مجله البيان (صفحة 4216)

ملفات

مناهجنا.. آخر الحصون

مناهج التعليم وخطيئة التبديل

محمد أحمد منصور

مع أن قضية تغيير المناهج التعليمية في المنطقة الإسلامية لم تفتر منذ معاهدة

كامب ديفيد، مروراً باتفاقيات مدريد وما تلاها، إلا أنها طفت على السطح

وازدادت زخماً في ظل أحداث سبتمبر الشهيرة، وذلك من خلال الربط الأمريكي

بين المناهج التعليمية المقررة في عدد من الدول من بينها مصر والسعودية

وباكستان وبين ما تسميه الولايات المتحدة إرهاباً، وزاد حجم التركيز خاصة على

التعليم الديني، ورأت الدول الغربية الفرصة مناسبة من أجل إجراء عمليات تغيير

واسعة في المناهج وفقاً لما كانت تطالب به تلك الدول سراً من قبل. وقد رأينا

بعض الأقلام التي تتكلم بكلامنا كيف قلبت الأمور في الوقت الذي انكشف المستور،

وبان وجه العداء وهدفه.

وازدادت مطالب الدول الغربية حدة وصراحة بتغيير المناهج، والتلويح

بالاتهام بالمروق في وجه الدول التي تأبى التغيير.

لقد أصبح جلياً أن قضية المناهج التعليمية لم تعد شأناً داخلياً ترتبه الحكومات

متى وكيف شاءت، وتهمله أو تؤجله متى فترت، وإنما أصبحت شأناً عالمياً في

ظل ثقافة العولمة وبفعل أدواتها، وأصبحت في منطقتنا العربية والإسلامية قضية

ذات أبعاد ثقافية واقتصادية وسياسية بل وربما عسكرية إن لزم الأمر.

صحيح أنها لم تكن المرة الأولى التي تكتسب فيها هذه الأبعاد لكنها هذه المرة

كانت الأكثر وضوحاً، والتي حشدت كل الأبعاد فيها دفعة واحدة، بحيث لم تعد

مسألة تغيير المناهج التعليمية وفق الجداول المطلوبة شأناً داخلياً بل أصبح إدارة

عالمية وبخاصة في منطقة الشرق الأوسط.

والأبعاد المختلفة: سياسية يطرحها مندوبو الدول على طاولة المفاوضات.

واقتصادية تشترطها الجهات المانحة على تعدد انتماءاتها من أجل منح قروض

ومعونات أو إسقاط بعض الديون [1] .

ودينية تطرح ضمن أوراق حوار الأديان، بل تعدى الأمر ذلك إلى تلويح

بالقوة من أجل تغيير المناهج وفقاً للهوى الأمريكي، وربما اكتست ثوب البحث

العلمي حيناً آخر، فتقام من أجلها المؤسسات وتخصص لها الموازنات.

لقد عملت منظمة اليونسكو من قبل في هذا المجال، لكنه لم يكن عملاً ملزماً

للحكومات لوجود الصراع القطبي، لكنه مع تغير معادلة النظام الدولي بدأ الأمر

يأخذ شكل الإلزام.

والأمر كما هو مطروح ضمن برامج المساعدات والمنح، مطروح أيضاً

ضمن بنود اتفاقيات السلام مع اليهود، ويطالب به اليهود باستمرار ضمن مشروع

الشرق أوسطية.

ومطروح أيضاً ضمن شروط البنك الدولي لمساعدة الدول في برامج التنمية،

ومطروح في مباحثات الشراكة البحر متوسطية، واللجان البحثية المشتركة، إلى

جانب عشرات أو ربما مئات الندوات والمؤتمرات المختلفة المشارب والتوجهات

التي تستعلن حيناً وتستخفي حيناً، وتُجمل حينا وتُفصل حيناً.

