قضايا دعوية
د. فريد الأنصاري [*]
مقدمة:
العمل الإسلامي أو الإصلاحي، أو الدعوي، في كل زمان وفي كل مكان،
يقوم على أصل كلي في الإسلام، وكليته استقرائية ترجع إلى عدد كثير من
النصوص القرآنية والسنية. ومن هنا قلَّما تجد حركة إسلامية، سواء في التاريخ
القديم أو المعاصر، إلا وهي ترجع إليه، وتؤصل لوجودها به، وذلك هو «أصل
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» ، إلا أن النظر في تحقيق مناط هذا الأصل،
في ظروف الزمان والمكان، يجعلنا ملزمين بضبط توقيعه بقواعد منهجية،
مشهورة عند العلماء، إن لم يحترمها الداعية صار إلى عكس المآل الذي وُضِع
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أجله. وهي:
القاعدة الأولى: في أن (الدعوية) صفة لازمة عن الإسلامية:
وهي قاعدة مبدئية؛ ولذلك فإننا ننطلق ابتداء من المقولة التالية: «أنت
مسلم إذن أنت داعية» .
وبيان ذلك كما يلي:
ألست مسلماً؟ إن كنت كذلك حقاً؛ فقد تعلقت بك أهم صفات ما انتسبت إليه
من الإسلام: الرسالية. قال صلى الله عليه وسلم في أمر مطلق لكل الأمة:
«بلِّغوا عني ولو آية» [1] . ومن هنا كان المجتمع الإسلامي حركة دعوية بطبيعته،
وجماعة إصلاحية بفطرته. إنه منذ أعلن أن محمدًا رسول الله؛ تقلد بمقتضى عقيدة
الاتباع مهمة الدعوة إلى الله، فليس عبثاً أن يحض النبي صلى الله عليه وسلم بكل
وسائل التحريض والتشجيع على الدعوة إلى الخير والهدى، كما في قوله: «فوالله
لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم» [2] .
ومن هنا شهادة الله بالخيرية لهذه الأمة، في قوله تعالى: [كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ
أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ] (آل عمران:
110) إنها صفة عامة في كل من أسلم لله الواحد القهار. ومن هنا كان حديث
تغيير المنكر دالاً على العموم، وليس له ما يقيده في المأمورين به إلا شرط
الاستطاعة ورتبتها؛ وذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكراً
فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف
الإيمان» [3] . وقد بينا في كتيب (الفجور السياسي) مراتب التغيير، وطبيعة كل
رتبة منها بما يغني عن تفصيله هنا، فكان أن بينا إلزامية ذلك على كل مسلم على
قدر مرتبته من الاستطاعة [4] . بل قد عزم النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك
عزمة شديدة على المسلم؛ هي أن يتجرد للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كلما
حضره. قال عليه الصلاة والسلام: «إن الله تعالى ليسأل العبد يوم القيامة؛ حتى
يسأله: ما منعك إذا رأيت المنكر أن تنكره؟ فإذا لقن الله العبد حجته قال: يا رب!
رجوتك وفرقت من الناس» [5] .
فالمسلم المستقيم لا يمكن إلا أن يكون داعية إلى الخير. تلك صفته فرداً،
وجماعة؛ إذ الرابط الاجتماعي القائم على الشهادتين في الإسلام يقتضي ذلك بداهة.
قال عز وجل: [وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ
سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] (التوبة: 71) ، فجاءت صفة الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر في المؤمنين، مقرونة بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الله
ورسوله، وكل ذلك جاء نتيجة الموالاة في الله.
تلك صفتهم قبل التمكين في الأرض، وتلك صفتهم بعد التمكين؛ إذ الدعوة
إلى الخير هي غاية ووسيلة في الوقت نفسه، تماماً كما تحدثنا عن الصلاة،
فالمجتمع المسلم لا يقوم إلا بالدعوة إلى الله، قال عز وجل: [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ
بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن
سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ] (النحل: 125) . وإذا قام كان من أهم خصائصه
الدعوة إلى الله، إلى جانب الصلاة والزكاة على سبيل التلازم، فتدبر قوله تعالى:
[الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا
عَنِ المُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ] (الحج: 41) ، ومن هنا رسم الله سبيل الرسول
صلى الله عليه وسلم صراطاً مستقيماً، يتبعه عليه كل المسلمين، قوامه الدعوة إلى
الله على بصيرة؛ وهي سبيل ثابتة لا تتغير ولا تتبدل، مستقرة كذلك أبداً، قال
تعالى: [قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ
وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ] (يوسف: 108) .
فقوله تعالى: [هَذِهِ سَبِيلِي] (يوسف: 108) جملة اسمية دالة كما هو
معروف عند النحاة على الثبات، وثباتها هو على ما جاء بعد لتفسير السياق:
[أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي] (يوسف: 108) الآية. وجاء
تفسيرها جملة فعلية للدلالة على الحركة، وفي ذلك إشارة إلى ما ذكرناه من
خصيصة الدعوة اللازمة للجماعة الإسلامية، قبل التمكين وبعده، وأنها صفة تابعة
لإسلام المسلم متى تفاعل مع إسلامه واستقام عليه.
ومن هنا جاء أمر الدعوة والإصلاح مقروناً بالأمر بالصلاة، في غير ما آية
من القرآن الكريم؛ وذلك على نحو ما في وصية لقمان الحكيم لابنه، في حكاية الله
عنه من قوله تعالى: [يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ المُنكَرِ وَاصْبِرْ
عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ] (لقمان: 17) ، وقال جل جلاله في
وصف جميل لمؤمني أهل الكتاب، تناسق فيه جمال تلاوة القرآن قياماً بالليل، مع
جمال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمسارعة في الخيرات: [لَيْسُوا
سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ
وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ] (آل
عمران: 113-115) .
