مجله البيان (صفحة 422)

وسائل الغزو الفكرى فى دراسة التاريخ (1)

وسائل الغزو الفكري في دراسة التاريخ

محمد بن صامل السلمي

مقدمة:

قال في لسان العرب: (مادة غزا) : غزا الشيء غزواً، أراده وطلبه،

والغِزوة - بالكسر - ما غُزي وطلب، ومغزى الكلام مقصده، وعرفت ما يُغزى

من هذا الكلام: أي ما يراد منه، والغزو: القصد.

وبهذا تنحصر معاني هذه المادة: في الطلب والقصد والإرادة ومعرفة ما يراد، والغزو الفكري - بهذا التركيب الإضافي -: مصطلح معاصر يعني البحث عن

كيفية تأثر المسلمين بأفكار وخطط أعدائهم التي تضاد الشريعة الإسلامية، وتسعى

للقضاء عليها، ولتحلل المسلمين منها ذاتياً دون استخدام القوة المباشرة.

يقول الدكتور عبد الستار السعيد: (الغزو الفكري تعبير دقيق بارع يصور

خطورة الآثار الفكرية التي يستهين بها كثير من الناس لأنها تمضي بينهم في صمت

ونعومة مع أنها حرب ضروس.. لا تضع أوزارها حتى تترك ضحاياها بين أسير

أو قتيل أو مسيخ كحرب السلاح أو هي أشد فتكاً) [1] . وذلك أن الغزو العسكري

واحتلال الأرض يثير في الطرف المقابل الحمية والنخوة وروح المقاومة ورد

العدوان، في حين أن الغزو عن طريق الفكر لا يثير شيئاً من هذا عند كثير من

الناس؛ لأنه يتودد إلى النفس، ويدخل إليها من عدة مداخل تناسبها: مداخل

الشبهات من دعاوى التقدم والتطور ومسايرة ركب الحضارة والمدنية ... الخ. أو

مداخل الشهوات من حب الأموال والسلطة والجاه وحب الظهور، وتحقيق الرغبات

الهابطة من الجنس والشراب وغيرها من ألوان الفساد والانحراف الخلقي والسلوكي

وبذلك يسهل قياده، ويضمن تحوله واستمراره ذاتياً، من داخل نفسه، بل قد يصبح

داعية لمبادئ العدو وأفكاره، وهذه فتنة من أعظم الفتن، وقد قال - سبحانه وتعالى-: ... [يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وكُفْرٌ بِهِ والْمَسْجِدِ الحَرَامِ وإخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ والْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ القَتْلِ ولا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إنِ اسْتَطَاعُوا] [البقرة: 217] .

إن الصراع بين المسلمين والكفار دائم ومستمر، وقد جرب عدونا سلاح القوة

مراراً، فما أجدى له نفعاً، مما جعل قادتهم يفكرون في وسيلة أخرى وميدان آخر

للصراع، ولقد أدركوا أن السر في صلابة المسلمين وتفوقهم هو في إسلامهم؛ ولذا

حولوا ميدان الصراع من حرب المسلمين ذاتهم إلى حرب العقيدة الإسلامية، وبهذا

تغيرت ملامح المعركة، فلم يعد ميدانها الرئيسي الأرض ولكنه الأدمغة والعقول،

ولم تعد وسيلتها السيف بل الفكر، ولم تعد جيوشها الأساطيل والفرق العسكرية

ولكنها المؤسسات والمناهج بالدرجة الأولى [2] .

والذي يعنينا في هذا المقال هو البحث عن كيفية وقوع الغزو الفكري في علم

التاريخ الإسلامي، وكيف تأثرت دراسة تاريخنا بمناهج وخطط وأفكار أعدائنا؟ .

