المسلمون والعالم
د. عبد العزيز آل عبد اللطيف [*]
مع أن ابن تيمية رحمه الله قد حقق مقولته الرائعة: «المحبوس من حُبس
قلبه عن ربه تعالى، والمأسور من أسره هواه» ؛ حيث سُجن سبع مرات،
وتعرض لصنوف شتى من البلاء والمحن، وكان في السجن أسعد الناس قلباً
وأهنأهم عيشاً؛ مع ذلك كله فقد سعى سعياً حثيثاً في فك أسرى المسلمين واستنقاذهم،
فخرج في شهر رجب سنة 699 هـ إلى مخيم بولاي أحد قادة التتار واجتمع به
في فكاك من كان معه من أسارى المسلمين؛ فاستنقذ كثيراً منهم من أيديهم [1] .
وكتب ابن تيمية رحمه الله رسالة مطولة إلى ملك قبرص «سراجسوان»
أحد ملوك النصارى في شأن أسرى المسلمين عند ذلك الملك، ضمنها دعوة إلى دين
الإسلام وعبادة الله تعالى وحده لا شريك له، وأظهر رحمته ومحبته الخير لكل أحد،
كما أشار إلى مساعيه عند التتار في فك أسرى المسلمين وأهل الذمة من النصارى.
إلى أن قال رحمه الله: «أما يعلم الملك أن بديارنا من النصارى أهل الذمة
والأمان ما لا يحصي عددهم إلا الله، ومعاملتنا فيهم معروفة؛ فكيف يعاملون أسرى
المسلمين بهذه المعاملات التي لا يرضى بها ذو مروءة ولا ذو دين؟ ! أليس
الأسرى في رعية الملك؟ ! أليست عهود المسيح وسائر الأنبياء توصي بالبر
والإحسان فأين ذلك؟ !» [2] .
فأنكر شيخ الإسلام على هذا الملك النصراني المعاملة السيئة لأولئك الأسرى،
مع أن وصايا المسيح تنص على اللين والإحسان، ومع أن أهل الإسلام يعاملون
النصارى الذميين والمستأمنين بالبر والعدل.
ثم قال رحمه الله: «ومن العجب كل العجب أن يأسر النصارى قوماً غدراً
أو بغير غدر ولم يقاتلوهم، والمسيح يقول:» من لطمك على خدك الأيمن فأدر له
خدك الآخر «، وكلما كثرت الأسرى عندكم كان أعظم لغضب الله وغضب عباده
المسلمين؛ فكيف يمكن السكوت على أسرى المسلمين في قبرص، سيما وعامة
هؤلاء الأسرى قوم فقراء وضعفاء، ليس لهم من يسعى فيهم ... والله تعالى لم يأمر
المسيح ولا أحداً من الحواريين لا بأسر أهل ملة إبراهيم ولا بقتلهم ... ثم في فكاك
الأسير وثواب العتق من كلام الأنبياء والصديقين ما هو معروف لمن طلبه» [3] .
وهكذا سلك الشيخ مسلك الترهيب من غضب الله وغضب أهل الإيمان، كما
رغّب في فكاك الأسير وما فيه من الثواب، إلا أن توعد الشيخ وتحذيره لذلك
النصراني تكرر في غير موضع، ومن ذلك قوله: «ثم عند المسلمين من الرجال
الفداوية [4] الذين يغتالون الملوك على فرشها، من قد بلغ الملك خبرهم قديماً وحديثاً،
وفيهم الصالحون الذين لا يرد الله دعواتهم ولا يخيب طلباتهم، الذين يغضب
الرب لغضبهم ويرضى لرضاهم» [5] .
«فما يؤمن الملك أن هؤلاء الأسرى المظلومين ببلدته ينتقم لهم رب العباد
والبلاد كما ينتقم لغيرهم، وما يؤمنه أن تأخذ المسلمين حمية إسلامهم فينالون
منها [6] ما نالوا من غيرها؟ !» [7] .
ومع تعدد أوجه التشابه بين أحوال المسلمين في القرن الثامن الهجري
(عصر ابن تيمية) وبين أحوال المسلمين في هذا العصر كما نلحظه في أحوال
أسرى قبرص وأسرى غوانتانامو إلا أن أسرى قبرص لقوا اهتماماً ظاهراً،
ومواقف عملية صارمة من ابن تيمية، وأما أسرى المجاهدين بكوبا (غوانتانامو) ،
وأسرى المجاهدين الفلسطينيين في السجون اليهودية، وأسرى المجاهدين
الكشميريين في السجون الهندوسية، وأسرى المجاهدين الشيشانيين في روسيا..
وغيرهم من الأسرى المستضعفين؛ فلا بواكي لهم، فأين الاحتساب في قضيتهم؟
وأين المطالبة بحقوقهم؟ ! وأين الدعوة إلى العدل فيهم والإحسان في معاملتهم؟ !
وأين التضرع إلى الله تعالى واللجوء إليه أن يفك أسرهم ويرغم عدوهم؟ !
إن ثمة وسائل متنوعة تجاه قضية أولئك الأسرى، ولا أظن أن سرد تلك
الوسائل يعوزنا أو يعجزنا، وإنما داؤنا: وَهَنٌ في الإرادة والعزيمة. إن على أهل
العلم والدعوة والمؤسسات والحركات الإسلامية والمنظمات الحقوقية أن تسهم على
أقل الأحوال بجهد المقل وأضعف الإيمان تجاه أولئك الأسرى المضطهدين؛ فإن
نصرة أهل الإسلام من الواجبات الشرعية؛ فكيف إذا كانوا مجاهدين أو مظلومين؟ !
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا
يخذله» [8] ، ولا سيما أن الغرب نفسه ممثلاً في كثير من جمعياته التي تسمى
بالإنسانية والحقوقية، والإعلاميين، وبعض السياسيين قد تذمروا من معاملة
إسرائيل وأمريكا وروسيا لأولئك الأسرى المسلمين.
أما أنتم معشر الأسرى فأعظم الله أجركم، وجزاكم الله كل خير على صبركم
وجَلَدكم، وتذكروا أن من اتقى الله تعالى جعل له من كل همٍّ فرجاً، ومن كل ضيق
مخرجاً، وكان الله في عونكم.