مجله البيان (صفحة 4269)

المسلمون والعالم

بنو إسرائيل والمسجد الأقصى تاريخ ووقفات

د. إبراهيم بن ناصر الناصر

تمثل قضية فلسطين أحد أهم قضايا المسلمين، بل هي الرئيسة والقضية

المحورية، لأنها تقع في قلب مركز الأمة المسلمة وتضم ثالث المسجدين وأولى

القبلتين، وأنها الأرض المباركة، وأن الطائفة المنصورة ستكون في أكنافها في

بعض مراحلها، أضف إلى ذلك أن المغتصبين لها هم الأشد عداوة للذين آمنوا،

وأنهم اغتصبوا فلسطين بدعوى الحق الديني والحق التاريخي؛ فطبيعة الصراع

معهم لا بد من تصحيحها فهي ليست ذات طبيعة سياسية أو عسكرية ضد ظاهرة

استعمارية فقط، وإنما أساس الصراع فيها هو البعد الديني، الذي يأخذ بُعده عند

المسلمين بسبب أنها أرض لمقدساتهم وتاريخهم ومستقبلهم، ومن هنا كان من

المناسب عرض تاريخ بني إسرائيل مع بيت المقدس ومع أنبيائهم لمعرفة ما آل إليه

حال هؤلاء القوم مما بينه الله - سبحانه وتعالى - في كتابه العزيز.

أولاً: تاريخ بني إسرائيل والمسجد الأقصى [1] :

- قبل الميلاد بنحو 0052 سنة هاجرت قبائل عربية من شبه الجزيرة

العربية إلى الشمال واستقرت على ضفة نهر الأردن الغربية منسابة إلى البحر

المتوسط، وأشهر هذه القبائل قبائل اليبوسيين من الكنعانيين، وسميت هذه الأرض

بأرض كنعان وهو اسم يكثر وروده في التوراة، وقاموا بإنشاء بلدة باسم «أور

سالم» وهذا اسم الإله عندهم أو هي كلمة تعني مدينة السلام، وتحرف الاسم فيما

بعد إلى أورشاليم، وقد تكرر ذكره في التوراة أيضاً.

- بعد ذلك هاجرت قبائل من جزر في البحر المتوسط إلى سواحله الشرقية

تسمى قبائل «فلستين» وتم اختلاط بين الكنعانيين والمهاجرين الجدد، وشكلوا

خليطاً يغلب عليه الدم العربي، وعاشوا في تلك المنطقة التي سُميت فلسطين.

- في تلك العصور ولد وعاش إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - في العراق

(بابل) ثم هجرها بعد اعتزاله لقومه بسبب شركهم إلى حران ثم عبر نهر الفرات

وبادية الشام إلى أرض كنعان (فلسطين) ومعه زوجته سارة (ابنة عمه) وابن

أخيه لوط وذلك في حدود سنة 0002 ق. م واستقروا هناك، ويقال إنه بسبب هذا

العبور سُمي بنو إسرائيل فيما بعد بالعبرانيين.

- في فترة استقرار إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - في أرض كنعان

(فلسطين) خرج منها مرتين، الأولى إلى مصر بسبب القحط ولكنه عاد إلى أرض

كنعان بعد أن نجى الله زوجته سارة من اعتداء ملك مصر الذي أهداها جارية اسمها

هاجر، فأهدتها إلى إبراهيم فولدت له إسماعيل.

- عندما دبت الغيرة عند سارة من هاجر نقلها إبراهيم وولدها إسماعيل بأمر

من الله - تعالى - إلى مكة في جزيرة العرب [رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ

غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ] (إبراهيم: 37) ثم رفع إبراهيم وإسماعيل -

عليهما السلام - الكعبة [وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ]

(البقرة: 127) بعد أن أعمله الله مكانها، [وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ البَيْتِ]

(الحج: 26) .

- ظل إبراهيم مقيماً في أرض كنعان بعد بناء الكعبة، وأصبحت هذه البقعة

من أرض الشام مهجراً له بعد أن نشأت له فيها ذرية طيبة، فاتخذ فيها مكاناً يعبد

الله فيه، وكان هذا المكان يمثل المرحلة المبكرة الأولى لتقديس هذه البقعة واتخاذها

مكاناً للعبادة والمسماة بالمسجد الأقصى، وكان ذلك بعد بناء الكعبة بأربعين سنة،

ففي الصحيحين من حديث أبي ذر الغفاري قال: قلت: يا رسول الله! أي مسجد

وضع في الأرض أول؟ قال: المسجد الحرام. قال: قلت: ثم أي؟ قال: المسجد

الأقصى. قلت: كم كان بينهما؟ قال: أربعون سنة « [2] ، وذهب بعض أهل العلم

إلى أن هذه الفترة هي ما بين بناء إبراهيم وإسماعيل للبيت، وبناء يعقوب لتلك

البقعة، وقيل أن أول من وضع المسجدين هو آدم وأولاده وبينهما أربعون سنة،

وأن إبراهيم وأبناءه الأنبياء هم الذين بنوا المسجدين وجددوهما.

- كرم الله إبراهيم بأن جعل في ذريته النبوة والكتاب فكل نبي بعث بعده فهو

من ذريته، وكل كتاب أنزل الله على نبي من الأنبياء بعده فعلى أحد ذريته، فهو

والد الأنبياء الثاني بعد نوح - عليهما السلام -، قال الله - تعالى -: [وَلَقَدْ

أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ] (الحديد: 26) .

- ولد لإبراهيم إسحاق من زوجته سارة بعد إسماعيل بأربع عشرة سنة في

قصة تعد من المعجزات لإبراهيم ذُكرت في القرآن في أكثر من سورة، ثم تزوج

إسحاق - عليه السلام - وولد له ولدان هما يعقوب وعيصو، وكانت النبوة في

نسل يعقوب وهو إسرائيل والذي ينتسب إليه بنو إسرائيل، ومنه يبدأ تاريخ بني

إسرائيل.

- تزوج يعقوب الذي كان مقيماً في أرض حران من ابنتي خاله - كان ذلك

سائغاً في ملتهم ثم نسخ في شريعة التوراة - وأهدت كل واحدة منهما ليعقوب جارية؛

فولدن هؤلاء الأربع ليعقوب اثني عشر ولداً هم أسباط بني إسرائيل، وكان

يعقوب في طريق رحلته إلى خاله في أرض حران رأى في المنام موضع المعبد

الذي اتخذه إبراهيم - عليه السلام - فوضع عليه علامة، ونذر إذا رجع إلى أهله

أن يبني في هذا الموضع معبداً لله.

