المسلمون والعالم
كرة حماس الملتهبة بين كفي
عرفات وشارون!
أمير سعيد
تخضع القضية الفلسطينية في الوقت الراهن لسياسة عض الأصابع المتبادلة
بين طرفي النزاع: المقاومة وقوى الاحتلال. وبانتظار صرخة الألم التي سيطلقها
هذا الطرف أو ذاك تظل الأحداث على وتيرتها المتصاعدة يوماً بعد يوم؛ إذ لا
خيارات متعددة أمام طرفي الصراع؛ فكل قد حدد وجهته:
شارون وعصابته عبر الهروب إلى الأمام بتسخين الموقف من خلال
الاستمرار في سياسة الاغتيالات التي تنفذ بحق نشطاء حماس والجهاد وفتح
والشعبية، والتمادي في سياسة إغلاق مناطق السلطة وتجويع أهلها وإذلال
الفلسطينيين عند المنافذ الحدودية، واستهداف مقار السلطة وسجونها وثكنات القوة
17 (الحرس الخاص للرئيس الفلسطيني ياسر عرفات) وتنفيذ أسلوب اختطاف
العناصر النشطة لدى التوغل المتكرر لقوى الاحتلال في مناطق السلطة (25
ناشطاً خلال اقتحام جنين، 9/12) بالإضافة إلى القصف المتواصل على مناطق
سكانية واغتيال أطفال ونساء في مناطق السلطة.
والشيخ ياسين ورجاله المغاوير بالرد القوي الملائم لما يلقاه الفلسطينيون من
اضطهاد وإذلال وقهر.
في الأجل القصير: إلى أي مدى يمكن للطرفين أن يصمدا في وجه بعضهما؟
الإجابة عن هذا السؤال جد عسيرة. لكن ربما أسهمت صورة أكثر وضوحاً
للموقف في الدنو من مساحة الإجابة.
ثمة متغيرات جسيمة دخلت على هذا الصراع الممتد:
أولها: أن أحداث 11 سبتمبر الماضي قد أنشبت أظفارها بعنف في القضية
الفلسطينية، ولقد تلاقت آراء معظم المراقبين السياسيين على القول بأن أحداث 11
سبتمبر وما جرته من إزالة للدولة الإسلامية في أفغانستان، وما تبعها من إجراءات
أمنية أمريكية (سنعرض لها بشيء من التفصيل فيما بعد) طالت بيد البطش
الحركات الإسلامية الجهادية في فلسطين وغيرها، قد أضرت كثيراً بالطرف
الفلسطيني المسلم، ولعلنا إذ نشاطرهم رأيهم بأن الأحداث الأخيرة ألحقت الأذى
بالفلسطينيين نخالفهم في ماهية هذا الضرر وفي مدى تأثيره الزمني؛ لأن المعركة
بين الولايات المتحدة الأمريكية وأعدائها من المسلمين الفقراء في أفغانستان وغيرها
لَمَّا تصل نهايتها. (لا يمكن بحال اختزال معركة الإسلام والغرب في جولة واحدة
مبهمة المعالم ولامع جناح من تنظيم واحد) .
إلا أن الواضح أن الولايات المتحدة الأمريكية قد انفلتت من عقالها وعقلها
على حد قول مروان البرغوثي أمين سر حركة فتح الفلسطينية واستبد بها الكبر
والغرور.
متغير ثان: هو نجاح فرق الموت الصهيونية في اغتيال قائد كتائب عز الدين
القسّام في الضفة الغربية محمود أبو هنود مع اثنين من معاونيه (لا يزال قائد
الجناح العسكري لحماس في غزة محمد ضيف متخفياً من فرق الموت الصهيونية
والسلطة الفلسطينية في آن واحد. نسأل العلي القدير له السلامة) مما أدى إلى بث
بعض التفاؤل في نفوس قادة وعناصر الأجهزة الأمنية الصهيونية المحبطة، وبث
رغبة عارمة للثأر في نفوس عناصر الكتائب لخسارتهم واحداً من أبرز وألمع وأكفأ
من أنجبتهم تلك الطليعة المجاهدة. وبالفعل فقد جاء الرد قاسياً كما وعدت الكتائب
في بيانها التأبيني للفقيد أعاد للعالم صورة سلسلة التفجيرات الانتقامية التي نفذتها
الكتائب في أعقاب مقتل مهندس التفجيرات البطل يحيى عياش، وتلقت حركة
المقاومة الإسلامية إثرها أعنف ضربة منذ تأسيسها في عام 1987 استهدفت بناها
التحتية واحتاجت بعدها لأعوام حتى تسترد عافيتها (شارك في تلك الضربة جنود
عرفات والولايات المتحدة الأمريكية والكيان الصهيوني) .
