قصة قصيرة
أم أسامة خولة درويش
لا عجب أن تستأثر (نبيلة) بقلبي، فهي صديقة الطفولة والصِّبا، شاركتني
لهو الطفولة البريء يوم كنا نلعب ونمرح، وزاملتني في الصبا بدماثتها وحبها
للخير الذي ملأ فؤادها ومشاعرها فحظيت لديَّ بمكانة اختصت بها عمن سواها.
لقد حباها الله فضائل كثيرة فصانتها، لم تبطرها النعمة التي تقلبت بها، ولم
يطغها الغنى الذي ترعرت فيه، ولم يفسدها الجمال الباهر الذي يزري بالجميلات
من بنات جنسها، هذا فضلاً عما تمتاز به من أدب جم، وعقل راجح، ونظر سديد
رغم صغر سنها، فما إن نضج جسمها ونما عودها حتى تحلت بالحجاب الذي
فرضه الله على المؤمنات، فغدت بحق جوهرة مصونة ندر مثيلها.
ويحرص (عصام) أن يتزوج من (نبيلة) وهو جدير بذلك، إنه من خيرة
أقاربها ديناً وخلقاً، علماً وأدباً، مالاً وجاهاً.
وتمضي السنة الأولى من الزواج هانئة مطمئنة والحب الوارف يخيم على
الزوجين السعيدين، ولِمَ لا؟ ! والشرع رائدهما، يلتزمان به فيؤدي كلٌّ حق رفيقه
بصدر رحب، وحب ودود، لتظلل أسرتها سعادة نادرة، وسكن حانٍ هانئ بعيد
عن المشاكل والمنغصات.
تجد نبيلة في قيامها بواجباتها لزوجها وأهله عبادة تؤجر عليها، فلا تسأم ولا
تضجر، ولا تمن عليه ولا تبخل بجهودها المخلصة وعواطفها الفياضة، ويجد
عصام أن إعطاء كل ذي حق حقه إنما هو واجبه كمسلم يسعى للقربى من الله -
تعالى - فيحفظ في (نبيلة) وصية الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (استوصوا
بالنساء خيراً) ، فإن أخطأت أو ظهرت منها هفوة قال لها في مزاح ومداعبة ما
أشبهها بالجد: (سنرفق بالقوارير ولن أدع قارورتي تُكسر أو تُخدش) ، فتضحك
ويضحك، ويعالجان الأمور بالحكمة، فتنقشع الغيمة، وما كادت تمر السنة الأولى
من الزواج حتى بدأت التساؤلات، وهمسات نساء الحي: لِمَ لمْ تحمل نبيلة؟ !
وتقترب أم عصام من نبيلة لتحدثها بحنانها المعهود حديثها الهامس يمازجه
حرصها وشغفها لمعرفة سبب عدم الحمل: (يا بُنيتي! إنك في عمر الزهور، ...
وهذه هي السن المثلى للحمل، فلِم تؤجلين الحمل، وأنت تعلمين ثواب تربية الولد
الصالح، ولست بحاجة إلى مَن يذكّرك؟ !) .
وكانت لحظة عصيبة ومؤلمة وصدمة غير يسيرة لأم عصام عندما قالت لها
نبيلة: (إنني لا أستعمل أي عقار لتأجيل الحمل) ... بُهتت أم عصام ولم تتمالك
نفسها أن ترقرقت في عينيها دمعة حائرة حزينة على سعادة لم تكتمل. وتمر الأيام
ويزداد حديث الناس، ويزداد تحرق أم عصام وتعلقها بولد يكون وارثاً لابنها،
وذكراً له وللعائلة جميعاً، إنها وإن كانت تحب نبيلة - ولكنها تعود وتردد المثل
العامي: (ضلع أدنى من ضلع) .
وتتشجع هذه المرة للحديث مع ابنها في هذا الموضوع، بدلاً من جرح مشاعر
نبيلة، وخشية إيذاء أحاسيسها في أمر لا يد لها فيه، وبنفس مفعمة بالمشاعر
الكثيرة وفى مقدمتها الأحلام والأماني بولد يدرج في بيت ابنها قررت عرض
الموضوع على عصام، ويأتي الرد مماثلاً لما ذكرته نبيلة منذ سنتين: (إنه لا يوجد
أي عائق جسمي عندنا، وإننا ننتظر الفرج) .
