مجله البيان (صفحة 4252)

في دائرة الضوء

واقع العالم الإسلامي

(2 - 2)

د. أحمد بن عبد الله الزهراني [*]

في العدد الماضي أشار الكاتب إلى إخلال العالم الإسلامي اليوم بالكليات

الخمس التي أجمعت عليها الشرائع وهي: حفظ الدين، والنفس، والعقل، والمال،

والعرض. ثم ذكر أن من سنن الله تعالى في خلقه استمرار الصراع بين الحق

والباطل حتى قيام الساعة، وقد أفاض في الحديث عن شعيرة الجهاد واستمراريته

بنوعيه: جهاد الكلمة، وجهاد السيف.

- البيان -

إنهم اتبعوا سنن الغرب القائم، ومالت أعناقهم وأفئدتهم إليه فأعطوه العهود

والمواثيق على المتابعة وعدم المخالفة، ودخلوا معه في عقد الندوات والمؤتمرات،

واستجابوا له في دفع الميزانيات، واستجلاب انتاجياته كما تلقفوا أفكاره وثقافاته،

وساروا في ركابه ليل نهار، ولجؤوا إليه في السراء والضراء، فاحتكموا إليه في

الخلافات، ونصبوا لهم جميعاً صنماً طاغوتياً يحتكمون إليه، ويحكم بينهم

ويرضون ويسلمون له بذلك، وأصدروا ميثاقاً عاماً أسموه «ميثاق هيئة الأمم

المتحدة» عام 1945م جاء في مقدمته: «نحن شعوب الأمم المتحدة، وقد آلينا

على أنفسنا أن ننقذ الأجيال المقبلة من ويلات الحرب التي جلبت أحزاناً على

الإنسانية مرتين من خلال جيل واحد يُعجز وصفها، وأن نؤكد من جديد إيماننا

بالحقوق الأساسية للإنسان وبكرامة الفرد وقدره، وبما للرجال والنساء والأمم

كبيرها وصغيرها من حقوق متساوية، وأن نبيّن الأحوال التي يمكن في ظلها

تحقيق العدالة، واحترام الالتزامات الناشئة عن المعاهدات وغيرها من مصادر

القانون الدولي، وأن ندفع بالرقي الاجتماعي قدماً، وأن نرفع مستوى الحياة في

مكان أفسح من الحرية، وفي سبيل هذه الغايات اعتزمنا أن نأخذ أنفسنا بالتسامح،

وأن نعيش جميعاً في سلام وحسن جوار، وأن نضم قوانا كي نحافظ على السلم

والأمن الدوليين، وأن نكفل بقبولنا مبادئ معينة ورسم الخطط اللازمة لها أن

تستخدم الأداة الدوليّة في تطوير الشؤون الاقتصادية والاجتماعية للشعوب جميعاً وقد

قررنا أن نوحد جهودنا لتحقيق هذه الأغراض.

ولهذا فإن حكوماتنا المختلفة على يد مندوبيها المجتمعين في مدينة سان

فرنسيسكو الذين قدموا وثائق التفويض المستوفية للشروط قد ارتضت ميثاق الأمم

المتحدة هذا، وأنشأت بمقتضاه هيئة دولية تسمى: هيئة الأمم المتحدة» [1] .

ولقد اشترك في هذا الميثاق بما فيه من العُجَر والبُجَر مائة وتسعة وخمسون

دولة؛ مع دفع مساهمات مالية سنوية تعتبر ميزانية سنوية لهيئة الأمم، ومع الأسف

انتظمت دول العالم العربي والإسلامي في سلك تلك الهيئة، ومن أقدم دول العالم

العربي دخولاً في هذه الهيئة: سوريا، والعراق، ولبنان، ومصر؛ حيث كان

تاريخ دخولها في بداية عقد هذه الهيئة عام 1365هـ 1945م.

ثم اليمن الشمالي التي دخلت عام 1367هـ 1947م.

ثم الأردن وليبيا عام 1375هـ 1955م

ثم تونس، والسودان، والمغرب عام 1376هـ 1956م.

ثم الجزائر عام 1382هـ 1962م.

ثم الكويت عام 1383هـ 1963م.

ثم اليمن الديمقراطية عام 1387هـ 1967م.

ثم دولة الإمارات العربية المتحدة، والبحرين، وعمان، وقطر، عام

1391هـ 1971م.

وعلاقة هذه الدول بهيئة الأمم وبالمنظمات الدولية الأخرى علاقة مودة، ودعم

ومؤازرة منطلقة في ذلك كله من مقاصد الميثاق الأممي لهيئة الأمم المتحدة.

إن ميثاق هيئة الأمم والمنظمات الدولية الأخرى يتعارض مع مبادئ الإسلام وقيمه،

ومع غايات الجهاد الإسلامي وأهدافه كل التعارض؛ فهو ميثاق جاهلي يعارض

المبادئ والقيم الإسلامية يجب الكفر به وعدم الإيمان به، إنه نصب نفسه مصدراً

لتنسيق أعمال الأمم وتوجيهها، كما جاء في الفقرة الرابعة من المادة الأولى، وكما

جاء في الفقرة الرابعة والخامسة من المادة الثانية. بل يريد من الدول غير العضوة

فيه أن تسير وفق مبادئه؛ كما جاء في الفقرة السادسة من المادة الثانية [2] .