- رجع يعقوب مع أهله إلى أرض كنعان (فلسطين) فمر على قرية أورشليم

فنزل واشترى هناك أرضاً وابتنى فيها مذبحاً ومعبداً وهو مكان القرابين لله والعبادة

حيث أمره الله بذلك، وهو بيت المقدس الذي اختاره إبراهيم أولاً ثم جدده يعقوب ثم

بناه سليمان بعد ذلك وهو موضع الصخرة وما حولها التي أعلمها عندما رآها في

المنام في طريقه إلى أرض حران، واستمرت هذه البقعة مقدسة لدى المؤمنين من

بني إسرائيل ثم لدى أتباع النبي محمد صلى الله عليه وسلم.

- خرج بنو إسرائيل مع أبيهم يعقوب إلى مصر في زمن يوسف - عليه

السلام - حوالي سنة 0361 ق. م، وكانوا سبعين رجلاً، وظلوا فيها أربعمائة

سنة وثلاثين سنة شمسية - حسب سفر الخروج -، وخرجوا منها مع موسى -

عليه السلام - وكانوا ستمائة ألف رجل عدا الذراري، وقيل إنهم خرجوا سنة

4021 ق. م، ليدخلوا الأرض المقدسة التي استوطنها الوثنيون من العمالقة

الكنعانيين المسمين في القرآن بالجبارين، ولكن بني إسرائيل تخلوا عن الجهاد

ورفضوا دخول الأرض المقدسة حتى عوقبوا بالتيه، وقد قص الله علينا الحوار

الذي جرى بينهم وبين موسى في ذلك: [وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ

اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكاً وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّنَ العَالَمِينَ *

يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا

خَاسِرِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا

فَإِن يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ * قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا

ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ البَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ *

قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَداً مَّا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا

قَاعِدُونَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ القَوْمِ الفَاسِقِينَ]

(المائدة: 20-25) ، ويعتبر اليهود المفترون موسى - عليه السلام - أول زعيم

صهيوني حاول العودة باليهود إلى فلسطين.

- ظل بنو إسرائيل في التيه أربعين سنة توفي فيها هارون ثم موسى -

عليهما السلام -، وحصل فيها أمور عجيبة من المعجزات لموسى، وهناك نزلت

التوراة، وشرعت الأحكام، وهناك عملت قبة العهد، ويقال لها قبة الزمان أو خيمة

الاجتماع كالكعبة لهم، فهم يصلون فيها وإليها، وهي التي نصب فيها» تابوت

الشهادة «الذي يتبرك به بنو إسرائيل لينصروا على الأعداء، فيه شرائع لهم

وأحكام وبقايا من التوراة، وهو المذكور بقوله - تعالى -: [وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ

آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ

هَارُونَ تَحْمِلُهُ المَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ] (البقرة: 248) .

- بعد وفاة موسى وهارون - عليهما السلام - تولى أمر بني إسرائيل نبي

آخر وهو يوشع بن نون، وهو فتى موسى المذكور في سورة الكهف كما ثبت في

البخاري، [وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لاَ أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ البَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً]

(الكهف: 60) ، فسار ببني إسرائيل من الجيل الثاني بعد انتهاء التيه قاصداً

بيت المقدس والتي سماها» مدينة يبوس «نسبة لليبوسيين من الكنعانيين

فحاصرها ففتحها عصر الجمعة حيث دعا الله أن يحبس الشمس عن الغروب حتى

يفتح المدينة، وذلك أن القتال محرم عليهم يوم السبت فحبسها الله له. وأمر يوشع

بن نون أن يأمر بني إسرائيل أن يدخلوا بيت المقدس سجداً وأن يقولوا حطة أي

حط عنا ذنوبنا فبدلوا ما أمروا به ودخلوا يزحفون على أستاههم وهم يقولون حنطة،

وقد جاء في القرآن ذلك عنهم بقوله وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ القَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ

شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا البَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ المُحْسِنِينَ *

فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِّنَ السَّمَاءِ

بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ، ولما دخل يوشع بن ن (البقرة: 58-59) ون بيت المقدس

نصب القبة على الصخرة فكانوا يصلون إليها فلما اندثرت صلوا إلى مكانها،

وصارت قبلة الأنبياء بعده إلى زمن محمد صلى الله عليه وسلم قبل تحويل القبلة

إلى الكعبة المشرفة.

- بعد يوشع بن نون مر على بني إسرائيل عهد سمي في التاريخ الإسرائيلي

بعهد القضاة حيث كان يحكمهم القضاة من اثنى عشر سبطاً، وكان القيم على أمور

بني إسرائيل بعد يوشع أحد أصحاب موسى وزوج أخته يدعى كالب بن يوفنَّا وهو

مع يوشع بن نون المقصودان بقوله - تعالى -: [قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ

أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ البَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن

كُنتُم مُّؤْمِنِينَ] (المائدة: 23) ثم جاء بعده رجل يقال له: حزقيل بن بوذي وهو

الذي دعا الله أن يحيى [الَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ المَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ

اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ] (البقرة: 243) ، ثم بعد ذلك كثرت الأحداث وعبد

بعضهم الأوثان ومنها بعل الذي عبده أهل بعلبك من بني إسرائيل، فبعث الله إليهم

إلياس، ثم بعث إليهم بعده اليسع - عليهما السلام -، وبعد موت اليسع عظمت

الأحداث، وكثرت فيهم الجبابرة، وقتلوا الأنبياء فسلط الله عليهم الجبابرة من

غيرهم.

- اجتاح الجبابرة من أهل غزة وعسقلان من الكنعانيين مرة أخرى أرض

بني إسرائيل بعد ضعف القضاة وعجزهم عن تسيير أمور بني إسرائيل، فأخذوا

منهم تابوت الشهادة الذي كان يتبرك به بنو إسرائيل لينصروا في حروبهم، فبقي

بنو إسرائيل كالغنم بلا راع فعمدوا إلى نبي لهم يقال له» صموئيل «وطلبوا منه

أن ينصب عليهم ملكاً لدفع الجبابرة عن أرضهم، فكانت القصة التي وردت في

سورة البقرة: [أَلَمْ تَرَ إِلَى المَلأِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَّهُمُ

ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُوا

قَالُوا وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ

القِتَالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بَالظَّالِمِينَ] (البقرة: 246) ، وكانت المدة

