مجله البيان (صفحة 4238)

دراسات تربوية

التعليم الأجنبي.. مخاطر لا تنتهي!

(1 - 2)

مهيمن عبد الجبار

إن الحديث عن المدارس الأجنبية حديث يتلاقى ويتماس مع كثير من نقاط

واقعنا المعقد؛ فهو يتناول التربية العقدية بمفهومنا ولفظنا، كما يتناول التنشئة

السياسية من جهة أخرى، ويتناول قضية الهوية بجوانبها وتشعباتها، وهي سر من

أسرار تخلف التنمية، ولها ظلالها الإعلامية والتعليمية، والثقافية والاقتصادية

والاجتماعية، ويمس عصب الأمن القومي.

ولكي نتصور القضية تصوراً صحيحاً لا بد أن نضع في اعتبارنا عدة أمور:

أولها: أن التعليم الأجنبي يأتي ضمن منظومة واسعة لتغريب الأجيال

وإبعادهم عن دينهم تتضمن التعليم، والإعلام والثقافة، ويتستر خلفها التبشير

والاستشراق والاستعمار، وتساندها بقية الأدوات.

وثانيها: أن الكلام حول التعليم الأجنبي يتناول المدارس الأجنبية ومدارس

الإرساليات التبشيرية ومدارس الجاليات بالأصالة، كما يشير إلى مدارس اللغات

والمدارس التجريبية التي تقفو أثر المدارس الأجنبية وإن تسمَّت بأسماء عربية

بالتبعية، كما يتطرق الحديث إلى الابتعاث إلى الدول الغربية.

وثالثها: أن حديثنا عن دور ومخاطر هذا النوع من التعليم يزيد من شأنه ولا

يهون ما يتم للتعليم الوطني اليوم في كثير من بلادنا الإسلامية تحت مسميات

التطوير والتحديث، ضمن ما يعرف بالعولمة التعليمية التي ترعاها المؤسسات

الدولية وتدفع إليها الدول الغربية.

ورابعها: أن التعليم في الإسلام يعني عملية إفراز وتنمية للولاء العقدي الذي

هو أعلى وأوثق أنواع الولاء، كما يرتبط بقيمة وجودية للأمة الإسلامية هي الهداية

كما قال تعالى: [وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ

تَدْرُسُونَ] (آل عمران: 79) .

كما يرتبط بقيمة أخرى في الآخرة هي الوقاية من عذاب الله تعالى: [يَا أَيُّهَا

الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ] (التحريم:6) ،

وهذا كما قال المفسرون يتم بالتعليم والتأديب، وفيه ملمح مهم وهو ارتباط

التعليم بالإصلاح، على عكس ما يحدث اليوم في التعليم الأجنبي.

وخامسها: أن دخول أطراف خارجية في العملية التعليمية يعني تعريض أمن

الأمة للخطر؛ وذلك حين يتعرض دين الأجيال للتحريف وعقولهم لألوان الغزو

الفكري، وهي مسألة لا تقل خطورة عن السماح للأجانب بالالتحاق بالجيش أو

أجهزة الأمن التي تسهر على حماية البلاد، بل تزيد؛ لأنها تؤدي مستقبلاً إلى

وجود مثل هذه الفئات داخل هذه المؤسسات دون أن ندرك حقيقة الدور الذي

تقوم به.

إننا كثيراً ما نلمس آثار هذه المدارس على المتخرجين فيها، لكن ما يغيب

عنا أكثر، دون أن يكون لنا أفراداً أو مجتمعات دور يتفاعل مع قضية بهذه

الخطورة.

سادساً: إن الحديث عن التعليم الأجنبي اليوم لا يمكن التطرق إليه بمنأى عن

الخريطة التعليمية القُطرية والعولمية؛ فلم تعد المدارس الأجنبية هي الخطر الوحيد

في المجال التعليمي؛ بل ينبغي تصور خريطة المخاطر المحتفة بالتعليم اليوم؛

فهناك مدارس الإرساليات (علمانية، ودينية) ، وهناك المدارس الدينية التي

تخص الطوائف النصرانية التي تعيش في بلداننا الإسلامية، والمدارس الخاصة

التي تقتفي أثر هذه المدارس، إلى جانب التعليم العام المنجذب مغناطيسياً نحو

مجال هذه المدارس كنموذج.

