مقالات معربة
قواعد الأخلاق في الغرب اهتزت بعد أحداث
الحادي عشر من سبتمبر
بقلم: روبرت فيسك
صحيفة الإندبندنت البريطانية
ترجمة: أحمد المكاشفي [*]
تزدهر في هذه الأيام زراعة نبات الخشاش في حقول أفغانستان، نعم! يحدث
ذلك مع تورط الأمريكيين أكثر فأكثر في الفخ الأفغاني؛ فمن الواضح أن أمراء
الحرب وقادة العصابات الذين يديرون الحكومة الأفغانية المؤقتة التي يدعمها الغرب
عازمون على تزويد الأسواق العالمية بمحصول جديد من المخدرات. وقد سبق أن
حذرت الأمم المتحدة من ذلك لكن تحذيراتها تلاشت في غمرة صيحات «الحرب
ضد الإرهاب» التي طغت على ما عداها من أصوات، فكان من نتائج ذلك أن
أصبحت طرق المرور السريع الخربة في أفغانستان تمور بالفوضى واللصوص
والقتلة وقطاع الطرق. أما قوات حفظ السلام الدولية قليلة العدد والعدة فهي في حالة
يرثى لها؛ إذ إنها عاجزة عن بسط سيطرتها على أنحاء العاصمة كابل، فضلاً عن
بقية أقاليم أفغانستان. كما تنحصر سيطرة حامد كرزاي رئيس الحكومة الأفغانية
المؤقتة وسلطته في دائرة ضيقة تكاد لا تتجاوز الأحياء المحيطة بمقر حكومته.
ولا يبدي الأمريكيون الذين أصبحت الحرب ضد الإرهاب أكبر همهم، وبعد
أن اكتشفوا أن أعداءهم في أفغانستان عازمون على منازلتهم، لا يبدون أي اكتراث
لنزاع آخر أشد خطورة تدور رحاه على بعد ألفي ميل إلى الغرب من كابل، في
شوارع مدن القدس ورام الله وتل أبيب ونابلس وجنين وغزة وأزقتها. ومن
علامات هذا التجاهل أنه عندما يجتاح الجيش الإسرائيلي مخيمات اللاجئين ويقتل
عشرات الفلسطينيين؛ تناشد الولايات المتحدة إسرائيل بضبط النفس، لكن حين
يفجر انتحاري فلسطيني نفسه في أحد شوارع القدس فيقتل عدداً من الإسرائيليين؛
تسارع الولايات المتحدة إلى إدانة ياسر عرفات واتهامه بالإخفاق في وضع حد
للإرهاب واعتقال مرتكبي أعمال العنف من الفلسطينيين. وفي غضون ذلك ينهمك
أرييل شارون في تدمير السجون ومراكز الشرطة الفلسطينية حتى يمنع عرفات من
تطبيق مقررات اتفاقية السلام الفلسطينية الإسرائيلية.
كما تلتزم واشنطن الصمت حين يصرح شارون علناً أن على إسرائيل أن
تقتل المزيد من الفلسطينيين. وقد لا يكون هذا الصمت الأمريكي عن تجاهل وعدم
اهتمام، بل ربما أن مرده إلى قناعة الإدارة الأمريكية بأن هذا الرجل «شارون»
الذي حملته لجنة تحقيق إسرائيلية حكومية المسؤولية الشخصية عن قتل 1700 من
المدنيين الفلسطينيين في بيروت في عام 1982م يقف معها في خندق واحد في
معركتها ضد الإرهاب. يبدو أن خللاً قد أصاب بوصلة الأخلاق الأمريكية جراء
حوادث الحادي عشر من سبتمبر؛ بحيث لم يعد بوش يرى بأساً بتصرفات شارون
الإجرامية.