وجعل من سننه تعالى في الخلق أن كان أمنهم الوجودي والنفسي والاجتماعي
مرتبطاً باستقامة أحوالهم، وذلك الثبات على الصلاة، والصبر عليها، وحفظ البيئة
الدينية الموفرة لظروفها؛ بالإصلاح والنهي عن الفساد. فإذا اختلت تلك الشروط
اختل الأمن الوجودي للأمة، قال تعالى يعرض صورة شاملة لإحسان التدين:
[وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى
لِلذَّاكِرِينَ * وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ * فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ القُرُونِ مِن
قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ
ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا
مُصْلِحُونَ] (هود: 114-117) .
القاعدة الثانية: في أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دعوة إلى
الخير أولاً:
والخير كل الخير هو معرفة الله، فكل معروف إنما كان كذلك من حيث هو
يؤدي إلى معرفة الله أو هو عين معرفة الله، وكل منكر إنما كان كذلك من حيث هو
جهل بالله. فإذا اتفق أن كان أمر بمعروف ما ينتج عنه منكر أكبر منه؛ توجه
حينئذ وجوب ترك الأمر بذلك المعروف. وكذلك إذا كان نهي عن منكر ما يؤدي
إلى ما هو أفظع منه؛ توجه وجوب ترك ذلك النهي إلى حين، كما قرره الإمام ابن
تيمية رحمه الله في قوله: «وجماع ذلك داخل في القاعدة العامة: فيما إذا
تعارضت المصالح والمفاسد، والحسنات والسيئات، أو تزاحمت؛ فإنه يجب
ترجيح الراجح منها. . . فإن الأمر والنهي وإن كان متضمناً لتحصيل مصلحة
ودفع مفسدة، فينظر في المعارض له، فإن كان الذي يفوت من المصالح أو يحصل
من المفاسد أكثر؛ لم يكن مأموراً به، بل يكون محرماً إذا كانت مفسدته أكثر من
مصلحته» [6] . وربما كانت الوسائل المستعملة في ذلك سيئة، أو اختيار العبارات
غير موفق، أو نحو ذلك من وسائل تحقيق المناط الفاشلة ابتداء؛ مما لم يراع فيه
الزمان وأهله، فيؤدي إلى عكس النتائج المرجوة.
ومن هنا كانت الآية المشهورة على ألسنة الدعاة: [وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ
إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] (آل
عمران: 104) من ألطف الإشارات إلى هذا المعنى العجيب الذي يجعل المرء
يضع نصب عينيه تحقيق مفهوم (الخير) أولاً. فلا عبرة بالأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر إن تحقق الداعي من أنه يخطئ به الوصول إلى الخير. وإنما الخير كما
قلنا هو التعريف بالله. هذا معنى عظيم من أسرار كتاب الله.
ولذلك فقد جاءت الآية في سياق امتنان الله على المؤمنين بنعمة الإسلام،
والتأليف بين قلوبهم، وإنقاذهم من النار، وإرجاع الفضل في كل ذلك إلى الله.
فاقرأ السياق كله وتدبر، ثم أنصت إلى قلبك: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ
تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا
نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَى
شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُن مِّنكُمْ
أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ
* وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ
عَظِيمٌ] (آل عمران: 102-105) .
إنها آيات تُشَدُّ إليها رحال المصلحين الربانيين. . فتدبر! ألا ما أبعد واقعنا
المنحط عن سمائها العالي الرفيع! فالدعوة إن لم تراع أصل الاعتصام بحبل الله،
وعدم التفرق عنه، ولم تنضبط بقصد النجاة من النار، للداعي والمدعو سواء؛
كانت منحرفة عن (الخير) ، وإن كانت في ظاهرها أمراً بمعروف ونهياً عن
منكر، فلا قيمة لهذا إلا إذا صار إلى خير. فتدبر!
القاعدة الثالثة: في أن اتباع السنة تزكية وتعلماً وتحلماً هو مفتاح
دعوة الخير:
لا سبيل إلى كل ما ذكر من بلاغات قرآنية إلا عن طريق اتباع المبلغ: محمد
بن عبد الله، رسول الله إلى العالمين. هذه عقيدة، بل أصل من أصولها الكبرى،
وكلي من كلياتها العظمى، لا استقامة لشيء من ذلك كله إلا به. وإن شئت فقل:
هذا هو البلاغ القرآني الجامع، والضابط الكلي المانع. قال الله عز وجل: [مَا
أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ
وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ
عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ] (الحشر: 7) ، وقال سبحانه: [قُلْ
إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * قُلْ
أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الكَافِرِينَ] (آل عمران: 31-
32) . والنصوص القطعية في هذا المعنى كثيرة، فهو أمر لا يماري فيه إلا جاهل
بحقيقة الإسلام، أو من لا إيمان له به أصلاً.
فإذن؛ كل حديثنا مما كان قبلُ لا يمكن تحقيق مناطه، وتصور تطبيقه إلا من
خلال السنة النبوية، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في هذا واضح وضوح
الآيات: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» [7] . لا نقاش في هذا، وما
هو بحاجة منا إلى تقرير أو تحرير، وإنما الحاجة في بيان طبيعة الاتباع للرسول
صلى الله عليه وسلم: كيف؟ هذا الذي تخبط فيه كثير من الناس.