إن نظرة الأمم إلى مسألة التعليم تنطلق من نظرتها لذاتها ودورها وهدفها

الأبعد على هذه الأرض وما بعد الأرض؛ ومن ثم فإن الخريطة التعليمية لأي دولة

يمكن أن تنبئنا بتطلعات هذه الدولة إلى المستقبل، ويمكن إيضاح ذلك من خلال

عدد من التجارب والمواقف:

* كان للتعليم الشرعي دوره الذي بهر العالم كله في نموذج طالبان وسيطرتها

على الأوضاع داخل أفغانستان بسهولة، والبدء في خطط تنموية حقيقية رغم

الحصار الشديد وضعف الإمكانيات؛ مما جعل التقارير العالمية توصي باتخاذ

إجراءات سريعة وحاسمة بصدد هذا النوع من التعليم في الدول الإسلامية الأخرى،

ومن ثم قامت النخب العلمانية بتصفية هذا النوع من التعليم بعدة طرق في تركيا

ومصر واليمن وباكستان وغيرها، وما يحدث الآن في أفغانستان يعيد للأذهان

حملة نابليون للقضاء على بواكير النهضة العلمية والحضارية التي كادت تزهر في

أحضان الأزهر، وزرع التعليم البديل [1] .

* كان للمدارس الدينية دورها في إنجاح الثورة الإيرانية في أواخر

السبعينيات، كما كان للتعليم الغربي دوره اليوم أيضاً في الانقلاب السلمي على

الثورة هناك.

* النهضة الاقتصادية الماليزية بدأت أيضاً بالتعليم؛ ففي سنة 1985م أقيمت

مؤتمرات وطنية لقضية التعليم، وقررت أن تكون ماليزيا دولة صناعية؛ ولذا

تغيرت مناهج التربية والتعليم على هذا الأساس، كما تغيرت نظم البعثات الدراسية،

والهجرة والاستثمار في غضون 10 سنوات، وكانت النتيجة أن ماليزيا أصبحت

عاشر دولة صناعية في العالم سنة 1995م.

* نموذج الصين واليابان والهند وألمانيا وهي تجارب دول عانت من

مشاكل أكثر عدداً وأضخم من المشكلات التي يعلق عليها العرب خيبتهم التعليمية

والتنموية؛ ومع هذا استطاعت هذه الدول حين ملكت الإرادة أن تقفز من خلال

تعليم هادف قفزات سريعة في فترة محدودة.

* وفي كشمير المحتلة عملت الهند على محاربة التعليم الإسلامي ونشر التعليم

العلماني، وتشجيع الحركات العلمانية على حساب الحركات الإسلامية؛ وخاصة

بعد ظهور الحركات الجهادية لطمس هوية كشمير وإذابتها داخل المستنقع الهندي.

* كان للمدارس الدينية دورها في إيجاد تيار واسع له أثره البالغ في توجه

الدولة اللقيطة وتعاملها مع العرب [2] .

* وأخيراً كان للتعليم الأجنبي أثره البالغ على أمن المنطقة العربية واستقلالها

من خلال تربية أجيال لا تؤمن إلا بالفكر الغربي، ولا تعرف غير الحضارة

الأوروبية، وتتنكر لدينها وحضارتها وقيمها الأصيلة، وكان لهذه الأجيال العير

والنفير في مختلف المجالات.

إطلالة على الوجود التعليمي الغربي:

في عام 1863م اقترح المنصِّر هاملين على صديقه روتشيلد اليهودي إنشاء

مدرسة ثانوية بجوار «قلعة الروملي» قائلاً: «لقد أنشأ الأتراك حصناً لفتح

إسطنبول، وأنا سأنشئ هنا مدرسة لهدمهم» . هذه العبارة على وجازتها تلخص لنا

الدور الخطير الذي لعبته المدرسة الأجنبية في تفكيك العالم الإسلامي وتفتيت ريحه؛

لقد مكر أهل الكتاب مكر الليل والنهار لرد المسلمين عن دينهم تارة بحروب

صليبية وتارة بتدبير المكائد الداخلية، وفي كل مرة كان العالم الإسلامي يهب هبته

ينفض عنه مسة أهل الكتاب، وفي كل مرة كان الغرب يبحث عن لبنة سنمَّار حتى

ظفر بها أخيراً؛ إنه حبل التلقي الموصول بالله عبر المسجد والمدرسة والأم..

فلتكن المعركة في هذه الساحة لا بهدمها كما صنع بونابرت وإنما بتفريغها من

محتواها أولاً وتبديله بمحتوى مخالف أياً كان هذا المحتوى ليفعل فعل السرطان في

الجسد عندما تتغير كيميائية خلية واحدة.