وقد أخذ التعهد على الأعضاء المشتركين في قبول قرارات مجلس الأمن

وتنفيذها، كما جاء في المادة الخامسة والعشرين من الميثاق الأممي [3] .

كما أخذ التعهد عليهم بأن يضعوا تحت تصرف مجلس الأمن كل ما يلزم من

القوات المسلحة والمساعدات والتسهيلات الضرورية لحفظ السلم والأمن الدوليين،

ومن ذلك حق المرور، كما جاء في المادة الثالثة والأربعين الفقرة الأولى [4] .

ومن خبث هذا الميثاق الأممي أن صنع له محكمة قضائية سماها «محكمة

العدل الدولية» ، وجعل لها نظاماً منبثقاً من ميثاق هيئة الأمم، كما في المادة

(92) ، وأخذ التعهد على كل عضو من أعضاء الأمم المتحدة أن يقبل بحكم تلك

المحكمة في أي قضية هو طرف فيها، كما جاء في المادة الرابعة والتسعين منه [5] .

كما أصدر وثيقة [الإعلان العالمي لحقوق الإنسان] عام (1948م) جاء في

ديباجته ما نصه: «ولما كانت شعوب الأمم المتحدة قد أكدت في الميثاق من جديد

إيمانها بحقوق الإنسان الأساسية وبكرامة الفرد وقدره، وبما للرجال والنساء من

حقوق متساوية، وحزمت أمرها على أن تدفع بالرقي الاجتماعي قدماً، وأن ترفع

مستوى الحياة في جو من الحرية أفسح، ولما كانت الدول الأعضاء قد تعهدت

بالتعاون مع الأمم المتحدة على ضمان اطراد مراعاة حقوق الإنسان والحريات

الأساسية واحترامها. ولما كان للإدراك العام لهذه الحقوق والحريات الأهمية الكبرى

للوفاء التام بهذا التعهد، فإن الجمعية العامة تنادي بهذا الإعلان العالمي لحقوق

الإنسان على أنه المستوى الذي ينبغي أن تستهدفه كافة الشعوب والأمم؛ حتى يسعى

كل فرد وهيئة في المجتمع واضعين على الدوام هذا الإعلان نصب أعينهم إلى

توطيد احترام هذه الحقوق والحريات، عن طريق التعليم والتربية واتخاذ إجراءات

مطردة قومية وعالمية؛ لضمان الاعتراف بها، ومراعاتها بصورة عالمية فعالة بين

الدول الأعضاء ذاتها وشعوب البقاع الخاضعة لسلطانه» [6] .

وبناء على هذا التصور الجاهلي جاء في المادة الثانية من نظامه ما يلي:

«لكل إنسان حق التمتع بكافة الحقوق والحريات الواردة في هذا الإعلان دون

أي تمييز، كالتمييز بسبب العنصر أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الدين،

أو الرأي السياسي، أو أي رأي آخر، أو الأصل الوطني أو الاجتماعي، أو

الثروة، أو الميلاد، أو أي وضع آخر دون أية تفرقة بين الرجال والنساء» [7] .

انظر إلى هذا الكفر الصراح الذي ألغى المبادئ الإسلامية وألزم الإنسانية

بشرعة الكافر وقانونه الجاهلي من خلال التعليم والتربية وغير ذلك.

لقد فرق الإسلام بين المسلم وبين الكافر وجعل لكل منهما أحكاماً غير

الآخر، وحذر المسلم من العيش مع الملحدين الكافرين، وأمر بمجاهدتهم وقيام الحد

على من ارتد عن الإسلام، كما جعل للأنثى أحكاماً تفارق فيها أحكام الرجل،

وليس هذا مجال تفصيل ذلك، ولكن نقول لهم كما قال ربنا سبحانه: [قُلْ يَا أَيُّهَا

النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُو

يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ

تَهْتَدُونَ] (الأعراف: 158) .

وقوله تعالى: [قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا

لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ العَدَاوَةُ

وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ] (الممتحنة: 4) .

يقول د. محمد محمد حسين رحمه الله: «ها هنا مسألة دقيقة يشكل فهمها

على كثير من الناس، وهي عالمية الإسلام وإنسانيته، والخلط بينها وبين الدعوات

العالمية والإنسانية بمعناها المقصود في الليبرالية والعلمانية التي تسقط الدين من

حسابها جملة ولا تقيم له وزناً، فعالمية الإسلام تعني أن دعوته موجهة إلى البشر

كافة، وليست محصورة في جنس بعينه، كاليهودية التي هي ديانة عنصرية خاصة

ببني إسرائيل مغلقة عليهم بوصفهم شعب الله المختار، فالمسلمون على اختلاف

أجناسهم وألوانهم إخوة في الدين، سواسية في الحقوق والواجبات، لا تفرقة بينهم

بسبب الجنس أو اللون.

وإنسانيته تعني أنه يدعو إلى العدالة بين خلق الله على اختلاف مللهم

وأجناسهم ومعاشرتهم بالمعروف؛ مع رعاية حق الضعيف والمريض والشيخ الهرم

والطفل الصغير ورجل الدين. ولكن المسلمين مع ذلك كله يظلون» أمة واحدة من

دون الناس «كما جاء في نص كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كتبه بين

المسلمين واليهود عندما قدم إلى المدينة. وهم مطالبون بالتمسك بشعائرهم وسننهم

ومناسكهم التي تميزهم بطابع خاص، ومنهيون عن التشبه بغيرهم في أزيائهم أو

عاداتهم، حتى لا يفقدوا هذا الطابع المتميز المستقل، ومطالبون بالحفاظ على

استقلالهم وسيادتهم والدفاع عنها حتى الموت. وللمسلم على المسلم من الحقوق

والواجبات ما ليس لغير المسلم» [8] .

