مجله البيان (صفحة 4197)

المسلمون والعالم

ماذا وراء التصعيد الهندي لضرب باكستان؟

حسن الرشيدي

في عام 1947م وعقب إعلان قيام دولة باكستان أعلن أكبر علماء التكنولوجيا

المسلمين في مختلف التخصصات رغبتهم في مغادرة الهند والتوجه للاستقرار في

باكستان، وأظهرت الهند حينئذ عدم ممانعتها في هذا الخروج الجماعي، واستقل

آلاف العلماء القطار المتجه إلى باكستان وكان على القطار عبور نفق في أحد

الجبال على الحدود بين الدولتين، وتجمهر عدد كبير من الباكستانيين على الجانب

الآخر من النفق ابتهاجاً بوصول هؤلاء الصفوة من العلماء الذين هم كنز باكستان

وأملها الذي تنتظره في بداية نهضتها؛ وإذا بالقطار بعد أن عبر النفق يمتلئ بجثث

هؤلاء العلماء وقد ذبحوا بالحراب والخناجر؛ فقد قتلهم عصابات الهندوس وأفنوهم

عن بكرة أبيهم.

كانت هذه الحادثة إيذاناً ببدء مذابح نصبها الهندوس للمسلمين عقاباً لهم على

جرأتهم ومطالبتهم بدولة مستقلة عنهم، ووصل عدد القتلى من المسلمين إلى أكثر

من مليون قتيل في أوسط التقديرات لضحايا هذه المذابح، وأضيفت هذه المصيبة

إلى مثيلاتها في واقع المسلمين المعاصر وصارت خنجراً مصوباً إلى الجسد

الإسلامي ضمن مئات الخناجر التي تطعن فيه، ومن حينهاً كان الصراع الذي ظل

حتى هذه الساعة بين المسلمين والهندوس عباد البقر.

وكانت إحدى حلقاته تلك المواجهة الأخيرة؛ وذلك بعد أن أسفر الهجوم

الانتحاري على البرلمان الهندي في 13/12/2001م عن توتير العلاقات بين إسلام

آباد ونيودلهي وصلت إلى حد حشد القوات على الحدود والتهديد باستخدام السلاح

النووي.

ولتحليل هذا الصراع وسبر أغواره وإدراك السنن والقوانين المتحكمة فيه؛

ومن ثم توقع تطوراته وأشكال تمدده لا بد من إطار تحليلي يأخذ في اعتباره عدة

أمور:

* الإصرار الهندي على توتير الأجواء في ذلك التوقيت والتمسك برفض

جميع الوساطات.

* الانحياز الأمريكي البريطاني لموقف الهند في هذه المواجهة الأخيرة،

وعلاقة الحرب الأمريكية في أفغانستان بهذه المواجهات.

حقيقة الموقف الباكستاني والإصرار الهندي على التصعيد:

تنظر الهند إلى نفسها بإمكانياتها الضخمة باعتبارها قوة كبرى تتمتع بالعوامل

التي تؤهلها لذلك؛ فهي تملك عدداً هائلاً من السكان، ومساحة جغرافية واسعة

مديدة، وإمكانيات اقتصادية وتقنية عسكرية ضخمة.

كل ذلك جعل نظامها السياسي منذ استقلالها عن بريطانيا يحاول إثبات هيمنته

ليس داخل الدائرة الإقليمية فحسب؛ بل يمتد على المستوى الدولي. ويدرك أركان

النظام أن هذا الدور لن يتم إلا عبر اعتراف الدول الأخرى بدورها الإقليمي في

المنطقة، وأنها اللاعب الأساسي في جنوب آسيا. ولكن تبقى هناك عدة عقبات في

سبيل تحقيق هذا الطموح هي: اعتراف الدول الكبرى الأخرى، ومنافسة باكستان

وتنامي التطلعات الانفصالية بداخلها.

مسارات الهند لتحقيق أهدافها تلك:

1 - افتعال مشكلة كشمير بينها وبين باكستان لتكون ورقة ضغط عليها لتبقى

باكستان في إطار وحجم معين تحت الهيمنة الهندية؛ فقد نص قانون استقلال الهند

على أن الإمارات داخل الدولة الهندية حرة في أن تنضم إلى أي من الهند أو

باكستان أو أن تبقى مستقلة مع الأخذ في الاعتبار بعض العوامل مثل الوضع

الجغرافي ورغبات الشعب. ولكن الهند تجاهلت هذا المبدأ عند الاستقلال

وخصوصاً في ما يتعلق بإمارات جوناكره (غرب الهند) وحيدر آباد (جنوب

الهند) وكشمير (شمال) . وكان في الإمارتين الأوليين غالبية هندوسية يحكمها

أميران مسلمان، أما في كشمير فكان الوضع على عكس ذلك؛ إذ إن غالبية السكان

كانوا مسلمين وحاكمها كان هندوسياً.

وقررت غالبية الإمارات المستقلة ذاتياً حسب وضعها الجغرافي أن تنضم إلى

الهند أو باكستان بعد ظهورهما. وقرر حاكم إمارة جوناكره أن ينضم إلى باكستان

ولكن الهند أرسلت على الفور قواتها المسلحة لاحتلال الإمارة، وقالت تسويغاً لذلك

إن سكان الإمارة هم من الهندوس بنسبة 81%؛ ولذلك لا يجوز لحاكمها الانضمام

إلى باكستان طبقاً لمبادئ التقسيم.

وتذرعت الهند بالحجة نفسها فيما يتعلق بحيدر آباد التي كان يحكمها أمير

مسلم، فأرسلت قواتها المسلحة لاحتلال الإمارة بالقوة. ولكن الهند تجاهلت هذه

الحجة حين تعلق الأمر بإمارة كشمير. وحين تردد مهراجا كشمير في إعلان

انضمام الإمارة إلى باكستان تمرد المسلمون الكشميريون الذين كانوا يمثلون نسبة

82% من السكان. وقام جنود الحاكم الهندوسي بارتكاب المذابح في منطقة بونش

وميربور في سبتمبر/ أيلول 1947م، ويقال إنه قتل في هذه الاضطرابات ما لا

يقل عن مائة ألف مسلم. وجرت هذه المجازر لإجهاض انتفاضة مسلمي كشمير

ضد الحاكم الهندوسي.