يقول جب في كتابه: (وجهة الإسلام) : «إن إدخال طرائق جديدة في

البلاد الإسلامية كان يتطلب نظاماً جديداً في التربية من عهد الطفولة في المدارس

الابتدائية والثانوية قبل الانتقال للدراسات العالية، وإن إصلاح التعليم [يسميه

إصلاحاً!] على هذا النحو لم يكن في ذلك الوقت يخطر على بال السلطات المدنية

الإسلامية، ولكن الفراغ ملأه هيئات أخرى؛ فقد انتشرت في منتصف القرن التاسع

عشر شبكة واسعة من المدارس في معظم البلاد الإسلامية ولا سيما في تركيا

وسوريا ومصر؛ وذلك يرجع غالباً إلى جهود جمعيات تبشيرية مختلفة، وقد كان

أكثرها عدداً المدارس الفرنسية، وقد كانت المدارس الإنجليزية في الإمبراطورية

العثمانية أقل مما في الهند، وكانت المدارس الهولندية قاصرة على جزر الهند

الشرقية» .

وقد ارتبط التعليم الأجنبي منذ وفوده على البلاد الإسلامية كما ذكر جب

بالإرساليات التبشيرية، وتنسب بداية المحاولة إلى الإسباني (ريمون لول) ، ثم

أخذت الجمعيات التبشيرية في الانتشار في أواخر القرن 18 وأوائل الـ 19 التي

كان أحد أهم مناشطها التعليم، خاصة مع تحول الكنائس الكبرى في أوروبا من

الإطار الكهنوتي البحت إلى الإطار التعليمي بإنشاء المدارس والمعاهد التابعة لها،

وقد بدأت الإرساليات تمارس نفس الدور في العالم الإسلامي خاصة حين أخفقت

الأساليب المباشرة للتبشير شرعت في أداء الدور التعليمي، وخاصة بعد أن رأى

المبشرون من خلال مؤتمراتهم وخبراتهم المتبادلة أن العمل في جانب الصغار أجدى

بكثير من الكبار وفي جانب الفتيات أخطر منه في البنين.

وقد كان الغرض الملحُّ على العقل الأوروبي من بناء المدارس كما قلنا هو حل

المسألة الشرقية من الداخل بعد أن استغلق حلها من الخارج.. والناظر في تاريخ

سقوط الخلافة يعلم بحق أثر هذه المدارس في الكيد لأهل الإسلام؛ فقد لعبت دوراً

أعظم مما أداه جميع سفراء الدول ومعتمديهم السياسيين باعتراف الغرب نفسه.

كانت الشرارة الأولى قدحت في بيروت بإنشاء مدرسة للبنات في الإمبراطورية

العثمانية سنة 1830م؛ لأن البنات سيكُنَّ أمهات؛ فإذا تربَّيْن في هذه المدارس

النصرانية أثرن على أولادهن! ! وكانت تعنى ببنات الأسر والبيوت الكبيرة اللاتي

سيكون لهن السيطرة على الجيل المقبل؛ ولهذا قال بعض دعاتهم: «إن مدرسة

البنات في بيروت هي بؤبؤ عيني» ! !

وقد تركزت في لبنان جهود الأمريكيين، والفرنسيين، وقد كان للجامعة

اليسوعية (الأمريكية فيما بعد) وجامعة القديس يوسف دور خطير في لبنان

بالتقاط النابهين من نصارى الشام وبنائهم نماذج متغربة تعمل لحساب المشروع

الغربي؛ حيث ارتبط كثير منهم بالمخطط الماسوني الهادف لإسقاط الدولة العثمانية

وتفتيت العالم الإسلامي وغرس الدولة اليهودية في المنطقة.

وفي مصر عام 1840م من خلال البعثات التنصيرية قام الآباء بتأسيس الكلية

الفرنسية بالإسكندرية والجمعية الإنجيلية البروتستانتية، وجمعية راهبات القلب

المقدس عام 1845م، ثم تلتها الإخوة المسيحيون والفرير عام 1847م ثم الآباء

اليسوعيون والجزويت ثم الفرنسيسكان 1859م والمير دي ديو (وتعني أم الله!

تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً) 1877م. ثم تبعتها مدارس الآباء اليسوعيين عام

1880م كمقدمة لاحتلال مصر في عام 1882م، وقد بلغ عدد مجموع الطلاب من

المسلمين 7117 طالباً مسلماً حتى عام 1891م، وهو رقم مذهل بمقاييس تلك الأيام

وظروفها.

كان انتشار المدارس الأجنبية في مصر مكثفاً ومقصوداً حتى إنها الآن تبلغ

عشرات الآلاف من المدارس، وتبلغ نسبة الدارسين فيها من المسلمين 52% من

الطلاب بمصر، ويشير مؤرخو المدارس الأجنبية أن الجالية اليونانية كانوا كلما

حلوا في بلد أنشؤوا فيه كنيسة ومدرسة كما فعلوا في الإسكندرية عام 1843م ثم في

المنصورة، وطنطا، وبور سعيد، والسويس، والقاهرة وغيرها، وهكذا

الجالية الإيطالية منذ عام 1862م، والجالية الألمانية عام 1866م، واليهود منذ عام

1872م، والمارونيون السوريون، وكانت أولى الجاليات الجالية الأرمنية عام

1828م في بولاق.