وقد جعلت هيئة الأمم السلم والأمن الدوليين هما المنطلق لها في الميثاق الذي

أصدرته ووقع عليه جميع الأعضاء؛ فمن أخل بالسلم والأمن الدوليين يجب

الوقوف ضده واتخاذ التدابير اللازمة لمنعه [9] .

والغرب له رصيد تجربة قديمة مع جيوش وجحافل الجهاد الإسلامي؛ ولذلك

يخافون من ظهور الجهاد الإسلامي لأنه يقوض عروشهم ويكسر شوكتهم.

يقول الدكتور وهبة الزحيلي: «يخاف الغربيون لا سيما الإنجليز من ظهور

فكرة الجهاد في أوساط المسلمين حتى لا تتوحد كلمتهم فيقفوا أمام عدوانهم؛ ولذلك

يحاولون الترويج لفكرة نسخ الجهاد، وصدق الله العظيم إذ يقول فيمن لا إيمان لهم:

[فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا القِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ

يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ المَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ المَوْتِ] (محمد: 20) .

ولقد قابلت المستشرق الإنجليزي» أندرسن «في مساء الجمعة 3/ 6/1960 م

فسألته عن رأيه في هذا الموضوع فكان من نصيحته لي أن أقول: إن الجهاد

اليوم ليس بفرض بناء على مثل قاعدة» تتغير الأحكام بتغير الأزمان «؛ إذ إن

الجهاد في رأيه لا يتفق مع الأوضاع الدولية الحديثة؛ لارتباط المسلمين بالمنظمات

العالمية والمعاهدات الدولية؛ ولأن الجهاد هو الوسيلة لحمل الناس على الإسلام،

وأوضاع الحرية ورقي العقول لا تقبل فكرة تُفرض بالقوة» [10] .

إن الغرب جلب بخيله ورجله لتشويه الإسلام وشعائره وخاصة شعيرة الجهاد

وأثار حولها كثيراً من المغالطات والشبهات؛ لكي يقضي على هذه الشعيرة في

نفوس المسلمين [11] ، وصدق الله القائل: [يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ

وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ

الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ] (التوبة: 32-33) .

والقائل: [يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ

الكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ

كَرِهَ المُشْرِكُونَ] (الصف: 8-9) .

لقد نجح الغرب في القضاء على شعيرة الجهاد الإسلامي في نفوس المسلمين

فنصب لهم الكمين القاتل بإنشاء المنظمات والمعاهدات الدولية، وطلب منهم

الانضواء تحت مظلات تلك المخططات الجاهلية؛ فاستجابوا له فسامهم سوء

العذاب من الذل والهوان، وصدق الله العظيم القائل: [وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً

فَسَاءَ قَرِيناً] (النساء: 38) . والسبب وراء هذه الدوافع من العدو الغادر والله

أعلم خوفه من صيحات «الله أكبر» التي ذاق طعم سيوفها في المعارك التي وقعت

بين الفريقين، فأخذ يمكر ويفكر ويعد العدة لتشويه هذه الشعيرة الغالية عند الله وعند

عباده المؤمنين، بل يسعى إلى إلغائها بالكلية.

يقول د. البوطي: «ولن تعجب من الدوافع إلى حصر كل همهم في مشروعية

الجهاد بخصوصه، إذا علمت بأن أخطر ركن من أركان الإسلام في نظر أعدائه

يخيفهم ويرعبهم إنما هو (الجهاد) » !

فهم يدركون أن هذا الركن إذا استيقظ في نفوسهم وأصبح ذا أثر في حياة

المسلمين في أي عصر من الزمن فلن تقف أي قوة بالغة ما بلغت من الأهمية في

وجه الدفع الإسلامي؛ ولذا ينبغي أن يكون البدء في القيام بأي عمل بغية إيقاف المد

الإسلامي من هذه النقطة ذاتها « [12] .

لقد وضع العدو الغادر مقدمات ووسائل لإلغاء مبدأ الجهاد في نفوس المسلمين

بل جوّز فكرة النسخ للجهاد بالكليّة، وتشبعت الدول بتلك الفكرة الخاطئة، كما

اتفقوا جميعاً على محاربة من ينادي به ويدعو إليه، ووصموه بالإرهاب والتطرف

والانشقاق والمروق من الدين والإجرام، وأسرجوا خيولهم في مطاردة عناصر

الجهاد والقضاء عليهم.

إن طوفان الغرب قد تسلط على عالمنا الإسلامي فاخترق جدرانه الحسية

والمعنوية فاستوطنها بثقافته وإرسالياته وممثلياته ومعاهداته ومنظماته الكافرة،

فصار عالمنا الإسلامي لا يتحرك إلاّ في إطاره، وبتوجيهه وأمره.