وفي محاضرة لوزير الدفاع الهندي جورج فرنانديز ألقاها في جامعة هارفارد

في الولايات المتحدة عام 1991م قال: «هناك اعتقاد واسع النطاق بأن أيادي

خارجية تقف وراء أحداث كشمير، وتتم في كل مرة الإشارة إلى باكستان باعتبارها

المسؤولة عما يحدث، لكنني أعتقد أنه لا دخل للأيادي الخارجية في قضية كشمير؛

فنحن (أي الهنود) الذين صنعنا مشكلة كشمير، وإذا ما قرر آخرون الإفادة من

الوضع فلا أعتقد أنه يجب أن نصنع من هذا الأمر قضية تشغل البال» . وظلت

الهند تنتهج سياسة مزدوجة تجاه هذه القضية؛ فعلى الصعيد الرسمي ظلت تعتبر

ولاية (جامو وكشمير) جزءاً من الهند منذ عام 1947م؛ بينما استمرت في الوقت

نفسه في إجراء المحادثات مع باكستان حول هذه القضية كلما شعرت بضغوط

تمارس عليها.

2 - استعمال القوة أو التهديد باستعمال القوة، وتجلى ذلك في 5 حروب

عسكرية مع باكستان. أما التهديد باستعمال القوة فكان في المواجهة الأخيرة.

ففي الحرب الأولى عام 1947م كانت إثر تدخل الجيش الهندي لدعم حاكم

كشمير الهندوسي الذي أعلن ضم كشمير للهند رغماً عن أهلها وجلهم من المسلمين،

وانتهت هذه المواجهة بسيطرة الجيش الباكستاني على ثلث كشمير، ووقع حوالي

ثلثي أراضيها في قبضة القوات الهندية.

أما الحرب الثانية عام 1965م فجاءت في أعقاب إعلان الحكومة الهندية إلغاء

الوضع الخاص لكشمير، بناءً على المادة 370 من الدستور الهندي، وبذلك

أصبحت كشمير ولاية هندية، وجزءاً لا يتجزأ من الهند.

وبعدها بعدة أشهر وقعت المواجهة الثالثة بين الجيشين، وحقق الجيش

الباكستاني في البداية عدة انتصارات، ولكن القوات الهندية نجحت في النهاية في

إرغامه على الانسحاب والعودة إلى المفاوضات.

وفي عام 1971م اندلعت المواجهة الرابعة بينهما بسبب التدخل الهندي لصالح

انفصال باكستان الشرقية وقيام ما يعرف ببنجلاديش، ولحقت بالجيش الباكستاني

هزيمة ماحقة أشبه بهزيمة الجيوش العربية قبلها بقليل في عام 1967م كانت

نتيجتها أنه قبل حرب ديسمبر 1971م كان موقف الهند من مشكلة كشمير هو

المطالبة بالإرجاء والتأجيل، بينما كانت باكستان ترى ضرورة إيجاد الحل الجذري

لتلك المشكلة المستعصية. وبعد هزيمة باكستان في حربها عام 1971م مع الهند

تبدلت مواقف الدولتين، وأصبحت كل منها تأخذ مكان الأخرى إزاء مشكلة كشمير؛

فلقد أصبحت الهند تنادي بالمواجهة الفعالة الحاسمة والإنهاء القاطع لمسألة كشمير،

بينما تسعى باكستان إلى التسويف والإبطاء بشأنها.

وفي 22 مايو 1999م دفعت الهند بتعزيزات عسكرية كبيرة قوامها خمسة

آلاف جندي إلى حدودها مع باكستان عند ولاية كشمير المتنازع عليها، كما

وضعت سربين من طائراتها الحربية على أهبة الاستعداد عقب نجاح مقاتلين من

ثوار كشمير في التسلل عبر الحدود الهندية والسيطرة على نحو عشرين موقعاً.

وشرعت الهند منذ 26 مايو 1999م في شن غارات جوية مكثفة ضد مواقع القوات

الباكستانية والكشميرية المتمركزة في كارجيل وغيرها من المواقع التي تقع على

عمق سبعة كيلو مترات داخل الشطر الهندي من كشمير بعيداً عن خط الهدنة. وقد

استخدمت الهند طائرات من طراز ميج 23، وميج 27، وميراج 2000 التي

تستطيع حمل قنابل نووية؛ فضلاً عن طائرات الهليكوبتر. وقالت وزارة الدفاع

الهندية في بيانها يوم 26 مايو إن الغارات التي تعد الأولى من نوعها منذ بداية

التسعينيات أسفرت عن وقوع عدد كبير من الضحايا في صفوف «المتسللين»

الذين زعمت أنهم يتلقون دعماً من القوات المسلحة الباكستانية.

أما التهديد باستعمال القوة فهو أسلوب من أساليب إدارة الصراع على الساحة

الدولية وهو التأثير على نفسية الخصم وعقله ومن ثم قراره. ومنذ وقت قصير

لجأت تركيا إلى هذا الأسلوب عند تهديدها لسوريا إن لم تسحب تأييدها لحزب

العمال الكردستاني، ولجأت إليه أيضاً إيران ضد الحكومة الإسلامية في أفغانستان

عندما تصدت طالبان بحزم للتمدد الرافضي في أفغانستان، وها هي الهند تمارسه

الآن مع باكستان لكي تتخلى عن القضية الكشميرية.

3 - تعميق التحالف مع أمريكا وإسرائيل: وفي هذا السياق كشفت مجلة «

إنديا توداي» الهندية عن مباحثات بين نيودلهي وواشنطن بشأن تشكيل تحالف

عسكري كبير طويل المدى. وأوضحت المجلة أن التحالف العسكري المقترح يشمل

إقامة قواعد عسكرية وميادين للتدريب على إطلاق النار وشبكة اتصالات مشتركة

ومنشآت تدريب لقواتها في الهند إلى جانب تأمين البحرية الهندية للمصالح

الأمريكية الواقعة في منطقة المحيط الهادي. ويرى مراقبون أنه لم تكن مصادفة أن

تعلن الولايات المتحدة عن موافقتها على بيع إسرائيل رادارات فائقة التطور للهند

في الوقت الذي كانت نيودلهي على شفا الانزلاق في حرب قد تكون نووية مع

باكستان بسبب تحميل الهند إسلام آباد مسؤولية الهجوم الذي تعرض له البرلمان

الهندي.