أما عن تعليم البنات فقد كان هناك مدرستان في أواخر العقد السادس من القرن

الماضي للتعليم العام بحي الأزبكية: واحدة تابعة للكنيسة الأرثوذكسية، والأخرى

تابعة لكنيسة الأقباط الإنجيليين. وفي عام 1904م أنشأت الكنيسة القبطية أول

مدرسة صناعية ببولاق.

وقد عملت كثير من هذه المدارس بمبدأ المواءمة واستغلال الفرص المتاحة؛

بحيث تظهر ما جاءت من أجله كلما سنحت الفرصة، وتتستر حين تضيق عليها

الأمور.

كما شهدت سوريا بالتزامن مع حالة لبنان ومصر جهوداً موسعة لفتح المدارس

الإرسالية حتى كان نصيب سوريا وحدها من المدارس الأمريكية عام 1909م:

(174) مدرسة في المدن والقرى.

وفي السودان من أنواع المدارس والبعثات التنصيرية الشيء الكثير، بل إن

عدد الكنائس في الخرطوم يفوق عدد المساجد! !

وأما في جبال النوبة فقد استولت الإرساليات البريطانية على التعليم فيها منذ

عام 1919م وحاصرت توسع الإسلام واللغة العربية، وأقفلت ما يفتح من المدارس

الإسلامية عام 1931م.

وفي العراق: في أوائل القرن العشرين الميلادي كانت أول مدرسة تبشيرية

في البصرة مدرسة للبنات، ثم انتشرت مدارسهم في أنحاء العراق.

وهذا ما جرى عليه الحال في سائر بلاد الإسلام خاصة البلاد التي دخلها

الاستعمار.

وقد كان جل اهتمام التنصير منصبّاً على مصر وباكستان تحديداً؛ ولذا نالا

قسطاً أكبر من الغزو عموماً ومن خلال التعليم على وجه الخصوص. يقول (ستيف

نيل) مؤرخ الكنيسة: «في العالم الإسلامي دولتان تمثلان أكبر أهمية بالنسبة

للتنصير، هما باكستان ومصر، وسقوط إحداهما في قبضتنا يعني إزالة أكبر

عقبتين من طريق الكنيسة» .

تتوافر عن باكستان أمامنا بعض الإحصائيات حول نشاط عدد من أشهر

المدارس هناك يمكن أن تعطينا صورة عن حجم النشاط وما يصبو إليه وما يمكن أن

يحققه:

نجد في مدرسة القديس باتريك في كراتشي (2100) طالب مسلم

و (400) نصراني!

وفي مدرسة القديس يوسف (2100) مسلم، (100) نصراني!

ومدرسة القديس لورانس (1050) مسلماً، (150) نصرانياً!

ومدرسة القديس جوز (100) مسلم، وليس فيها نصراني واحد.

ومدرسة المسيح الملك (700) مسلم، (300) نصراني.

ومدرسة القديس جون (700) مسلم، (200) نصراني.

ومدرسة القديس بونا بونتشر في حيدر آباد (1560) مسلماً، و (40)

نصرانياً.

ومدرسة القديسة ماري في حيدر آباد (1558) مسلماً، (139) نصرانياً.

بالنظر في ما تقدم يتضح أن وجود النصارى عبارة عن ذر للرماد في العيون [3] .

على أن الأمر لا يتوقف عند حدود مصر أو باكستان أو بلاد الشام، وإنما

زحف نحو جميع البلاد في غفلة من المسلمين. وتشير الأرقام إلى وجود 264

مدرسة تنصيرية في ماليزيا، وفي قطر هناك أكثر من 30 مدرسة، وفي مدينة

مقديشو وحدها أكثر من ثلاثين مدرسة صليبية!

وطبقاً لإحصائيات عام 1991م توجد 16500 مدرسة نصرانية في أفريقيا

وحدها.

أما التعليم الجامعي فلدينا ثلاث مؤسسات كان لها أبلغ الأثر في تحول كثير

من أبناء الأمة عن دينهم وهي:

جامعة القديس يوسف في لبنان، وهي جامعة بابوية كاثوليكية (تعرف الآن

بالجامعة اليسوعية) .

والجامعة الأمريكية التي كانت من قبل تسمى (الكلية السورية الإنجيلية) ،

ثم كلية بيروت، وقد أنشئت في عام 1865م، وهي جامعة بروتستانتية.