جاء في المادة الخامسة والخمسين من ميثاق هيئة الأمم المتحدة ما يأتي:

» رغبة في تهيئة دواعي الاستقرار والرفاهية الضروريين لقيام علاقات سلميّة

وديّة بين الأمم، مؤسسة على احترام المبدأ الذي يقضي بالمساواة في الحقوق

بين الشعوب، وبأن يكون لكل منها حق تقرير مصيرها؛ تعمل الأمم المتحدة

على:

أ - تحقيق مستوى أعلى للمعيشة لتوفير أسباب الاستخدام المتصل لكل فرد،

والنهوض بعوامل التطور والتقدم الاقتصادي الاجتماعي.

ب - تيسير الحلول للمشكلات الدولية الاقتصادية والاجتماعية والصحية وما

يتصل بها، وتعزيز التعاون الدولي في أمور الثقافة والتعليم.

ج - أن يشيع في العالم احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية للجميع؛

بلا تمييز بسبب الجنس أو اللغة أو الدين، ولا تفريق بين الرجال والنساء؛ مع

مراعاة فعلية لتلك الحقوق والحريات.

المادة السادسة والخمسون: «يتعهد جميع الأعضاء بأن يقوموا منفردين أو

مجتمعين بما يجب عليهم من عمل بالتعاون مع الهيئة لإدراك الأهداف المنصوص

عليها في المادة الخامسة والخمسين» [13] .

نعوذ بالله من الكفر وأهله، وصدق الله القائل: [وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ

وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ

الَّذِي جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ] (البقرة: 120) .

والقائل: [مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ وَلاَ المُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم

مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ]

(البقرة: 105) .

والقائل: [وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَن

يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ

وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ] (البقرة: 217) .

والقائل: [وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداًّ

مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ

اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] (البقرة: 109) .

إن العالم الإسلامي وصل إلى حالة من التخلف والفرقة والشتات والضعف

والهوان قبل سقوط الخلافة وبعد سقوطها. ومقابل هذا الضعف والشتات والافتراق

انتعش الغرب الأوروبي، وربط شتات أحزمته وانقض على عالمنا الإسلامي فغزاه

في عقيدته، وثقافته وأخلاقه وتعليمه، وسياسته واقتصاده ونظمه وتشريعاته،

وربط معه العهود والمواثيق، وتربص به حتى قيده وحاصره ووعده ومناه، وفتح

له الأبواب لكي ينهل من معينه الملوث ويشرب منه زبده المحطم، ويمشي في ذيل

قافلته المسمومة بعد أن كان قائداً له في يومٍ من الأيام.

يقول سيرج لاتسن [14] في وصف الاستعمار الجديد: «لم يعد تعظيم الغرب

في خلق تواجد ملموس، أو في قوة تذل الناس بخشونتها وعجزها؛ لكنه يقوم على

قوى رمزية هيمنتها المعنوية أكثر مكراً إلا أنها أقل قابلية لإثارة المنازعات، وهذه

العوامل الجديدة للهيمنة هي: العلم، التقنية، والاقتصاد، والتصور، والخلاف

الذي تقوم عليه، لقد أصبحت التقنية وسيلة لخلق إيماني عالمي، فهي الأثر المادي

والتواجد المتطور للآلة الجديدة (العلم) . ولقد ساهم المبشرون المسيحيون

المنصرون كثيراً في نشر هذه العبارة الدنيوية» .

ويقول أيضاً في وصف الغزو الثقافي: «تنطلق موجات فيض ثقافية ذات

مذاق متميز من أقطار مركز الحضارة الغربية، وتغمر الكرة الأرضية في شكل

صور وكلمات وقيم أخلاقية، وضوابط قانونية ونظم سياسية، كما تتدفق نحو العالم

الثالث معايير للخبرات والضوابط الفنية التي أبدعتها وحدات خلاقة؛ وذلك عن

طريق وسائل الإعلام من صحافة، وراديو، وتلفزيون، وأفلام، وكتب،

وأسطوانات، وأجهزة فيديو.

إن هذا الفيض المتدفق من الإعلام لا يمكنه إلا أن يشكل رغبات المستقبلين له

وحاجاتهم وأنماط سلوكهم وعقلياتهم ونظم التعليم عندهم وأساليب حياتهم، إن هذه

الدعاية الماكرة وهي منحة لا تقاوم تشهد على الحيوية الفياضة للمجتمعات فائقة

التنمية، إلا أنها تخنق كل الإبداعات الثقافية عند المستقبلين السلبيين لتلك الرسائل

الإعلامية ... إن الإنسان يمكنه أن يتحدث هنا عن هيمنة ثقافية تمارسها الدول

الغنية، وأنه عن طريق المنح وليس غصباً أن أصبح مركز الحضارة في الغرب

يمارس سلطة غير عادية من الهيمنة والسيادة» [15] .

ويقول الشيخ بكر أبو زيد شفاه الله وعافاه في كتابه القيم (المدارس العالمية)

ص 5، 6:

«أما بعد: فإن المسلمين بعد انحلال وحدتهم عام (1342هـ) عاشوا بين

نازلتين حربيتين استعماريتين:

الأولى: استعمار الكفار لبلاد المسلمين في معركتهم الحربية الدموية وسلاحهم

المصلت على رقاب المسلمين؛ حتى احتلوا عامة ديار الإسلام ولم يبق منها رقعة

إلا دخلها الاستعمار سوى حرم الإسلام قلب جزيرة العرب فقد حماها الله منه؛ إذ لم

يحتلها استعمار كافر منذ طلوع فجر الإسلام حتى يومنا هذا بحمد الله تعالى، وأمام

هذا الاستعمار كان المسلمون بحمد الله صوتاً واحداً ضده، واستمرت جهودهم في

الجهاد والدفاع حتى أنقذ الله البلاد والعباد من استيلاء الكافرين، وكتب الله عليهم

الجلاء من بلاد المسلمين.