ويحظى التعاون الهندي الإسرائيلي بالمباركة الأمريكية، ويلاحظ أن هذا

التعاون قد شهد تصاعداً كبيراً؛ ففي خلال شهر واحد فقط قام مسؤولون إسرائيليون

بزيارة الهند ثلاث مرات إحداها قام بها شيمون بيريز وزير الخارجية الإسرائيلي

الذي صرح بأن إسرائيل تقف بجانب الهند في برامجها ضد (الإرهاب

والإرهابيين) عسكرياً وسياسياً، ومن قبله كشف السفير الإسرائيلي في

الهند في مقابلة أجرتها معه صحيفة «صنداي الهندية» الأسباب الرئيسة لهذا

التحالف، فقال: «إن قضية الإرهاب الأصولي تشكل تحدياً مشتركاً للهند

وإسرائيل، وعلينا أن نستأصل هذا الخطر من جذوره» .

4 - بناء قوة ردع نووي فعال ضد الصين في البداية، ثم رأت بعد ذلك أن

باكستان تأتي في استراتيجية متقدمة في مجال التهديد العسكري قبل الصين.

وجاءت أحداث تفجير البرلمان الهندي في 13 ديسمبر الماضي، واندهش

كثير من المراقبين من سرعة التعبئة الهندية وتجهيز جيوشها وصواريخها وآلياتها

على الحدود الباكستانية، واستغلت الهند الأحداث لتصفية القضية الكشميرية للأبد

وإغلاق هذا الملف نهائياً، وطلبت من باكستان إقفال معسكرات المنظمات

الكشميرية الجهادية وتسليم قيادات جماعات المقاومة للهند لمحاكمتهم، واستمدت من

النموذج اليهودي الأمريكي في محاربة ما يسمونه إرهاباً عندما رفضت تقديم أي

أدلة تستند إليها في اتهام جماعات كشمير في هذه الأحداث فيما بدا للمراقبين أنه

تحالف هندوسي يهودي صليبي لضرب التيار الإسلامي، وتصفية قضيته من على

الساحة الدولية.

الانحياز الأمريكي:

تعتبر السياسة الأمريكية في شبه القارة الهندية امتداداً لسياسة بريطانيا التي

كانت تستعمر هذه المنطقة من قبل حيث خاضت في بداية استعمارها للهند في

القرن التاسع عشر معارك ضارية ضد المسلمين الذين كانوا يحكمون البلاد في هذه

الفترة، وتحالف الإنجليز مع الهندوس حتى ملكوا زمام البلاد، وعمل الإنجليز

على إيجاد طبقة من المسلمين المتغربين وانضم هؤلاء بعد ذلك إلى حزب الرابطة

الإسلامية لتمارس سياستها المعروفة: (فرق تسد) ولتحكم سيطرتها على البلاد؛

وعند انسحابها يكون التناحر بين المجموعات العرقية والدينية المختلفة ضماناً

لاستمرار هذه الدولة عاجزة عن أن تتبوأ مكانة عالمية.

وورثت الولايات المتحدة بريطانيا في السيطرة والنفوذ، ومرت سياستها في

جنوب آسيا بثلاث مراحل:

مرحلة الحرب الباردة:

وفي هذه المرحلة اعتمدت الولايات المتحدة على باكستان نظراً لقربها من

الاتحاد السوفييتي الذي شكل في هذه المرحلة العدو الأساسي للولايات المتحدة،

ودعمت الحكومات المتعاقبة لهذه الدولة؛ ولكن في نفس الوقت احتفظت بعلاقات

وثيقة مع الهند دون إخلال بموازين القوى في المنطقة التي تتبوأ فيها الهند المكانة

الأكبر؛ فعند نشوب الحرب بينهما عام 1971م وقفت أمريكا باعتبارها حليفاً

لباكستان موقفاً سلبياً؛ مما نتج عنه هزيمة مروعة للجيش الباكستاني؛ ولكن

باجتياح الاتحاد السوفييتي لأفغانستان ازداد اعتماد أمريكا على باكستان في خططها

الرامية لإضعاف الاتحاد السوفييتي، وفي هذه الفترة حدث ما يشبه التعادل؛

ونتيجة لحاجتها للدعم الباكستاني غضت الطرف عن الإلحاح على باكستان لوقف

تطوير خيارها النووي.

مرحلة ما بعد الحرب الباردة:

لا شك أن انهيار حلف وارسو، وسقوط حائط برلين، وتفكك الاتحاد

السوفييتي قد أحدث تغيراً أساسياً في الرؤية الأمريكية لعلاقاتها الدولية؛ إذ لم تعد

إمبراطورية الشر قائمة، وبدأت الولايات المتحدة تبحث عن أعداء لقائمة الشر

الجديدة الذين تعتبرهم أعداء الحضارة الإنسانية من كل القوى التي يبدو أنها لا تخدم

مصالح الولايات المتحدة، وهذه إمبراطورية جديدة تعرف الولايات المتحدة أنها لا

تستطيع تفكيكها على النحو الذي فككت به الإمبراطورية السوفييتية.

وكانت بداية التحول في الحقيقة في زيارة الرئيس كلينتون إلى الهند؛ حيث

اتسمت زيارته لها بالحرارة بينما اتسمت زيارته لباكستان بالبرود. وأصبح من

الواضح أن هوى الولايات المتحدة يميل نحو الهند؛ وذلك لعدة أسباب منها:

- الوقوف بوجه الصحوة الإسلامية المتنامية في آسيا عموماً وبالأخص

منطقتي جنوب آسيا وآسيا الوسطى. وتعد باكستان داعمة لحركة طالبان التي

أصبحت رمزاً لدولة إسلامية ناشئة قوية ونموذجاً تحتذيه حركات كثيرة.

- الحد من النفوذ الصيني وخاصة هذا العملاق الذي بدأ يتمدد اقتصادياً

وسياسياً وعسكرياً؛ فكان لزاماً على الولايات المتحدة أن ترمي بثقلها خلف الهند،

وتعتمد عليها كقوة إقليمية تستطيع الوقوف بوجه المد الإسلامي والخطر الصيني.

- الحد من القدرات الباكستانية النووية وخاصة بعد تزايد الحديث في العالم

الإسلامي عن القنبلة النووية الإسلامية.

مرحلة ما بعد ضربات 11 سبتمبر:

في هذه المرحلة الجديدة من الأحداث رفعت أمريكا على لسان رئيسها بوش

شعار: (من لم يكن معنا فهو ضدنا) ، وأصبح القضاء على الإسلام الجهادي هو

هاجس أمريكا الأكبر وإن تبعه بعض الأهداف الأخرى وهي: احتواء الصين،

والهيمنة على منطقة آسيا الوسطى، ووضع اليد على نفط بحر قزوين.

