دراسات تربوية
عبد الرزاق زعال
الكذب هو الإتيان بقول يخالف الحقيقة، ويتصل الكذب بالغش والسرقة من
حيث إن كل هذه الأفعال تنتمي إلى خصلة واحدة هي عدم الأمانة.
فكما أن الغش هو فعل أو قول يزيف الحقيقة، والسرقة هي فعل لا يتصف
بالأمانة، فكذلك الكذب هو قول تنقصه الأمانة؛ لأنه لا يطابق الواقع. وقد يستخدم
الكذب وسيلة لتغطية الغش والسرقة؛ فعندما يرمي الكاذب من كذبه التضليل،
يصبح الكذب غير بريء، وإذا كان الكذب أمراً شائعاً فإن ممارسته محرمة؛ لأنه
قادر على إيقاع الاضطراب في العلاقات الاجتماعية والإنسانية القائمة بين الأفراد،
والواقع أنه لا يمكن تصور الحياة الاجتماعية إذا لم تكن مبنية على بعض العلاقات
التي تتضمن الثقة المتبادلة النسبية، إلا أن هذه الثقة الضرورية تتزعزع إذا دخل
الشك في كل كلمة أو حركة أو موقف؛ ولذلك كان علينا أن نحلل الكذب الذي يعد
مسؤولاً عن كثير من المنازعات والأوبئة الاجتماعية، والذي يجب أن نتقي نتائجه
إذا لم نتمكن من شفائه.
وضع الكذاب:
الكذاب سطحي: إنه سطحي؛ لأن الكذب قبل كل شيء كذب على الذات،
أي أنه رفض للذات الأصلية ورفض لممارسة القوى الجوهرية الدفينة في النفس
الإنسانية، ونوع من التملق يظهر عند إنسان يتصنع الكياسة متخلياً عن الدوافع
الخارجية البسيطة وعن احترام ما في الإنسان من قيم رائعة في سبيل الوصول إلى
غاية رخيصة.
الكذاب متوتر: إن الكذاب (متوتر الأعصاب) دائماً؛ والسبب في ذلك أن
(الكذب طبيعة ثانية يحصل عليها المرء بإرادته تجعله لا يملك النية الحسنة الراسخة
والإيمان بأهمية ما هو صحيح) [1] ؛ لذلك يظل الكاذب في حال تأهب وأرق وقلق،
والسبب في ذلك هو أن الكاذب يبني أبنية لا وجود لها، ويحاول توكيد وجودها
في كل لحظة وتزيينها وترميمها والدفاع عنها ضد الواقع الذي ينكر وجودها دائماً.
الكذاب وحيد: الكذاب وحيد، بصورة خاصة؛ لأنه منغلق على نفسه، من
جهة، ولأنه نسف المفاهيم الاجتماعية الشائعة التي تنصح بعدم إغواء الآخرين
وتضليلهم. والكذب يخلق فئة من المنعزلين الوحيدين لا تكون على شكل جماعة
واضحة المعالم ضمن المجتمع بل تكون على شكل عزلة ضمن هذا المجتمع.
الكذب عند الأطفال:
وأسباب الكذب وأنواعه عند الطفل متنوعة؛ فقد يعتبر مظهراً لانحراف
سلوكي [2] ، وقد يعتبر حالة مرضية تحتاج إلى علاج نفسي متكامل، وهناك كذب
يأتي في سن معينة ويسمونه: (الكذب الأبيض) وهو يعتبر مرضاً في سن أخرى.
على سبيل المثال: أطفال المدارس يحبون اللعب الخيالي بعيداً عن الواقع، وهم
يجدون إثارة ومتعة في الخيال، ويعتقدون مخترعاتهم الخيالية حقائق واقعية حتى
يظن الكبار أن كذبهم قد وقع بالفعل، وهذا النزوع للكذب الخيالي عندهم مرتبط
بعدم قدرتهم على ضبط خيالهم الخصب، وهذا نوع من البراءة وليس كذباً بالمعنى
المتعارف؛ لأنه لا يهدف لضرر أو مصلحة ويكمن في عواطف الطفل الجامحة،
وإذا ثبت هذا النزوع عند الطفل وأصبح عادة فإنه يجب النظر إليه باعتباره انحرافاً
سلوكياً في حاجة للعلاج.
العوامل المؤثرة في نشوء ظاهرة الكذب [3] :
قد ينسج الأبناء والأطفال الكذابون على منوال الكبار في لجوئهم للكذب؛ ذلك
أن عالم الكبار مغمور بالكذب؛ فهم يستخدمونه بدافع التملق، أو التهذيب أو الخداع
المتبادل، أو التستر أو بدافع حل المشكلات، فيقوم الصغير بتقليدهم؛ وإذا ما
اقترن سلوك الكاذب بالنجاح في حل مشكلاته فإن ذلك يدفعه إلى التعلق بهذا السلوك.