كما لم يعد سراً أن تغيير المناهج وفقاً للمنظور العولمي مدرجة ضمن البنود

الثقافية لاتفاقية تحرير التجارة العالمية التي تتبناها الدول الكبرى، والتي يتم

مناقشتها باستمرار في المنتديات الاقتصادية التي أصبحت تعقد بصورة منتظمة؛

وفي أحد هذه المؤتمرات قال وزير خارجية مصر السابق (عمرو موسى) : «إن

الوقت قد حان لوضع تصور جديد لمنطقة الشرق الأوسط في حقبة ما بعد انتهاء

الصراع العربي الإسرائيلي الذي أعاق المنطقة بصورة كبيرة عن تحقيق التقدم» ،

ويضيف: «إن عنوان منتدى دافوس للعام الحالي:» هو بدايات جديدة «، لذلك

لا بد من إعداد الأرضية المناسبة للمفكرين والمثقفين وأصحاب الرأي والشعوب

للإسهام في وضع تصور جديد لمنطقة الشرق الأوسط» ومن ثم أصبحنا أمام

عشرات الطرق التي تؤدي إلى تحفيز الدول أو دفعها في اتجاه علمنة أو عولمة

المناهج التعليمية، ومن لم تُجْدِ معه هذه الأساليب فهناك أساليب أخرى ليست عن

واقعنا المشهود ببعيدة.

الخطير في الأمر أن المطالب الغربية الأخيرة صادفت قلباً عربياً خالياً بل

مخلىً لهذا الغرض، وقراراً مسكوناً بحلم التغيير، فسهل لهم ما أرادوا وبصورة

فجة في عدد من التجارب كما حدث في باكستان واليمن والأردن مؤخراً، وقد

اعترف سياسيون في الأردن واليمن أن عملية تبديل المناهج تخضع لإشراف البنك

الدولي.

لقد جاء صوت التغيير هذه المرة أكثر وضوحاً وأعلى صوتاً وأكثر جرأة،

وطاول مرتقى صعباً من مكنون بيضة التعليم الإسلامي؛ إذ فُتح باب التغيير على

مصراعيه، وشمل مجاله زوايا كانت بادي الرأي في مأمن من أن يتطرق لها

الحديث، وكانت الطامة في بوادر الاستجابة التي أبداها البعض هنا أو هناك، على

طريقة و «بيدي لا بيد عمرو» «عض قلبي ولا تعض رغيفي» ، والرغيف في

التعبير هنا حمال أوجه لما يكون من نصيب أو عرض زائل من متاع الدنيا.

وهنا تجدر المقارنة بين التطوير الذي يجري هنا والذي يجري في إسرائيل؛

فالتعليم في إسرائيل يسير وفق الخط البياني المرسوم له منذ قيام الدولة لا يخطئ

قدر أنملة، بل يتقدم على المرسوم والمستهدف في قفزات تطويرية ضمنت للدولة

اللقيطة التفوق العلمي والتقني على مجموع الدول العربية. وفي الوقت الذي يطالَبُ

فيه المسلمون بتصفية المدارس الدينية يزداد التعليم الديني في إسرائيل رواجاً

وانتشاراً ويحظى أصحابه بمزايا عديدة تمنحها لهم الدولة لا يحظى بها خريج التعليم

العلماني هناك، على أن ما يسمى بالتعليم العلماني هناك ما زال يحمل بوضوح

الحلم اليهودي بأفكاره وقيمه التلمودية وأساطيره الصهيونية، وتاريخه التوراتي.

تبديل المناهج:

تتم عملية التغيير تحت مسميات براقة يجعل منها صنم عجوة يقدس حيناً

وتنزع القداسة عن سواه، ثم لا يلبث أن يؤكل أمام جوعة من الجوعات ليصنع

صنماً جديداً مثل ألفاظ التطوير والتنمية والثورة العلمية؛ فالعملية لا بد أن تتم

بأسماء براقة. والحقيقة أن التطوير لم يكن تطويراً بشهادات الواقع، واعترافات

المسؤولين، وتقويمات المتخصصين من أهل الشأن، وإنما هي واقعة ضمن التبديل،

بدلالته القرآنية.

أما لفظ «المنهج» فهو يتخطى حقيقة مادة المقرر التعليمي إلى خلفيات

العقدية والتربوية؛ لأن المنهج لا يحمل مادة معلوماتية مجردة، وإنما يحمل إلى

جانب حقائق العلم أو أغاليط التصور؛ منهجية الحكم، وأسلوب التعامل، وطريقة

الحياة.. وهذه التي يسعى الغرب إلى تغييرها، ومن ثم فإن حذف عبارة معينة من

منهج مقرر للدراسة قد لا تعني مجرد تغيير ألفاظ بغيرها فقط، ولكن تعني لوناً من

التحريف والتبديل الذي يراد به ما بعده، ومن هنا نجد أن عملية التبديل التي تمت

في المناهج إنما عمدت إلى طريقة بعينها، فقامت على طمسها بعناية يعوزها في

كثير من الأحيان اللياقة.