من وفاة يوشع بن نون حتى بعث الله النبي صموئيل أربعمائة سنة وستين سنة على

أكثر الروايات وهي فترة عهد القضاة، وقد استجاب لهم هذا النبي بأمر الله، وبعث

لهم طالوت ملكاً ولم يقبلوه إلا بعد جدال ومماحكة، وكان داود عليه السلام أحد

رجاله، وبرز في الجيش المعادي جالوت فبارزه داود وقتله فأصبح داود هو الملك

الثاني بعد طالوت واجتمع فيه الملك والنبوة وكانت قبله كل واحدة في سبط، وفتح

داود بيت المقدس وذلك عام 799 ق. م بعد 002 سنة من حكم العمالقة الذي

أصبح اسمها مدينة داود، ونقل التابوت إليها، وأعد العدة ليشيد المسجد المسمى

عند اليهود بالهيكل على قاعدة سداسية الشكل، ويقال إن هذا هو أصل اتخاذ اليهود

للنجمة السداسية شعاراً لهم، ولهذا ينسب إلى داود أحياناً فيقال مسجد داود كما سماه

عمر - رضي الله عنه - عندما دخل القدس، ثم إن داود لم يمهله الأجل فعهد

بمهمة البناء إلى ابنه سليمان، وقد جاء في الطبراني من حديث رافع بن عميرة:

إن داود - عليه السلام - ابتدأ ببناء بيت المقدس ثم أوحى الله إليه: إني لأقضي

بناءه على يد سليمان.

- تولى سليمان بعد داود - عليهما السلام -، حيث استمر في ملكه أربعين

سنة، بنى خلالها المسجد المسمى بالهيكل بناءً محكماً ضخماً يتلاءم مع عظمة ملك

سليمان وما سخر له، فكان أول بناء للهيكل بهذه الضخامة، ولذا نسب إليه فيقال

هيكل سليمان، وهو الهيكل الأول، وقد ثبت ذلك في الحديث الصحيح (س)

مرفوعاً: إن سليمان لما بنى بيت المقدس سأل الله عز وجل خلالاً ثلاثة الحديث،

ولعلاقة الماسونية باليهود المفترين، يصرح الماسونيون بأن هيكل سليمان كان

المحفل الماسوني الأصلي، وأن الملك سليمان كان رئيس المحفل، ويسمونه الملك

لأن اليهود لا يعترفون بنبوته ونبوة والده داود عليهما السلام، بل إن طوائف من

بني إسرائيل خاصة السامرة لا يقرون بنبوة أحد بعد موسى إلا يوشع بن نون لأنه

مصرح به في التوراة ويكفرون بما وراءه.

- بعد وفاة سليمان عليه السلام سنة 539 ق. م تولى ابنه رحبعام الملك لكن

بني إسرائيل تمردوا عليه ولم يبق معه سوى سبط (يهوذا) ، وأما بقية الأسباط

فنصبوا عليهم ملكاً آخر هو يربعام بن ناباط فانقسموا إلى مملكتين، مملكة يهوذا

عاصمتها أورشليم ومملكة إسرائيل (السامرة) وعاصمتها نابلس، وهذا أصل

تسمية اليهود للضفة الغربية بـ (يهوذا والسامرة) ، وقد حصل منهم في هذه الفترة

فساد عريض، فوعظهم نبي لهم اسمه أشعياء وذكرهم وأنذرهم بأمر الله فلم

يستجيبوا وتمادوا بالانحراف حتى بلغ أوجه بقتلهم قاتلهم الله هذا النبي ونشروه

بالمنشار، ثم بعث الله إليهم نبياً آخر هو أرميا فحذرهم من أن الله سيسلط عليهم

جباراً يدمرهم إذا لم يستجيبوا له، لكنهم كذبوه واتهموه فقيدوه وسجنوه، وهذا هو

الإفساد الأول على ما ذهب إليه كثير من المفسرين في قوله - تعالى -: [وَقَضَيْنَا

إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُواًّ كَبِيراً]

(الإسراء: 4) .

- في حدود سنة 127 ق. م استولى سرجون الأشوري على مملكة إسرائيل

وقتل وشرد بعض شعبها، وفي سنة 806 ق. م استولى فرعون مصر على مملكة

يهوذا ثم واصل زحفه حتى استولى على مملكة إسرائيل في الشمال وانتزعها من

الأشوريين فثار لذلك ملك بابل الجديد بختنصر الذي آل إليه السلطان على آشور،

فزحف بخنتصر على فلسطين بمملكتيها وهزم المصريين فيها، ونهب أورشليم،

ودمر الهيكل، وجاس خلال الديار، وحرق التوراة، وسبى أكثر السكان إلى بابل،

وقتل بعضهم وفر بعضهم إلى مصر والمغرب والحجاز واليمن، وأنهى بذلك

ملك بني إسرائيل في فلسطين من خلال حوادث متسلسلة هي الأسر الأول سنة

606، والأسر الثاني سنة 895، والأسر الثالث سنة 885 ق. م، عرفت

تاريخياً بالسبي البابلي، وتحقق فيهم ما حذرهم منه نبيهم أرميا وعرف هذا التدمير

بالتدمير الأول للهيكل، وذهب كثير من المفسرين إلى أن هذا السبي والتدمير هو

المقصود بقوله - تعالى - في سورة الإسراء [فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ

عِبَاداً لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً] (الإسراء: 5) .

- كان من بين السبي دانيال وهو أحد أنبياء بني إسرائيل على أحد الأقوال،

وقد ألقاه بختنصر في بئر وألقى فيها أسدين فلم يضراه، ولما فتح المسلمون تُستَّر

وجدوا رجلاً ميتاً على سرير وعند رأسه كتاب فأخذ الكتاب إلى عمر بالمدينة

فنسخه كعب الأحبار إلى العربية فسئل أبو العالية الذي روى القصة: ماذا في

الكتاب؟ قال: سيركم وأموركم وما هو كائن بعد. ثم دفنوه وأخفوا قبره لتعميته

على الناس فلا ينبشونه لأنهم كانوا يستسقون به، وقد سئل أبو العالية: من كنتم

تظنون الرجل؟ قال: رجل يقال له دانيال، وإسناد القصة صحيح إلى أبي العالية،

وقد روي أن دانيال دعا ربه أن تدفنه أمة محمد.