كما أن الخوف أحد أسباب الكذب؛ فالكذب ستار نخفي وراءه أخطاءنا التي
يمكن أن نحاسب أو نعاقب عليها، ومن عوامل الكذب الاستعداد الشخصي؛ ذلك
أن الشخص النشط الخيال والذلق اللسان، والذي يمتلك القدرة اللازمة على تنميق
الألفاظ واستخدامها بمرونة كافية يكون على الغالب أكثر استعداداً للكذب من غيره.
ويرتبط نوع الكذب بالطبع؛ إذ إن المنطوين يصطنعون أكاذيبهم على شكل (إنكار
وتستر) بمعنى عدم قول الحقيقة أو إنكار الوقوع؛ في حين يميل الانبساطيون إلى
اختلاق وقائع جديدة أو تشويه للوقائع كما يتَّسمون بالميل إلى المبالغة.
أكاذيب الأطفال:
في البداية يجب التفريق بين الكذب والتخريف؛ فالتخريف هو تشويه للواقع
لا تتوفر فيه النية لتضليل الآخر؛ فقد يكون التخريف ناتجاً عن ضلال أو وهم
إدراكي، أو أن الذاكرة حين تختزن ما سمعت تقوم بعملية حذف واختيار وإعادة
بناء.
كما أن للتخريف علاقة بنوع البنية العقلية للشخص؛ فالشخص الميال
للتركيب في بنائه العقلي قد يحذف كثيراً من التفاصيل لصالح البناء الكلي. كما أن
الشخص الذي لا يدقق في الوقائع التي نقلت إليه قد يكذب من حيث لا يريد الكذب.
وقديماً قيل: «ناقل الكفر ليس بكافر» [4] .
وبالنسبة للطفل الصغير فإنه بالإضافة إلى هذه العيوب المتصلة بالخلل
المعرفي ميال إلى بناء عالم وهمي يشبع فيه رغباته.
وهذا العالم القريب من الحلم، البعيد عن الواقع يكون إطاراً مناسباً لنشوء
الأكاذيب التخريفية.
إن التخريف بالرغم من عدم مطابقته للواقع فإنه لا يشكل مشكلة، ويمكن
معالجته معالجة خارجة عن نطاق معالجة الكذب. وسبب عدم اعتبار الخرِّيف
كاذباً يعود للأسباب الآتية:
- لأنه أولاً: في بعض حالاته جزء من البنية العقلية للطفل الصغير،
واستمرار النمو كفيل بالتخلص منه.
- ولأنه ثانياً: لا يتضمن عنصر الخديعة؛ فالطفل إذ يخرف لا يوجه كلامه
للآخر بقدر ما يوجه كلامه لذاته، فضلاًَ عن أن الكبار لا يأخذون كلامه مأخذ الجد.
- ولأنه ثالثاً: لا يتوفر فيه عنصر النية.
يظهر الكذب عند الطفل منذ اللحظة التي يصبح فيها الطفل ذا إحساس بأن
الكذب هو عدم قول الإنسان لما يعرف، أو هو إرادته قول شيء آخر غير ما
نعرفه؛ فإلى أي شيء تتجه هذه الإرادة؟ يرى بعض علماء النفس أن أهم الأهداف
التي يرغب الطفل في تحقيقها دائماً هدف تجنب المضايقات من جهة (اللجوء إلى
حكاية خرافية تجنباً للعقاب) ، ومن جهة أخرى هناك هدف الحصول على بعض
المكاسب (التصريح بالحصول على علامات جيدة للفوز بمكافأة موعودة، أو تصنع
الاستياء أو الادعاء بالمرض للبقاء في البيت بدلاً من الذهاب إلى المدرسة) . وإذا
تعرضنا إلى ميدان العواطف بالإضافة إلى ميدان الوقائع، أمكن أن نضيف إلى
الهدفين السابقين غاية الطفل في أن يكون شيئاً مهماً في عيون الراشدين.
فالطفل قد يثير مواقف يتخذ منها بعض العواطف التي يعتقد أن (جمهوره)
ينتظره منه. إن آثار الكذب مضرة بالنسبة للكاذب ذاته كما هي مضرة بالنسبة
للآخرين؛ فالكاذب غير راض عن ذاته؛ لأنه يستبدل ذاته التي يرفضها بذات
أخرى تشوه الواقع.
وبذلك فالكذب تدليس على الذات أولاً فضلاً عن أن الكاذب يصبح موضع شك
حتى حين يقول الحقيقة.
والكذب أيضاً مضر بالآخرين؛ ففي الكذب نظرة ضمنية تعني احتقار الآخر
والنظر إليه على أنه وسيلة يستخدم الكاذب غفلتها للوصول إلى أغراضه؛ ومن
هذه الزاوية تبدو لا أخلاقية الكاذب.
أنواع الكذب:
إن أنواع الكذب متداخلة، بل لا تحدث وحدها؛ وإنما تكون في إطار أكبر
من الانحرافات السلوكية التي تعبر عن خلل نفسي؛ فقد تحدث السرقة والعدوان
والتزويغ من المدرسة من نفس الطفل الذي ثبت لديه الميل للكذب؛ فالجوهري في
المشكلة ليس الكذب في حد ذاته ولكن في الدوافع التي تحركه والأسباب الكامنة
وراءه. وعلى أي حال فهناك الكذب الخيالي (في الطفولة المبكرة وهو كذب أبيض
بريء في أغلب الأحوال) ، والكذب الادعائي، والكذب الأناني المغرض، وكذب
الانتقام، والكذب الدفاعي، وكذب التقليد، وكذب العناد، والكذب المزمن المرضي.