ولا يعني وصفنا له بالتبديل هنا أن الأصل سالم مبرأ.. لا! .. وإنما للإشارة

إلى أمر خطير هو أن التبديل إنما عمد إلى معاني الكمال فمحاها، وكثيراً ما أبقى

ما سواها، والتتبع لهذه المسألة أمر يطول، ولكن يمكن ببعض الأمثلة من النموذج

المصري بما يمثله من تجربة لها ريادتها وخبرتها في هذا المجال أن يطلع القارئ

الكريم على قدر العناية التي كانت تصفى بها مادة الإسلام من مقررات التعليم،

ربما للأمور التي ذكرناها وربما لمآرب أخرى.

تجربة التغيير في مصر:

بين عام 1979 إلى 1981 تغيرت مناهج التربية في مصر، مواد التاريخ

والقراءة، وحذفت كل النصوص التي تتعلق بالحروب بيننا وبين إسرائيل [2] .

ففي مقررات الثانوية العامة قررت هذه العبارة حول ردود الأفعال على

معاهدة السلام المصرية مع اليهود:

«رحبت جميع دول العالم المتحضرة باتفاقية السلام في هذه المنطقة الهامة

بالنسبة لدول العالم، أما الدول العربية التي عجزت عن فهم المتغيرات الدولية

واختلال ميزان القوى في العالم، فإنها لم ترحب بالاتفاقية» يعني سبب إحجام

العرب هو تخلفهم وضيق أفقهم فلم يقبلوا بهذا السلام، في حين أن الدول المتحضرة

هي التي استوعبت التطور الجديد «!

ثم تتابع التغيير بمعدل بطيء، حتى أواخر الثمانينيات.

ثم بدأت مرحلة جديدة في أواخر الثمانينيات بتولي الدكتور أحمد فتحي سرور

وهو قانوني تعلم في فرنسا حقيبة التعليم في مصر، فقام بقفزة واسعة في تصفية

المناهج وفقاً للمطالب الصهيونية، وكانت المرة الأولى منذ تمصير التعليم التي

يشرف على تغيير المناهج لجان أجنبية ضمن مراكز التطوير، ويشارك في وضعها

أسماء أجنبية.

ثم تسلم الحقيبة بعده د. حسين كامل بهاء الدين طبيب أطفال معروف

بعلمانيته الشديدة، فأكمل ما بدأه الدكتور سرور وكان من أعماله:

- تصفية مادة الدين تماماً من معاني العبودية وإبقاؤها في ثوب التعاليم

الأخلاقية والإرشادات التي تسير على الطريقة الفلسفية في الأخلاق، كما هو الحال

تماماً في الخطاب النصراني.

- زيادة جرعة الإفساد في مناهج اللغات، من خلال تضمين الكتب عبارات

ماجنة، وإشاعة حياة الرقص والاختلاط والموسيقى والغناء، وقد احتوت المناهج

الحديثة على عدد من المغنين، والشعراء والقصاصين الذين ألبسوا ثوب العالمية،

وقدموا للطلبة نماذج تحتذى للنجاح في الحياة العملية.

- تم تقرير مادة الثقافة الجنسية على طلبة وطالبات السنة الأولى والثانية من

المرحلة الثانوية أي في سن المراهقة، وقد أشار بعض الطلبة إلى أن طلبة السنة

الأولى لا ينتظرون حتى ينقلوا للسنة الثانية، وإنما يقومون باستعارة مقرر السنة

الثانية لقراءته! وقد أكدت الدراسات الاجتماعية إلى شيوع عدد من المنكرات

الشرعية من جراء شؤم هذه المادة ومنها انعدام الحياء وخصوصاً لدى النساء

كالحديث عن أدق قضايا الفراش على الملأ وفي المجالس العامة، والتي يستحيي

المرء العف في كثير من الأحيان أن يصرح بها حتى لزوجته أو الزوجة لزوجها،

ومنها انتشار ظاهرة الزنا المقنن المسمى زوراً بالزواج العرفي داخل دور العلم،

هذا فضلاً عن شيوع ثقافة العشق، إلى غير ذلك من زيادة في معدلات ألوان أخرى

من المعاصي والفواحش.