وكان لا بد من استراتيجية جديدة في التعامل مع المنطقة، وتلخصت هذه

السياسة في الضغط على باكستان لتبذل أقصى ما تستطيع للقضاء على المنظمات

الجهادية في المنطقة وعلى رأسها طالبان والقاعدة والمنظمات الإسلامية الجهادية في

كل من باكستان وكشمير، واتبعت الولايات المتحدة في سبيل بلوغ هذا الهدف عدة

سياسات:

* استخدام الورقة الهندية والتلويح بها كلما بدا من النظام الباكستاني النكوص

أو التهاون في ملاحقة الجماعات الجهادية وخاصة زعماء طالبان والقاعدة والذين

بالقبض عليهم أو بقتلهم ينتهي الإحساس بالكرامة المجروحة لدى الشعب الأمريكي.

* التحذير من الاستيلاء على السلاح النووي الباكستاني عبر تسريب الأنباء

في الصحف الأمريكية عن وجود قوات خاصة أمريكية تتدرب للسيطرة على مجمع

«كهوتا» الذي يضم المفاعل النووي الباكستاني.

* التهديد بإطلاق يد إسرائيل في المنطقة.

* استخدام ورقة المساعدات الاقتصادية للضغط على باكستان.

ويبدو من هذه السياسات أن الضغط استهدف في المقام الأول باكستان

باعتبارها حجر العثرة في سبيل تحقيق أمريكا لأهدافها في المنطقة؛ ولذلك فإن

افتتاحية الواشنطن بوست (20/12/2001م) ترى أن الخطوة القادمة في الحرب

على الإرهاب يجب أن تكون في باكستان قبل العراق والصومال لمواجهة جماعات

الإرهاب الباكستانية التي تتهمها الهند بالاعتداء على برلمانها. كما ترى الصحيفة

أن الهند مارست ضبط النفس بدرجة تدعو للإعجاب، وينبغي ألا يُحظر عليها

ممارسة حق الدفاع عن النفس كما تمارسه أمريكا وإسرائيل.

كما أنه ليس مصادفة أن تقرن الصحيفة الهند بأمريكا وإسرائيل. فالهند مثل

إسرائيل حليف استراتيجي للولايات المتحدة، والثلاثي تحكمه أحزاب عقائدية

(أصوليات هندوسية وصهيونية ومسيحية يمينية) . فطبقاً للواشنطن بوست

(24 /12/2001م) ، جاءت استقالة بات روبرتسون بوصفه رئيساً للتحالف

المسيحي لتؤكد صعود زعيم جديد لليمين المسيحي الأمريكي، وهو جورج بوش.

وإذا كان وزير الداخلية الهندي لال كريشنا أدفاني تواطأ مع الغوغاء الهندوس

منذ تسعة سنوات لتدمير المسجد البابري الأثري في أيوديا بالهند، فإن في حكومة

شارون من لهم علاقات وثيقة بالجماعات اليهودية التي تخطط لتدمير المسجد

الأقصى.

وصرح وزير الداخلية الهندي لال كريشنا أدفاني لدى عودته من زيارة

للولايات المتحدة أن واشنطن تتفهم موقف الهند الحازم. وقال: «لا أذكر أن

مسؤولاً (أمريكياً) واحداً قال لي: إن ما تفعلونه ليس جيداً» .

وفي نفس الوقت اتهم مسؤولون أمريكيون المخابرات الباكستانية بأنها على

صلة غير مباشرة ولكنها قديمة بتنظيم القاعدة، وأن المخابرات الباكستانية

استخدمت معسكرات القاعدة في أفغانستان لتدريب عملاء سريين لاستخدامهم في

حرب الإرهاب ضد الهند.

ونقلت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية عن المسؤولين قولهم: إن

المخابرات الباكستانية أيضاً لها صلات مباشرة بعمليات مقاتلي إقليم كشمير المتنازع

عليه والواقع على حدود باكستان المشتركة مع الهند.

وقال مسؤول أمريكي كبير سابق: إن المخاوف الأمريكية بشأن تعاملات

وكالة المخابرات الباكستانية مع نظام طالبان الحاكم في أفغانستان تزايدت بشدة العام

الماضي لدرجة أن المخابرات الأمريكية عارضت بإصرار زيارة مزمعة للرئيس

السابق بيل كلينتون لباكستان خوفاً على سلامته.

وقالت الصحيفة: إن هذا التخوف كان أساسه أن أجهزة الأمن الباكستانية

مخترقة إلى حد بعيد من جانب الإرهابيين لدرجة أن الجماعات المتطرفة التي

يحتمل أن يكون بينها تنظيم القاعدة الذي يتزعمه بن لادن قد تعرف خط سير رحلة

الرئيس كلينتون من المتعاطفين داخل وكالة المخابرات الباكستانية، ويحاولون

إسقاط طائرته.

وقال مسؤولون سابقون: إن كلينتون تجاهل تحذير المخابرات الأمريكية وقام

بالرحلة؛ مما استدعى اتخاذ تدابير غير عادية للحفاظ على حياته؛ حيث تم تسيير

طائرة رقم واحد التابعة للسلاح الجوى الأمريكي شاغرة بينما قام الرئيس بالرحلة

على متن طائرة صغيرة غير ملحوظة.. كما أن ركب كلينتون توقف تحت أحد

الكباري العلوية، وقام كلينتون بتغيير السيارة التي تقله.

وأشارت نيويورك تايمز إلى أن المسؤولين الأمريكيين يقولون: إن عمق

التأييد بين عناصر وكالة المخابرات الباكستانية لشن حرب على الطالبان والقاعدة لم

يتأكد بعد.. منوهين إلى أن رئيساً سابقاً للوكالة أصبح من أشد منتقدي السياسة

الأمريكية فى باكستان.

كذلك يعتقد فريق في الإدارة الأمريكية وفي الكونجرس أن النظام الباكستاني

يمارس دوراً مزدوجاً في التعامل مع الولايات المتحدة، فهو من جهة يريد إظهار

نفسه داعماً للسياسة الأمريكية تجاه ما تسميه أمريكا إرهاباً، وأنه في إمكانه أن

يذهب معها إلى أقصى ما تريده الولايات المتحدة منه؛ وفي نفس الوقت فإن النظام

يدرك جيداً أن مصلحته الاستراتيجية في وجود طالبان والقاعدة وأنها هي الورقة

التي يلعب بها؛ فإذا فقدها فإن أمريكا وحليفتها سوف تستدير عليه لتقضي على

قدراته النووية، وفي هذا السياق نجد أنه في أعقاب تصريحات قادة التحالف

الشمالي بأن قادة طالبان والقاعدة هربوا إلى باكستان وسارع قائد القوات الأمريكية

بزيارة باكستان ليتعرف على الوضع أطلقت الهند تهديداتها وحركت جيوشها.