أما الثانية: فإن أعداء الله عباد الصليب وغيرهم من الكافرين أنزلوا

بالمسلمين استعماراً من طراز آخر: هو (الاستعمار الفكري) وهو أشد وأنكى من

حربهم المسلحة؟ فأوقدوها معركة فكرية خبيثة ماكرة وناراً ماردة وسيوفاً خفيفة

على قلوب المسلمين باستعمارها عقيدة وفكراً ومنهج حياة؛ ليصبح العالم الإسلامي

غربياً في أخلاقه ومقوماته، متنافراً مع دين الإسلام الحق، وكان أنكى وسائله

جلب (نظام التعليم الغربي) والمدارس الاستعمارية الأجنبية العالمية إلى عامة بلاد

العالم الإسلامي، ولم يبق منها بلد إلا دخلته هذه الكارثة سوى حرم الإسلام قلب

جزيرة العرب فقد حماها الله منها» .

ولقد أبانت المبشرة أثا مليجان عن هذا التوجه الغربي في قولها: «إن

المدرس أقوى قوة لجعل الناشئين تحت تأثير التعليم المسيحي، وهذا التأثير يستمر

حتى يشمل أولئك الذين سيصبحون يوماً ما قادة أوطانهم» .

وتقول عن كلية البنات بالقاهرة: «في صفوف كلية البنات في القاهرة بنات

آباؤهن باشاوات وبكوات، وليس ثمة مكان آخر يمكن أن يجتمع فيه مثل هذا العدد

من البنات المسلمات تحت النفوذ المسيحي، وليس ثمة طريق إلى حصن الإسلام

أقصر مسافة من هذه المدرسة» .

ويقول المبشر تكلي: «يجب أن نشجع إنشاء المدارس، وأن نشجع على

الأخص التعليم الغربي، إن كثيرين من المسلمين قد زُعزع اعتقادهم حينما تعلموا

اللغة الإنجليزية، إن الكتب المدرسية الغربية تجعل الاعتقاد بكتاب شرقي مقدس

أمراً صعباً جداً» .

يقول الشيخ محمود شاكر رحمه الله معقباً على هذا القول الماكر: «وهذا

واضح كل الوضوح في أن أمر التعليم على الصورة التي أرادوها، والتي أرادها

دنلوب وأمثاله هي نزع اعتقاد الشباب المسلم في كتاب الله الذي أنزله على نبيه

صلى الله عليه وسلم والذي عبر عنه وليم جيفورد بلجروف فيما ذكرته آنفاً:

» متى توارى القرآن ومدينة مكة من بلاد العرب يمكننا حينئذ أن نرى العربي

يتدرج في سبيل الحضارة التي لم يبعده عنها إلاّ محمد وكتابه «وخسئ المبشر

التالف» [16] .

ومصداق هذا ما كتبه المنصرون عن نشاط الجمعيات التنصيرية ودورها

الفعّال في بلاد العالم الإسلامي.

يقول المسيو ساتليه: «ينبغي لفرنسا أن يكون عملها في الشرق مبنياً قبل كل

شيء على قواعد التربية العقلية ليتسنى لها توسيع نطاق هذا العمل والتثبت من

فائدته، ويجدر بنا لتحقيق ذلك بالفعل أن لا نقتصر على المشروعات الخاصة التي

يقوم الرهبان المبشرون وغيرهم بها؛ لأن لهذه المشروعات أغراضاً اختصاصيّة،

ثم ليس للقائمين بها حول ولا قوة في هيئتنا الاجتماعية التي من دأبها الاتكال على

الحكومة وعدم الإقبال على مساعدة المشروعات الخاصة التي يقوم بها الأفراد؛

فتبقى مجهوداتهم ضئيلة بالنسبة إلى الغرض العام الذي نحن نتوخاه، وهو غرض

لا يمكن الوصول إليه إلا بالتعليم الذي يكون تحت الجامعات الفرنساوية نظراً لما

اختص به هذا التعليم من الوسائل العقلية والعلمية المبنية على قوة الإرادة، وأنا

أرجو أن يخرج هذا التعليم إلى حيّز الفعل ليبثّ في دين الإسلام التعاليم المستمدة

من المدرسة الجامعة الفرنساوية» [17] .

ويقول أيضا: «إن إرساليات التبشير الدينية التي لديها أموال وفيرة وتدار

أعمالها بتدبير وحكمة تأتي بالنفع الكثير في البلاد الإسلامية من حيث إنها تثبت

الأفكار الأوروبية» . ثم يقول: «ولا شك أن إرساليات التبشير من بروتستانتية

وكاثوليكية تعجز عن أن تزحزح العقيدة الإسلامية من نفوس معتقديها، ولا يتم لها

ذلك إلا ببث الأفكار التي تتسرب مع اللغات الأوروبية فتنشرها اللغات الإنجليزية

والألمانية والهولندية والفرنسية بحيث يحتك الإسلام بصحف أوروبا، وتتمهد السبل

لتقدم إسلامي مادي، وتقضي إرساليات التبشير لبانتها من هدم الفكرة الدينية

الإسلامية التي لم تحفظ كيانها إلا بعزلتها وانفرادها» . ثم يقول: «إنه مهما

اختلفت الآراء في نتائج أعمال المبشرين من حيث خططهم في الهدم؛ فإن نزع

الاعتقادات الإسلامية ملازم للجهود التي تبذل في سبيل التربية النصرانية.