وإذا كان اغتيال أبو هنود وما استتبعه من تفجيرات وإطلاق نار من جانب
المقاومة، وتوغل وقصف من جانب الاحتلال يمثل تصعيداً خطيراً، فإن ذلك
التصعيد لا يمكن بحال فصله عما استقبله واستدبره من عمليات كبيرة من كلا
الجانبين أدت إلى انتقاص من أطراف كلا الجانبين؛ فعملية قتل رحبعام زئيفي
وزير السياحة (الإسرائيلي) أحد أبرز العناصر المجرمة في تشكيل الحكومة
الإسرائيلية على يد عناصر من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وكذلك محاولة
قتل رئيس الأركان (الإسرائيلي) شاؤول موفاز خلال شهر ديسمبر أثناء جولة
تفقدية على يد نشطاء من الذراع العسكري لحركة فتح (كتائب العودة) ، ونجاح
الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي في تنفيذ عملية استشهادية في إحدى
المستوطنات الإسرائيلية أدت إلى قتل العالم النووي الإسرائيلي دافيد باتسيم [يعد
باتسيم واحداً من خمسة علماء نووين يشرفون على تطوير البرنامج النووي
الصهيوني، ويعد أحد المشرفين الإسرائيليين على صنع قنابل صغيرة محملة بمواد
نووية وكيميائية وبيولوجية، وله اتصال واسع بعلماء أمريكيين وروس] ، وكذلك
عمليات اغتيال كوادر نشطاء حماس والجهاد وفتح والشعبية، والقصف المتوالي
لمقار السلطة ولاسيما رئيسها ياسر عرفات وحرسه الخاص وتدمير مروحياته ومنعه
من السفر.. كل هذا يعد دليلاً على أن هذه الحلقة الجديدة من حلقات الصراع
تختلف كثيراً من سابقاتها ومؤشراً لتغيير هائل يطال جميع العناصر الفاعلة في
الصراع؛ إذ يستحيل بحال أن يبقى هذا الوضع على ما هو عليه الآن.
رؤية الأطراف الأربعة:
تأسيساً على ما سبق فإن المتغيرات التي طرأت على الساحتين العالمية
والمحلية قد عدلت بشكل أو بآخر من رؤى وسياسات الأجنحة الفاعلة في الصراع
الإسلامي/ اليهودي في فلسطين:
الكيان الصهيوني:
قبل أقل من عام اختار اليهود سفاحهم شارون تحت شعار (100 يوم للقضاء
على الانتفاضة) من أجل تعويم ثقتهم بأنفسهم وقدرة أجهزتهم الأمنية، وقد أوهمهم
المغبون بصلفه وتكبره أنه قادر على وقف الزحف الأخضر. ولحد الآن صمد
شارون في منصبه كل هذه الفترة رغم قلتها مقارنة برفقائه من حكام دول الطوق
والنوق والمئون تمضي بدلاً من المائة المنشودة التي وعد بها شعبه ولَمَّا تفقد
الانتفاضة الوضاءة من بريقها شيئاً، بل زيدت تألقاً بفعل استشهادييها الذين نما
عددهم بشكل مثير خلال تلك الفترة، وبفعل تلاحم القوى الفلسطينية المقاومة
وتفويت فرص المؤامرة على وحدتها، ولعل سر صمود شارون لا يعود إلى تنفيذ
سياسة الاغتيالات الموجعة ذات الشعبية الإسرائيلية الجارفة بحق ناشطي الانتفاضة
فحسب، ولا اتكاؤه على حكومة وحدة احتلالية بمساندة الثعلب بيريز فحسب؛ بل
لأن القوم قد أعيتهم الحيل في وأد الانتفاضة، ولم يعد في جعبتهم سوى سكين
السفاح فأشهروه! ! لذا فمن نافلة القول الإقرار بأن المأزق الذي خلقته الانتفاضة
المباركة لليهود ليس مأزقاً لشارون وعصابته وحسب وإن كان شارون يجسده وإنما
هو مأزق كيان أفاق على حقيقة مفادها أنه بعد أربعين عاماً من إعلانه بدأت أركانه
تتصدع.
والحاصل الآن أن شارون يريد حلحلة الموقف بالإفادة من المعطيات الجديدة
التي خلفتها أحداث 11 سبتمبر وانكماش الدول العربية وانكفائها أكثر فأكثر،
وهياج الثور الأمريكي وبطشه بكل ما هو إسلامي وفاعل في المنطقة العربية
والإسلامية؛ ولذا فقد أطلق مبادرته بضرورة إنهاء السلطة لكافة أشكال الانتفاضة
بنسبة 100% وتفكيك شبكات النضال الإسلامي (حماس والجهاد) مقابل الإبقاء
على عرفات في منصبه! (أقنع بيريز شارون بتبني صيغة 100% من الجهد
الفلسطيني لوقف العنف بدلاً من 100 % من النتائج، ويبدو ذلك في الظاهر تنازلاً
من الجانب الصهيوني؛ بيد أن الخبيث بيريز أراد بهذه الصيغة الجديدة التي تم
الاتفاق عليها بحضور المبعوث الأمريكي الجنرال زيني إطلاق يد الغدر اغتيالاً
لكوادر الانتفاضة جوار الجهد الخلاق لعرفات وجنده في الزج بمن بقي من هؤلاء
الأبطال على قيد الحياة في سجون السلطة! !) ولخص شارون سياسته الحالية في
مقابلة أجرتها معه صحيفة واشنطن بوست (11/12/2001) حين قال عن
عرفات: (إن هذا سيجعل من الصعب التوصل إلى اتفاقية معه، ولكننا سوف لا
نتخذ أي خطوات خاصة ضده.. لقد حددنا تحركاته لإجباره على اتخاذ إجراءات،
وهو حر الآن ولكن ليس لديه وقت للذهاب إلى الخارج) .