الورطة الباكستانية:

تعتقد باكستان دائماً أن الهند لم تتقبل قط وجودها؛ ومن ثم كانت ترى أن

الهند مصممة على «إنهاء» تقسيم شبه القارة؛ مما يعني ضمناً وضع نهاية

لاستقلال باكستان؛ ففي عام 1964م صرح نهرو رئيس وزراء الهند حينذاك

لصحيفة «واشنطن بوست» أن هدف الهند النهائي هو قيام اتحاد هندي باكستاني؛

مما يعني دخول باكستان مرة أخرى تحت الهيمنة الهندوسية؛ وعليه فقد كان

الهدف الجوهري لاستراتيجية باكستان الرئيسة هو مجرد البقاء في وجه منافستها

الهند الأكبر منها حجماً، والأكثر قدرة، والتي تريد بوضوح تصحيح الوضع القائم

مع الحفاظ على سلامة استقلاليتها قدر الإمكان.

اتبعت باكستان عدة استراتيجيات للحفاظ على هذا الهدف:

* شكلت باكستان جيشاً مقتدراً لديه وحدات مشاة ودروع قوية منتشرة على أقرب

المواقع الحدودية مع الهند، كما شكلت سلاحاً جوياً صغيراً، لكنه عالي التدريب

والمعنويات، ومزود بأفضل الطائرات المتوافرة لباكستان لأداء مهام الدفاع الجوي

والهجوم الأرضي على حد سواء.. وقد اقتضت الاستراتيجية العسكرية التقليدية

لباكستان استخدام جيشها وقواتها الجوية بشكل هجومي في الظروف التي تنذر

بخطر استراتيجي. فإذا بدا النزاع وشيكاً، فقد توجه باكستان ضربة وقائية

لاحتلال أجزاء صغيرة من الأراضي الهندية؛ ومن ثم تستخدم هذه المكاسب، إما

لتحويل ثقل ردة فعل الهند نحو استرداد الأراضي التي خسرتها، أو لاستغلال تلك

الأراضي ورقة للمساومة بهدف ضمان نتيجة مواتية في المفاوضات التي تجري في

المرحلة اللاحقة للنزاع. وظهرت هذه الاستراتيجية جيداً في حوادث 1999م في

كارجيل عندما توغلت مجموعات كشميرية داخل أراضي كشمير واستولت على

مجموعة جبال بمساندة من الجيش الباكستاني لفترة من الوقت حتى تمكنت الهند في

النهاية من طردهم، ولكن عجز القيادة السياسية حينئذ ممثلة في «نواز شريف»

هو الذي منع باكستان من قطف ثمار ما حدث؛ مما أدى إلى نشوب خلاف بين

نواز وقادة الجيش الذين جاؤوا ببرويز مشرف إلى سدة الحكم.

* امتلاك قدرات نووية تمكنها من إيجاد رادع استراتيجي أمام القوة النووية

الهندية.

* تكوين ذراع مخابراتي قوي يمكنها من كشف مخططات الأعداء والمبادرة

بإحداث تغييرات في البيئة السياسية المحيطة.

* اللعب بالورقة الصينية لشك باكستان دائماً في النوايا الأمريكية؛ وحدث

ذلك في منتصف الستينيات في أثناء الحرب الثالثة مع الهند، وحدث أيضاً أثناء

الأزمة الحالية عندما زار مشرف الصين لمدة أربعة أيام ليستغل تنافس المحورين:

الصيني مع الهندي الأمريكي في تخفيف الضغط عليه من قِبَل هذا التحالف، ولكن

يبدو أن بكين ترى لها مصلحة في ضرب الإسلاميين في منطقة جنوب آسيا عن

طريق أمريكا وخاصة وهي تعاني من الحركات الجهادية في منطقة سيكيانج التي

يقطنها أغلبية مسلمة تعاني الاضطهاد من المحتل الصيني.

* رفع الإسلام عاملاً وحيداً لجمع شتات الشعب الباكستاني؛ فباكستان خليط

من الأعراق والقوميات المتناقضة وهي تنقسم عموماً إلى أربع أقاليم رئيسة:

بلوشستان الشمالية والغربية، والبنجاب، والسند. وتختلط فيه الأجناس وتتفشى

الروح القبلية. هذا الخليط من المقاطعات الجغرافية يعاني مفارقات كثيرة؛ فهناك

مفارقة اللغة؛ إذ يتحدث 65% من السكان البنجابية (لغة إقليم البنجاب) ، ويتحدث

الأردية 20 % من مجموع السكان، ويتحدث السندية 12% (لغة إقليم السند) ،

وتتوزع النسب الباقية على الباشتونية والبلوشية. بينما تتحدث النخب اللغة

العربية إلى جانب الإنكليزية.

وهناك مفارقة الأقاليم وتعداد سكانها:

فالقوة القومية الأولى هي البنجاب؛ إذ تشكل أكثرية قومية (60% من

السكان) ، وتسيطر على 65 في المئة من الإنتاج الزراعي، إضافة إلى احتلالها

معظم المواقع السياسية والاقتصادية ولكنها تعيش في إقليم مساحته ضيقة جغرافياً.

والقوة القومية الثانية هي السند وتسيطر على التجارة القديمة وبعض

الصناعات الموجودة في كراتشي، وتعاني مشكلة المهاجرين المسلمين الهنود الذين

يشكلون الآن 50% من سكان عاصمة الإقليم.

والباشتون هم القوة القومية (القبلية) الثالثة وهم يعيشون على تجارة الجوار

الأفغاني، وتعتبر عاصمتهم بيشاور من المعابر الاستراتيجية بين البلدين.

ويعتبر البلوش القوة القومية (القبلية) الرابعة وهم على قلّتهم، ينتشرون

على مساحة تمتد علي 50% من جغرافية دولة باكستان. وتعاني الأقلية البلوشية

أوضاعاً اقتصادية بالغة السوء انعكست على ضعف تمثيلها السياسي في إدارات

الدولة وأجهزتها ومجالسها التمثيلية والتنفيذية.