والتقسيم السياسي الذي طرأ على الإسلام سيمهد السبل لإعمال المدنية الأوروبية؛

إذ من المحقق أن الإسلام يضمحل من الوجهة السياسية، ولن يمضي غير زمن

قصير حتى يكون الإسلام في حكم مدينة محاطة بالأسلاك الأوروبية» .

يقول الشيخ محمود شاكر رحمه الله معلقاً على كلامه: «تأمل! ! هذا كلام

دارس خبير ينبغي أن تقرأه لفظاً لفظاً لأنه تخطيط شامل في ألفاظ قليلة» [18] .

ولقد حذر الشيخ محمود رحمه الله كثيراً من معاول الهدم الثلاثة التي هي

الاستشراق، والاستعمار، والتنصير، وهي وإن اختلفت في المسميات فالآثار

واحدة، والأهداف واحدة، والغايات واحدة، والوسائل واحدة وإن تنوعت؛ حيث

يقول: «فهذه الثلاثة متعاونة متآزرة متظاهرة وجميعهم يد واحدة؛ لأنهم إخوة

أعيان أبوهم واحد وأمهم واحدة ودينهم واحد وأهدافهم واحدة ووسائلهم واحدة ...

مرة أخرى لا تنسى ما حييت أن هذه الثلاثة إخوة أعيان لأب واحد وأم واحدة لا

تفرق قط بين أحد منهم» [19] .

ولقد نجحت معاول الهدم الماكرة الخبيثة في بث إرسالياتها ومنصريها

ومدرسيها، وتشييد مدارسها في أقطار العالم الإسلامي؛ فغيروا من بنيته العقلية،

وأفسدوا روحانيته، ومسخوا هويته الإسلامية رويداً رويداً إلا من رحم الله، وجلبوا

عليهم بخيلهم ورجلهم فشاركوهم في الأموال والأولاد والإعلام والتعليم والتقنية

والتخطيط؛ حتى أصبحنا نلهث ونلهف خلفهم في ميادينهم العلمية والعملية.

يقول محب الدين الخطيب رحمه الله عندما وصل إلى العاصمة «إستنبول»

«هال صاحب الترجمة عند وصوله إلى هذه البيئة الجديدة أن جميع أبناء العرب

من سوريين وفلسطينيين وعراقيين وحجازيين وغيرهم يجهلون قواعد لغتهم

وإملاءها فضلاً عن آدابها وثقافتها، ويتكلمون حتى فيما بينهم باللغة التركية،

وليس فيهم إنسان واحد له رسالة سامية في الحياة، ولا لأحدهم مطمع إلا أن يحذف

الكلام والكتابة باللغة التركية ويندمج في أهلها، ثم يكون مستعبداً للوظيفة التي

يرجو أن يحصل على المنزلة من طريقها» [20] .

ويقول عن تغريب مصر الفكري والثقافي: «وكان جوّ القاهرة الفكري

والثقافي في ذلك الحين متشبعاً برطوبة الأخذ بثقافة الغرب بكل ما فيها من خير

وشر وجد وهزل، وأكثر القائمين على الأندية والعاملين في الصحافة والمترددين

على الأندية والمجتمعات يعدُّون كل نزعة إسلامية رجعية وجموداً، وكان العالم

الإسلامي أصيب حينئذ بظهور الدعوة الكمالية إلى الفصل بين الدين وشؤون الدنيا،

وتردد صدى ذلك في مصر على صفحات كتاب» الإسلام وأصول الحكم «لعلي

عبد الرازق، وأنصاره الكثيرين في حزب الأحرار الدستوريين، وجمعية الرابطة

الشرقية، ونادي القلم، وفي كلية الآداب التي أعلن زعيمها طه حسين:» آن

للقرآن أن يقول، وللتوراة أن تقول ... والعلم غير مقيد بما يقولان «» [21] .

وقد أحدث الغزو الثقافي والفكري صراعاً بين أبناء العالم الإسلامي حين تنكَّر

بعضهم لبعض، وكفَّر بعضهم بعضاً، وتحزب بعضهم ضد بعض، وقتل بعضهم

بعضاً؛ كل ذلك من دسائس الاستعمار الخفية وأساليبه الماكرة الخبيثة، فشتت وحدة

المسلمين، ولوّث ثقافتهم، وأفسد عقولهم، وجعلهم شيعاً كل حزب بما لديهم

فرحون.