والكلية الفرنسية في لاهور، وأسست في لاهور باعتبار أن هذا البلد يكاد

يكون البلد الفريد في تكوينه في شبه القارة الهندية.

إلى جانب (كلية روبرت) في إستانبول، والكلية الأمريكية (الجامعة

الأمريكية فيما بعد في القاهرة) .

وكلية جوردن (البريطانية) في الخرطوم، وأخيراً الجامعة الأمريكية الجديدة

في الشارقة، وفي قطر!

وهناك الجامعة الألمانية والفرنسية في المستقبل القريب في مصر اللتان شرع

في تأسيسهما مؤخراً.

ومن خلال هذا الجهد المكثف نجح التعليم الأجنبي بمدارسه وجامعاته في

تخريج أجيال عملت على خدمة المصالح الغربية على تفاوت فيما بينها؛ فقد تخرج

فيها كثير من القيادات القومية الفكرية والسياسية من بين المسلمين والنصارى دون

فرق إلى حد بعيد في كل من مصر ولبنان وفلسطين والأردن وسوريا والعراق

والسودان، ومن أبرزهم: ميشيل عفلق، وجورج حبش، وقسطنطين زريق،

وأنطون سعادة، ولويس عوض وغيرهم، وكان من عملاء هؤلاء المنصرين في

تركيا الجنرال: أحمد وفيق باشا الذي أمَّن أرضاً للمدرسة؛ ولذا لما سئل السلطان

عبد الحميد الثاني عن المكان الذي سيدفن فيه الجنرال، قال: «في قلعة الروملي؛

ليستمع الرجل الذي باع للبروتستانت أرضاً ليؤسسوا عليها أجراسهم، أصوات هذه

الأجراس إلى يوم القيامة» .

وقد أولت الدول المستعمرة خلال فترة ما بين الحربين اهتماماً شديداً بتثقيف

أبناء الأمراء والعظماء وكبار رجال السياسة، ونقلهم إلى التعليم في المعاهد

الأجنبية؛ وذلك لإعداد هذه الطبقة، وقد كان إغراؤهم عجيباً لكثير من أصحاب

المراكز العلمية حتى بعض كبار المسؤولين في مجال الإسلام على تعليم أبنائهم

وبناتهم، وقد أشارت تقاريرهم إلى ذلك بما أسمته: «نزوع الطبقة الراقية إلى

المدارس الأجنبية» .

تعليم المخاطر!

نجح الغرب من خلال التعليم في أن يبث سمومه في مختلف مناشط الحياة،

وحشد ضمن كل منشط منها مجموعة من المخاطر، ثم راح يؤلف بينها؛ ولهذا

نرى المخاطر اليوم تتداعى وتجتمع وتتضافر، ويكمل بعضها بعضاً.

إن أثر النشاط التعليمي الغربي في بلادنا لم يعد يمس زاوية دون أخرى أو

يكتفي بجانب دون سواه.. بل أصبح يمثل شبكة من المخاطر كل خطر يوطئ لما

بعده ويخدم جوانب أخرى غيره؛ ولهذا فإن تفنيد بعض المخاطر لا يقلل من شأن

سواها، وذكر كل منها منفردة لا يعني أنها منبتَّة عما سواها في الواقع؛ فالتعليم

بذاته شبكة ضمن شبكة أوسع من المخاطر والمهددات التي تتنامى مع الوقت.

ومن هنا يأتي التعليم الأجنبي على رأس قائمة المخاطر وأدقها وأعمقها أثراً،

ويكفي أنه لم يقع أن اتبعت الأمة بمجموعها سنن أهل الكتاب إلا بعد أن أصبحت

مدارسهم تنافس مساجدنا، وقد رأينا من آثاره كيف تساق الأمة سوقاً وتقهر قهراً

على اتباع سنن أهل الكتاب حذو القذة بالقذة شبراً بشبر وذراعاً بذراع كما جاءت

النصوص، وأن هذا ما كان ليتحقق لولا فتح باب التلقي عنهم والانغماس في

سوادهم.. وتحسين مسلكهم.. والانبهار بكل ما يأتي عنهم دون تبصر أو تفكر،

ووقوع الفتنة بتوليهم ومحبتهم في مقابل خلع ولاية الإيمان.