- تقرير اللغة الإنجليزية من السنة الأولى الابتدائية، أي أن الطالب سيتعلم

مبادئ اللغتين معاً، كما أن هناك توجهاً لتعميم سياسة المدارس التجريبية (اللغات

التابعة للوزارة) في تدريس شطر المواد أو غالبها باللغة الإنجليزية.

- السعي إلى إلغاء مادة الدين (التربية الإسلامية للمسلمين، والتربية

المسيحية للنصارى) وتقرير مادة الأخلاق والتي تختلط فيها نصوص الكتاب

والسنة، بعبارات التوراة والإنجيل، وأقوال الفلاسفة، وربما حوى نصوصاً من

التعاليم البوذية، ليصبح التعليم في مصر كما قال سعد زغلول عن الجامعة:» لا

دين لها إلا العلم «ليضع الرئيس الرتوش الأخيرة في شكل الدولة العلمانية.

- وتشهد هذه الأيام مرحلة جديدة من التغيير وتصفية المناهج، بل من

المتوقع في هذه المرحلة أن تتضمن الكتب ثقافة العولمة ومفاهيمها صراحة.

التغيير القادم في المناهج الذي بدأ الحديث عنه الشهر الماضي قبيل مؤتمر الدول

المانحة مباشرة من المتوقع أن يوظف كلية لصالح الرؤى الصهيونية، وقد سألت

الهيرالد تريبيون مستشاري التعليم المصريين عن شكل التغيير القادم في المناهج،

فقالوا: سنغير مناهج التربية والتعليم بما يعكس عملية السلام، وبما يزيل الكثير

من أسباب العداوة في الشرق الأوسط. وإننا نتساءل: أتحت شعار» التربية من

أجل السلام «، وهو الشعار الذي تسرب إلى مؤسساتنا التعليمية في ضوء التطبيع

مع اليهود، أم هو سلام آخر أبعد مدى؟ !

حقائق حول التطوير:

وهكذا كلما زاد الحديث في بلادنا عن التطوير أو قطع فيه شوط علمنا يقيناً

أن التعليم قد فقد من التطوير بنسبة ما تم من حديث؛ لأن بوصلة التطوير في بلادنا

لم تزل متوجهة عكس الاتجاه الصحيح، والمشكلة خلاف ما يخال المرء منا ليست

مادية إذ تشير تقارير البنك الدولي ومنظمة التربية والعلوم» اليونسكو «إلى أن

الدول العربية تنفق على التعليم مبالغ باهظة لا تقل عن التي تنفقها الولايات المتحدة

أو دول أوروبا واليابان، إلا أن الغرب ينهض بينما العرب يتراجعون؛ فالولايات

المتحدة الأميركية تنفق على التعليم 5. 5% من الناتج القومي الأميركي، وفي

الوقت الذي تصل فيه نسبة الإنفاق على التعليم في الدول العربية إلى 5. 8% من

الناتج القومي (مع الفارق بين الناتج القومي لدى الجانبين) ، واستبعاداً لفارق

الناتج القومي، فإن ما تنفقه مصر على كل 1000 طالب أكثر مما تنفقه الولايات

المتحدة على نفس العدد [3] .

وإذا أخذنا في الحسبان حجم النفقات الشعبية على التعليم علمنا حجم الكارثة؛

فالإحصاءات تشير إلى أن ما ينفقه المصريون على الدروس الخصوصية يصل إلى

4 مليارات جنيه في السنة لتقوية الضعف الراهن في أساليب التعليم داخل المدارس،

كما أن حجم المواد التي يدرسها طلاب التعليم في مصر أضعاف ما يدرسه الطالب

الأمريكي، وأن ما يقضيه الطلبة المصريون في المذاكرة يفوق أضعاف ما يقضيه

الطلبة الأمريكيون، وإذا ما قورنت بما يدرسه الطالب في اليابان أو سنغافورة

المتقدمتين تعليمياً؛ فالأمر يزداد فداحة.