وهذا هو مربط الفرس، وبيت القصيد: كيف نتبع السنة؟ وكيف نتأسى
بالرسول صلى الله عليه وسلم؟ ذلك أن كثيراً من المتدينين اليوم يسيء للسنة من
حيث هو يزعم أنه متبع للسنة، ويحارب السنة من حيث هو يظن أنه ينافح عن
السنة. وتلك أم المصائب؛ إذ يصنع الإنسان عكس ما يعتقد أنه يصنعه. لقد
اقتصر كثير منهم في السنّة على منهج التعلم دون التزكية، والتحلم. فضلوا
وأضلوا. . تدبر قول الله عز وجل: [لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ
رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن
قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ] (آل عمران: 164) ، وقوله سبحانه وتعالى: [هُوَ الَّذِي
بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن
كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ] (الجمعة: 2) . فهو صلى الله عليه وسلم بتلاوته
القرآن على المؤمنين، ومدارسته معهم؛ يقوم بعمليتين اثنتين لا واحدة: التزكية
والتعليم، فاقرأ الآيتين وتدبر. . فعجباً، كيف فهم بعضهم من اتباع السنة والتأسي
بها مجرد استظهار بعض الأحاديث دون الرحيل إلى أخلاقها، والتزكي بمقاصدها،
والانتقال إلى منازلها؟ !
أما التعليم: فهو للحلال والحرام وسائر أحكام القرآن وفقه السنة. وأما تعلم
ما تحصل به الكفاية من ذلك لعبادة الله والالتزام بحدوده؛ فهو فرض عين على كل
مسلم ومسلمة، في كل ما يهمه من شؤون العبادات والمعاملات.
وأما التزكية: فهي التطهير للنفس والتربية لها، [قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ
خَابَ مَن دَسَّاهَا] (الشمس: 9-10) ، فالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم كان
حريصاً على تطهير صحابته من الأهواء، والارتقاء بهم عبر مدارج الإيمان إلى ما
هو (أحسن عملاً) ، من مثل قوله لعبد الله بن عمر: «نِعْم الرجل عبد الله لو كان
يصلي من الليل» [8] .
وانظر رحمك الله كيف ذكر (التزكية) قبل (التعليم) في الآيتين، مع أنه لا
تزكية بغير تعليم ابتداء، على ما ترجم له الإمام البخاري رحمه الله في كتاب العلم
من صحيحه قال: «باب العلم قبل القول والعمل» . وقد تقدم ذكر التعليم على
التزكية بناء على الأصل في قوله تعالى من سورة البقرة: [رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ
رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ
الحَكِيمُ] (البقرة: 129) .
صحيح أن العطف بالواو في الآيات كما هو في العربية لا يفيد الترتيب، لكن
التقديم والتأخير في البلاغة يفيد الأهمية؛ ومن هنا جاءت التزكية في الآيتين
الأوليين مقدمة على التعليم؛ من باب ذكر المقاصد قبل الوسائل؛ لشرف الغاية
وعلوها، وحتى لا يفتتن السائر بالوسيلة عن الغاية؛ فيضل عنها، ويكون من
الخاسرين.
تقول لي: وما بال التحلم؟ أقول: ذلك أنه صلى الله عليه وسلم ما عَلَّم ولا
زَكَّى إلا بحِلْم؛ فهو الخاصية العظمى لمنهج التعليم والتزكية لديه صلى الله عليه
وسلم، كما سترى بحول الله.
والحِلْمُ: الرزانة، والكياسة، والرحمة، والأناة. وهو ضد الجهالة والسفه.
والتَّحَلُّمُ: تخلق الحلم وتكلفه حتى يصير لك خلقاً، ومعنى (اتباع السنة تحلماً) :
التخلق بأخلاقه صلى الله عليه وسلم في ذلك. أي في حلمه، وصبره على جهالة
الناس، وسفههم. قال صلى الله عليه وسلم: «إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم
بالتحلم. ومن يتحر الخير يعطه، ومن يتق الشر يوقه» [9] .
إن الاتباع العام للرسول صلى الله عليه وسلم في كل شيء، إنما مفتاحه في
التحلم بحلمه. وهذا من حيث المعنى في كتاب الله، ألم تقل عائشة رضي الله عنها:
«كان خلقه القرآن» [10] ، فالعود إذن للقرآن نبحث فيه عن معنى الاتباع
ومفهوم التأسي. الآية واضحة ظاهرة لكل ذي قلب شهيد، قال تعالى: [لَقَدْ كَانَ
لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً]
(الأحزاب: 21) ، وإنها لآية عظيمة، وحكمة بالغة، وصراط مستقيم؛ تدبر هذه
العبارة الربانية: [أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ] (الأحزاب: 21) ؛ فأما الأسوة: فهي التَّخَلُّقُ.
فالتأسي: اتباع السيرة والتخلق بما كان عليه المتأسَّى به من خلق عام. والخلق هنا
هو كل الأوصاف التي كان يوصف بها في سلوكه وعمله، عدا الأوصاف الجبلِّية
التي لا يمكن اكتسابها بالتأسي ولا بغيره. ووصف الأسوة بـ (الحسنة) دليل على
علو شأن الخلق النبوي، وكمال سيرته وسلوكه العام والخاص، فهو لذلك كان أرقى
نموذج بشري للتأسي والتخلق. أليس هو (رسول الله) المصنوع على عين الله،
والمتأدب بأدب الله؟ بلى والله! فإذن من ها هنا يبدأ التأسي والاتباع، ومن أخطأ
هذا المدخل للسنة النبوية فقد أخطأها كلها؛ إذ أتى البيوت من غير أبوابها.