ونحن بصدد دراسة أهم المخاطر الناجمة عن الوجود التعليمي الغربي في

بلادنا للدلالة على ما سواها لا بد أن ندرس أثرها على التيار العام للأمة، وألا نغفل

دراسة النماذج الفردية المجلية لأثر التعليم الغربي وإن لم يتح لنا هذا بصورة قوية

هنا، لكن تكفي بعض الإشارات الضمنية:

الخطر العقدي:

ويبدأ هذا الخطر حين تقوم هذه المدارس بترويض فكر الطالب شيئاً فشيئاً

ليتشرب العقيدة النصرانية، وتنزع عنه حساسية الفطرة والإيمان، من خلال

المناهج، والممارسة التربوية، والنموذج التربوي الذي تقدمه هذه المدارس (المثل

الأعلى) ، وشكل البناء؛ فالمدرسة تبنى بجوار الكنيسة أو داخل فنائها، وأسلوب

الإدارة، وتعويد الطفل على رؤية الكهنة والراهبات في منزلة التوقير بما يجعل لهم

نفسياً سلطة لا شعورية تبدأ بالاحترام وتنتهي بقبول أفكارهم ومعتقداتهم؛ فلا يجد

هذا الطفل حرجاً حين يتخرج أن يرتدي لباس الكهان، بل يظل يحلم بهذه اللحظة،

وكأن المدرسة تقول له: قد هيأناك لتكون هكذا! ولا حرج أن يدخل كنيسة المدرسة

ظهر كل أحد مع زملائه ليستمع إلى درس الأحد، ولا بأس بعدها أن يدخل أي

كنيسة ضيفاً أو زائراً أو مهنئاً أو معزياً..!

وهو في البداية كما قال هوارد ويلس رئيس الجامعة الأمريكية الأسبق في

بيروت: «التعليم في مدارسنا هو الطريق الصحيح لزلزلة عقائد المسلم وانتزاعه

من قبضة الإسلام» .

وهو في النهاية كما يقول بنروز رئيس الجامعة الأمريكية أيضاً: «أثمن

الوسائل هي التي استطاع المبشرون أن يلجؤوا إليها في سعيهم لتنصير سوريا

ولبنان» .

ومن يقرأ تاريخ الأحزاب والحركات الهدامة في العالم الإسلامي في عصرنا

الحاضر يلمس دوراً خطيراً للتعليم الأجنبي في تشكيل هذه الحركات وتوجيهها.

والمدرسة تبدأ بالطفل خاصة حين يغفل الأبوان عن دورهم في المتابعة، ثم

تجعل منها قنطرة إلى أسرته، وهؤلاء تعد لهم المدرسة قائمة طويلة من المناسبات

والحجج التي تبدو طبيعية لتوثيق العلاقات، كمجلس الآباء والحفلات الدورية

وغيرها من المناسبات، ومن ثم يفتح الباب أمام الكنيسة لتمارس دورها في ربط

هؤلاء بحياة الكنيسة، فتشملهم بمجموعة جديدة من الخدمات التعليمية غير النظامية،

مثل مدارس القرى، وبرامج التربية الشعبية ومحو الأمية، وبرامج التدريب

المهني والحرفي، وتعليم اللغات، والتدريب على الحاسب الآلي، ومجالات

السياحة وأعمال مكاتب الطيران، ومراكز تنمية المجتمع، ومراكز رعاية الطفولة

و ... وتحاول هذه المدارس مع من يلتحق بها أن تعزله عن التأثر بعقيدته الإسلامية

ومحيطه الكبير، تارة بإثارة الشكوك. وأخرى بأساليب السخرية المقنعة والظاهرة..

والتهوين من شأن الإسلام..! وإذا لم يخضع التلميذ وأبدى بعض التمسك كان

في انتظاره حزمة من عمليات الحرب النفسية الكفيلة بأحد أمرين: ترك المدرسة،

أو عقدة الانطواء؛ ومن ثم تنجح المدرسة في تصوير المتمسك بإسلامه لباقي

زملائه على أنه أحد اثنين: إما غير ناجح، وإما معقّد.

ثم تكتمل الحلقة حين يلتحق الطالب بإحدى جامعات الغرب أو فروعها في

بلادنا؛ فيجد عشرات من الكتب والرسائل التي تطعن في الإسلام طعناً صريحاً،

وتخلط بين الإسلام وما سواه باسم الثقافة، ويجد الزوجة التي تكمل معه المشوار،

والأستاذ الذي يأخذ بيده إلى آفاق أخرى، ولهذا لا يعجب المرء بعدها حين يسمع

عن تنصر بعض هؤلاء سراً أو علناً.

وكما تعمل المدارس التبشيرية على ترسيخ قيم الكنيسة التي تنتمي إليها،

تعمل المدارس العلمانية على ترسيخ القيم المادية من خلال منظومتها التعليمية؛

حيث تطبق المعايير الرأسمالية البحتة على كل شيء بدءاً من عمل المدرسين

وأدائهم، وانتهاء بتقييم الطلاب وتحديد أولويات حياتهم.