ورغم هذا ما زال التطوير سائراً والتخلف سارٍياً.. رغم الإمكانيات الكبيرة

المتاحة لوزارة التعليم؛ إذ أصبحت من بين أهم الوزارات الأوْلى بالرعاية في

برنامج المعونة الأمريكية، وتعد أول وزارة أدخلت نظام الإدارة عن بعد بنظام

(الفيديو كونفرانس) ، إلى جانب العديد من المزايا المادية التي توفرت للوزارة ربما

لأول مرة في تاريخها، ومع هذا فالجميع متفقون على أن التعليم في بلادنا لم يزل

متخلفاً بمعدلات خطيرة؛ لأن التطوير باختصار وبشهادة القائمين عليه أنفسهم قد

نحا منحى بعيداً عن مصالح الأمة المسلمة؛ إذ إن قوة التعليم لا بد أن ترتكز إلى

عقيدة يدين بها المجتمع وسياسات هادفة ومناهج بانية بغض النظر عن حجم هذه

المناهج لدرجة أن أحد الأساتذة التربويين المتخصصين في التخطيط التربوي كتب

شهادته على برنامح التطوير تحت عنوان:» إنهم يخربون التعليم «.

نماذج من السياسات التعليمية المتخبطة:

وحتى يظهر قدر التخبط نعرض فقط لنموذحين مما يتم باسم التطوير الذي

يعاني منه الطلبة وأولياؤهم أشد معاناة، وتعاني من ورائه الأمة كلها:

* الأول خاص بالشهادة الابتدائية: فمنذ أكثر من عقد ألغي الصف السادس

من المرحلة الابتدائية، وحمّل عقل الطالب فاتورة هذا التقليص الذي تم باسم

تخفيف الأعباء عن ميزانية التعليم وتتبع خطى الدول المتقدمة! وإذا بنا نفاجَأ بعد

أربع سنوات فقط بإعلان يقول: إن التجربة قد أخفقت؛ لأنها أرهقت ذهن الطالب

دون أن تؤدي إلى تقوية مستواه. وعاد الحديث عن مزايا السنوات الست من جديد

وشق طريقه للتطبيق بعد ذلك بسنوات أربع أخرى.

* والثاني خاص بالشهادة الثانوية: ما زال نظام الثانوية يشهد تجريباً في

شكل الشهادة وطريقة الامتحانات منذ حوالي ثماني سنين، وفي كل عام تتراجع

الوزارة عن بعض قراراتها السابقة، مما يصيب أولياء الأمور بحالة من الدهشة

حين يتحول مستقبل أبنائهم إلى حقل تجارب لقرارات لم تأخذ حقها من التفكير

ودراسة الآثار المستقبلية قبل اعتمادها.

وقفات مع التطوير:

ولنؤكد أن هذين النموذجين يعبران تعبيراً صحيحاً عن مزاجية التطوير في

مجال التعليم نعرض لأهم خصائص هذا التطوير في عدة نقاط:

1 - كون التطوير جاء لتحقيق رغبات خارجية، من أجل تخدير الشعوب

الإسلامية وشغلها عن واقعها بالتفاهات، جعله لم يسر في الاتجاه الذي يطمح إليه

المجتمع؛ فعملية التطوير لم تنبع من اختيار المتخصصين ولا وفق إرادة شعبية،

فضلاً عن تعبيرها عن إرادة الأمة ومصالحها حتى يمكن القول بأن التطوير قد

انبثق ولو جزئياً من أرضية المجتمع، وإنما هو أمر عهد به غير متخصص إلى

غير مختص.

2 - إن تضخيم الجانب النظري في المواد الدراسية على حساب الجانب

التطبيقي العملي، فضلاً عن الجانب السلوكي العقدي، لا يخدم إلا مخططات اليهود

وغيرهم من أعداء الأمة الذين يرمون إلى جعل التعليم في بلادنا تعليماً نظرياً وليس

تعليماً تطبيقياً، وقد حذفت كثير من التجارب والتطبيقات العلمية من كتب الفيزياء

والكيمياء التي تنمي في الطالب روح البحث والتطوير، وحب الابتكار والإبداع،

أو التي تلفت نظره إلى الاستفادة من ظواهر الكون المحيطة به، وتسخير قوانينها

لخدمة الإسلام.