وسائل الغزو الفكري في تشويه التاريخ:

لقد تعرض التاريخ الإسلامي لأكبر قدر من الغزو الفكري، وركز الأعداء

على تشويه تاريخ الأمة الإسلامية، ذلك أن التاريخ - بالنسبة لأية أمة - هو مجال

اعتزازها وموطن القدوة فيها. فإذا كان تاريخ الأمة حافلاً بالأمجاد - كما هو واقع

تاريخ المسلمين - فإنه بلا شك سيكون باعثاً لهم على النهوض والتمسك بالمبادئ

والآداب والقيم التي جعلت الأجداد يحرزون هذا المجد والفخار، ويصلون إلى هذا

المستوى الراقي في بناء الأمة والحضارة، ويبحثون عن السر الذي رفعهم إلى هذا

المستوى، وأنه إيمانهم بالله وتمسكهم بدينهم وجهادهم في سبيل الله ومن ثم يسعون

جاهدين لانتشال أنفسهم من الوضع المتردي الذي وصلوا إليه، وأمامهم الصورة

الجلية. والقدوة الممتازة في شخص رسولنا -صلى الله عليه وسلم- الذي أخرج الله

به الأمة من الظلمات إلى النور، ومن الشرك والأهواء وتحكم الطواغيت إلى

التوحيد والعدل والأمن والطمأنينة، ومن الفقر وضيق الحال والشتات إلى الغنى

وسعة الدنيا والآخرة والاعتصام بحبل الله. وكذا أصحابه - رضي الله عنهم -

الذين حملوا الراية وآزروه ونصروه، وأيضاً بقية الأجيال من السلف الصالح من

العلماء والزعماء والقادة والمصلحين والدعاة إلى الحق.

والنماذج الممتازة في التاريخ الصالحة للقدوة ليسوا أفراداً يمكن حصرهم،

ولكنهم أجيال وأجيال، في مجالات الحياة كافة، العسكرية والسياسية والتربوية

والعلمية والاقتصادية والاجتماعية وهذا لا يوجد في تاريخ أية أمة أخرى لما لهذه

الأمة من خاصية الاستمساك بالمنهج الرباني.

والتاريخ الإسلامي هو الذي يسجل هذه الصور السامقة ويوضح دور الأمة

وأثرها وفضلها على البشرية، ولذلك لا نستغرب إذا ركز الأعداء في غزوهم

الفكري على التاريخ الإسلامي حتى ناله كثير من التشويه والتحريف والتجهيل

والتزييف والتفسير الخاطئ لأحداثه ومزاحمته بتواريخ الأمم الجاهلية حتى يبدو

حلقة صغيرة أو كماً مهملاً في تاريخ البشرية.

ولقد قام على تشويه التاريخ الإسلامي في العصر الحديث جيش بل جيوش

من الاستشراق والتنصير ودوائر البحث ومكاتب المخابرات في الدول الغربية،

واستطاعوا أن يجندوا مجموعة من ضعاف النفوس والمغرورين والجهلة وضحايا

الغزو الفكري في العالم الإسلامي لمساعدتهم ونشر أفكارهم بين المسلمين.

ونذكر فيما يلي بعض الوسائل التي استخدموها:

1- اختلاق الأخبار وإبراز المثالب:

وهذه أولى الوسائل التي استخدمها المستشرقون والمنصرون لتشويه صورة

الحياة الإسلامية، وعقيدة المسلمين وسيرة رسولهم، -صلى الله عليه وسلم- حتى

ينفّروا أبناء جلدتهم من (الدين الإسلامي، ويصورون المسلمين بأنهم وحوش وسفاكو دماء وأنهم يعيشون حياة تخلف وهمجية، ويضعون قصصاً وحكايات تؤيد ما يقولون، كما أنهم يسعون إلى تسقط الأخطاء وجمع المثالب وإبرازها على أنها الصورة المعبرة عن تاريخ المسلمين، وهذه الوسيلة كانت غالبة على الكتابات الأولى للمستشرقين الذين كتبوا عن الدين الإسلامي وعلومه وسيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وتاريخ المسلمين، سواء كانت مؤلفات أو مقالات في المجلات التي أنشأها المستشرقون في مختلفي الدول الأوربية (هولندا - روسيا - ألمانيا - بريطانيا - فرنسا - أمريكا - إيطاليا) أو في دوائر المعارف العامة.

وقد قل استخدام هذه الوسيلة في الكتابات المؤخرة لا إنصافاً للحقيقة وإنما

تغييراً في الخطة لأن الوسيلة الأولى لم تعد صالحة ولا مقبولة حتى في المجتمعات

الغربية.