والحق أن معطيات الواقع تشير إلي أن كل الدروس التاريخية التي أفرزتها
الأزمات في أفغانستان والشرق الأوسط يجري تجاهلها تماماً الآن. ألم تسمع
عزيزي القارئ إلى ما صرح به كلينتون خلال زيارته الأخيرة لإسرائيل حين أنحى
باللائمة على عرفات؟ ! أم لم يصل إلى سمعك ما صرحت به زوجته الخرقاء
هيلاري كلينتون إبان زيارتها الأخيرة لإسرائيل، حين حمَّلت ياسر عرفات
المسؤولية عن حوادث العنف التي تقع؟ ! كما أعلنت أنها ومن منطلق وضعها
كسيناتور أمريكي ستقف بقوة إلى جانب الشعب الإسرائيلي. نعم إلى جانب الشعب
الإسرائيلي! ! ونحن نتساءل هنا: ما الذي يضر هيلاري لو وقفت بقوة إلى جانب
الفلسطينيين الأبرياء أيضاً؟ ! ألأن دينهم مختلف؟ ! أم لأنهم يكتبون من اليمين
إلى الشمال؟ ! أم لأن لون عيونهم مختلف؟ !
وهكذا يجري تحويل مقاومة الفلسطينيين للاحتلال الإسرائيلي إلى جزء لا
يتجزأ من «الحرب ضد الإرهاب» . والحق أن لغة هذه الحرب تزداد سذاجة
وتبسيطاً بمرور الأيام؛ فنحن اليوم مطالبون بأن نردد بطريقة ببغاوية بلهاء
عبارات وكلمات من شاكلة: «ثأر، دورة العنف، محور الشر، القنبلة مدمرة
المخابئ، وقنبلة الديزي كاتر..» إلخ، ولا تلوح في الأفق القريب نهاية لهذا
السلوك الطفولي.
أما آخر ما استجد من مصطلحات القتل فتتمثل في كلمتي «ترحيل»
و «إعادة توطين» ؛ فقد وردت هاتان الكلمتان في أثناء مقال نشرته مؤخراً صحيفة
«يو إس تودي» ، يقول كاتب المقال: «يكمن الحل الناجع للقضية الفلسطينية
في الفصل التام بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وإعادة توطين الفلسطينيين في
الأردن؛ حيث يشكل الفلسطينيون بالفعل نسبة 80% من مجموع السكان» . كما
أجري استطلاع للرأي في إسرائيل لتحديد عدد الإسرائيليين الذين يؤيدون خيار
حل القضية الفلسطينية بطرد العرب من ديارهم، إي والله! ! العرب
وليس المستوطنين اليهود الذين يقيمون بطريقة غير مشروعة في الأرض العربية
المحتلة.
إنه بحق أمر غريب ومحيّر، فالترحيل والطرد من ضروب التطهير العرقي
والتطهير العرقي من جرائم الحرب كما ينص القانون الدولي. وإذا كانت
الصحف الأمريكية لا تمانع من نشر مثل هذه الآراء المتطرفة وترويجها، وإذا
كانت آراء الإسرائيليين تُستطلع لمعرفة حجم التأييد الذي يلقاه خيار ترحيل
الفلسطينيين؛ فلماذا بربك يُحاكم ميلسوفيتش في لاهاي؟
إننا والحق يقال على أعتاب سقوط أخلاقي مريع، تأمل مثلاً في التخفيف
الذي طرأ على لهجة آخر تقرير أمريكي عن حقوق الإنسان في العالم. ففي
تقريرها عن حقوق الإنسان في العالم عام 2000م ذكرت الحكومة الأمريكية أن
المحاكم العسكرية في مصر لا تضمن حصول المتهمين المدنيين على محاكمات
عادلة أمام محاكم مستقلة. إلا أن هذه الجملة حذفت من ذات التقرير عام 2001م،
وسبب ذلك بالطبع هو أن جورج بوش نفسه منهمك الآن في تشكيل محاكم عسكرية
لمحاكمة الأسرى المحتجزين في قاعدة غوانتانامو دون توفر أي ضمان لحصولهم
على محاكمات عادلة.