ولا يوجد غير الإسلام للسيطرة على هذا المزيج المكون من مائة وأربعين

مليوناً من السكان.

وتشهد الفترات التي ينزع فيها حكام باكستان إلى العلمانية المتطرفة جنوحاً

من السكان وتفجراً للمشاكل العرقية وقيام الحركات التي تطالب بالانفصال عن

الوطن الأم مثل أيام حكم بوتو في السبعينيات وابنته على فترات في الثمانينيات

والتسعينيات، وعكس ذلك فإن تشجيع المد الإسلامي من الحكام أيام ضياء الحق

شهد تماسكاً لبنية الدولة والتفاف الشعب حول قضية كبرى وهي مناصرة المسلمين

في المنطقة؛ وما مناصرة الشعب الباكستاني لإخوانه الأفغان عند اجتياح الاتحاد

السوفييتي أفغانستان إلا التعبير عن هذه اللُّحمة العقيدية.

لقد تعاقب على حكم باكستان أنظمة غفلت في معظمها عن الإسلام باعتباره

نظاماً للحياة، وباعتباره سبب قيام الدولة، ولعل دولة باكستان هي النموذج الوحيد

في التاريخ الحديث الذي اعتمد على الدين في نشأته، ولكن النخبة العلمانية التي

تسلمت الحكم وهي حزب الرابطة الإسلامية بزعامة (محمد علي جناح) كانت

كبقية النظم في ديار المسلمين التي سلمها أعداء الإسلام زمام الأمور قبل رحيلهم

عن هذه الديار. وبعد رحيل جناح اغتيل وريثه ياقوت خان في عام 1951م (عام

تأسيس العاصمة الجديدة إسلام آباد) فاندلعت حرب أهلية انتهت بالتوافق على نظام

ديموقراطي استمر إلى 1958م حين وقع انقلاب عسكري بقيادة محمد أيوب خان.

حكم أيوب خان باكستان إلى عام 1968م، شهدت خلالها باكستان حربها

الثانية مع الهند في 1965م، وسقط عسكرياً بانقلاب قاده يحيى خان في 1969م.

وعد خان الثاني بانتخابات تعيد الحكم للمدنيين في العام 1970م ونفذ وعده إلا أن

الحرب مع الهند في عام 1971م التي تحركت لدعم انفصال باكستان الشرقية

(بنغلادش) أجلت التسلم والتسليم إلى عام 1973م؛ ففي ذاك العام صدر الدستور

وتم انتخاب ذو الفقار علي بوتو على أساسه رئيساً للوزراء، واستمر إلى أن أُسقط

عسكرياً في انقلاب قاده الجنرال ضياء الحق في عام 1977م.

وضع ضياء الحق بوتو (الأب) في السجن لمحاكمته، ونفّذ فيه حكم الإعدام

تحت وقع الأزمة الأفغانية التي تفجرت بدخول السوفييت أراضي الدولة المجاورة

في نهاية 1979م.

نجح ضياء الحق في الإفادة من الغزو السوفييتي حين وظفه لشراء سكوت

المعارضة الداخلية والحد من الضغوط العالمية التي تراجعت احتجاجاً على إعدام

بوتو. وطوّر ضياء الحق حاجة الولايات المتحدة لموقع باكستان الجغرافي، فحسّن

العلاقات مع واشنطن، واشترى سكوتها عن البرنامج النووي، وثبّت علاقاته

المميزة مع جاره الصيني (زار بكين عام 1982م) . وحصل ضياء الحق على

مساعدات تسليحية أمريكية صينية، ومالية (الدولة الثالثة من موازنة الدعم

الأمريكي الخارجي) ، إضافة إلى تسهيلات اقتصادية أنعشت الحال الاجتماعية

وأعطت الدولة قوة لتثبيت نفوذها الشعبي وترسيخ سياستها المضادة لنمو التعاون

العسكري السياسي بين نيودلهي وموسكو.

وبسبب تقرب الهند من الاتحاد السوفياتي تخوفت إسلام آباد من احتمال

الضغط عليها في جبهة كشمير جامو فاقترحت على نيودلهي معاهدة عدم اعتداء في

1984م ألحقتها باستفتاء شعبي على اعتماد الشريعة الإسلامية مصدراً للدستور فنال

أنصار الشريعة 97% من الأصوات.

واصطدم مشروع التوحيد الإسلامي بمعارضة دولية (أميركية تحديداً)

وسياسية (ابنة بوتو: بنظير) واجتماعية (الإقطاعيون المسيطرون على الإنتاج

الزراعي) فشهدت البلاد اضطرابات مدعومة بنمو قوة المهاجرين (المسلمين

الهنود) في كراتشي.

ولاقت التوترات بين 1985م و1988م تشجيعاً من واشنطن والهند نظراً

لتراجع الأهمية الاستراتيجية لباكستان بعد دخول الاتحاد السوفييتي فترة غيبوبة في

أفغانستان قادها ميخائيل غورباتشوف واعداً خلالها البيت الأبيض بالانسحاب في

عام 1989م.

آنذاك بدأت واشنطن تتخوف من سياسة ضياء الحق؛ فهو قاد باكستان نحو

الاستقرار مستفيداً من حاجة الغرب لدولته، فنجح في إكمال بناء المشروع النووي

(بدعم صيني، فرنسي، كندي) ؛ كذلك قاد باكستان إلى نوع من التوازن النفسي

حين شجع قرار الناس باعتماد الشريعة مصدراً للدستور ومرجعاً لمختلف الأقاليم

والقبائل.

وفي ضوء الوعد السوفييتي بالانسحاب من أفغانستان تحيّنت واشنطن

الفرص للتخلص من حليفها ضياء الحق؛ فكان لها ما أرادت حين سقطت طائرته

في حادث غامض في أغسطس 1988م. وبذهاب المؤسس الثاني لباكستان فتحت

الطريق أمام عودة ابنة بوتو وانتخابها بدعم أوروبي (بريطاني تحديداً) في نهاية

1988م، وحاولت بوتو تحسين علاقات بلادها مع الهند إلا أنها اصطدمت بشروط

قاسية. وبتحريض من أمريكا وإسرائيل طالبت نيودلهي إسلام آباد بالتخلي عن

مشروع بناء القنبلة النووية وبرنامج الصواريخ إضافة إلى إلغاء الاستفتاء على

الشريعة الإسلامية، وأخيراً تحسين العلاقات مع إسرائيل تمهيداً للاعتراف بها.

