مجله البيان (صفحة 417)

متى نكون اعلم بامور دنيانا؟

ردود ومناقشات

متى نكون أعلم بأمور ديننا؟ !

سامي السويلم

ظلت السنة على مر العصور عَلماً يستهدي به سلف هذه الأمة وأئمتها في

عقائدهم وأخلاقهم، ونوراً يستضيئون به في عصور الظلام والفتن، ولم تزدها

شبهات المشككين ودعايات المضللين سوى ثباتاً ورسوخاً في قلوب أهلها، وأتباعها

مصداقاً لقول الله - تعالى -: [ومِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ

زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الحَقَّ والْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ

فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ] [الرعد: 17] .

وتواجه السنة اليوم شُبهاً عديدة، منها ما هو ترديد لشبهات السابقين [1] ،

ومنها ما هو حديث العهد، قريب النشأة. وقد تكفل في السلف الصالح برد تلك

الشبه التي ثارت في عصورهم، وأما ما استجد اليوم فإنه يستوجب على المسلمين

عموماً - وعلمائهم خصوصاً - التصدي لها وبيان بطلانها، خصوصاً تلك الشبه

التي اختلط فيها الحق بالباطل؛ مما قد يروج على بعض المسلمين.

وكان من هذه الشبه الحديثة: دعوى أن النبي - صلى الله عليه وسلم -

أعطى لنا الحق المطلق في تنظيم أمور دنيانا، حتى ولو كان النبي - صلى الله

عليه وسلم - قد قال فيها حكمه، اعتماداً على ما رواه مسلم في صحيحه من حديث

عائشة وأنس - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر بقوم

يلقحون. فقال: (لو لم تفعلوا لصلُح) ، قال: فخرج شيصاً. فمر بهم فقال: (ما

لنخلكم؟) قالوا: قلت كذا وكذا. قال: (أنتم أعلم بأمور دنياكم) [2] .

فجعلوا هذا الحديث سنداً لهم في رد كثير من النصوص المتعلقة بأمور

السياسة والاقتصاد والاجتماع، وشئون الحرب والسلم، بل وحتى نصوص الطب؛

بحجة: أنَّا أعلم بأمور دنيانا!

فيا ليت شعري! ما الذي يبقى بعد من شريعة الإسلام؟ ، أترى النبي -

صلى الله عليه وسلم- قد جاء ليعلِّمنا الوضوء والعبادات فحسب: [سُبْحَانَكَ هَذَا

بُهْتَانٌ عَظِيمٌ] [النور: 16] .

وليس غريباً أن تنشأ مثل هذه الشبهة في هذا الزمان الذي قُدس فيه العقل

البشري، وأُعطي من الصلاحيات ما لم يُعطَه في أي زمان مضى، حتى أوج

زمان المعتزلة وأشياعهم.

وقد فتن كثير من المسلمين بمدنية الغرب وتنظيمهم لأمور معاشهم، وتحت

ضغط الانهزام النفسي والشعور بالتبعية، راحوا يبحثون عن كل ما من شأنه أن

يبرر لهم التملص من أحكام الإسلام، ومحاولة تقريبه من أحكام الغرب ونظمه،

وصدق فيهم قول الشاعر:

نرقع دنيانا بتمزيق ديننا ... فلا ديننا يبقى ولا ما نرقع

فأول خطأ قاد هؤلاء إلى هذه الدعوى هو هذا الموقف النفسي الذليل، وكأنهم

نسوا قول الله-عز وجل-: [ولا تَهِنُوا ولا تَحْزَنُوا وأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ] [ال عمران: 139]

أما استدلالهم بهذا الحديث، فقد أخطأوا فيه لسببين:

الأول: اقتصارهم على إحدى روايات الحديث، وإهمالهم سائر طرقه

وألفاظه. ...

الثاني: غفلتهم عن النصوص الأخرى المتعلقة بنفس الموضوع، ووجه

العلاقة بين هذه النصوص جميعاً.