3 - زيادة الحشو في الكتب نظراً لأن التطوير كان يعني من قبل زيادة المادة

التعليمية فقد سعى إلى مضاعفة المقرارت الدراسية في التعليم العام والأزهري،

وبعد مضي عشر سنين نظراً لتبني التطوير لرؤية المناهج المخفضة فسوف تخضع

المناهج للاختزال والحذف. والخطير أن المعيار في الحالين لم يراعِ حقيقة النهضة

العلمية وسبلها؛ فالآن تجري مناقشة تخفيض المواد من الحشو بنسبة الثلث؛ فهل

سيكون هذا الحشو هو ما زيد في التطوير السابق، أم سيحذف ما تبقى من أبواب

وعبارات تشير ولو من بعيد إلى الإسلام والعروبة؟

4 - تفريغ المقررات من الموضوعات التي تعزز الروح الإسلامية، أما ما

يوجد فهو ما يعبر عن القيم الفردية التي لا تتعارض مع أهداف العلمنة، مع حشو

المناهج بمفاهيم الفكر الغربي، وما يتعلق به من مفاسد وسلبيات، وإشاعة للتفسخ

والانحلال.

5 - تعبئة المؤلفات بالقيم المادية التي تربط بين حركة الإنسان، وزيادة

الأفكار التي تدعو إلى الخرافة، كالتعامل مع العرافين الكهنة، ومعرفة الأبراج،

والحظ.

6 - إشاعة روح التفسخ والانحلال بين الأجيال، وقد لِيمَ أحد وزراء التعليم

في ذلك، فقال: سأجعلكم لا تفرقون بين البنت والولد.

7 - إذابة مفاهيم الولاء، وتشتيت نطاق الهوية؛ فنجد أن المقررات قلقة لا

ترسخ معنى معيناً للهوية ولا لوناً واحداً من ألوانها؛ وإنما نجد الهوية داخل

المقررات تتنوع وتتوزع توزعاً عجيباً جداً بين هوية فرعونية في المقام الأول،

عربية في المقام الثاني، إنسانية عالمية في المقام الثالث، إسلامية في المقام الرابع،

ثم تأتي الانتماءات الأخرى الشرق أوسطية، والبحر متوسطية، الأفريقية،

والمسيحية أخيراً لتزيد من تشتت الهوية، وهذا يؤدي بدوره وبمساعدة عوامل

أخرى ضمن المقررات مثل تكثيف دراسة اللغات الأجنبية، وزيادة التعبيرات

العامية في المقررات إلى قتل قضية الولاء والبراء لدى الشباب، ضمن شعار

التربية:» من أجل السلام «.

وأصبحت الهوية الإسلامية بعد أن كانت الأكثر حضوراً أصبحت هي الأقل

حضوراً. نعم! قد تفرض الوظيفة الحيوية لمصر أن تلعب دوراً على كل هذه

المستويات أو أغلبها؛ لكن شتان بين أن تلعب دوراً من منطلق العقيدة الأصلية

لأهل البلاد على كل هذه المجالات، وبين أن تصبح عقيدتها خليطاً من هذه الدوائر.

8 - أشار بعض الباحثين في مسألة التطوير إلى أن التطوير نتيجة لتبيته

بليل بعيداً عن مشورة المتخصصين ورأيهم، وبعيداً عن قياسات الرأي العام أن هذا

التطوير وقع في أخطاء فادحة لا يمكن أن تصدر عن جهات متخصصة قد أخذت

فرصتها من الوقت والتفكير لإقرار التغييرات.

9 - تركيز المقررات على الترويج لثقافة السلام وإقحام مفرداتها بأسلوب فج

ومثال ذلك ما جاء في مقرر الفصل الدراسي الثاني من مادة القراءة الصف الثاني

الابتدائي - أي بعد أن يتعلم الطفل القراءة مباشرة - ضمن موضوع (قرية السلام)

وهو موضوع يكاد يحتل نصف المقرر ويدور حول قصة ثلاثة جيران هم:

حمدان صاحب الأرض، وسمعان صاحب الساقية، وعواد صاحب البقرة،

وتحدثت عن الشيخ الذي يبدو أقرب إلى هيئة راهب نصراني جاء ليعظ سكان

القرية بأهمية السلام، وبعد أن ذهب إلى ثلاثتهم ووعظهم اكتشف الثلاثة أن الموانع

من التعاون هي عداوات تاريخية موروثة لا يعرفون عنها شيئاً، ولم يشارك في

صنعها أحد منهم، ومن ثم فالمصلحة تقتضي أن يتناسى الثلاثة العدوات التاريخية،

ويبدؤوا صفحة جديدة ليعمل الجميع في القرية» قرية السلام «كما سماها المؤلفون،

ويتقاسمون ثلاثتهم أرض حمدان العربي بالطبع؛ لأنهم تعاونوا جميعاً في زراعته!