وبالإضافة إلى تعمدهم تحريف طبيعة الصراع بين الإسرائيليين والفلسطينيين
يمارس المسؤولون الأمريكيون الكذب الصريح في غالب ما يصدر عنهم من
تقارير وتصريحات عن الحرب في أفغانستان. إليك ما قاله الجنرال فرانكس،
رئيس القيادة المركزية الأمريكية، في معرض تعليقه على قتل 16 أفغانياً عن
طريق الخطأ في منطقة «هازار كادام» الأفغانية، يقول فرانكس: «لن أصف
تلك الحادثة بأنها وقعت نتيجة لخطأ أو إخفاق» . وهو تصريح يدل على أحد
أمرين: فإما أن فرانكس لم يطلع على الحقائق، أو أنه رجل حقير لا يقيم وزناً
لأي مُثُل أخلاقية. كما رفض رئيسه دونالد رامسفيلد وزير الدفاع الأمريكي استخدام
كلمة «خطأ» أو حتى كلمة «تحري» في حديثه عن مقتل الآلاف من الأفغان
الأبرياء جراء القصف الأمريكي؛ وذلك لما تتضمنه هذه الكلمات من إشارة إلى
احتمال «اتخاذ إجراء رسمي أو عقابي في حق مرتكبي ذلك الخطأ» . وإذا كان
كبار العسكريين الأمريكيين يمارسون هذا القدر من الخداع والتضليل فليس
بمستغرب إذن أن يفتح الإسرائيليون نيران دباباتهم ومدافعهم الرشاشة على مخيمات
اللاجئين الفلسطينيين، أو أن يطلقوا الصواريخ المدمرة على سيارات تحمل أطفالاً
فلسطينيين بحجة أن إسرائيل تطالب برؤوس آبائهم، ودون أن يصدر عن واشنطن
ما يفيد الشجب أو الاعتراض.
لقد آن الأوان لأوروبا أن تتحرك؛ وذلك بعقد مؤتمر قمة تشارك فيه جميع
الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي للتداول بشأن هذه الأزمات الخطيرة. إن علينا
نحن الأوروبيين أن نعمل على توسيع صلاحيات قوات حفظ السلام الدولية
المرابطة في كابل وحجمها وإمكانياتها؛ بحيث تتمكن من نزع أسلحة المليشيات
الأفغانية، ثم نترك أمريكا لتغرق، إن شاءت، في مستنقع حرب العصابات،
وحالة شبه الاحتلال التي تفرضها على أفغانستان حالياً. كما يتعين علينا أيضاً
مطالبة إسرائيل بتعويض مبلغ عشرة ملايين دولار التي جاد بها دافعو الضرائب
الأوروبيون، والتي بددها الجيش الإسرائيلي بتدميره للمنشآت والبنى التحتية
الفلسطينية التي ساهم الأوروبيون في تمويلها.
وما دام أن الأمريكيين يرفضون التحدث إلى ياسر عرفات؛ فمن واجبنا نحن
أداء هذه المهمة. وإذا كانت أمريكا لا تأبه كثيراً لهذه الحرب الضروس التي تدور
رحاها بين الإسرائيليين والفلسطينيين؛ فمن واجب الأوروبيين التحرك بقوة لإيقافها.
فمثلما أننا نطالب بتمويل السياسات الرعناء والمفلسة التي تنتهجها حكومة
الولايات المتحدة من حر مالنا؛ فمن حقنا أيضاً أن نطالب بأن يكون لنا حق إبداء
الرأي في هذه السياسات. لكن ما يبعث الأسى في النفس هو أننا عوضاً عن ذلك
نرى أن بعض الحكومات الأوروبية، كالحكومة البريطانية، تغذي أوهام وشطحات
جورج بوش؛ وذلك بتأييد خطته الحمقاء لمهاجمة العراق.
وفي نهاية هذه الكلمة أقول إنني بدأت أحس بأن أحداث الحادي عشر من
سبتمبر قد طفقت تتحول شيئاً فشيئاً إلى لعنة أبلغ ضرراً وأشد بشاعة من الدمار
الذي ألحقته الهجمات الانتحارية بمبنى البنتاغون ومركز التجارة العالمية، كما
يوشك الأثر العميق الذي خلفته تلك الأحداث في نفسية الأمريكيين أن يطمس كل
مبادئ الأخلاق وقواعدها في أمريكا. كما أنني أتساءل هنا قائلاً: تُرى، هل تريد
أمريكا أن تجعل من الفوضى التي تضرب أفغانستان، والقتل المستمر في الشرق
الأوسط نصباً تخلّد به ذكرى ضحايا حوادث الحادي عشر من سبتمبر من
الأمريكيين؟ !