- ظل بيت المقدس في خراب تام وظل بنو إسرائيل في الأسر لأكثر من

أربعين سنة حتى جاء كورش الأخميني ملك فارس والذي يميل بعض الباحثين إلى

أنه هو ذو القرنين المذكور في سورة الكهف وهزم البابليين، ثم جاء بعده داريوس

فاستولى على بابل سنة 835 ق. م وآل إليه حكم أرض فلسطين، فسمح لبني

إسرائيل الذي أصبح اسمهم اليهود بالعودة إلى فلسطين لوقوفهم مع الفرس في

حربهم للبابليين، وذلك قوله تعالى: [ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ

وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً] (الإسراء: 6) ، عند بعض المفسرين، فعمد

العائدون إلى إعادة بناء الهيكل مرة أخرى بناءً محدوداً وهو الهيكل الثاني، وظلوا

تحت حكم الفرس إلى أن احتل أرضهم الإسكندر الأكبر المقدوني اليوناني تلميذ

أرسطو سنة 023 ق. م فرحب به اليهود هروباً من تسلط الفرس، واستمروا

تحت حكم الإسكندر حتى آل الأمر في فلسطين إلى البطالسة ملوك مصر، فظلوا

تحت حكمهم إلى سنة 661 ق. م.

- حاول اليهود بعد ذلك الاستقلال عن البطالسة المحتلين فقاموا بعدة محاولات

لاستعادة ملكهم تحت قيادة سبط اللاويين منهم فحكموا في ظل صراع ظل قائماً بينهم

وبين أعدائهم حتى استغل الرومان الوضع المتأزم فاستولوا على فلسطين عام40 ق. م، وحاول الرومان أن يهدئوا الأحوال ويسترضوا اليهود فأقاموا عليهم أمراء

منهم كان أشهرهم هيردوس الذي أكمل بناء الهيكل الثاني على نسق هيكل سليمان،

ورمم ما تهدم منه قبل ذلك عام 02 ق. م، وظل الهيكل قائماً حتى جاء زكريا

وابنه يحيى وابن خالته عيسى عليهم السلام.

- كان زكريا رئيس الهيكل وهو الذي كفل مريم المنذورة لخدمة الهيكل،

وفي محراب الهيكل كان يأتي الرزق إلى مريم وهو من نوع كرامات الأولياء.

وفيه أيضاً دعا زكريا ربه بالذرية الطيبة قال - تعالى -: [فَنَادَتْهُ المَلائِكَةُ وَهُوَ

قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَسَيِّداً

وَحَصُوراً وَنَبِياًّ مِّنَ الصَّالِحِينَ] (آل عمران: 39) ، واستمر الحال في الهيكل

هكذا حتى قتل اليهود زكريا ونشروه بالمنشار، ثم قتلوا ولده يحيى - عليهما السلام-

لأنه رفض الفتيا لهم بجواز البغاء لأحد ملوكهم، وكان هذا هو الإفساد الثاني

المذكور في سورة الإسراء على ما ذهب إليه بعض المفسرين في قوله - تعالى -:

[وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُواًّ

كَبِيراً] (الإسراء: 4) .

- جاء آخر أنبياء بني إسرائيل وهو عيسى - عليه السلام - وكان معاصراً

ليحيى وابن خالته وقد سماه اليهود: ابن البغية، وذلك قوله - تعالى -:

[وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً] (النساء: 156) ، وقد سمي بالمسيح

لمسحه الأرض وسياحته فيها فراراً بدينه من الفتن لشدة تكذيب اليهود له وافترائهم

عليه وعلى أمه، وكانت أحوال بني إسرائيل في غاية الفساد فعقائدهم قد طمست

وأخلاقهم قد رذلت، وسيطرت عليهم المادية الجشعة حتى إنهم اتخدوا من المسجد

المسمى بالهيكل سوقاً للصيارفة والمرابين وملهى لهم، وقد أنذرهم زكريا ويحيى

ومن تبعهم من أنبيائهم وحذرهم عيسى من العقوبة قائلاً لهم: (مكتوب أن بيتي

بيت للصلاة وأنتم جعلتموه مغارة لصوص) ، ولما استيأس منهم حذرهم من أن

الهيكل سوف يهدم وقال: (الحق أقول لكم، إنه لا يترك ها هنا حجر على حجر

لا ينقض) ، وكانت تعاليم عيسى الروحانية تنتشر بين جماهير غفيرة من السكان،

مما أغاظ زعماء اليهود الماديين وكهنتهم المنتفعين، وخوفاً من اليهود على

مصالحهم وكرهاً لعيسى وأتباعه من الحواريين حرضوا السلطة الرومانية على

عيسى - عليه السلام -، وقررت مجالس اليهود الدينية الحكم عليه بالموت، ولما

تبين للحاكم الروماني براءته نادى اليهود عليه بقولهم:» اصلبه اصلبه، دمه علينا

وعلى أولادنا «، ولما أحكموا المؤامرة وحان القتل كان قدر الله سبق بأمر آخر قال

الله - تعالى -[وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي

شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً * بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ

اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً] (النساء: 157-158) .

- ظل الهيكل قائماً بعد عيسى - عليه السلام - حتى عام 04 م، حيث

حاول اليهود التمرد على الحكم الروماني، فأرسل قيصر روما القائد طيطس الذي

أقدم على قتل الألوف وأسر الألوف من اليهود إلى روما بما سمي» الأسر

الروماني «، وقام على إحراق المدينة المقدسة وتدمير الهيكل التدمير الثاني،

وتحققت نبوءة عيسى - عليه السلام - فلم يبق فيه حجر على حجر كما قال لهم

من قبل، ولعل هذا هو الانتقام الإلهي من اليهود على الإفساد الثاني لهم بقتلهم

الأنبياء والصالحين مثل زكريا ويحيى ومحاولتهم قتل عيسى - عليه السلام -

وإيذائهم لأتباعه من الحواريين كما ذهب إلى ذلك طائفة من المفسرين في قول

الله - تعالى -: [فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا المَسْجِدَ كَمَا

دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً] (الإسراء: 7) .

- استطاع اليهود أن يستعيدوا المدينة بعد حروب وقد بقي منهم شرذمة قليلة

بها إلى أن وافاهم القائد الروماني أدريانوس فهدمها وخربها ورمى قناطر الملح على

أرضها حتى لا تعود صالحة للزراعة، وأكمل تخريب الهيكل وشرد اليهود وشتتهم

في أرجاء الإمبراطورية الرومانية، وحرم عليهم العودة إلى القدس والسكن فيها

وذلك سنة 531م، وبذلك انتهى أمر اليهود وانقرض في الأرض المقدسة وتفرقوا

في الأرض.

- اختلف أصحاب عيسى - عليه الصلاة والسلام - فيه بعد رفعه على أقوال:

منهم من قال: هو عبد الله، ومنهم من قال: هو الله ومنهم من قال: هو ابن الله،

وهذا قول الله - تعالى -: [فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن

مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ] (مريم: 37) ، كذلك اختلفوا في نقل الأناجيل فالذين نقلوه

أربعة متى ويوحنا وهما ممن أدرك المسيح ورآه، ولوقا ومرقس وهما من

أصحاب أصحابه، وبينها اختلاف كبير من حيث الزيادة والنقص.