ونحن نحاول في هذه العجالة أن نذكر ما تبين لنا في ذلك، وإلا فالموضوع

بحاجة لمزيد من البحث والدراسة. فنقول وبالله التوفيق:

أولاً: أما روايات الحديث فقد ساق له الإمام مسلم في صحيحه [3] عدداً من

الطرق، كما يلي:

- ساق بإسناده إلى موسى بن طلحة عن أبيه قال: مررت مع رسول الله -

صلى الله عليه وسلم- بقوم على رؤوس النخل، فقال: (ما يصنع هؤلاء؟) فقالوا: ... يلقحونه. يجعلون الذكر في الأنثى فتلقح. فقال رسول الله -صلى الله عليه

وسلم-: (ما أظن يغني ذلك شيئاً) قال: فأُخبروا بذلك فتركوه. فأخبر رسول الله -

صلى الله عليه وسلم- بذلك فقال: (إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه؛ فإني إنما ظننت

ظناً فلا تؤاخذوني بالظن. ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئاً فخذوا به؛ فإني لن أكذب

على الله (عز وجل)) .

- ثم ساق بإسناده إلى رافع بن خديج - رضي الله عنه - قال: قدم النبي -

صلى الله عليه وسلم- وهم يؤبِّرون النخل - يقولون يلقحون النخل - فقال: (ما

تصنعون؟) ؛ قالوا: كنا نصنعه. قال: (لعلكم لو لم تفعلوا كان خيراً، فنَفَضت

أو نقصت) ، قال: فذكروا ذلك له. فقال: (إنما أنا بشر. وإذا أمرتكم بشيء من

أمر دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأي فإنما أنا بشر) ، قال عكرمة -

أحد الرواة -: أو نحو هذا.

- ثم ساق الحديث من طريق عروة عن عائشة، وثابت عن أنس، الحديث

بلفظه المذكور أول المقال.

ويلاحظ من خلال هذه الروايات ما يلي:

1 - أن الروايات وإن تعددت ألفاظها فهي تحكي قصة واحدة. إذ حاشا النبي

-صلى الله عليه وسلم- أن يتكرر منه الخطأ نفسه أكثر من مرة. وعليه فإن

الروايات المذكورة يفسر بعضها بعضاً. والتعدد في الألفاظ مرجعه إما إلى الرواية

بالمعنى. كما قال عكرمة: أو نحو هذا، وإما إلى الاختصار من جهة الراوي.

2- أن رواية طلحة - رضي الله عنه - أكثر الروايات وضوحاً وتفصيلاً،

ولا غرو، فإنه قد شهد هذه الواقعة مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، بخلاف

سائر الصحابة الرواة للقصة - رافع وعائشة وأنس - رضي الله عنهم - فليس في

رواياتهم ما يدل على شهودهم لها.

3 - أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما رأى القوم يلقحون سألهم - كما في

حديث رافع -: (ما تصنعون؟) وفي حديث طلحة: (ما يصنع هؤلاء؟) وكان

- والله أعلم - سؤال استفهام واستعلام مما يدل على أن النبي -صلى الله عليه

وسلم- لم يكن يعرف التلقيح من قبل؛ خصوصاً أن سؤاله وقع أول مَقدِمه المدينة

كما أشار لذلك رافع - رضي الله عنه - وهذا كسؤاله - عليه السلام - عن الرطب: (أينقص الرطب إذا يبس؟) [4] ، فمجموع هذا يدل على أنه -صلى الله عليه ...

وسلم- لم يكن له خبرة تامة بالزراعة، وهو أمر لا يستغرب ممن نشأ في مكة،

فإن أهل مكة كان الغالب عليهم التجارة، بخلاف أهل المدينة فإنهم أهل زرع.

وهذا يفسر قوله - عليه السلام - في حديث عائشة وأنس: (أنتم أعلم بأمور

دنياكم) ؛ فالنبي -صلى الله عليه وسلم- قال هذه العبارة فيما لم يكن له به علم تام

وخبرة تامة. وكان المخاطَبون أعلم به منه؛ ولهذا أضاف: (الدنيا) إليهم في قوله

(دنياكم) لا أنهم أعلم منه بالدنيا مطلقاً، فإنه - عليه السلام - كان أعلم منهم

بشئون الحرب والسياسة، وتدبير الأمة، وتصريف مصالحها، وغير ذلك من

أمور الدنيا. فعلم بذلك أن المراد بالدنيا في قوله: (دنياكم) ما لم يكن عند النبي -

صلى الله عليه وسلم- منه علم تام. وليس المراد عامة أمور الدنيا. وسيأتي كيف

يمكننا التفريق بين الأمرين.

4- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال للذين يلقحون النخل - كما في

حديث طلحة -: (ما أظن يغني ذلك شيئاً) فلم يكن رأيه - عليه السلام-آنذاك

سوى ظناً، وهو كقوله في حديث رافع: (لعلكم لو لم تفعلوا كان خيراً) فهو لم

يجزم في رأيه ولم يخبر به خبر المتيقن من صوابه. بل قاله على سبيل الظن

والترجي. وقد نص هو - عليه السلام - على ذلك في قوله: (.. فإني إنما ظننت

ظناً..) وهذا يبين أن قوله في حديث عائشة وأنس - (لو لم تفعلوا لصلح) - هو

بالمعنى، وأنه على سبيل الظن لا الجزم كما هو ظاهر العبارة. قال الإمام النووي:

(قال العلماء: ولم يكن هذا القول خبراً، وإنما كان ظناً كما بينته الروايات) [5] .

5- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بين ما الذي يلزمنا الأخذ به مما لا

يلزمنا من كلامه -صلى الله عليه وسلم-، فقال في حديث طلحة: (.. فلا

تؤاخذوني بالظن. ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئاً فخذوا به، فإني لن أكذب على الله

- عز وجل -) فمقتضى القسمة في هذا الحديث أن كل ما جزم به النبي -صلى

الله عليه وسلم- فهو من عند الله [6] ، ويجب علينا الأخذ به، بخلاف ما ظنه ولم

يجزم به، فمقتضى الحديث أن ما كان كذلك فهو ليس من عند الله، ولا يجب علينا

الأخذ به. يوضح ذلك: أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: لا يجزم إلا بما يعلمه

ويتيقنه، ومن الممتنع أن يكون علمه بالشيء مخالفا لحقيقته.

أما الأول: فإن الله أدّب نبيه بقوله: [ولا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ]

[الإسراء: 36] .

وأما الثاني: فقد عصم الله - تعالى - نبيه عن الكذب وعن إضلال الأمة.

وهو - عليه السلام - أنصح الخلق لأمته، فإذا علم شيئاً فإنه مبلّغه لها بمقتضى

نصحه، وقياماً بواجب البيان والبلاغ. وإذا بلغ أمته شيئاً وأخبرها به جزماً،

وكان المخبر مخالفاً للخبر؛ كان ذلك كذباً وضلالاً للأمة بلا شك. وقد عصمه الله

- تعالى - من الأمرين جميعاً، إما ابتداءً وإما تسديداً بالوحي.

ويشهد لصحة القسمة المذكورة آنفاً قوله - عليه السلام - حديث رافع: (إذا

أمرتكم بشيء من رأي فإنما أنا بشر) فالتنكير في قوله: (بشيء من رأي) مشعر

بأن المراد ما كان على غير وجه الجزم والإلزام، بل على وجه المشورة والاقتراح

فحسب [7] .

يوضح ذلك أن كلمة (رأي) تستعمل فيما كان ناتجاً عن الخبرة البشرية مما

هو قابل للخطأ والصواب، كما في السيرة أن الحباب بن المنذر قال للنبي -صلى

الله عليه وسلم- يوم بدر: (يا رسول الله! ، أرأيت هذا المنزل أمنزلاً أنزلكه الله

ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الحرب والرأي والمكيدة؟) [8] وما كان

كذلك فحاشا النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يجزم به، وهو يعلم أنه يرد عليه

الخطأ، والجزم بالشيء إنما هو لتيقن صاحبه منه - طلباً أو خبراً -والعرب لا

تسمي مثل هذا اليقين: رأياً.