وودت لو أشارت عليه بالزواج، وحارت كيف السبيل إلى إقناعه، فهي
تعلم مكانة نبيلة في قلبه، بل وفي قلوب العائلة جميعاً، قالت له وهي تغالب نفسها، وبصوت ممزوج بالأسى والمرارة -: إن الله - تعالى - يقول: [المَالُ والْبَنُونَ
زِينَةُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا] ثم صمتت، ثم نظرت إليه وكأنها تريد أن تقرأ ما في ذهنه من
خواطر وما في قلبه من مشاعر، ولم يطل الصمت، فسرعان ما قطعه عصام وهو
يتمم الآية: [وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وخَيْرٌ أَمَلاً] .
اكتفت الأم بهذا الرد، ولم تحتمل الجلوس فخرجت بعزيمة مزعزعة، وقد
أظلتها سحابة من الحزن، وكأنما أُوصدت في وجهها أبواب السعادة كلها.
أما عصام فلم يستغرب طلب والدته، لقد سمعه مراراً من زوجته، نعم،
زوجته نبيلة المؤمنة ذات الرأي الصائب، كانت تعرض عليه الزواج ويُسكتها قائلاً: (إنه يرضى بقدر الله وينتظر الفرج) وها هي ست سنوات مرت على زوجين،
ترفرف عليهما السعادة والهناء.
وجاء قدر الله؛ فاليوم موعد زفاف (سامية) لعصام، إنه يوم عصيب في
حياة نبيلة لا لأن زوجها سيتزوج من امرأة غيرها، فكل امرأة تود لو أن زوجها لها
وحدها، هاهم أهلها جميعاً - والدها ووالدتها وإخوانها ... - قد جاءوا مبكرين، إذ
ما علموا بموعد الزواج إلا الليلة الماضية فقط، وما كاد ظلامها ينقشع ويلوح ضياء
الصباح حتى كانوا جميعاً عند بيت عصام، إنهم يريدون ابنتهم، نعم يريدون نبيلة ... فلا مكان لها في البيت بعد اليوم ... هذا رأيهم جميعاً. ولكن عصاماً قابلهم
بصدر رحب وابتسامة رقيقة، ودعاهم بلباقته المعهودة للدخول إلى المنزل قائلاً: (لن تروا في إلا ما يرضيكم أنتم ونبيلة فأنتم أهلي) .
وقبل أن يتمها انبرى أخوها أحمد للكلام: إننا لسنا أ.. فأسكته والده.
ولكن من يسكت الوالدة؟ إنها تتحدث وتقول لابنتها: تعالي معنا معززة
مكرمة، أن بنت الفقر التي تخاف على نفسها من الجوع هي التي ترضى بالمذلة،
ولو كان يحبك لما أراد أن يتزوج عليك، ولم يتم لنبيلة أن تسمع كل ما قالتها
والدتها، الكل يتحدى ويهدد بالخلاص والطلاق ... وأصمتهم جميعاً قول نبيلة: (وهل التعدد حرام؟ ! ، أليس ديننا يبيح التعدد؟ ، أنا مسلمة وراضية) .
وجم الجميع، لقد عقدت المفاجأة ألسنتهم، ولم يملكوا إلا أن يحملق بعضهم
في وجه الآخر ... ثم انتهت الأزمة، ومرت العاصفة، وعاد الأهل وقد أُسقط في
أيديهم؛ إذ رفضت ابنتهم ترك بيت الزوجية، ولسان حالهم يقول: (أنت
الخسرانة) ! .
وتم الزواج الثاني، ومرت ثلاث سنوات لم أَرَ نبيلة خلالها، وبقدر ما كنت
تواقة لمشاهدتها وقد عدت من سفري - بقدر ما كنت أتهيب من زيارتها خشية أن
تثير آلاماً وأحزاناً كامنة.
وكانت الغلبة للشوق نحو صديقة الطفولة والصبا؛ لأرى بعيني أغرب حياة
يمكن تصوُّرها في عصرنا، إنها تعيد لأذهاننا صورة حياة سلفنا الصالح يوم كانت
الهيمنة لشرع الله، وهدْي رسوله، فيشيع في بيوتنا الرضى والوداد، فهذه نبيلة
هي هي، لم تفارق البسمة العذبة شفتيها، ولا الكلمة الطيبة لسانها، ويلوح
في عينيها رضى من نوع عجيب يحكي سعادتها الغامرة.