ثم حدثت الطامة الكبرى بعد أكثر من ثلاثمائة سنة من رفع المسيح عندما

اختلف القساوسة والبطارقة والأساقفة في المسيح على أقوال متعددة، فتحاكموا إلى

قسطنطين ملك الروم وباني القسطنطينية في المجمع الأول، فصار الملك إلى قول

أكثرهم وأبعد من عداهم، وتفردت الفرقة التابعة لعبد الله بن أديوس الذي ثبت على

أن عيسى عبد الله ورسوله فسكنوا البراري ولم يخالطوا أصحاب تلك الملل والنحل،

وأما الآخرون فبنوا الكنائس وصوروها ولم تكن مصورة من قبل، ووضعوا

القوانين والأحكام المخالفة للتوراة، وأحلوا أشياء هي حرام بالتوراة مثل الخنزير،

ووضعوا لهم عقيدة يسمونها بالأمانة وهي أكبر الكفر، وقد وافقت عليها جميع

المجامع النصرانية وإن اختلفوا في تفسيرها.

- لما تنصرت الدولة الرومانية رسمياً بالنصرانية المحرفة في عهد

الإمبراطور قسطنطين بعد مجمع نيقية المجمع الأول سنة 313م، قامت أم

الإمبراطور بزيارة أورشليم (القدس) وكانت متصلبة في النصرانية، وقد أُشربت

بغض اليهود بما تعتقده من قتلهم المسيح، فأمرت بتصفية أطلال الهيكل وأن ينقل

ما بقي من الأساطين ونحوها فتبنى بها كنيسة على قبر المصلوب وهو القبر

المزعوم للمسيح، فسميت كنيسة القيامة أو القمامة، وأمرت أن يجعل موضع

الهيكل مرمى أزبال البلد وقماماته، فصار موضع الصخرة مزبلة تراكمت عليها

الأزبال فغطتها وانحدرت على درجها، وهذا السر في أنه رغم حفريات اليهود

الكثيرة والعميقة لم يعثروا على أي أثر للهيكل.

- ظل مكان الهيكل فضاءً خالياً من أي بناء بقية عهد الرومان النصارى،

وقد حدث الإسراء والمعراج بالنبي صلى الله عليه وسلم في عهد الحاكم الروماني

هرقل عام 126م، وكان المكان ما زال خالياً من أي بناء، إلا أنه محاط بسور فيه

أبواب داخله ساحات واسعة هي المقصودة بالمسجد الأقصى في قوله - تعالى -:

[سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا

حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ] (الإسراء: 1) . وقد ظل المكان

معروفاً مقدساً في داخله الصخرة رغم زوال الآثار.

- جاء الفتح الإسلامي لبيت المقدس صلحاً في عهد عمر - رضي الله عنه -

سنة 61 هـ / 736م، وهي تسمى يومئذ» إيليا «وهو اسم لحقها قبل الميلاد

نسبة إلى أحد قادة الرومان، أو نسبة إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل ولم يكن

لليهود وجود بها وقت الفتح؛ حتى إن بطريرك النصارى اشترط في عقد تسليم

المدينة عدم دخول أحد من اليهود إليها، ثم طلب عمر من البطريرك أن يدله على

مسجد داود، فانطلق به حتى انتهى إلى مكان الباب وقد انحدر الزبل على درج

الباب، فتجشم عمر حتى دخل ونظر، فقال: الله أكبر، هذا والذي نفسي بيده

مسجد داود الذي أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أسري به إليه، ثم أخذ

عمر والمسلمون يكنسون الزبل عن الصخرة حتى ظهرت كلها، ولما استشار عمر

كعب الأحبار وكان يهودياً قد أسلم، وكان مع جيش فتح بيت المقدس، أين يضع

المسجد، قال: ضعه خلف الصخرة، فقال له عمر: ضاهيت اليهودية، وفي

رواية يابن اليهودية، بل نجعله في صدر المسجد يقصد صدر الساحة، وجعل

الصخرة في مؤخرته، وبعض المؤرخين يرى أن عمر لم يبن مسجداً هناك،

وسؤاله لكعب الأحبار عن تعيين مكان الصلاة، وليس عن مكان للبناء.

- بقي المسجد الأقصى على حالته بعد الفتح الإسلامي إلى أن جاء الخليفة

الأموي عبد الملك بن مروان فبدأ بناء المسجد الأقصى سنة 66 هـ على صورته

القائمة اليوم، ووكل على بناءه رجاء بن حيوة، ثم أتم البناء ابنه الوليد بن عبد

الملك، وأما الصخرة فأول من بنى فوقها مسجداً في العصر الإسلامي عبد الملك بن

مروان، وهو المسجد المعروف بمسجد الصخرة، والمشهور بقبته الذهبية على

المبنى المثمن، ويبدو أن هدف عبد الملك بن مروان من هذا البناء الضخم هو

مواجهة ضخامة كنائس بلاد الشام خاصة كنيسة القيامة القريبة منه، فأصبح المسجد

الأقصى يحوي مسجد عمر المشهور بالمسجد الأقصى، ومسجد الصخرة،

والساحات المحيطة، وهذه الصخرة وما حولها التي بُني عليها المسجد كانت قبلة

الأنبياء بعد موسى عليه السلام، وقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون

إلى بيت المقدس قبل تحويل القبلة إلى الكعبة المشرفة مدة ستة عشر شهراً من

الهجرة حيث قال الله تعالى: [فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ

فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ] (البقرة: 144) ، وهكذا ببعثة النبي محمد صلى الله عليه

وسلم وبإمامته للأنبياء في المسجد الأقصى ليلة الإسراء وبتحويل القبلة إلى الكعبة

المشرفة، تحول الاختيار الرباني من بني إسرائيل إلى هذه الأمة المحمدية قال الله

تعالى: [كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ

وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ] (آل عمران: 110) ، وبفتح بيت المقدس زمن الخليفة الراشد

عمر انتقلت الولاية على المسجد الأقصى إلى أتباع محمد صلى الله عليه وسلم.

