دراسات في الشريعة والعقيدة
د. أحمد بن أحمد شرشال [*]
إن القرآن الكريم لم يأت على نسق الكتب الموضوعة؛ إذ ليست فيه مباحث
موضوعية مرتبة لها مقاصد وأغراض في فصول وأبواب، وإنما كان القرآن
مشتملاً على عدة سور، وكل سورة منه احتوت على آيات متعددة، وكل آية أو
آيات في غرض؛ فهذه في الوعظ، وتلك للزجر، وهذه قصة، وتلك للأمر،
وأخرى للنهي، وهذه في العقيدة، وأخرى في الأحكام، وتلك في التشريع، وهذه
في الأخلاق، وهلم جرّاً ...
واختلفت أنظار العلماء وتأملاتهم في سبب ذلك. وقد علل لهذه الظاهرة فخر
الدين الرازي، فقال:
«إن من عادة القرآن أن يكون بيان التوحيد، وبيان الوعظ والنصيحة،
وبيان الأحكام مختلطاً بعضها بالبعض ليكون كل واحد منها مقوياً للآخر
ومؤكداً له» [1] .
ويرى في موضع آخر من تفسيره غير ذلك فيقول: «ليحمله ذلك على
القبول والخضوع» [2] ، ويرى في موضع ثالث أن ذلك يدفع عنه الملل والسآمة،
فقال: «لأن بقاء الإنسان في النوع الواحد يوجب الملل والضجر؛ فإذا انتقل من
نوع من العلوم إلى نوع آخر ينشرح صدره ويجدد الهمة والنشاط والمتابعة» [3] .
وتبعه على هذا التعليل الأخير الشيخ محمد رشيد رضا في بعض المواضيع
من تفسيره فقال: «لنفي السآمة والملل عن القارئ والسامع» [4] ، وتبعهما على
مثل ذلك الشيخ عبد العظيم الزرقاني في مناهله [5] .
أما سيد قطب رحمه الله فيرى غير ذلك فيقول: «إن منهج القرآن يتألف من
هذه وتلك على السواء، وحكم هذه كحكم تلك في أنها تؤلف دين الله» [6] .
ولعل وجه الحكمة في تنوع موضوعات القرآن أن يستفيد كل حافظ ودارس
للقليل والكثير من سوره وآياته مسائل الإيمان والفضائل والأحكام والتشريعات
المنوعة المبثوثة في السورة الواحدة وفي كل سورة.
ولو جمعت المواضيع على حدة، ورتب كل مقصد منها في سورة واحدة لفاته
الشيء الكثير، ولم يستطع أن يجمع ويحصل هذه الفضائل والأحكام والحكم إلا إذا
حفظ القرآن كله.
تفريق وتنوع هذه العناية الإلهية والحكم الربانية والأحكام العملية في السور
المختلفة وتكرارها بالعبارات البليغة يفيد منها كل من تناول القرآن بالحفظ والدراسة،
ولم يعدم الفوائد المنوعة في أي سورة أراد أن يتلوها قال تعالى: [انظُرْ كَيْفَ
نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ] (الأنعام: 65) .
فإن القارئ لكتاب الله لا يعدم النفع؛ وقد جاء هذا المعنى صريحاً في قوله
تعالى: [اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ] (الزمر: 23) ، يشبه
بعضه بعضاً ويثنى ويكرر فتثنى فيه العقائد والأحكام والحكم المواعظ والأمثال،
كما تثنى وتكرر تلاوته، فإنه مكرر الأعراض لتكون مقاصده أرسخ في نفوس
الناس، وليسمعها من فاته سماع أمثالها من قبل [7] .
ومن أعظم الموضوعات تكراراً وانتشاراً علم التوحيد؛ فتجده مبثوثاً في كل
سور القرآن غالباً مكرراً بشتى أنواع الأساليب، فتجده في أقصر السور كما تجده
في أطولها [8] .
وهذا الترتيب في طريقة القرآن مقصود وليس فيه خلطاً كما ذكروا ليجد فيه
الناس كل ما يقوِّمهم ويزكيهم وينمي فيهم الخير والرشاد؛ فإن كثرة أغراض الكلام
وتكراره وتنوعه أشد تأثيراً في بناء الإنسان السوي.
وما ذهبنا إليه يؤيده قول الله: [وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ القَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ] (
القصص: 51) ، قال مجاهد في تفسير هذه الآية: «جعلناه أوصالاً: أي أنواعاً
مختلفة من المعاني وصل بعضها ببعض» [9] . قال الشيخ الطاهر بن عاشور: «
وللتوصيل أحوال كثيرة؛ فهو باعتبار ألفاظه وصل بعضه ببعض.... وباعتبار
معانيه وصل أصنافاً من الكلام وعداً ووعيداً وترغيباً وترهيباً وقصصاً ومواعظ
وعبراً ونصائح يعقب بعضها بعضاً، ويتنقل من فن إلى فن، وفي كل ذلك عون
على نشاط الذهن للتذكر والتدبر» [10] . والله أعلم والموفق والهادي إلى سواء
السبيل.