فقوله - عليه السلام -: (بشيء من رأي) واضح في أن المراد ما كان

أقرب إلى المشورة والاقتراح، لا إلى الجزم واليقين.

فتحصل مما تقدم أن مقتضى القسمة في كلا الحديثين: أن كل ما جزم به

النبي -صلى الله عليه وسلم- - طلباً أو خبراً - فهو من عند الله - تعالى -[9] ،

ومن ديننا؛ فيلزمنا الأخذ به، وأما ما كان من كلامه -صلى الله عليه وسلم- ظناً

أو رأياً، فقد رخَّص لنا النبي -صلى الله عليه وسلم- في الأخذ به أو تركه.

وليست القسمة كما فهمها أصحاب الشبهة: أن ما كان من أمور الدنيا مطلقاً فهو إلينا، وما كان من أمور الدين فهو إليه - عليه السلام - والله أعلم.

فإن قلت: قد أكثرت من الشرح والتقسيم، فهلاّ أتيت بمثال يوضح عبارتك

ويؤيد مقالتك! .

فالجواب: أن أقرب مثال - والأمثلة متوافرة - هو ما رواه البخاري في

صحيحه [10] من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - في قصة بريرة لما

خالعت زوجها مغيثاً - وكان شديد التعلق بها - وفيه أن النبي -صلى الله عليه

وسلم- قال لبريرة: لو راجعته، قالت: يا رسول الله! تأمرني؟ ؛ قال: إنما أن

أشفع، قالت: لا حاجة لي فيه. قال الحافظ [11] : وعند ابن مسعود من مرسل

ابن سيرين بسند صحيح: (فقالت: يا رسول الله! أشيء واجب عليَّ؟ قال: لا) .

فقوله -صلى الله عليه وسلم- لبريرة: (لو راجعته) لا يعدو كونه مشورة واقتراحاً كما بيَّن ذلك -صلى الله عليه وسلم-، وليس جزماً فيجب عليها الأخذ به، وقارن بين قوله - عليه السلام -: (لو راجعته) وقوله: (لعلكم لو لم تفعلوا كان خيراً) كيف تجدهما يصدران نفس المصدر والله أعلم.

فإن قلت: إن تقييدك لحديث التلقيح - بما كان على سبيل الظن والرأي - هو

تخصيص للحديث بسببه، وتد تقرر في الأصول أن (العبرة بعموم اللفظ لا

بخصوص السبب) ؟ .

فالجواب: أن هذه القاعدة محل نزاع عند كثير من أهل العلم، أولاً.

وثانياً: أن الفرق كبير بين مجرد ورود العام على سبب، وبين أثر السبب

والسياق والقرائن في تخصيص العام - وهو ما نحن بصدده - كما نبه على ذلك

العلامة ابن دقيق العيد.

وثالثاً: مع التسليم بالقاعدة فإن الأخذ بها مقيد بعدم قيام المعارض، فأما مع

وجوده فإن من طرق الجمع حمل العام على سببه دفعاً للتعارض وإعمالاً لكل نص

في مجاله [12] . ولو أخذنا بعموم لفظ حديث التلقيح، خصوصاً حديث عائشة

وأنس - رضي الله عنهما - دون النظر في سببه وسياقه لوجدنا نصوصاً كثيرة

متظاهرة تعارضه وتصادمه، ونحن نذكر هذه النصوص لأهميتها ولبيان وجه

العلاقة بين هذه النصوص جميعاً.

ثانياً: وأما سائر النصوص في هذا الباب فهي على نوعين: عام وخاص.

أما العام: فكقوله - تعالى -: [ومَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ ولا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ

ورَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ] الآية [الأحزاب: 36] ، فبيَّن -

تعالى - أنه لا خيار لنا أمام قضائه - تعالى - في القرآن، وقضاء رسوله -صلى

الله عليه وسلم- في السنة.

وقوله - تعالى -: [فَلْيَحْذَرِ الَذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ

يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] [النور: 63] .

وقوله (أمره) مفرد مضاف، فيعم كل أنواع أمره - عليه السلام -.

وكقوله - عليه الصلاة والسلام -: (ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به

فأتوا منه ما استطعتم) [13] .