يقول الشيخ أحمد شاكر رحمه الله: «كنا يومئذ في زمان صراع، وذلك منذ

نحو من خمسين سنة، نشأت طفلاً في صراع ثقافي، وصراع اجتماعي، وصراع

فكري، وصراع ديني، وصراع سياسي، وكان لكل صراع طابعه وألفاظه وكتّابه

وجماهيره، قلّت أو كثرت، وتمادت بي الأيام حتى عقلت، وذلك في مطلع الثورة

التي شملت مصر والسودان في سنة 1919م، وأظن أنه قد بقي في ذاكرتي شيء

من الألفاظ التي كانت تدور في هذا الصراع الضخم ... وعاصر هذا الصراع

صراع آخر بين الحضارة الغازية، وهي الحضارة الأوروبية المسيحية الوثنية،

وبين بقايا الحضارة الإسلامية العربية المتمثلة في السلفيين، وأهل البدع، وأهل

الأهواء من كل لون ونحلة، وكان هذا الصراع قائماً في الميادين كلها، في الميادين

الاجتماعية، والفكرية، والثقافية، والدينية، والسياسية جميعاً، وكان محرك هذا

الصراع هو الغازي المحتل بمدارسه وفرائضه التي فرضها علينا في مجتمعنا برمته؛

أعني أنه كان يستخدم وسائله السياسية الظاهرة، وهي هيئة» الاستعمار «

ووسائله الخفية، وهي» التبشير «بالمعنى الذي شرحته مرات، ودللت على أنه

ليس أمراً دينياً، بل كانت وسائله الثقافية والسياسية هي الغالبة عليه؛ لأنهم وجدوا

أن الثقافة التي ينتسبون إليها نابعة من الكنيسة في جميع أطوارها وممثلة للدين

المسيحي وللوثنية التي تسربت في خلاله على طول القرون، فالإلحاح على نشرها

نشراً منظماً عميقاً نشر لخلاصة المسيحية الأوروبية الوثنية بلا تحد كتحد الدعوة

إلى الدين صراحة وبلا مواربة، وهذه الخطة نفسها هي من نتاج النظام الكنسي

الذي عاشته الحضارة الأوروبية في جميع أطوارها السالفة» [22] .

إن هذا الطوفان من الغرب هدفه الأول والأخير القضاء على الإسلام في عقر

داره ومهد رسالته حتى لا ترفع له راية للجهاد تقوض عروش الباطل، وتنير

الطريق للمضللين وتنشر العدل في ربوع المعمورة وتخرج الناس من الظلمات إلى

النور، فنثر الغرب كنانته الموبوءة في بلاد الإسلام، فقدَّم رجلاً وأخَّر أخرى،

وفكَّر وقدَّر ثم فكَّر وقدَّر، وأرسل سهامه الملوثة والمتمثلة في معاول الهدم الثلاثة:

«الاستشراق، والتنصير، والاستعمار» ذات الوجوه الثلاثة المتماثلة، ولكل

معول أساليبه المتنوعة وأهدافه ووسائله وغاياته إلا أنها ذات غاية واحدة، وأعظم

شيء حققه في عالمنا الإسلامي زعزعة العقيدة في نفوس المسلمين، وتنحية

الشريعة عن واقع الحياة، وإحلال القانون محلها، وتشويه المفهومات والمبادئ

الشرعية في نفوس المسلمين، وصنع رجالاً على وفق ما يريد، ينفذون له كل

أساطيره القديم منها والجديد.

يقول الشيخ أحمد شاكر رحمه الله: «فانظروا إلى ما فعل بنا أعداؤنا

المبشرون المستعمرون! لعبوا بديننا وضربوا علينا قوانين وثنية ملعونة مجرمة،

نسخوا بها حكم الله وحكم رسوله، ثم ربوا فينا ناساً ينتسبون إلينا، أُشربوا في

قلوبهم بغض هذا الحكم، ووضعوا على ألسنتهم كلمة الكفر: أن هذا حكم قاس لا

يناسب هذا العصر الماجن عصر المدنية المتهتكة! وجعلوا هذا الحكم موضع

سخريتهم وتندرهم، فكان عن هذا أن امتلأت السجون في بلادنا وحدها بمئات

الألوف من اللصوص، وبما وضعوا في القوانين من عقوبات للسرقة ليست برادعة

ولن تكون أبداً رادعة، ولن تكون أبداً علاجاً لهذا الداء المستشري» [23] .

نعم لقد أقصيت الأحكام الشرعية في حياة الناس في عالمنا الإسلامي بسبب

كيد الغرب الصليبي للإسلام والمسلمين، ووضع الخطط والأهداف والمراحل

الزمنية لتنفيذ ما يريد، كما وضع الوسائل المتعددة والمتنوعة لتحقيق أهدافه وتنفيذ

برامجه، ويبدو والله أعلم أن الغازي الصليبي «نابليون» هو أول من بدأ يتلاعب

بالشريعة في العصر الحاضر، عندما وصل إلى بلاد الإسلام «مصر» عام

1798م حيث خطا عدة خطوات، ثم تتابعت الخطوات بعده فيمن تولى من الإنجليز

والمسلمين؛ حيث أنشؤوا مدارس لدراسة تلك القوانين الكافرة، وأرسلت البعثات

إلى بلاد الكفر من أجل ذلك، حتى أبرزوا قيادات من أبناء المسلمين درست تلك

القوانين ورضيت بها وصارت تدافع عنها بل وتسعى لتحقيقها في أوساط المسلمين،

كما عقدوا المؤتمرات والندوات في داخل البلاد الإسلامية وخارجها لدراسة القانون

والفقه الإسلامي حتى يتم التواؤم بينهما، وأنه لا تعارض بين الأمرين [24] .

