منصور الأحمد
المقالة فن من فنون الأدب، له أصوله، ومميزاته، وأهميته، وهذا الفن -
كما أنه يكون سبباً في شهرة بعض الكُتاب - إلا أن كثيراً منهم يسئ استخدامه،
ويفشل أن يبني بينه وبين القراء جسراً بواسطته.
أما أهمية المقالة فهي سبيل مطواع يستطيع الكاتب أن يسخره لما يريد من
الأفكار الخاصة أو العامة، العلمية أو الأدبية، ويمكن أن توصل هذه الأفكار
بسرعة ودون التواء في أكثر الأحيان.
وقد حظيت المقالة في أدبنا العربي - قديماً وحديثاً - بمكانة لا يستهان بها،
ونستطيع أن نرصد خطواتها وتطورها.
وهى كغيرها من الفنون الأدبية، أدركها ويدركها التطور حسب ما يقتضيه
تطور الأفكار والأساليب، وحسب الظروف الثقافية والفكرية السائدة، وقد ساعدت
الصحافة وحركة النشر على ازدهار المقالة.
على أننا لا نريد في هذه العجالة أن نكتب بحثاً أدبياً وافياً عن ذلك، بل نحب
أن نلفت النظر إلى أن المجلات، ومنها مجلتنا (البيان) - إنما تعتمد في جل ما
تنشر على هذا الجانب من أساليب الكتابة، ونجاحها مرهون بإدراك كُتابها لما يجب
أن تتميز به المقالة عن غيرها من فنون الكتابة.
والهدف من المقالة هو تقديم فكرة معينة إلى القارئ بأسلوب يختاره الكاتب،
وحتى تحقق المقالة الغرض منها لابد أن يتوفر فيها:
وضوح الفكرة، وضوح الأسلوب وجماله، وهذان الشرطان يلتقيان على
قاعدة سابقة في ذهن الكاتب، وهي: معرفته بمَن يخاطب.
1 - الموضوع أو الفكرة:
يعتبر موضوع المقالة المحور الأساسي لها، وهو الهدف منها، وبقدر احتفال
الكاتب به تحديداً وتوضيحاً يصل إلى هدفه في الإقناع. وأكبر الأخطاء التي
تُرتكب في المقالات الفاشلة أن لا يكون موضوعها واضحاً في ذهن كاتبها، وأن
تكون الفكرة التي تدور عليها غامضة مبهمة، أو ليست ناضجة، أو ضائعة في
خضم كلام لا يعرف كاتبه العلاقة الصحيحة بينه وبين الفكرة.
2- الأسلوب:
الأسلوب هو القالب اللفظي الذي تصب فيه الفكرة، مضافاً إليه الروح، أو
قل: النكهة التي تُحس أو تدرك من هذا الأسلوب، والتي تميز كاتباً عن آخر،
وهي التي عناها من قال: الأسلوب هو الأديب نفسه، هي بصمته وتوقيعه الذي لا
يمكن تزويره.
فالأسلوب ليس كلمات مرصوفة رصفاً، أو منتزعة من هنا وهناك لأدنى
علاقة، أو بدون علاقة في بعض الأحيان، بل هي حصيلة دراسات الكاتب
ومطالعاته، ومجمل ثقافته، إضافة إلى سمات مزاجه وطبعه.
والأسلوب الناجح يتميز: بالوضوح والجمال.
أما الوضوح فيكون باختيار الألفاظ المطابقة للمعنى، والبعد عن تتبع
الغرائب، والحرص على طرائق التعبير العربية، والبعد قدر الاستطاعة عن العجمة التي أصبح التخلص في هذه الأيام منها هماً ناصباً.
وأما جمال الأسلوب فهو شيء يصعب تحديده؛ لأن مبناه على الذوق، وهذا
الذوق يربَّى ويصقل بالقراءة وتتبع الآثار الأدبية الراقية.
إذا عرفنا هذا اتضح لنا أن المقالة ليست خطبة ملتهبة هدفها إثارة العواطف
وشحن الخواطر بالكلمات والجمل المهيجة بعيداً عن الإقناع.
وليست بحثاً هدفه إظهار قدرة الكاتب على البحث والتنقيب والتوثيق، وإثقال
الهوامش بالمراجع والإحالات.
وليست فرضاً لمنهج علم معين في التأليف، وإرباك القارئ بمصطلحات لا
يدري عنها شيئاً، أو يدري عنها القليل!
إنها باختصار فن أدبي جميل، يشتمل على موضوع رئيسي يراد إيصاله إلى
القارئ بطريق رشيق مقنع، بعيد عن الإملال والإرهاق، ويتلطف إليه بمدخل أو
استهلال يكون بمثابة الاستئذان للدخول إلى عقله وقلبه، وأن لا يُغادَر إلا وقد
اطمأن الكاتب أن ما يريده قد وصل، فيلملم أطراف موضوعه بخاتمة تكون بمثابة
التوديع الذي لا يكون إلا عن تعارف وتصاف ووثاقة صلة.
في مكان آخر من هذا العدد وضعنا مثالاً تطبيقياً لمقالة أدت الغرض منها [1] ، فهي ليست بالطويلة، وليست بالقصيرة، واستوفت شروط سهولة الألفاظ
والتراكيب مع جمالها وقوة تأثيرها، ووضوح الفكرة الرئيسية التي صاغ الكاتب من
أجلها مقالته، وحسن استدلاله على ذلك من الواقع العملي والتاريخي للإسلام، ثم
إدراكه للأصول دون الغرق في التفاصيل التي لا تغني شيئاً وقد ذهبت الأصول،
فقد درج الكاتبون في شأن الهجرة أن يشغلوا أنفسهم ويشغلوا الناس في سرد وقائع
الهجرة، دون الخوض في دلالتها العملية العميقة التي يحتاجها المسلمون اليوم،
فأراد أن يتخذ من حادثة الهجرة دافعاً مستمراً متجدداً للإصلاح وعلاج المشاكل
المصيرية التي تكاد تعصف بالكيان الإسلامي.