وجدت بوتو صعوبة في تلبية تلك الشروط المذلّة، فحاولت إيجاد صيغ

تسوية تخفف عنها الضغط الداخلي وترضي بعض طلبات الغرب والهند شرط عدم

فتح جبهات حدودية تعطل إمكانات نشاطها على جبهة تهدئة المؤسسة العسكرية التي

شهدت في فترة الأزمة الأفغانية نمواً متزايداً لموقعها القيادي في إدارات الدولة

ودورها المستقل في رسم الاستراتيجيات بعيداً من رقابة الهيئات التشريعية

والقضائية.

إلا أن تردد بوتو في تسريع خطواتها دفع الهند للضغط عليها من خلال أزمة

كشمير، فدخل جيش نيودلهي عاصمة كشمير الهندية سريناغار في عام 1990م في

وقت أعلنت واشنطن تعليق مساعداتها المالية والتسليحية لباكستان (في العام نفسه)

بذريعة أن إسلام آباد لم توقف نشاطها النووي المحتمل امتداده جغرافياً وتحوله إلى

قنبلة إسلامية.

وأنتج تردد بوتو المحلي والإقليمي والدولي قوة ثالثة تمثلت في بروز حزب

نواز شريف. فشريف عكس بوتو الإقطاعية، ينتمي إلى عائلة عُرفت بنشاطها

المبكر في القطاع الصناعي وتقربها من المؤسسة العسكرية والحركات الإسلامية.

جاء شريف في ظروف دولية مغايرة وبروز الولايات المتحدة قوةً وحيدة لا

منافس استراتيجياً لها خصوصاً بعد نجاحها العسكري في حرب الخليج الثانية.

أدرك قادة الدولة تراجع أهمية باكستان، بعد الانسحاب السوفييتي 1989م

وتبخر المعسكر الاشتراكي بغض النظر عن رئيس الحكومة وتوجهاته السياسية

والاقتصادية. إلا أنهم تأخروا في صوغ استراتيجية دولية بديلة. فالضغوط من

طريق الهند تركزت على تصعيد الحملة العسكرية في كشمير وعلى الحدود

(البنجاب) مترافقة مع ضغط إسرائيلي (مدعوم أمريكياً) بوضع المنشآت النووية

تحت رقابة دولية، وهي أمور فرضت ترتيبات دفاعية على إسلام آباد.

ومنذ العام 1993م شهدت باكستان سلسلة تجاذبات دولية وإقليمية ومحلية؛

فهناك المؤسسة العسكرية وطموحها في إنجاز القنبلة النووية، وهناك ملاك

الأراضي المؤيدون لبوتو (إقليم السند) المنزعجون من قوة شريف، وهناك

الصناعيون المؤيدون لشريف (إقليم البنجاب) المتخوفون من عودة بوتو، وهناك

القوة الجديدة الصاعدة المتمثلة بالجماعات الإسلامية وتفرعاتها. يضاف إلى ذلك

صراع بوتو الابنة مع شقيقها مرتضى الطامح لأخذ زعامة حزب والده من شقيقته

... وكل هذه المشكلات الداخلية معطوفة على ضغوط إقليمية بدأتها الهند في عام

1994م بتصعيد التوتر على حدود البنجاب ومقاطعة كشمير إلى ضغوط أمريكية

تمثلت بإلغاء صفقة طائرات عسكرية (إف 16) رداً على رفض إسلام آباد وضع

مؤسساتها النووية تحت الرقابة وتمنُّعها عن توقيع معاهدة منع انتشار السلاح

النووي قبل أن توقّع نيودلهي.

وحين جدد انتخاب بوتو في عام 1993م كانت باكستان على حافة الانهيار.

فالحزب (الشعب) الذي أسسه والدها في 1967م انقسم إلى أجنحة وتيارات محلية

وعائلية؛ بينما حزب الرابطة الإسلامي الذي انشطر إلى ثلاث شُعب في عام

1958م استعاد حيويته في ضوء توجه ضياء الحق الإسلامي. إلا أن الرابطة لم

تعد كما كانت حين تأسست في عام 1930م وقادت الانفصال (الاستقلال) عن

الهند في 1947م؛ فالرابطة تفككت لتقوم مكانها مجموعة جبهات؛ فهناك الجماعة

الإسلامية برئاسة قاضي حسين أحمد، وهناك جماعة فضل الرحمن، وهناك

جماعة سميع الحق.

وعندما تسلم نواز الحكم مرة أخرى وجاءت أحداث كارجيل عام 1999م

حيث هاجمت الجماعات الجهادية الكشميرية الجزء المحتل من المقاطعة واستولت

على بعض المرتفعات بدعم وتنسيق من الجيش الباكستاني ادَّعت المخابرات الهندية

أنها رصدت وقتها محادثة هاتفية بين الجنرال مشرف وكان وقتها قائداً للجيش وبين

المجاهدين في كارجيل يحثهم فيها على الصمود. وتصاعدت الضغوط على نواز

شريف فسافر إلى البيت الأبيض وتحادث مع كلينتون، وقدم له تنازلات تلو

الأخرى؛ مما أغضب الجيش والمخابرات الباكستاتية ليستولي مشرف على الحكم.

هذه ظروف استيلاء مشرف للسلطة في باكستان ليوقف مسلسل التنازلات في

وجه الهيمنة الأمريكية الذي قام به نواز شريف، والغريب أنه بعد عامين تقريبا من

هذا الانقلاب اندفع مشرف في نفس القاطرة أي قاطرة التنازلات أمام العربدة

الأمريكية في أفغانستان.

بدا لكثيرين وإلى ما قبل أحداث تفجيرات نيويورك في 11 سبتمبر أن موقف

الرئيس الباكستاني برويز مشرف الداخلي قوي؛ فقنبلته النووية جعلت موقفه

العسكري والاستراتيجي مع الهند على قدم المساواة، وعمقه الاستراتيجي في

أفغانستان مستتب بوجود نظام طالبان الحليف، وجاءت التفجيرات وتوالت الأحداث

ووجدت باكستان نفسها بين ناري الانخراط في المخطط الأميركي الذي استهدف

حكماً له علاقة بإسلام آباد وله جذور في داخلها وبين أن تصنفها واشنطن دولة

إرهابية معادية وفقًا للشعار الذي رفعه الرئيس بوش: «من ليس معنا فهو ضدنا» .