وتلك شهادة الله لرسوله صلى الله عليه وسلم: [وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ] (القلم:
4) ، تلك هي الأسوة الحسنة؛ ولذلك قال بعد ذلك: [لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ
الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً] (الأحزاب: 21) ؛ إذ الخلق الحسن هو باب العمل
الصالح، وسبب قبوله؛ فليس عبثاً أن يصرح الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله
العجيب: «ليس شيء أثقل في الميزان من الخلق الحسن» [11] ، وقوله في نحو
هذا أيضاً: «إن أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، وإن حسن الخلق ليبلغ درجة
الصوم والصلاة» [12] ؛ ولذلك فإنه: «لا يكون المؤمن لعاناً» كما صح عن النبي
صلى الله عليه وسلم [13] ، وقال لعائشة أم المؤمنين إذ استغربَتْ منه أنه دارى أحد
الناس ممن يكره: «يا عائشة! متى عهدتني فحاشاً؟ إن شر الناس عند الله منزلة
يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره» [14] . والقصة كما في صحيح البخاري أنه
«استأذن رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ائذنوا له، بئس
أخو العشيرة أو ابن العشيرة. فلما دخل ألان له الكلام. قلت: يا رسول الله، قلت
الذي قلت، ثم ألنت له الكلام؟» فقال لها صلى الله عليه وسلم ما قال.
قلت: هذا حديث تشد إليه رحال القلوب، [إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ
قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ] (ق: 37) ، وإنه والله سر حُسْنِ الأسوة، وجمالها
في رسول الله، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «إني لم أبعث لعاناً وإنما بعثت
رحمة» [15] ؛ ذلك خلق رسول الله، ذلك خلق القرآن، وهو قول الله تعالى:
[فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظاًّ غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ
عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
المُتَوَكِّلِينَ] (آل عمران: 159) ، وقوله تعالى: [لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ
عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ] (التوبة: 128) . ألا
ما أحوج الناس اليوم عامة، والدعاة منهم خاصة إلى استيعاب هذا البلاغ القرآني
العظيم. فتعلم من السنة أخي الداعية أخلاق النبوة تكن من الراشدين.
ذلك خلقه الجامع المانع؛ ومن هنا جعلنا عنوان هذا البلاغ الضابط لكل ما
قبله: «اتباع السنة تزكية وتعلماً وتحلماً هو مفتاح دعوة الخير» ؛ إذ النبي صلى
الله عليه وسلم إنما بعث معلماً ومزكياً، وكان كل ذلك منه على منهج الحلم والرأفة
والرحمة والأناة. فما أعظمه صلى الله عليه وسلم من نبي حليم، ورسول كريم!
القاعدة الرابعة في أن الصلوات وحفظ الأوقات عمود الدعوة إلى الخير:
لو أدرك المسلمون اليوم ما معنى (الصلاة) ؟ ما تركها واحد منهم إلا من
أصر على ضلاله وعماه، أو كزّ على كفره وزندقته!
أما أنت أيها الداعية إلى الله؛ فاعلم أن السير الدعوي من غير مسلك الصلاة
ضرب في التيه!
كل أعمالك في الجهاد، والدعوة إلى الله، وما تستكثره من حركات وسياسات
راجع إلى مدى سلامة هذا الأصل عندك؛ قصداً، ووقتاً، وأداء. وإلا فعلى دينك
السلام! [كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ
عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الحِسَابِ] (النور: 39) .
إنك يا صاح! لن تذوق ما الإيمان وما الإسلام؛ حتى ترحل إلى الصلاة
تكتشف أسرارها الممتدة إلى بحر الغيب المطلق؛ فترى عجباً. . فهي نتيجة فعلية
لكل من تلا القرآن حق تلاوته، إنها أول ما يبادر إليه المحب أول ما يتذوق معنى
المحبة؛ إذ يتعرف على جمال الله من خلال القرآن الكريم؛ ومن هنا أمره عز
وجل بالصلاة؛ مباشرة بعد أمره تعالى بالتلاوة، على سبيل العطف المباشر المشعر
بالتساوي بين الفعلين؛ مما يوحي بانعدام الفرق بينهما لما بين الاستجابتين من
ارتباط وثيق. إن من تعرف على القرآن الكريم حقاً لا يملك إلا أن يصلي. قال
تعالى: [اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ
وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ] (العنكبوت: 45) .
اعلم أن العلماء يجمعون على أن الوظيفة الوحيدة للإنسان في الكون هي عبادة
الله. فكل حظوظه الدنيوية إنما هي منجرة بالتبع مع أصل العبادة، وإنما أتيح له
أن ينال من حظه ما يعينه على وظيفته الأساس؛ وأصل ذلك ومستنده قوله تعالى:
[وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] (الذاريات: 56) .
إن خلاصة دين الإسلام عقيدةً وشريعةً: هي إخلاص العبادة لله الواحد القهار،
والصلاة منه هي مفتاح كل شعيرة من شعائره، وروحها، وغايتها؛ زكاةً،
وصياماً، وحجاً، وجهاداً. . . إلى آخر ما تفرع عن هذه وتلك من سائر أعمال
البر. ولذلك كانت الصلوات الخمس بعد الشهادتين هي العنوان الجامع المانع لكل
أعمال الإسلام؛ إذ كل ما سواها داخل في معناها، وليس عبثاً أن يعدَّها الرسول
صلى الله عليه وسلم خير أعمال المسلم، قال صلى الله عليه وسلم: «سددوا
وقاربوا وفي رواية:» استقيموا ولن تحصوا «واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة.
ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن» [16] .
ولقد فصلنا هذا في غير هذا المكان من كتبنا [17] ، لكنا نقتصر ها هنا على
ما يفيد السياق.
لقد جعل الله الصلاة هي آية المسلم، والعلامة الجميلة التي تميزه في مسيرة
التاريخ النبوي، قبل القرآن وبعده، فهي الفصل الذي لا يعرف إلا به، والنور
الذي لا يمشي إلا به، قال عز وجل: [مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى
الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي
وَجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ
شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً] (الفتح: 29) ، وإنما
اكتسبوا صفتيهم الأوليين: الجهادية [أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ] (الفتح: 29) ، والخُلُقية:
[رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ] (الفتح: 29) من كونهم رهباناً بالليل؛ أي قوله: [تَرَاهُمْ رُكَّعاً
سُجَّداً] (الفتح: 29) الآية؛ لأن ذلك هو المعين الصافي الذي يتزود منه المسلم
الصادق المجاهد الداعية إلى الله؛ بصدق التوجه والسير؛ من حيث إن قوله تعالى:
[تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً] (الفتح: 29) فيه إشارة إلى أن ذلك هو دأبهم وحالهم
المستمر في حركتهم التعبدية؛ إذ التعبير باسم الفاعل [رُكَّعاً سُجَّداً] (الفتح: 29)
يوحي بصورة حية لقافلة المؤمنين وهم منخرطون في حركة الصلاة المتواترة، من
غير فتور أو انقطاع، سيراً مستمراً حتى كان ذلك صفة ثابتة لهم، حيثما تراهم
[تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً] (الفتح: 29) .
ولذلك كان تشبيه النبي صلى الله عليه وسلم الصلاةَ في حياة المسلم التعبدية
بالنهر الجاري، قال: «أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس
مرات، هل يبقى من دَرَنِه شيء؟ قالوا: لا يبقى من دَرَنِه شيء. قال: فذلك
مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا» [18] .
إن الإسلام في نهاية المطاف هو الصلاة بالمعنى الذي سبق بيانه؛ وعلى هذا
الوزن تُقَوّم أعماله كلها يوم القيامة، وعلى ذلك يتحدد مصيره الأخير. .! قال
صلى الله عليه وسلم في الحديث الحاكم الحاسم: «إن أول ما يحاسب به العبد
يوم القيامة من عمله الصلاة؛ فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب
وخسر! وإن انتقص من فريضة قال الرب: انظروا هل لعبدي من تطوع؟ فيكمل
بها ما انتقص من الفريضة ثم يكون سائر عمله على ذلك» [19] .
وأوضح من هذا دلالة على ما نحن فيه قوله صلى الله عليه وسلم: «أول ما
يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة فإن صلحت صلح له سائر عمله، وإن فسدت
فسد سائر عمله» [20] ، فليس عبثاً إذن أن قدم النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة
في مراتب أعمال ابن آدم على سبيل ترتيب الأولويات: «أحب الأعمال إلى الله
الصلاة لوقتها، ثم بر الوالدين، ثم الجهاد في سبيل الله» [21] . إن الأمر يا
صاح جدّ!
وما بقي لمسلم تَرَك الصلاةَ من إيمانه إلا ما لا يخلده في النار، لا ما ينقذه
منها بإطلاق. قال صلى الله عليه وسلم: «بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك
الصلاة» [22] ، وقال أيضاً: «بين الكفر والإيمان ترك الصلاة» [23] ، ومثله
قوله صلى الله عليه وسلم: «ليس بين العبد والشرك إلا ترك الصلاة فإذا تركها فقد
أشرك» [24] . وهذه الأحاديث وما في معناها تقتضي أن المسلم التارك
لصلاته قد شابه الكفار في صفاتهم، فكفر عملاً وإن أسلم عقيدة؛ لأن المسلم
إنما يتميز بصفة الصلاة التي هي عنوان إسلامه كما بيناه قبل فمن فقد عنوانه فَقَدَ
هويته.
ولنعد إلى جمال القرآن الكريم؛ ذلك أن الله تعالى إذ يصف جمال المؤمنين
يذكر الصلاة باعتبارها أول وسام نوري بعد الإيمان يشع من قلوبهم، وهو أمر يكاد
يكون مطرداً في كل آي القرآن العظيم، يقول المولى الكريم في أول سورة البقرة:
[الم * ذَلِكَ الكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ
الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ] (البقرة: 1-3) ومن أجمل ما ورد في ذلك فاتحة
سورة (المؤمنون) ؛ إذ جعل الله أول صفاتهم الخشوع في الصلاة وآخرها
المحافظة على الصلاة. وكل أعمال الصلاة من فعل الخيرات وترك المنكرات
جعلها فيما بينهما؛ فاقرأ وتدبر. . واحفظها واحدة واحدة: [قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ *
الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ
فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ
فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ العَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لآمَانَاتِهِمْ
وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الوَارِثُونَ *
الَّذِينَ يَرِثُونَ الفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ] (المؤمنون: 1-11) .
فالخير كله فاتحته الصلاة، والخير كله خاتمته الصلاة. والخير كله غايته
الصلاة، والخير كله وسيلته الصلاة.
