعت
الصحيفة على لسان مسؤول في وزارة الدفاع الأمريكية، لم يفصح عن هويته، أن
عدة دول عربية موالية لأمريكا أعربت عن رفضها لأي تعاون مع أمريكا في شأن
العراق ما لم تقم أمريكا أولاً بلجم رعونة شارون.
ولذلك جاءت جولة تشيني الأخيرة قبل الاجتياح الإسرائيلي ليعقد صفقة مع
الدول المعنية بالشأن العراقي بخصوص عدم إعاقة التدخل الأمريكي في العراق
نظير تهدئة شارون، وعندما وجد الاستجابات ضعيفة من الجانب العربي أعطى
الضوء الأخضر لشارون لتنفيذ حملته الهمجية.
2 - طبيعة الفريق المكون للإدارة: يقول هيمي شاليف الكاتب في صحيفة
معاريف الإسرائيلية: «لقد كانت وجهة نظري دائماً أن الديمقراطيين أقل تبدلاً
للمواقف بينما الجمهوريون يتغيرون وفقاً لمصالح الولايات المتحدة، وأما
الديمقراطيون فهم أكثر وجدانية وأقل ميلاً للتبدلات. ويمكن للإسرائيليين أن يروا
أفضل شاهد على تلك الاختلافات في نهج آخر رئيسين أميركيين قبل بوش الابن:
الأول يتمثل في إدارة بوش الأب التي تذكر على أنها وجهت أكبر ضغط سياسي
على إسرائيل. والثاني يتمثل في الرئيس السابق بيل كلينتون الذي يخلد على أنه
أبدى أسمى آيات الإخلاص لرئيس وزراء إسرائيل الراحل إسحاق رابين.
أما الإدارة الحالية بوش ومن حوله، رامسفيلد وتشيني بالذات وكولن باول
إلى حد ما يعتبرون أن رئاسة كلينتون كانت مرحلة انتقال بين سقوط الاتحاد
السوفييتي وانفراد الولايات المتحدة بالعالم، وأن رئاسة بوش هي بداية الانفراد
الحقيقي بالقوة في العالم.
والمؤكد الآن أن هناك قوتين رئيسيتين تدفعان هذه الإدارة نحو مواقف أكثر
تأييداً ودعماً لإسرائيل: أولاهما: الأصوليون البروتستانت وخاصة أولئك الممثلين
بشكل جيد في الحزب الجمهوري بالكونغرس وفي المناصب العليا في الإدارة والذين
يساندون إسرائيل بقوة وثبات. وفي حوار دار بين بعض أفراد هذه المجموعة حول
ضرورة مساندة حكومة شارون؛ لأن الإنجيل يقول إن تلك الأرض تعود لليهود،
ولكن اللافت ان هناك العديد من السياسيين المنتخبين الذين يعتقدون أن العودة إلى
تقسيم الإنجيل ليهودا والسامرة هو الحل المنطقي الوحيد. ويتم تعزيز الصورة
الشعبية المحافظة لإسرائيل من خلال جماعة ضغط قوية أقل تأثراً بالمعطيات
الدينية، يطلق عليها اسم المحافظون الجدد ويمثلها في الإدارة الأميركية أشخاص
مثل بول ولف ويتز نائب وزير الدفاع الأميركي وديك تشيني نائب الرئيس.
وحجتهم في دعم الدولة العبرية بسيطة؛ فإسرائيل هي حليف أميركا الاستراتيجي
في المنطقة، وهي الدرع الواقية من المتطرفين الإسلاميين المعادين للولايات
المتحدة من بحر العرب، حتى البحر المتوسط. أما التهديد الديمغرافي طويل المدى
لإسرائيل نتيجة تباين معدلات الولادات الجديدة بين الفلسطينيين واليهود فتحتاج
وفقاً لوجهة نظر هذا الفريق إلى تثبيت دعائم الدولة اليهودية من خلال المزيد من
الدعم والحماية الأميركيين. ويقوم المحافظون الجدد الذين يسيطرون على جزء لا
يستهان به من وسائل الإعلام الأميركية بمتابعة كل خروج عن السياسة الأميركية
المعلنة؛ حيث يسارعون إلى مهاجمته وعزله؛ ولعل المثال الأكبر لاحتقارهم
وازدرائهم هو وزير الخارجية كولن باول الذي يتم ربط نفوذه بكل تصريح يدلي به
الرئيس الأميركي أو أحد مساعديه، ويحمل نقداً ولو خفيفاً لإسرائيل.
ويقول برنامج الرئيس بوش الرسمي الذي نشرته وزارة الخارجية الأمريكية:
» من المتوقع ألاّ يحصل النزاع بين إسرائيل والفلسطينيين على نفس الاهتمام
الشديد الذي كرسته له إدارة كلينتون. إن انفجار العنف الذي بدأ في أواخر
أيلول/سبتمبر من عام 2000م، بالإضافة إلى رفض ياسر عرفات قبول مقترحات
السلام التي تجاوزت بنسبة كبيرة أية مقترحات قُدمت في السابق، يُعطي برهاناً
واضحاً لعدم رغبة القيادة الفلسطينية في إنهاء النزاع مع إسرائيل. وفي هذه
الظروف سوف تكون المهمة الرئيسية لإدارة بوش منع تزايد وتيرة أعمال العنف
بحيث تتحول تلك إلى حرب؛ وذلك حتى تراجع العنف؛ بحيث يصبح بالإمكان
عقد شكل من أشكال المفاوضات المؤقتة. خلال هذه الفترة من المهم أيضاً إظهار
الدعم الثابت لإسرائيل بغية إحباط أي تفكير من قبل أعدائها العرب المتشددين بأنهم
قد يتمكنون من الانتصار عليها، مع المحافظة على تواصل فعال مع القادة العرب.
وهذه الإدارة مطمئنة إلى أنها تملك أوراق اللعبة، ومن ثم فأمريكا لن تنفض
يدها أبداً من المنطقة؛ ولكنها تعلم أنها تستطيع أن تحصل على ما تريد دون أن
تدفع شيئاً يذكر، ومن ثم فهي ليست على استعداد لأن تدفع ثمناً أكثر مما هو
ضروري.
ولكن على الرغم من مظاهر التحرك السريع لتغيير البنية السياسية في
المنطقة بالتحالف بين تل أبيب وواشنطن، باستخدام فعال لخيار القوة العسكرية،
فإن الحقائق على الأرض تكشف عن معوقات جدية تقف بوجه هذا السيناريو؛
فمقاومة الشعب الفلسطيني للاجتياح الإسرائيلي على الرغم من قساوتها بسبب
اختلال توازن القوة، فتحت الأبواب الواسعة أمام حائط جديد بدأ أساسه يلوح في
الأفق يصنعه أبطال، وترويه دماء، وتغذيه نفوس بدأت تتحرر من الوهن: تكره
الدنيا وتحب الموت.