يقول سيد عبد الله علي: «لما كانت هذه القوانين دخيلة على أخلاقنا وعاداتنا

وقواعد ديننا لا سند لها في وجودها في بلادنا، وكان من أحدثوها يريدون لها الدوام

أنشؤوا لها مدرسة الحقوق لتفرخ وتربي عقولاً تهيئها لاعتناق هذه القوانين والدفاع

عنها، فتم لهم ذلك، ولكي يُقبل الناس عليها حرصوا كل الحرص على تقليد

خريجيها مناصب القضاء والنيابة، بل والمناصب الرئيسية في الدولة؛ فسار هذا

الحال على هذا المنوال ليومنا هذا، فنسي الناس بل والمتخرجون من جامعة

الحقوق قوانين بلادهم، وظنوا أن الدين الإسلامي للصلاة والزكاة والحج!» [25] .

ولقد نجح الغرب الكافر في أمور كثيرة في عالمنا الإسلامي من أهمها:

1 - تقليص وحدته الجغرافية بعد أن كان وحدة واحدة أصبح دويلات متنافرة

بل متناحرة، وزرع بينهم العداوة والبغضاء تحت سمعه ورعايته؛ وذلك بزرع

الحركات الهدامة كالبهائية والبابية والقاديانية والإسماعيلية وغيرها، وزرع

القوميات العربية وغيرها، والجمعيات والأحزاب السرية في قلب العالم

الإسلامي [26] .

2 - تسلط على أفكارهم بواسطة أمرين مهمين: الأول: التعليم. والثاني:

الإعلام بجميع وسائله المتعددة [27] .

3 - نجح في سن قوانين زينها لهم وهو يهدف من وراء ذلك إلى إقصاء

الشريعة الإسلامية؛ فتقبلوا قوانينه وأُشربوها وطبقوها [28] .

4 - سيطر على ثروات بلاد العالم الإسلامي، وأرهق دوله المغفلة بالديون،

ومن كان من دول العالم الإسلامي لديها ثراء اقتصادي فهو متحكم فيه لا يصرفون

منه إلا وفق رؤية الغرب وبأمره؛ ففي حالة نزاع بين دوله بعضهم ضد بعض فإن

الغرب الكافر يصدر أمراً بتجميد أرصدة تلك الدول، ولا يسمح لها أن تأخذ من

رصيدها شيئاً، كما حدث في أزمة الكويت والعراق فإن مجلس الأمن جمد أرصدة

الكويت ولم يسمح لها أن تصرف دولاراً واحداً.

5 - كما نجح الكافر من خلال إرسالياته المتعددة والمتنوعة في تشكيك

المسلمين في عدم صلاحية الشريعة الإسلامية لتطور الحياة، وأنها سبب في

تأخرهم وعدم تطورهم وتقدمهم، وأنه لا بد من الفصل بين شؤون الدين وشؤون

الدنيا [29] .

6 - ونجح الغرب الكافر في فك الترابط والتكاتف والتعاون بين دول العالم

الإسلامي؛ بحيث لو اعتدى على أي دولة من دول العالم الإسلامي فلا تستطيع

دولة أو الدول الأخرى أن تعينها أو تقف ضده، بل وصل الغرب الكافر إلى كسب

أصوات بعضهم ضد بعض، وما نراه ونسمع به ونقرؤه اليوم في واقعنا أكبر دليل

على ذلك.

7 - ونجح الغرب في رصد العمل الإسلامي فأخذ الحيطة والحذر من تمدده،

وكتب التقارير السرية عنه، وأخذ في تجفيف منابعه، ورصد تحركاته؛ فأخذ

يحذر منه، ويشوه حامليه والداعين إليه، واستعان في ذلك بالمنتسبين من أبناء

جلدته، والمتكلمين بلغته.

إن هذه الصورة المختصرة التي عرضناها لواقع العالم الإسلامي اليوم لهي

صورة محزنة ومؤثرة في النفوس، وإن القلب ليحزن، والعين لتدمع، ولا نقول

إلا ما يرضي ربنا: [رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا

وَانصُرْنَا عَلَى القَومِ الكَافِرِينَ] (آل عمران: 147) . ومع هذا كله فإنني أذكّر

نفسي وإخواني المسلمين في جميع أنحاء الأرض أن المستقبل للإسلام، وأنه سيبلغ

ما بلغ الليل والنهار، وأن الأزمة كلما اشتدت انفرجت، وأن الأحداث مهما كانت

لا تزيد المؤمنين إلا إيماناً وثباتاً على المبادئ في طريقهم إلى الله، ولنا في رسول

الله صلى الله عليه وسلم ومن سبقه من إخوانه الأنبياء عليهم السلام الأسوة الحسنة،

وأن الابتلاء سواء كان تمحيصاً أو عقاباً سنّة من سنن الله لعباده [فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ

اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً] (فاطر: 43) .

قال تعالى: [أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم

مَّسَّتْهُمُ البَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ

اللَّهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ] (البقرة: 214) .

وقال تعالى: [أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ

وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ] (آل عمران: 142) .

وقال تعالى: [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ] (آل

عمران: 139) .

وقال تعالى: [هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ

كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ] (الصف: 9) .

وفي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله زوى أي

جمع وضم لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي

لي منها» [30] .

وقال صلى الله عليه وسلم: «ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا

يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز، أو بذل ذليل،

عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل به الكفر» [31] .

وقال أيضاً: «تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن

يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها

الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عاضاً فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها

إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً جبرياً فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا

شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة. ثم سكت» [32] .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015