فعلق الأمر على الاستطاعة لا على نوعية المأمور به.

وأما الخاص: فمنه ما أخرجه الإمام أحمد وأبو داود بسند صحيح من حديث

عبد الله بن عمرو قال: (كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أريد حفظه. فنهتني قريش فقالوا: إنك تكتب كل شيء تسمعه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- بشر يتكلم في الغضب والرضا. فأمسكت عن الكتاب. فذكرت ذلك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: (اكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج منه إلا حق) ، وأشار بيده إلى فمه [14] .

وصح عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن الصحابة قالوا للنبي -صلى الله

عليه وسلم-: (إنك تداعبنا؟) فقال - عليه السلام - (إني لا أقول إلا حقاً) ،

أخرجه أحمد والترمذي [15] .

وإذا كان كل ما يقوله -صلى الله عليه وسلم- حقاً في الغضب والرضا، في

الجد والمزاح، فلا رخصة لنا حينئذ في الإعراض عنه.

فهذه النصوص أظهر وأبين في الدلالة من حديث التلقيح. ولو سلكنا سبيل

أصحاب الشبهة لأخذنا بهذه النصوص وأعرضنا عن حديث التلقيح. ولكن كلا

الطريقين خطأ.

والذي عليه سلف هذه الأمة هو الأخذ بنصوص الوحي جميعاً، والعمل بكل

منها على وجهه الذي جاء عليه. ولا يضربون كلام الله وكلام رسوله -صلى الله

عليه وسلم- بعضه ببعض.

ويقولون: [آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا] [ال عمران: 7] .

فإن قلت: فما وجه الجمع بين حديث التلقيح وبين النصوص التي ذكرت؟ .

قلت: وجه الجمع - والله أعلم - يتلخص فيما يلي:

أولاً: أن الأصل، والقاعدة العامة هي الأخذ بأمره وقوله - عليه السلام -

مطلقاً دون استفصال، ودون الحاجة إلى البحث عن قرينة خاصة تُلزمنا بذلك

النص.

وهذا الأصل هو مقتضى العموم في النصوص الملزمة باتباع أمره - صلوات

الله وسلامه عليه - فإنها لم تفرق بين أمر وأمر، أو بين نص ونص، بل عممت

الإلزام بها جميعاً. ويقابل هذا الأصل العام:

ثانياً: ما يمكن أن يُستثنى من هذه القاعدة العامة بمقتضى حديث التلقيح وهو

ما كان منه - عليه الصلاة والسلام - على سبيل الظن والرأي، لا الجزم والحكم.

ولا تعارض بين حديث التلقيح وبين حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله

عنهما - فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا أخبرنا بأنه يظن كذا، فما قال إلا

الحق، وإذا أشار علينا بشيء على سبيل الرأي، فلم يعد الحق. إذ المشورة نفسها

من لحق، ولا يمكن أن يتأتى مثل هذا الجمع على مقتضى قول أصحاب الشبهة،

وبالله التوفيق.

فإن قلت: ومتى نعرف أن حديثاً ما هو على سبيل الظن والرأي أو على

سبيل الجزم؟ .

قلت: لا يحق لنا القول بأن حديثا ما هو على سبيل الظن أو الرأي إلا بعد

قيام قرينة خاصة وأمارة ظاهرة تفيد هذا المعنى. والنبي عليه السلام أنصح الخلق

وأصحهم لأمته، فلو أراد أن يشير علينا برأي دون إلزام لبين ذلك. ولو أراد

إخبارنا بما يظنه لا ما يعلمه، لبين ذلك، صلوات الله وسلامه عليه. وما لم تقم

تلك الأمارة الظاهرة، وتلك القرينة البينة، فهذا كافٍ في وصف الحديث بكونه

على سبيل الجزم والإلزام، وهذا مقتضى الأصل الذي قررناه آنفاً.

هذا ما تيسر لنا في هذه المسألة، فمن كان عنده فضل علم أو تصحيح خطأ

فلا يبخل به. والله تعالى أعلم. وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وآله

وصحبه أجمعين.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015