حمدان» العربي «.. وسمعان» المسيحي «صاحب الساقية.. وعواد صاحب

البقرة الذي يوحي اسمه بفكرة العودة المقدسة لدى اليهود أصحاب البقرة، ولتكبر

ثقافة القرية مع الطفل ليتعامل من خلال رؤاها في القرية الأكبر الشرق الأوسط.

وقد وضعت هذه المادة في مؤخرة الفصل الدراسي الثاني لتظل راسخة في

ذهن الطفل، فمعلوم تربوياً أن معلومات هذه الفترة الدراسية من كل عام هي من

أكثر المعلومات رسوخاً في الذاكرة.

نماذج أخرى مما فعله التطوير:

التبديل الذي حدث للمناهج منذ أن شرع في التطوير يكاد لا يصدقه عقل كمّاً

وكيفاً؛ فكما عملت مقصات الرقيب عملها في كتب ولأبواب كاملة، عملت مناقيشه

داخل بقية الأبواب، ولم يدع الحذف كتاباً من الكتب حتى الرياضيات إلا وحذف

منها ما يذكِّر الطالب بدينه وتاريخه، ولو ذهبنا نستقصي لما أسعفنا المقام، ولهذا

نقدم نماذج تعبر عن حجم المصيبة التي رزئت بها الأمة في تربية أجيالها:

* فمن بين النماذج التي نزعت فيها جمل وعبارات:

1 - حذف حديث:» خيركم من تعلم القرآن وعلمه «من كتاب القراءة

للصف الأول الابتدائي.

2 - موضوع (أهلاً وسهلاً) حذف عبارة السلام عليكم، بعدما كانت العبارة

» إذا مررت بجماعة أقول لهم السلام عليكم «، حل محلها:» إذا مررت

بجماعة ألقي عليهم التحية «.

3 - موضوع: (الأصدقاء السعداء) الصف الثاني الابتدائي جاء فيه عبارة

» الخصام لا يحبه الله ولا يحبه رسول الله «، تم حذف جملة:» ولا يحبه رسول

الله «.

4 - في الصف الثالث في موضوع: (النظافة من الإيمان) حذف منه

حديث الرسول صلى الله عليه وسلم:» تسوكوا؛ فإن السواك مطهرة للفم مرضاة

للرب «، وحديث:» بركة الطعام الوضوء قبله وبعده «.

5 - ومن موضوع: (طبيب الأسنان) حذفت عبارة:» سوف ألتزم

بنصائح معلمنا في استعمال السواك مع كل صلاة «.

6 - موضوع (الشمس) حذفت عبارة:» التي تذكر بأوقات الصلاة «.

7 - ومن الصف الرابع من موضوع شجاعة مصرية عن حرب العاشر من

رمضان مع اليهود:» العدو المحتل كان اليهود احتلال الأراضي المصرية لا

أرضى به.. «.

كما حذفت عبارة:» ويرتبط العرب بالتاريخ واللغة والدين «.

* وحذفت عدة أناشيد كلها إسلامية من الصف الثالث، فعلى سبيل المثال

حذف نشيد الصلاة الذي أوله:

بني توضأ وقم للصلاه ... وصل لربك تكسب رضاه

ونشيد رباه الذي أوله:

رباه أنت خلقتني ... ومنحتني سر الحياة

* ومن بين الموضوعات الإسلامية والتربوية الأخرى التي حذفت بكاملها:

1 - موضوع (البطل الصغير) وهو موضوع يحث على الجهاد في سبيل

الله دفاعاً عن الإسلام ومن عباراته قول قائد الجيش:» إن جيشاً فيه مثل هذا

الغلام لا يمكن أن يهزم، ولا بد أن ينتصر بإذن الله «.