- ظل الخلفاء في الدول الإسلامية المتعاقبة يعتنون ببيت المقدس ترميماً

وتجديداً وتجهيزاً حتى نشب الصراع بين الفاطميين والسلاجقة على القدس فاستغل

الصليبيون النصارى الفرصة وشنوا حرباً مقدسة ضد المسلمين دعت إليها المجامع

النصرانية فسقطت القدس في أيديهم وذلك سنة 294هـ، حيث عملوا مذبحة

رهيبة يوم دخولهم بلغت نحواً من سبعين ألفاً، وظلوا فيها يعيثون فساداً مدة إحدى

وتسعين سنة، حتى حررها منهم السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي - رحمه

الله - وذلك سنة 385هـ بعد معركة حطين الشهيرة، وبذلك طهر الله على يديه

المسجد الأقصى وحمى به الحرمين الشريفين من تهديد الصليبيين النصارى؛ حيث

كان قائدهم» أرناط «عازماً على الهجوم على مكة والمدينة، وقد وصل إلى

سواحل الحجاز، فما كان من صلاح الدين إلا أن أعدمه حال تمكنه منه.

- استمر المسجد الأقصى في حوزة المسلمين أيام الأيوبيين ثم المماليك ثم

العثمانيين إلى أن ضعفت الدولة العثمانية فاحتل الإنجليز فلسطين سنة 7191م وهو

العام الذي صدر فيه وعد بلفور المشؤوم بإعطاء اليهود وطناً قومياً في فلسطين،

وبدأت بريطانيا خلال انتدابها لفلسطين وهي ثلاثون عاماً بتهيئة الظروف لهجرة

اليهود إلى فلسطين وتهيئة الأجواء لإعلان دولة اليهود، وقد أعلن اليهود دولتهم في

نفس توقيت إلغاء الانتداب على فلسطيين سنة 8491م، وقامت دولة إسرائيل

وسيطرت على القدس الغربية وهو الجزء الغربي الحديث من مدينة القدس وليس

فيه شيء من الأماكن المقدسة الموجودة فيما سمي بالقدس الشرقية والذي بقي جزءاً

من الضفة الغربية التي ضمتها الأردن إليها.

- بقي المسجد الأقصى تحت الإدارة الأردنية كجزء من الضفة الغربية حتى

قامت حرب 7691م وهزم العرب فيها هزيمة منكرة، استولى فيها اليهود على

الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية والمسجد الأقصى، وما زال الأقصى يئن

تحت وطأة قتلة الأنبياء بالرغم من اتفاقيات السلام وقيام الحكم الذاتي الفلسطيني.

ثانياً: وقفات مع تاريخ بني إسرائيل والمسجد الأقصى:

- إن القرآن الكريم عرض لأهم الأحداث في تاريخ بني إسرائيل أو أشار

إليها وكذلك السنة النبوية، وهي الأحداث التي فيها العبرة لهذه الأمة وما لم يرد في

الكتاب والسنة فلا حاجة إليه، وإنما أذن الشارع في نقله إذا لم يخالف الكتاب

والسنة وهو القسم الذي لا يصدق ولا يكذب فيذكر على سبيل التحلي والاستئناس،

وما يذكره المؤرخون من هذا التاريخ مما لم يرد في الوحيين معظمه منقول من

تواريخ أهل الكتاب، حكمه حكم غيره من التواريخ إلا إذا خالف الكتاب والسنة

فيرد، مع الحذر من بعض فصول ذلك التاريخ الذي سجله اليهود في التوراة

المحرفة، لأنه تاريخ محرف ومزور كتبوه لمصلحتهم وفصلوه على مقاسهم.

- أن بني إسرائيل عندما كانوا أتباع الأنبياء كانوا الأمة المختارة على أهل

عصرهم، كما قال - تعالى -: [يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ

وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العَالَمِينَ] (البقرة: 47) ، ومنهم من قال الله فيهم: [وَلَقَدِ

اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى العَالَمِينَ] (الدخان: 32) ، وقال سبحانه: [وَجَعَلْنَا

مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ] (السجدة: 24) ،

وقال - تعالى -: [وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا]

(الأعراف: 137) ، ومنهم الفئة القليلة التي ثبتت مع طالوت حتى النصر، ولذا

كان موسى من أكثر الأنبياء تابعاً يوم القيامة كما جاء في الحديث الصحيح، ونحن

المسلمين أولى ببني إسرائيل المؤمنين وبأنبيائهم من الطائفة الكافرة وهم الغالبية

منهم الذين خرجوا على ملة موسى وتنكبوا طريق الأنبياء، والذين كشف الله

أساليبهم من الغدر والخيانة وأشركوا بالله وقتلوا أنبياءه، وأفسدوا في الأرض،

وحكم الله عليهم بالغضب والذل والهوان، وكذلك أحفادهم من يهود المدينة الذين

حاولوا قتل محمد صلى الله عليه وسلم ونكثوا عهوده معهم، ومن جاء بعدهم من

اليهود المشركين الملاحدة الذين يعيثون فساداً في الأرض عموماً وفي الأرض

المباركة خصوصاً.

- إن لبني إسرائيل تاريخاً حقيقياً ثابتاً مع بيت المقدس عندما كانوا مسلمين،

وإن المسجد الأقصى الإسلامي هو امتداد لمسجد أنبياء بني إسرائيل المسمى عندهم

بالهيكل، وهذا ما يؤكد أن الصراع مع مدعي هذا الحق التاريخي اليوم هو صراع

ديني؛ حيث إنه صراع بين أصحاب دعوى حق وهم المسلمون وأصحاب دعوى

باطلة وهم اليهود، وقتالنا لليهود وجهادنا لهم واجب شرعي وملحمة مستقبلية لحسم

هذه الدعوى [قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ

وَمَنِ اهْتَدَى] (طه: 135) .

- إن المسجد الأقصى على مر التاريخ كان مسجداً إسلامياً من قبل أن يوجد

اليهود ومن بعد ما وجدوا فإبراهيم - عليه السلام - أول من اتخذ تلك البقعة مسجداً،

وقد قال الله تعالى عنه: [مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِياًّ وَلاَ نَصْرَانِياًّ وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً

مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ] (آل عمران: 67) ، أو أنه آدم أو بعض أولاده

على قول آخر فليس لبني إسرائيل علاقة بالمسجد الأقصى إلا في الفترات التي

كانوا فيها مسلمين مع أنبيائهم المسلمين، أما بعد كفرهم بالله وسبهم له وقتلهم

الأنبياء فقد انبتت علاقتهم بهذا المسجد الذي تحول إلى إرث المسلمين المؤمنين

بجميع الأنبياء، وهم أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، وكان الإسراء إلى المسجد

الأقصى إيذاناً بهذا التحول والذي تحقق على أرض الواقع في فتح المسلمين له في

عهد الخلفية الراشد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -.