و (سامية) - التي عرفتها لأول مرة - لا تقل عنها رقة ودماثة ولطفاً،
وحتى في الجمال فهي أيضاً جميلة جذابة، قد جللها نور المحبة والتسامح فزادها
قرباً من القلب، وبعد جلسة قصيرة تُعرّف نبيلة بجارتها (ضرتها) ثم تقول بزهو
واعتزاز - وهى تربت على كتف سامية -: (ما رأيك، ألست ممن يحسن
الاختيار؟ ، باختياري لسامية! لقد بحثت لعصام كثيراً فما وجدت خيراً منها ديناً
وخلقاً، والحمد لله لم يخب أملنا) .
وإني إذ سمعت هذا الكلام لم أملك إلا الابتسام وغرقت في صمت مفعم
بالإعجاب والإكبار.
وأثناء حديثها تناهى إلى سمعنا صوت بكاء طفل من غرفة مجاورة، وبلهفة
ذهبت إليه سامية لتعود حاملة طفلاً لا يتجاوز عمره بضعة أشهر، وتقول: إنه (نبيل) أخو (سامي) !
ومما قلل من حيرتي أن نبيلة ألقمت ثديها لنبيل؛ فعلمت أنه ابنها، لكن مَن
سامي هذا؟ !
إنه الطفل المرح ذو النفس المشرقة، يجر وراءه سيارة لعب صغيرة ليصل
إلى حضن نبيلة فتجلسه مع طفلها، فلم أتمالك أن قلت: الحمد لله، ما عنده من
خير لا ينفد، بارك الله لك في أولادك وأسرتك يا أخت نبيلة.
وخرجت سامية لتعد الضيافة، وهذا ما علمته من نبيلة؛ إذ قالت: نحن هكذا، كل واحدة منا تقوم بالواجب لضيوف جارتها، حتى تتيح لها فرصة الاستمتاع مع
صديقاتها. ثم اعتدلت في جلستها وكأنها تذكرت شيئاً مهماً فاتها وقالت: حقاً هذه
أول مرة ترين فيها بيتناً بعد زواج سامية، تعالى لأريك ترتيبنا الجديد للبيت.
ومشيت معها، وكنت أود لو تعفيني من هذه المهمة، لكني لم أشأ أن أرد
طلبها، سرت معها وأنا أغبطها على صبرها وأسائل نفسي: أهي راضية حقاً، أم
تمثل دور الرضا؟ !
ولم ألحظ شيئاً غير عادي في ترتيب البيت، إلى أن قالت: (هذه غرفتي،
وهذه غرفة سامية) .
وشعرت بفضول غريب يدفعني دفعاً لأعرف رأيها بصراحة ووضوح، ولم
أكتفِ بما تبديه من الرضا والابتسام، وتمنيت أن أسألها لولا أن بادرتني سائلة: ما
رأيك في ترتيب بيتنا؟ .
قلت لها: ممتاز، ذوق سليم، وإبداع مريح لكم جميعاً، فلا بكاء طفل يؤرق
الأب المتعب، ولا ضجيج يزعج الزوجين، وهنا تشجعت وسألتها مداعبة: وأنت
ما رأيك في السكن في هذا البيت؟ !
ففهمتها على التو، وقالت ضاحكة: حتى أنتِ؟ ، إنه جنتنا وبهجتنا في دنيانا
هذه، ومنه إلى جنة الخلد - إن شاء الله - وتابعت كلامها: إن سامي ونبيل إخوة
فيجب أن ينشأوا في جو المحبة الحقيقية، وإلا كانوا - والعياذ بالله - أعداءً ألداء،
يملأون البيت غماً ومشاكل.
وتأتي سامية بالضيافة وهى تردد كلمات الترحاب ووجهها يتألق سروراً
وسعادة وهى تقول: كم يستغرب الناس زواجي من عصام، حتى أهلي لم يحتملوا
أبداً سماع الموضوع، لا لعدم كفاءته، بل إنهم ينكرون أن أبدأ حياتي بأن أكون
زوجة ثانية، فقلت لهم: وهل أنا أفضل من أمهات المؤمنين؟ ! ، أليست الزوجة
الثانية زوجة معززة مكرمة؟ ! .
وتشارك نبيلة في الحديث: غريب أمر الناس، كيف يستقبلون التعدد
كاستقبال المحرمات، بل أسوأ؟ ! ، فقد يتساهل البعض في العلاقات المحرمة،
ويطلقون ألسنتهم في الحديث عن تعدد الزوجات، إنها غيبة العمل الحق بتعاليم
الشرع.
ولم أتمالك نفسي أن قلت:
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وزادكما الله من فضله رضى وسعادة.