ومن هنا يزول عجب المرء حين يجد هذا الهجوم الواسع على الإسلام من

طوائف واسعة من بني جلدتنا ممن يتحدثون بألسنتنا، وحين يجد الدأب في العمل

لخدمة المصالح الغربية على حساب الأمة، حين يعلم المرء أن هذا النتاج هو

حصيلة قرن ونصف من العمل الدؤوب في مجال التنشئة.

ومعلوم أن الإنسان يحن إلى طفولته وصباه، ومكوناتهما هي أوتار الحس في

بقية مراحل العمر.. وتعلق قلب المتعلم في هذه المدارس يعد مقدمة لما بعده.

فلا عجب أن يُضمَّن الشعر والنثر عقائد أهل الكتاب، ولا غرابة أن تستورد

قوانينهم وأفكارهم حتى بعد إحالتها للتقاعد في بلادها، أو أن يصبح إعلامنا بوقاً

لترديد ما يشتهون، ومن لم يدركه أثر التعليم مباشرة أدركته توابعه!

وبهذا نجد أن أثر التعليم الأجنبي لا يقف عند حد فرد أو مجموعة وإنما تسري

سمومه في جسد الأمة وهي تظن أنها تتداوى. والمتأمل في تاريخ بعض

الشخصيات التي تربت في هذه المحاضن يجد أن شؤم التحاق فرد ربما عاد على

الأمة كلها بالضرر الكبير، ولدينا أمثلة من حاضرنا تتمثل في أتاتورك رغم أصوله

المتصلة باليهود؛ لكن طبيعة نشأته وتكوينه هو ومجموعة الاتحاد والترقي هي التي

حركته في الاتجاه الذي سار فيه، و «سنجور» حاكم السنغال السابق الذي

نصَّرته مدرسته بينما لا يزال أهله مسلمين وتولت إعداده ليتولى حكم دولة مسلمة

بنسبة 99% ويحارب فيها الإسلام، وبعد أن افتضح أمره تفرغ للتنصير، وأقيمت

جامعة تحمل اسمه لإعداد المنصِّرين في بلاد المسلمين.

وقل ما هو أعظم من ذلك عن إسماعيل باشا خديوي مصر الذي عاد مع أول

بعثة من فرنسا وهو يحلم بتحويل مصر إلى قطعة من فرنسا، ودوره الخطير في

تمكين أعضاء المحفل الماسوني من حكم مصر، والسيطرة على قطاع واسع من

المنطقة العربية، والذي أغدق الهبات على بعثات التنصير الفرنسية المتعاونة مع

الاستعمار من الصين إلى أعماق أفريقيا، وقد ورد في رسالة مسيو «بوجاد»

قنصل فرنسا في مصر في 2/5/1869م: «أن إسماعيل منح رئيس أساقفة اللاتين

بمصر قطعة أرض مساحتها: 3500 ذراع في موضع حسن جداً (150 ألف

فرنك ذهب) ، ومنح الراهبات إعانة سنوية (6 آلاف فرنك ذهب) وهبة (200

ألف فرنك) ، ومنح أساقفة اللاتين منحة أخرى هي أرض مساحتها 6 آلاف

ذراع» [4] . وكانت منذ عام 1867م قد بدأت مدارس الاستعمار الفرنسي والبريطاني

في العمل في مصر، وجميع عملاء الغرب من رجال الخديوي إسماعيل إنما

صنعتهم هذه المدارس.

لقد كان شؤم هؤلاء الثلاثة على عقيدة الأمة وعلى عافيتها أمراً لا يمكن

الإحاطة بمداه؛ لأن تبعاته ما زالت تتوالى علينا، وقد كان جهدهم ناتجاً عن عقيدة

نجح التعليم في تشكيلهم عليها.

ومن العجيب أن نصارى البلاد العربية أبوا أن يلحقوا أولادهم بالمدارس

النصرانية الوافدة وهم أهل دين واحد غيرة على مذاهبهم وحرصاً على أبنائهم،

فأقاموا مدارس خاصة بهم. أما المسلمون فلم تأنف منهم طائفة أن يسلِّموا أولادهم

إلى هؤلاء وهؤلاء! يقول المبشر «تكلى» : «يجب أن نشجع إنشاء المدارس،

وأن نشجع على الأخص التعليم الغربي. إن كثيراً من المسلمين قد زعزع اعتقادهم

حينما تعلموا اللغة الإنجليزية. إن الكتب المدرسية الغربية تجعل الاعتقاد بكتاب

شرقي أمراً صعباً جداً» .