- إن تاريخ بني إسرائيل يبدأ مع يعقوب عليه السلام وأبنائه الأسباط الاثنى

عشر، وأما تاريخهم السياسي فيبدأ مع موسى عليه السلام، وهو أعظم أنبياء بني

إسرائيل، ومن أكثر الأنبياء تبعاً بعد محمد صلى الله عليه وسلم كما ثبت في

الأحاديث الصحيحة، وشريعته من أعظم الشرائع وفيها شرع الجهاد ولم يكن شرع

قبل، وكان أول امتحان لهم بالجهاد أمر الله لهم بدخول الأرض المقدسة التي كانت

تحت سلطان الكفرة الجبارين، وكانت رسالة موسى خاصة ببني إسرائيل، ووجد

فيهم بعد موسى أنبياء وعلماء وعباد وزهاد وملوك وسادات لكنهم كانوا فبادوا

وتبدلوا كما بدلت شريعتهم، ومسخ بعضهم قردة وخنازير، وجرت عليهم خطوب

بسبب ظلمهم وبغيهم وإفسادهم. - إن الله كتب الأرض المقدسة لبني إسرائيل

عندما كانوا أتباع الأنبياء حتى مع فسقهم ونكوصهم وتخاذلهم عن الجهاد وإيذائهم

لموسى عليه السلام كما قال الله عنهم في سورة المائدة، لكنهم لم يكفروا بعد حتى

دخلوا الأرض المقدسة مع يوشع بن نون بعد موسى - عليه السلام -، وذلك بعد

مماحكة ورفض وتبديل لأوامر نبيهم كما ذكر الله عنهم في سورة البقرة ومع ذلك

كانوا أحق بها من الوثنيين الجبارين لأنهم أقرب إلى الحق منهم.

- إن الله قضى عليهم بأنهم سيكونون أهل فساد وإفساد عندما يتنكبون طريق

الأنبياء، وأن الله سيسلط عليهم أعداءهم عقوبة لهم من الله، وقد حصل هذا مرتين

مع البابليين والرومان أو حصل مرة مع البابليين وسيحصل مرة أخرى في

المستقبل، وحذرهم الله - سبحانه وتعالى - بالعقوبة كلما عادوا للفساد والإفساد كما

قال تعالى: [وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا] (الإسراء: 8) .

- إن بني إسرائيل كانت تنحرف عقائدهم عبر الزمان، فيرسل الله لهم

الأنبياء فيتبعهم طائفة وتحاربهم طائفة حيث كانوا أكثر الأمم أنبياء وذلك لكثرة

أمراضهم، وانحراف فطرهم، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الأنبياء

في بني إسرائيل كالعلماء في هذه الأمة.

- إن انحراف بني إسرائيل ازداد عبر الزمن حتى وصل إلى سب الله -

تعالى - بادعاء الولد له وبأن يده مغلولة، وحتى وصل إلى قتلهم الأنبياء، وقد

بلغوا قمة الفساد والإفساد في عهد عيسى بن مريم آخر أنبيائهم عندما حاولوا قتله،

وقتلوا يحيى وزكريا وحولوا المسجد إلى سوق للمرابين وملهى لهم.

- بمحاولتهم قتل عيسى - عليه السلام - آخر الأنبياء بني إسرائيل وإبطال

الله لكيدهم، انتهت قصة بني إسرائيل (اليهود) الدينية، وانتهت علاقاتهم بالمسجد

الأقصى، ولم يعودوا صالحين لحمل رسالة سماوية، وصاروا أفسد الناس بعد أن

كانوا أفضل أهل زمانهم قال الله - تعالى - عنهم: [وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً]

(المائدة: 64) ، ووصمهم الله بالكذب وبأنهم قتلة الأنبياء قال الله - تعالى -:

[أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ]

(البقرة: 87) ، وبأنهم كفرة وقتلة للأنبياء وأتباعهم، قال الله - تعالى -: [إِنَّ

الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ

النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ] (آل عمران: 21) .

- بعد مبعث عيسى - عليه السلام -، وإيمان طائفة من بني إسرائيل به كما

قال الله - تعالى -: [فَآمَنَت طَّائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ

آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ] (الصف: 14) ، تحول إرث أنبياء بني

إسرائيل إلى أتباع عيسى - عليه السلام - من الذين قالوا إنا نصارى ومن ذلك

المسجد الأقصى الذي دمر بعد ميلاد عيسى بأربعين سنة كما تنبأ له عليه السلام

بسبب إفساد اليهود وفسادهم فيه، ولم يعترف اليهود بنبوته عليه السلام، وحاولوا

قتله صغيراً وكبيراً وسموه ابن البغية. عليهم لعائن الله المتتابعة.

- لما كان النصارى هم أتباع النبي الخاتم لأنبياء بني إسرائيل في أول الأمر

وهو عيسى عليه السلام الذي لم يعترف اليهود بنبوته ناصبهم اليهود العداء حيث

اتخذوا من حرب أتباع الأنبياء سلوكاً لهم، وبذلك تحول النصارى إلى خصوم

لليهود يسومونهم سوء العذاب كلما سنحت الفرصة لهم كما حصل عبر التاريخ في

أوروبا النصرانية وروسيا القيصرية، وعندما دخلوا الأندلس وعندما احتلوا القدس

عام 294 هـ بل إنهم حولوا المسجد الأقصى إلى مزبلة عندما تنصر الرومان

بالنصرانية المحرفة بغضاً لليهود؛ لأنهم يعتقدون أنهم صلبوا المسيح عليه السلام

واستمر هذا حال النصارى مع اليهود، حتى اختراق اليهود للمسيحية عبر حركة

مارتن لوثر التجديدية وتحول بعض أتباع هذه الطائفة إلى مناصرين لهم بما يسمى

بالإنجيليين البروتستانت التي أفرزت اليوم» الصهيونية المسيحية «، وأما

الكاثوليك فبعد أن برأ المجمع المسكوني سنة 3691م اليهود من دم المسيح في هذا

العصر، وتحققت صور جديدة من معاني قول الله - تعالى -: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ

آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا اليَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ] (المائدة: 51) .

- عندما بدأ الانحراف يدب في النصرانية بواسطة الأحبار والرهبان،

وأدخلوا الشرك عليها بادعائهم ألوهية عيسي - عليه السلام - وتحريفهم للكتاب

المقدس حكم الله عليهم بالضلال وسماهم بالضالين، وحكم عليهم بالكفر: [لَقَدْ كَفَرَ

الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ] (المائدة: 17) ، وقال سبحانه: [لَقَدْ

كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ] (المائدة: 73) .