فالكذب الادعائي هو نوع من الكذب يستخدم لتغطية الشعور بالنقص؛
فالكاذب في هذه الحالة ينسب إلى نفسه أدواراً لم يلعبها أو ربما لعبها بشكل أقل مما
يدعيه.
وقد يشمل التضخيم في الكذب الادعائي لا تضخيماً للذات ليس بوصفها
مصدراً للسلوك بل بصفتها ذات موقع اجتماعي؛ فقد يكذب حول المركز الذي
يحتله أبوه، أو يكذب بخصوص صلة عائلته بأشخاص من ذوي نفوذ، أو بما
تمتلكه العائلة.. إن كل ذلك تعويض عن المركز الاجتماعي الذي تحتله العائلة التي
ينتمي إليها.
كما قد يستهدف الكذب الادعائي الحصول على العطف والاهتمام؛ كأن
يتحدث الطفل كاذباً عن مرضه أو اضطهاده ليحصل على أكبر قسط من الرعاية.
وكذب الوقيعة حيث يكذب الطفل في هذه الحالة من أجل الوقيعة بالآخرين
واتهامهم بذنوب وآثام لم يرتكبوها؛ وذلك بغية الانتقام منهم بسبب نوالهم حظوة
لدى جهة يعتقد الطفل أنها صاحبة سلطة كالأب والمعلم. وبذلك فإن هذه النوع من
الكذب له علاقة بالشعور بالغيرة.
وقد يتجه كذب الوقيعة لا لإفساد بين شخص يغار منه وصاحب سلطة، بل
بين شخص يحبه وآخر يغار منه وينازعه هذا الحب.
وعدم المساواة التي يشعر بها الطفل قد تكون من أسباب هذا النوع من الكذب؛
فالطفل الذي يشعر بأن أبويه يعاملان أحد إخوته بصورة أكثر محاباة قد ينسج
حبلاً من الأكاذيب حول أخيه من أجل تهديم مكانته لدى والديه.
أما الكذب بغية الوقاية فهذا النوع من الكذب كثير الشيوع بين الأطفال؛
فالطفل الذي يعتبر نفسه كائناً ضعيفاً يكذب ليخفي ارتكاباته أو إخفاقاته؛ ذلك لأن
معرفة هذه الارتكابات أو الإخفاقات تستتبع عقوبته.
كما أن الكذب الوقائي قد يتجه لحماية مكانته المهددة؛ فقد يكذب مثلاً
بخصوص درجات المدرسة؛ نظراً لأن موقعه في الأسرة وامتيازاته مرتبط بمقدار
ما يحصل عليه من درجات مدرسية، في حين أن قول الصدق يفقده مكانته تلك.
أما الكذب العنادي فقد يستخدم للتحايل أو التشفي من سلطة شديدة الوطأة قوية
الرقابة تحصي على الطفل أنفاسه. إن الكذب في هذه الحالة نوع من الانتقام،
وإظهار السلطة على جبروتها بأنها قابلة للخديعة، وأنها مهما بلغت من هيمنتها
وقسوتها فإن الإفلات منها ممكن؛ ولذلك فإن الطفل الكاذب يشعر بنشوة عارمة من
لذة الانتصار.
والكذب اللاشعوري حيث يصل الكذب ليتحكم بالطفل ليصبح كذباً مَرَضياً،
ويصدر عن الطفل بالرغم من إرادته وحبه لقول الحقيقة.
إن أساس هذا النوع من الكذب هو الكذب الادعائي، وفي بعض الحالات
يكبت الدافع المسبب للكذب الادعائي كأن يكبت الكاذب شعوره بنقصه، أو حاجته
للمكانة، أو حاجته للعطف والرعاية، وبذلك حين يتصل هذا الكذب بعامل لا
شعوري يفلت من رقابة المنطق الواعي، ومن رقابة الأنا الأعلى، ويتحول إلى
كذب مزمن ولا شعوري ولا يمكن معالجته إلا بكشف الأسباب العميقة الكامنة خلفه
في عيادات التحليل النفسي.
قواعد علاجية:
«إن علاج الكذب في ذاته بالضرب أو السخرية غير مفيد؛ ففي كل حالات
الكذب المفرطة والدائمة يلعب الوسط الاجتماعي الدور الحاسم في العلاج، وفي
علاج حالات الكذب نحن نختار الأسلوب الملائم حسب نوع كل طفل وسماته العامة
وظروفه العائلية وفهم دوافع كذبه مستخدمين رؤية متكاملة تشمل الجوانب
البيولوجية والاجتماعية والتعليم السلوكي» [5] .
ولكن في كل الأحوال يجب مواجهة كل كذبة وفهم دوافعها؛ فالكذب كذب لا
أبيض ولا أسود.