ومن أعجب العجب أن ألزم الله جل جلاله المسلمين بالصلاة إلزاماً؛ حتى في
أحرج الظروف وأخطرها: الحرب. . قال جل جلاله: [حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ
وَالصَّلاةِ الوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ * فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا
اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ] (البقرة: 238-239) .
فقوله سبحانه: [فَإِنْ خِفْتُمْ] (البقرة: 239) يعني في حال الحرب وانعدام
السلم والأمن، سواء لحظة الاشتباك أو لحظة الترقب. وقوله: [فَرِجَالاً أَوْ
رُكْبَاناً] (البقرة: 239) أي فصلوا (صلاة الخوف) باصطلاح الفقهاء. وهي
عندهم: الصلوات الخمس إذ تؤدى في ظروف الحرب. فتؤدى [فَرِجَالاً]
(البقرة: 239) ، أي: على أرجلكم، أو [رُكْبَانا] (البقرة: 239) ، أي:
راكبين خيولكم أو دباباتكم. وقد فصَّل الفقهاء، والمفسرون، وشراح الحديث صور
صلاة الخوف وأشكالها؛ بناء على قوله تعالى: [وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ
فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِن وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ
طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ
تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ
أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ
لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً * فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ
فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى المُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً] (النساء:
102- 103) .
ولصلاة الخوف صور كثيرة معروفة في كتب السنن وكتب الفقه. وإنما الغاية
عندنا ها هنا العبرة من الأحكام لا نفس الأحكام؛ وذلك أن الله عز وجل طلب من
المسلم الصلاة على كل حال ما دام عقله سليماً، لا ينقصه جنون أو إغماء أو ما في
معناهما.
وأحب ها هنا وأرجو أن تصبر علي قليلاً لتعرف حجم هذه الفريضة التي
ضيعها كثير من الناس اليوم، ولتعرف حجم الخسارة الواقعة بما ضيعوا؛ أن
أعرض لبعض الفقه في صلاة الخوف، ليس لذات الفقه، ولكن لبيان خطورة هذه
العبادة في الدين، ومقامها عند رب العالمين. جاء في حاشية السندي على النسائي:
«قال النووي: روى أبو داود وغيره وجوهاً في صلاة الخوف يبلغ مجموعها
ستة عشر وجهاً. وقال الخطابي: صلاة الخوف أنواع، صلاها رسول الله صلى
الله عليه وسلم في أيام مختلفة، وأشكال متباينة، يتحرى في كلها ما هو أحوط
للصلاة، وأبلغ في الحراسة، وهي على اختلاف صورها متفقة المعنى. قال
الإمام أحمد: أحاديث صلاة الخوف صحاح كلها، ويجوز أن تكون كلها في مرات
مختلفة، على حسب شدة الخوف، ومن صلى بصفة منها فلا حرج عليه» [25] .
ومن أحرج الوجوه في صلاة الخوف ما رواه البخاري عن عبد الله بن عمر
رضي الله عنهما قال: «غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قِبَلَ نَجْدٍ،
فوازينا العدو، فصاففنا لهم، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي لنا،
فقامت طائفة معه تصلي، وأقبلت طائفة على العدو،، وركع رسول الله صلى الله
عليه وسلم بمن معه، وسجد سجدتين، ثم انصرفوا مكان الطائفة التي لم تصل،
فجاؤوا فركع رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم ركعة، وسجد سجدتين، ثم سلم،
فقام كل واحد منهم، فركع لنفسه ركعة وسجد سجدتين» [26] . ومن ذلك ما رواه
البخاري أيضاً؛ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «قام النبي صلى الله عليه
وسلم وقام الناس معه فكبر وكبروا معه، وركع وركع ناس منهم، ثم سجد وسجدوا
معه، ثم قام للثانية فقام الذين سجدوا وحرسوا إخوانهم، وأتت الطائفة الأخرى
فركعوا وسجدوا معه، والناس كلهم في صلاة، لكن يحرس بعضهم بعضاً» [27] .
ولعل أحرج صورها على الإطلاق أن يصليها كل واحد لنفسه ركعة واحدة
بالإيماء؛ وذلك أنه إذا اشتد الخوف، كما هو الحال عند المسايفة، ونحوها من
الاشتباك في القتال، يصلي كل واحد لنفسه ركعة واحدة، راكباً أو راجلاً، مقبلاً
ومدبراً. قال القرطبي في تفسيره: «واختلفوا في صلاة الخوف عند التحام
الحرب، وشدة القتال، وخيف خروج الوقت، فقال مالك والثوري والأوزاعي
والشافعي وعامة العلماء: يصلي كيفما أمكن؛ لقول ابن عمر:» فإن كان خوف أكثر
من ذلك فيصلي راكباً أو قائماً يومئ إيماء «. قال في الموطأ: مستقبل القبلة وغير
مستقبلها» [28] ، وهذه من عجيب صورها. فانظر رحمك الله هل يبلغ شيء من
أعذار الناس اليوم ما ذكره العلماء من الشدة والحرج في القتال، ولم يروا مع ذلك
رخصة في تركها، أو تأخيرها عن وقتها؟
فعجيب أمر هذه العبادة العظمى. . لا تبرأ ذمة المسلم منها حتى يؤديها. وقد
جاء تأكيد ربطها بالوقت في ظروف الحرب كما قرأت؛ حتى لا يؤخرها مسلم عن
وقتها الذي فرضها الله فيه. فالحرب، بل الاشتباك في المعركة؛ أي ما يسمى
عندهم بـ (المسايفة) ، ليس عذراً لتأخير الصلاة عن وقتها، بله أن يكون عذراً
لتركها. وإنما هو يؤثر فقط في شكل أدائها لا في إسقاطها، أو إخراجها عن وقتها.