ومَن اطلع على كتب القوم وما تكتبه المجلات الصادرة عنهم ودوائر المعارف

يجد ذلك واضحاً، وهذا مثل واحد من أخف الأمثلة (كارل بروكلمان) - المستشرق

الألماني الذي يعتبر حجة عندهم بل عند بعض الباحثين المسلمين، ويعتبرونه من

المعتدلين وقد يبالغ البعض فيعتبره من المنصفين في كتابه) تاريخ الشعوب

الإسلامية (- ولكن إذا قرأت في هذا الكتاب رأيت العجب العجاب ورأيت ... التشويه , بل رأيت الجهل الثقيل ورأيت الكذب الصريح. يقول في (ص31) : (الكعبة بناء ذو أربع زوايا يحتضن في إحداها الحجر الأسود ولعله أقدم وثن [3] عُبد في تلك الديار، وكانت الكعبة تضم تمثال الإله القمري هُبَل، بالإضافة إلى الآلهة الثلاثة المعبودة (اللات والعُزى ومناة)) .

وقوله هذا إما جهل حقيقي وإما كذب وتزوير ولا أظنه يجهل موقع العزى

واللات ومناة وهو يبحث في كتب الجغرافيا والبلدانيات الإسلامية التي تحدد مواقع

تلك الأصنام.

وفي (ص85) وهو يتحدث عن مسيلمة وسجاح يقول -: (ففيما كان محمد

لايزال على قيد الحياة ظهر في تلك البلاد رجل اسمه (مسلمة) وقد دعاه المسلمون

مسيلمة من باب التصغير الذي يقصد به التحقير، وادعى النبوة) .

وهذه فرية ما سبقه إليها أحد ولا ضير أن ينتصر للكذاب المتنبئ؛ لأن الكفر

ملة واحدة، ومعلوم عناية العرب بعلم الأنساب وبالأسماء وكل ما لدينا من كتب

النسب والتراجم لا تذكره إلا باسم مسيلمة فمن أين جاء هذا الأفاك بهذا الاسم؛ وقد

جاء خبره واسمه في صحيح البخاري [4] من قول - الذي لا ينطق عن الهوى -

صلى الله عليه وسلم- - فيما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول

الله -صلى الله عليه وسلم-:

(بينما أنا نائم رأيت في يديَّ سوارين من ذهب فأهمني شأنهما فأوحي ... إليَّ في المنام أن أنفخهما فنفختهما فطارا، فأوَّلتهما كذابين يخرجان بعدي أحدهما العنسي والآخر مسيلمة) .

كما أن مسيلمة قد كتب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- كتاباً يقول فيه: من

مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله [5] فهو أعلم باسمه من هذا المستشرق، ثم

إن الاسم - سواء كان مكبراً أو مصغراً - لا يحكي الحقيقة ولا يحكم على الشخص

من خلاله، وإنما الحقائق والأحكام من المواقف والإيمان أو الكفر.

والحقيقة أن ما كتبه عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وتشريعات الإسلام

وتاريخ الخلفاء الراشدين يمثل قمة السوء والحقد، فقد رمى النبي -صلى الله عليه

وسلم- بكل نقيصة، وقال عن الوحي إنه حالة من الصرع والهلوسة، وقال عن

وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- إنه بسبب الحياة الزوجية الواسعة.

وكل الشعائر الإسلامية مقتبسة - في نظره - من اليهود أو النصارى أو

الهنود أو الفرس، ويدافع عن اليهود وينتصر لهم ويرى أن النبي -صلى الله عليه

وسلم- ظلمهم، بل ينكر أصل النبوة فيقول: (نضجت في نفسه الفكرة أنه مدعو

إلى أداء هذه الرسالة) ! [6] . ويقول في نفس الصفحة: (أعلن ما (ظن) أنه قد

سمعه كوحي من عند الله) ، ويقول عن عائشة - رضي الله عنها -: (أرملة النبي

الشابة المحبة للفتنة) [7] ، ويتبنى آراء الشيعة في القرآن وأنه محرف [8] ...

إلى غير ذلك من الترهات المبنية على الكذب والافتراء.

وإن من وسائلهم أن ينقل بعضهم عن بعض ويرددون الفكرة الواحدة في

مجموعة من الكتب والمقالات حتى إذا كثر القول بها ظُن أنها حقيقة لا تقبل النقاش.

* يتبع *

طور بواسطة نورين ميديا © 2015