- عندما أذن الله ببعث هذا النبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم من الفرع

الثاني لإبراهيم - عليه السلام - إسماعيل وكانت رسالته خاتمة الرسالات، تحول

إرث الأنبياء السابقين إليه وصار أولى الناس هو وأتباعه بالأنبياء قبله قال الله

تعالى: [إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا] (آل

عمران: 68) ، وقال - تعالى -: [إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ

إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ

القِيَامَةِ] (آل عمران: 55) ، والذين اتبعوا عيسى هم النصارى قبل التحريف ثم

الأمة المسلمة، والذين كفروا هم اليهود وكذلك النصارى بعد التحريف، ومثل قول

النبي صلى الله عليه وسلم بمناسبة صوم عاشوراء:» نحن أحق بموسى منهم « [3]

أي من اليهود، وكذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم:» أنا أولى الناس بابن

مريم في الدنيا والآخرة « [4] ، فأصبح أتباع هذا الدين هم أولى بالأنبياء السابقين

وبالأماكن المقدسة.

- قام اليهود والنصارى بتحريف كتبهم المقدسة (التوراة والإنجيل) وجحدوا

ما فيهما من البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم قال الله - تعالى -: [الَّذِينَ

يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ]

(الأعراف: 157) ، وقال - تعالى -: [وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ

إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي

اسْمُهُ أَحْمَدُ] (الصف: 6) ، فلم يعترفوا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم

وتحولوا إلى خصوم لهذا الدين واتباعه.

- بالرغم من هذا التحريف فقد بقيت بعض البشارات بهذا النبي الخاتم وأمته

في كتب أهل الكتاب، من ذلك ما ورد عن عبد الله بن عمرو قال في التوراة:

ياأيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وحرزاً للأميين ... الحديث [5] ، وكذلك

عن عبد الله بن سلام بنحو ما ورد عن عبد الله بن عمرو [6] ، ومن ذلك أن الله

أوحى إلى إبراهيم - عليه السلام - يأمره بأن يمد بصره وينظر شمالاً وجنوباً

وشرقاً وغرباً وبشره بأن هذه الأرض كلها سأجعلها لك ولخلفك إلى آخر الدهر،

وسأكثر ذريتك حتى يصيروا بعدد تراب الأرض، وهذه البشارة اتصلت بهذه الأمة

المحمدية بل ما كملت ولا كانت أعظم منها في هذه الأمة، يؤيد ذلك قول الرسول

صلى الله عليه وسلم:» إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن

إمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها « [7] ، ومن ذلك: لما ولد إسماعيل أوحى الله

إلى إبراهيم أنه بارك عليه وكثره، وأنه سيجعله رئيساً لشعب عظيم، ومن ذلك

أيضاً: لما حملت هاجر بشرت بأنها ستلد ولداً يكون سيد الناس ويملك جميع بلاد

أخوته، وهذه البشارة تحققت على يد ولده محمد صلى الله عليه وسلم ودعوته

وأتباعه، فهم الذين ملكوا جميع البلاد غرباً وشرقاً وآتاهم الله من العلم النافع

والعمل الصالح ما لم يؤت أمة من الأمم قبلهم.

- إن اليهود يعرفون صدق محمد صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم،

وقد كانوا من قبل يستفتحون به على الذين كفروا وقد روي أن سبب مجيء اليهود

إلى المدينة ما ورد في كتبهم من وصف مهجر نبي آخر الزمان أنه في نخل بين

حرتين، لكن الكفر والحسد أعماهم عن اتباعه: [فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ

فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الكَافِرِينَ] (البقرة: 89) ، وبذلك تحولوا إلى أعداء أشداء

للمسلمين كما قال - تعالى -: [لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اليَهُودَ وَالَّذِينَ

أَشْرَكُوا] (المائدة: 82) .

- ولعداوة اليهود للمسلمين ولنبيهم محمد صلى الله عليه وسلم وخطرهم على

الإسلام حفل القرآن بذكر قصصهم مع أنبيائهم وضلالاتهم وكفرهم بالله حتى بلغت

السور التي جاء فيها ذكرهم تصريحاً أو تلميحاً نحواً من خمسين سورة، وكانت

قصة موسى مع بني إسرائيل من أكثر القصص في القرآن، وقد بين الله في القرآن

طبيعتهم ونفسيتهم في عدد من الآيات مثل قوله - تعالى -: [أَوَ كُلَّمَا عَاهَدُوا

عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ] (البقرة: 100) ، ومثل قوله - تعالى -: [وَيَسْعَوْنَ فِي

الأَرْضِ فَسَاداً] (المائدة: 64) ، ومثل قوله تعالى: [وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ

عَلَى حَيَاةٍ] (البقرة: 96) ، ومثل قوله - تعالى -: [وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ

وَهُمْ يَعْلَمُونَ] (آل عمران: 78) .

وبين حكمه فيهم في مثل قوله - سبحانه وتعالى -: [وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ

عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ العَذَابِ] (الأعراف: 167) ، ومثل قوله -

تعالى -: [وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً

لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ] (المائدة: 64) ، ومثل قوله - تعالى -: [ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ

الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ

وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ المَسْكَنَةُ] (آل عمران: 112) .

وبين مكرهم ومؤامراتهم ضد هذا الدين في مثل قوله - تعالى -: [وَقَالَت

طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ

لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ] (آل عمران: 72) ، وقوله - تعالى -: [وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً

يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ

اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ] (آل عمران:

78) ، ومثل قوله - تعالى -: [وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ

آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ

تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا] (المائدة: 41) .

- إن وصف القرآن لبني إسرائيل وأخلاقهم ونفسياتهم وانحرافاتهم وأمراضهم

ينطبق على تلك الأجيال من بني إسرائيل الذين كانوا مع موسى ويوشع والأنبياء

من بعدهم، ويستثنى من ذلك طوائف من المؤمنين من أتباع هؤلاء الأنبياء لم

تنحرف انحراف الغالبية منهم، وينطبق وصف القرآن هذا أيضاً على اليهود الذين

عاثوا فساداً في المدينة قبل قتلهم وإجلائهم منها من قبل المسلمين، وينطبق أيضاً

على اليهود بعدهم عبر القرون، وينطبق تماماً على اليهود المعاصرين الذين

اغتصبوا فلسطين في العصر الحديث.

- إن الصراع بين عقيدة التوحيد التي جاء بها إبراهيم وجددها محمد عليهما

الصلاة والسلام وسيجددها عيسى بن مريم آخر الزمان وبين عقيدة الشرك والخرافة

والفرية التي أسسها الأحبار والرهبان بما اقترفوه من الكذب الذي يقولون هو من

عند الله وما هو من عند الله هو صراع مستمر لن ينتهي حتى ينزل مسيح المسلمين

ابن مريم ويقتل مسيحهم الدجال كما وعد بذلك محمد صلى الله عليه وسلم.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015