صلّ على أي حال كنت، وخذ حذرك؛ [إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى المُؤْمِنِينَ كِتَاباً
مَّوْقُوتاً] (النساء: 103) ، في السلم وفي الحرب سواء.
فإلى الذين يرابطون في أسواق التجارات، أو يرابطون في أسواق السياسات
والنقابات، ويفرطون أو يتكاسلون في أداء الصلوات، وهم يحسبون أنهم يحسنون
صنعاً؛ إليكم المفهوم النبوي للرباط! . . قال صلى الله عليه وسلم في سياق التنبيه
والترشيد: «ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ ! إسباغ
الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة. .
فذلكم الرباط! فذلكم الرباط! فذلكم الرباط!» [29] . إنه تفسير نبوي لقول الله
تعالى في محكم البلاغ القرآني: [فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ
يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ
الصَلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ القُلُوبُ وَالأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ
مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ] (النور: 36-
38) .
يا حسرة على العباد! . . لو يدركون ما هذه الصلوات؟ . . ويا حسرة ثم يا
حسرة! على نابتة من أبناء الحركات الإسلامية، تعددت بهم السبل من هنا
وهناك، وتفرقت بهم الأهواء، وانغمسوا في التيه من كل صوب، وأضاعوا هذه
الصلوات، خشوعها ومواقيتها وجمالها؛ فصدق عليهم قوله تعالى: [فَخَلَفَ مِنْ
بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَياًّ] (مريم: 59) .
وإن للسياسة والرياسة لشهوة لو كنتم تعقلون، وإن لأشعة الإعلام وزينة الكاميرات
لشهوة لو كنتم تتفكرون، تلك آية فاصلة بين نوعين من الأجيال، بينهما ما بين
النور والنار من دلالة، فللآية رهبة عظيمة لو تدبرتها، اقرأها! ها هي ذي
كاملة، فتدبر: [أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا
مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ
الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِياًّ * فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا
الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَياًّ * إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ
وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً] (مريم: 58-60) .
فتدبر. . ثم تدبر عسى أن تدرك بذوقك ما هذه الصلوات في الإسلام،
وتركب أوقاتها؛ لتدور بفلك العابدين سيراً إلى الله العلي الكبير. فالصلاة هي
العبادة التي تدخل من خلالها إلى نسق الكون، في صحبة الكائنات السائرات من
النباتات إلى المجرات، لا فوضى ولا عصيان ولا تمرد، [لاَ الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا
أَن تُدْرِكَ القَمَرَ وَلاَ اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ] (يس: 40) . . فأين
أنت من المدار؟
ذلك نص البلاغ النبوي المستمد من وحي الله رب العالمين. . فاختر لنفسك
ما ينجيها إن كنت من العاقلين!
القاعدة الخامسة: في اعتماد مجالس القرآن:
نسمي «مجالس القرآن» مساهمة في تصحيح ما انحرفت إليه بعض
الحركات الإسلامية؛ حيث تحولت مجالسهم التربوية إلى اعتماد كتاب فلان أو
علان من التآليف الفكرية البشرية منهاجاً للدين والتدين. وهذا خطر كبير قد بيناه
من قبل [30] ؛ إذ بسببه يصيب الدعوات ما يصيبها من أنانية، وذاتية، وشركية
نفسية في كثير من الأحيان، إن التربية الدعوية لا يمكن أن تستقيم على التوحيد
الاعتقادي والعملي والوجداني إلا بالتعلق المصدري بكتاب الله وسنة رسول الله في
المجال التربوي، بالنسبة للمربي والمتربي سواء.
وقد تبين مما سبق أن عملنا يقوم على منهج واضح وبسيط: الاعتصام
بالقرآن آية آية؛ مصدراً أول للتدين، والدعوة إليه، وبالشمائل المحمدية نموذجاً
أعلى للتطبيق. فهو قسمان. وبيان ذلك كما يلي:
القسم الأول: اُسْلُكْ نفسَكَ وصاحبك في مجلس من (مجالس القرآن) ، وسرْ
من خلالها إلى الله. لا تهتم كثيراً في هذا الشأن خاصة بالتنظيمات والجماعات،
فما نحن فيه أعم من وجه بكثير مما هي فيه. وهما أمران لا يتعارضان. لك أن
تنتظم فيما شئت منها، ما دام فضلها يغلب على نقصها. ولكن لا تنس (مجالس
القرآن) فذلك منهج النبي صلى الله عليه وسلم في تلقين صحابته صفات الصلاح،
ومقومات الإصلاح. تعلم من القرآن مباشرة دعوة الخير: (يدعون إلى الخير) .
تتبع منهج القرآن كما عرضه القرآن: التلاوة، والتعلم والتعليم، والدراسة
والتدارس، ثم التدبر. فاجعل مجلسك القرآني على هذه الفقرات الأربع. وبيانها
كما يلي:
1 - فأما التلاوة: فبركة وزكاة في نفسها، فقد ثبت الأجر كما بيناه قبل على
كل حرف تتلوه من القرآن؛ فلا تنس هذا. والله عز وجل أمر بالتلاوة للقرآن في
غير ما آية، قال عز وجل: [وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ
وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً] (الكهف: 27) ، وقال سبحانه: [إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ
كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِراًّ وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن
تَبُورَ] (فاطر: 29) .