2 - موضوع (فاعل خير) : يحض الطلاب على إماطة الأذى عن الطريق.

3 - قصة الولد الشجاع: وهي تحكي القصة الشهيرة بين عبد الله بن الزبير

مع عمر بن الخطاب رضي الله عنهما. كما حذفت قصته أيضاً التي بعنوان:

» ذكاء وحسن تصرف «من الصف الثالث.

* ألحقت كتب الموضوع الواحد في مراحل التعليم الثانوي والأساسي مثل

كتاب عبقرية عمر بكتب القراءة لضغط النفقات؛ بينما بقيت كتب الموضوع الواحد

الخاصة باللغة الإنجليزية رغم أن تكاليفها المالية أكبر لطباعتها الفاخرة وصورها

الملونة، أما مقررات الموضوع الواحد في اللغة العربية فغيرت تماماً بحجة أن

دراستها تثير فتنة طائفية.

* تم حذف اسم فلسطين من الخرائط واستبدالها باسم إسرائيل، في الوقت

الذي يرفع فيه من شأن اليهود وتخفى فيه سوءاتهم وعدوانهم المستمر على ديارنا،

وإلغاء موضوعات الجهاد والتضحية والشجاعة وغيرها مما ورد في الآيات القرآنية

والأحاديث النبوية وسير الأبطال.

* من بين المواضيع التي قررت بدلاً عن الموضوعات المحذوفة: موضوع

(التاجر والعفريت) للصف الخامس الابتدائي، وهي مقتبسة من قصص ألف ليلة

وليلة، وموضوع بعنوان: (نجيب محفوظ وجائزة نوبل) للصف الأول الإعدادي،

وموضوع آخر له بعنوان: (أنا ابن حضارتين) للصف الثالث الإعدادي.

* أما بالنسبة للتاريخ فإنا نجد أن الطالب أصبح لا يدرس من تاريخ أمته إلا

قشوراً شوهاء:

فتلميذ المرحلة الابتدائية لا يدرس من تاريخه الإسلامي إلا بعثة الرسول صلى

الله عليه وسلم ونشر الإسلام، ويتوقف الأمر على ذلك دون ذكر للغزوات التي

حدثت في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، اللهم إلا ذكراً عابراً في قصة عبد

الرحمن بن عوف.

ويستمر الحال خلال المرحلة الإعدادية، فلا يأخذ من التاريخ الإسلامي إلا

نشأة بعض الدول مثل نشأة الدولة الإخشيدية، ثم نشأة الدولة الأيوبية، ثم نشأة

الدولة المملوكية، ولا يعرف بعد ذلك عن هذه الدول أي شيء.

ثم لا يدرس الطالب الملتحق بالقسم العلمي من التاريخ الإسلامي إلا ما سبق

ذكره في الصف الثاني الإعدادي فقط؛ إذ يتم التركيز على التاريخ الفرعوني

والبطلمي والروماني، خلال مراحل التعليم (الرابع الابتدائي، الخامس الابتدائي،

الأول الإعدادي، الأول الثانوي) .

* أما عن كتب اللغات التي تصدر في شكل جذاب وتؤلف بعناية، فهي مليئة

بالصور الجنسية الفاضحة وبالعبارات التي تكرس لثقافة الجنس، وبالاهتمام

بالرقص والطرب.

* أما كتاب الفلسفة المقرر على طلبة المرحلة الثانوية القسم الأدبي، فقد كان

الكتاب يحوى في الحاشية تعليقات أشعرية على ما جاء في مسالك الفرق المذكورة

في الكتاب، وقد كانت في مجملها لا تشفي في الرد على الفرق، فجاء التطوير

فحذف التعليقات وأبقى على المذاهب والأقوال الفلسفية ليدرسها الطالب على علاتها،

والنتيجة أن يحيا الطالب مشتتاً لا يدري أين الحق إلا أن يوفقه الله إلى من يبصره

خارج نطاق التعليم، وهذا الأمر بدوره يراد لأجل أن تنشأ نسبية فكرية تسمح

بوجود ما يطلقون عليه: (الآخر) أياً كان هذا الآخر، والسماح هنا يتجاوز حد

السكوت بالطبع إلى التعايش والتفاهم، وربما ما هو أكثر من ذلك [4] .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015