لقد حفلت مناهج التعليم الغربي بجهود المستشرقين في الطعن في الإسلام،

وتزيين ما عليه عقيدتهم من باطل، وتحسين مناهجهم وسيرتهم، والفتنة بتاريخهم

والتأسي بعظمائهم، والفخر بما حققته مدنيتهم من تقدم مادي، والتنكر لكل ما هو

إسلامي وعربي.. كل ذلك ما كان ليبلغ مداه لولا التأسيس لها عقيدياً؛ ولهذا نجد

أن كثيراً من أفكارهم الشاذة قد انتقلت من كتبهم إلى بطون الدساتير والقوانين

واللوائح العربية، وعبرت عن أفكارهم مئات الصحف والإذاعات، وترجمت إلى

آلاف الكتب والرسائل، وأقيم من أجلها ما لا يحصى من المؤتمرات والندوات

والجمعيات والهيئات، كل ذلك لم يكن ليتحقق لولا الغزو العقدي الذي مني به طائفة

من المسلمين خلال تربيتهم في هذه المدارس، ويسهرون على نشره ونصره بين

مجتمعاتهم اليوم.

الخطر التعليمي والتربوي:

إن ما قام به التعليم الأجنبي ابتداء أشبه بإنشاء جدول صغير خاص به،

وتحكم فيما يدخل إلى هذا الجدول كما تحكم في مصبه؛ يسقي منه من شاء، ثم أخذ

بتوسيع ذلك الجدول شيئاً فشيئاً، ثم عمد مع الوقت إلى تحويل مجرى الماء

الأساسي إلى جدوله لينبع منه ويصب في مصبه هو.

إن من أخطر ما قامت به المدارس الأجنبية أنها استطاعت أن تضع المعايير

التي تقاس بها جودة التعليم وفقاً لمآربها هي، مع أن معايير القياس في تجردها فيها

جزء مطلق وجزء آخر تحكمه عقيدة المجتمع، لكن الذي حدث أن المدارس

فرضت ذلك من خلال طبع صورة الانبهار بها لدى العقل العربي ابتداء، ثم بتمكين

خريجيها من توجيه المجتمعات لاحقاً؛ مما أدى إلى فرض صيغة مأزومة للمعايير

التي تحكم سير العملية التعليمية الوطنية بعد أن أحاطتها بسياج من الجمود والتخلف

والتبعية.

ولو تفحصنا نظرة التربويين إلى عملية التربية لوجدنا أن الأمم الغربية كان

لديها حساسية من استعارة معايير خارجة عن المجتمع وظروفه وأهدافه العليا حتى

وإن اتفق الطرفان في جزء كبير من العقيدة واللغة والتاريخ. يقول كونانت أستاذ

التربية الأمريكي الشهير في كتابه: (التربية والحرية) : «إن عملية التربية

ليست عملية تعاط وبيع وشراء، وليست بضاعة تصدر إلى الخارج أو تستورد إلى

الداخل، إننا في فترات من التاريخ خسرنا أكثر مما ربحنا باستيراد نظرية التعليم

الإنكليزية والأوروبية إلى بلادنا الأمريكية» [5] .

إن استيراد نظريات التربية الغربية ومعاييرها لا يناسب حال الإنسان المسلم

ولا تطلعاته خاصة مع وضوح المفاصلة التي جاء بها القرآن وامتلاء التاريخ

بصفحات الكيد والمكر؛ فإذا كانت التربية تعني سعي الأمة للاحتفاظ بنظرية سبق

أن آمنت بها، وأقامت عليها حياتها، وجاهدت في سبيل تخليدها.. بنقلها إلى

الأجيال القادمة.

ومن ثم فهي الجهد الذي يقوم به آباء شعب ومربوه لإنشاء الأجيال القادمة

على أساس نظرية الحياة التي يؤمنون بها. ووظيفة المدرسة أن تمنح القوى

الروحية التي تتصل بنظرية الحياة، وتربي التلميذ تربية تمكنه من الاحتفاظ بحياة

الشعب وتمديدها إلى الأمام « [6] .

ومن خلال هذه الرؤية التي تزداد خصوصية ووضوحاً إذا ما تعلق الأمر

بخير أمة أخرجت للناس نرى أن خطر التعليم الأجنبي لم يقتصر في مزاحمته

تعليمنا الداخلي الذي أريد له التخلف والقصور، وإنما في كونه أصبح هو الذي

يمسك له البوصلة التي تحدد له اتجاهاته ومساراته، وقيمه ومعاييره، وأهدافه

ووسائله، وهنا مكمن الداء في أن الاختراق نجح بإشعاعاته أن يقلب كيميائية التعليم

في عدد من بلادنا إلى خلايا سرطانية تتغذى بغذاء الجسد وتعمل في ذات اللحظة

على هدمه.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015