وقال: [لَيْسُوا سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ
وَهُمْ يَسْجُدُونَ] (آل عمران: 113) ، وقال تعالى: [أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ القُرْآنَ
تَرْتِيلاً] (المزمل: 4) ، ثم قال: [فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القُرْآنِ] (المزمل: 20) .
وفي الحديث الصحيح: «الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرؤه
ويتعتع فيه، وهو عليه شاق؛ له أجران» [31] . فاقرأ كما استطعت؛ وتعلم كي
تتزكى. فقد رأيت أن التلاوة بدء فعله صلى الله عليه وسلم من التزكية والتعليم،
كما مر في قوله تعالى: [يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ] (آل
عمران: 164) .
2 - وأما التعلم والتعليم: فهو لأحكامه كما ذكرنا. وهو يكون بتحصيل العلم
للنفس وتلقينه للغير؛ وذلك لقول الله تعالى: [وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ
تُعَلِّمُونَ الكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ] (آل عمران: 79) . فقد قُرِئَتْ (تَعْلَمُون)
و (تُعَلِّمُونَ) فهي عملية مزدوجة، الجمع بين شقيها أوْلى: التعلم والتعليم. وأقل
ذلك يا صاح! أن تكون أحَدَهما: معلماً أو متعلماً. وقد قال صلى الله عليه وسلم:
«إن الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه، وعالماً أو متعلماً» [32] ،
وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله لم يبعثني معنتاً ولا متعنتاً؛ ولكن بعثني معلماً
ميسرا» [33] .
3 - وأما الدراسة والتدارس: فهو تتبع وجوه المعاني والدلالات للمقاصد
والغايات، من كل آية وسورة. ويجمع الثانية والثالثة مما ذكرنا من قوله تعالى:
[وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ] (آل عمران:
79) ، ويجمع المراحل الثلاث كلها ما جاء عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:
«جاء ناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا أن ابعث معنا رجالاً يعلمونا
القرآن والسنة. فبعث إليهم سبعين رجلاً من الأنصار يقال لهم القراء، فيهم خالي
حرام، يقرؤون القرآن، ويتدارسون بالليل يتعلمون» . . . الحديث [34] .
فالتدارس هو أساس التعلم كما في هذا الحديث؛ إذ لا علم إلا به، فأنت تبحث
عن وجوه المعاني وتتدارسها؛ لتتعلم أحكامها ومقاصدها. وذكر التدارس أيضاً في
الحديث المشهور من قوله صلى الله عليه وسلم: «من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً
سهل الله له طريقاً إلى الجنة. وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب
الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم
الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده. ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه» [35] .
4 - وأما التدبر: فهو كما سبق بيانه أنك إذ تقرأ الآيات، وتدرس، وتتعلم
تنظر إلى مآلاتها، وعواقبها في النفس وفي المجتمع؛ فتكتسب بذلك من الصفات
الإيمانية ما يعمر قلبك، ويثبت قدمك في طريق المعرفة الربانية، ونحو ذلك من
المعاني؛ مما فصلناه قبل في محله، فلا حاجة لتكراره.
ذلك كله هو أساس التزكية، ومقياس التصفية، ومنهاج التربية، وسلم
العروج إلى رضى الرحمن، فاقرأ القرآن، وتدارس، وتعلم، وتدبر. . . حتى
يأتيك اليقين.
فاصبر على هذا المنهج؛ فإن كل آية تسلمك إلى الأخرى، وتفتح لك باب
أسرارها وأنوارها. فتتبع مسالك النور حتى تصل إن شاء الله.
ذلك هو الاعتصام بكتاب الله، وأما الاعتصام بالشمائل المحمدية نموذجاً أعلى
للتطبيق؛ فهو:
القسم الثاني: وهو أن تتبع معالم سَيْرِ رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل
ذلك، وهي مبثوثة في كل كتب السنة وعلومها؛ إلا أن أجمع علوم السنة
الموضوعة لبيان هذا المنهج؛ هو (علم الشمائل المحمدية) : وهو علم يبحث في
صفات رسول الله صلى الله عليه وسلم الخِلْقية والخُلُقِية، وكيفية سيرته مع ربه،
وسيرته في نفسه، وفي أهله، وفي أصحابه والناس أجمعين. وإن ذلك لهو القرآن
كله مطبقاً، والإسلام كله حيا متحركاً، فادرس من الكتب في ذلك ما شئت ولا
حرج، أو اجمع نصوصه من حيثما شئت ولا حرج، وإنما الشرط أن تتحرى
الصحة في الخبر. ويكمل بذلك ما أردناه من معنى: (مجالس القرآن) التي كانت
هي مجالس الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم أجمعين.
خاتمة:
ذلك هو المنهج التطبيقي البسيط والفعال للوصول إلى مقاصد البلاغ الرباني،
وإيصالها إلى كل إنسان؛ معرفة وذوقاً. فاهتم بالقرآن والسنة، اهتم بترتيل
أحكامهم على نفسك وعلى أهلك، ثم على من حواليك من الناس، واسع من أقصى
المدينة إلى أقصاها؛ لتذكير المسلمين وغيرهم ببلاغات القرآن. . أعني الأصول
الكبرى للدين، اعتقاداً وعملاً، كما بينا وشرحنا، اُطْرُقْ أبواب القلوب، وخاطب
فطرتها؛ تجد الأسماع مصغية، والأفئدة واعية؛ عسى أن يجعل الله لك القبول في
الأرض والقبول في السماء؛ فتكون إن شاء الله من الصالحين.