وتتابعت الضغوط على مشرف بفك تحالفه مع طالبان فاستجاب مشرف، ثم

طلبت أمريكا استخدام أربع قواعد عسكرية في باكستان للتموين والأعمال اللوجستية

الخاصة بالحرب فسمح مشرف، وارتفع سقف المطالب قليلاً بحصار الجيش

الباكستاني للحدود، ومنع تسلل قيادات طالبان وأفراد القاعدة من دخول باكستان

والقبض على المتسلل منهم، وقبض مشرف، وبدا مشرف في موقف ضعيف

داخلياً إزاء هذه التنازلات التي لم ترض أمريكا والتي بعد اجتياحها أفغانستان

شعرت أن انتصارها لا يساوي شيئاً دون اعتقال زعماء طالبان والقاعدة فطلبت من

باكستان تسليم المعتقلين لديها من أفراد القاعدة وتمنعت باكستان في البداية. وفي

نفس التوقيت اندلعت أحداث الهجوم على البرلمان الهندي، واستغلت أمريكا الحدث

كما هي عادتها، وأوعزت إلى حليفتها الهند بتجييش الحشود العسكرية على الحدود

الباكستانية، وسرعان ما أذعنت باكستان وسلمت إلى أمريكا سجناءها من أفراد

القاعدة، واعتقلت العديد من أفراد الجماعات الكشميرية والإسلامية في باكستان.

وبعد أن تعالت تصريحات وزراء الإدارة الأفغانية الجديدة في كابول بأن زعماء

القاعدة وطالبان هربوا إلى باكستان ازدادت الضغوط الهندية وزاد مشرف من

ضغوطه وحصاره لأفراد القاعدة.

ويتساءل كثيرون: لماذا قدم برويز مشرف كل هذه التنازلات: هل هو خائن

؟ أم هو غافل عن ألاعيب السياسة ودهاليزها؟ والواقع أن دفة الحكم والقرار

السياسي في باكستان لا تعتمد على شخص واحد فقط؛ فهناك مؤسسة عسكرية

ومخابرات قوية وغيرهم من سياسيين الذين يلتفون حول مشرف ويستشيرهم في

صياغة هذه الأمور، ولكن هؤلاء الأفراد أو المؤسسات تتحكم فيها لغة البراجماتية

السياسية، وكذلك تتحكم في أي نظام لا يرتكن إلى العقيدة في حكمه. والبراجماتية

في اللغة السياسية هي باختصار تبادل المنافع والمصالح بين أطراف الصراع؛

واستغلت أمريكا هذه البراجماتية.

لقد حاول نظام مشرف من وجهة نظره إنقاذ ما يمكن إنقاذه من الخسائر سواء

في أفغانستان أو في كشمير أو في القنبلة النووية فلم يندفع إلى التنازل في هذه

القضايا إلا تحت الضغوط الشديدة. وتتحدث بعض التقارير عن اجتماع حدث في

إسلام آباد عشية تفجيرات نيويورك طلبت فيه السفيرة الأمريكية الدخول في تحالف

مع أمريكا، وتمنع مشرف في البداية وفي أثناء ذلك اللقاء قالت بعض الأنباء إن

طائرات أمريكية وإسرائيلية حلقت في سماء باكستان وعجزت الدفاعات الباكستانية

عن رصدها، وفي ظل هذه الأجواء ألقت السفيرة بكلامها فقالت: هذه هي الأمور

بلا لف ولا دوران: سنقيم تحالفاً هندياً إسرائيلياً بقيادتنا وسندمر ترسانتكم النووية.

ناور مشرف ولم يقدم التنازلات مباشرة، ولكن إزاء الضغوط بدأ في التنازل

عن أفغانستان ثم بدأت تنازلاته تطول كشمير؛ والطامة الكبرى لو جاءت تنازلاته

في قنبلته النووية.

ولكن في النهاية أحس مشرف بأن التنازلات التي قدمها ليس هناك ما يقابلها

من جانب الولايات المتحدة؛ وبالمنطق البراجماتي بدأ في تهدئة وتيرة الاستجابة

للطلبات الأمريكية، بل ذهب إلى أبعد من ذلك؛ فقد نقلت وكالات الأنباء عن

مسؤولين باكستانيين أن حكومة بلادهم تجري مباحثات مع الولايات المتحدة بشأن

المدة التي ستظل فيها القوات الأمريكية في القواعد الجوية الباكستانية الأربع التي

كان لها دور حيوي في الحرب في أفغانستان.

وأضاف مسؤولو باكستان أن حكومتهم قد أبلغت الولايات المتحدة بالتوقف عن

استخدام قاعدتين من القواعد الأربع الباكستانية التي تستخدمها الولايات المتحدة في

حربها ضد أفغانستان، وقد أكد جنرال بالجيش الأمريكي على مثل هذه التقارير،

كما أشار إلى أن الولايات المتحدة لم تعد في حاجة ماسة لتلك القواعد.

وكان مسؤول عسكري باكستاني قد ذكر الشهر الماضي بعد تزايد حدة التوتر

بين الهند وباكستان أن باكستان أخطرت الولايات المتحدة بأنها ربما تحتاج

القاعدتين الجويتين اللتين تستخدمهما الولايات المتحدة في مدينتي يعقوب آباد

وباسني لوضع القوات الجوية الباكستانية في وضع الاستعداد للحرب.

وقال المسؤول الباكستاني إن إسلام آباد قدمت هذا الطلب إلى الولايات

المتحدة بعدما اكتشف المسؤولون الباكستانيون أنهم كانوا مخطئين عندما اعتقدوا بأن

الوجود الأمريكي في باكستان سيثني الهند عن تعبئة قواتها.

وبعد هذا الإجراء القوي استغلت الولايات المتحدة الخطاب الذي ألقاه مشرف؛

ورغم أن الخطاب لم يعلن فيه مشرف أي إجراءات جديدة سوى إغلاق مقرات

بعض الجماعات الجهادية والشيعية وهي إجراءات كانت قد اتخذت بالفعل سارعت

الولايات المتحدة إلى الثناء على هذا الخطاب وطلبت من الهند التهدئة.

وتظل أمريكا تتحين الفرصة للانقضاض على باكستان بمجرد فراغها من

أهدافها في أفغانستان ويظل سيفها الهندي مشرعاً ومن خلفه يتحين يهود بمكرهم

وكيدهم.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015