وأضاف رداً على سؤال حول قصف مروحيات عرفات: (لقد علمنا أنه
عندما يكون خارج البلاد فإن الإرهاب يزداد، وعندها يعتقد أنه ليس مسؤولاً)
وقال: (إنه إذا لم يتصرف عرفات فنحن سنتصرف؛ فعندما لا يقوم بالاعتقال
نحن سنعتقل " وضيق شارون الخناق على عرفات في تلك المقابلة حين نفى أن
تكون حماس قوية مثل السلطة الفلسطينية قائلاً: (لا، باستطاعة عرفات أن
يسيطر على الوضع. إنه فقط لم يقم بأي جهد. فإذا لم يكن عرفات هناك فلا أعتقد
أن حماس ستتولى السلطة، بل أعتقد أن فلسطينيين أكثر براجماتية سيتولون
السلطة) وأفاد: (نحن نعرف أنه ما لم ير عرفات نفسه معزولاً تماماً فإنه لن يتخذ
خطوات ... وحتى في هذه الحالة فإن الخطوات ستكون لفترة قصيرة) .
الكيان الصهيوني متمثلاً برئيس حكومته آرييل شارون يراهن اليوم على
خياره القمعي وحتى النهاية ملتحفاً بالدعم اللا محدود من الولايات المتحدة الأمريكية
للوصول إلى إنهاء هذه المعضلة الفلسطينية المزمنة.
الولايات المتحدة الأمريكية:
باتت تتصرف الآن مع قضايا المسلمين وقضية فلسطين في قلب القضايا
بنوع من التبجح؛ فهي قد أرسلت مبعوثها إلى الشرق الأوسط عسكرياً: الجنرال
احتياط أنتوني زيني يتناغم اختياره مع تشكيله حكومة الحرب الأمريكية: (ديك
تشيني كولن باول دونالد رامسفيلد) ليصبح صوته رجع صدى لما يقوله جنرالات
(إسرائيل) ؛ فالصراع برأيهم هو بسبب العنف الفلسطيني الذي لا بد أن يستتبعه
انتقام (إسرائيلي) . وبدلاً من المبعوثين المدنيين الذين كانت ترسلهم واشنطن
للشرق الأوسط سابقاً أصبحت واشنطن لا يعنيها إلا الجانب الأمني من الصراع
وهو ما يتطابق تماماً مع وجهة نظر شارون؛ حيث كان لافتاً أن المباحثات الأخيرة
أجريت بين الجنرال احتياط أمريكي أنتوني زيني، والجنرال احتياط إسرائيلي
مئير داجان، ورئيس جهاز الأمن الوقائي في الضفة الغربية العقيد جبريل الرجوب.
وصحيح أن الموقف الأمريكي منحاز دائماً للكيان الصهيوني بيد أنه في
الأخير بات (إسرائيلياً) بنحو لا يقبل الالتباس؛ حيث أخضع خطاب كولن باول
أمام جامعة لويفيل بولاية كنتاكي الأمريكية إلى المراجعة من قبل آرييل شارون
لتعديله حذفاً وإضافة (بلغت تحفظات وملاحظات شارون ستة ملاحظات) قبل أن
يلقيه باول.
الكاتب الشهير محمد حسنين هيكل نقل عن شخصية أمريكية رفيعة المستوى
في مقاله الرصين بمجلة وجهات نظر (12/2001) حديثاً يختزل رؤية أمريكا في
هذه المرحلة للصراع وخفة وزن العرب فيها، ويجيب على تساؤل هيكل بشأن
برودة العلاقات بين الولايات المتحدة وأصدقائها العرب! جاء فيه: (في واشنطن
وبصفة عامة وفي الظروف العادية قدروا موقف أصدقائهم العرب، لكن طلبات
هؤلاء الأصدقاء زادت عن حدها: معظمهم لهم طلب مستمر طول الوقت من
الولايات المتحدة بأن تضغط على إسرائيل وألا تفعل شيئاً آخر، وكأن للسياسة
الأمريكية في المنطقة وظيفة يمكن اختزالها في مواصلة الضغط على إسرائيل «.
ويواصل القائل كلامه:» لقد سمحت واشنطن لبعض الأطراف العربية بأن
يعلنوا على الملأ آراء ومواقف مخالفة لما تسمعه منهم في الاجتماعات المغلقة،
وكان ذلك عن تقدير لعلاقة هؤلاء الأطراف مع شعوبهم، لكننا الآن في ظرف لا
يحتمل هذه الدرجة من المرونة، وهي في رأيهم ميوعة.
وربما تتذكر (أنهم) في إسرائيل يقولون للناس كل شيء وهذا يطمئن، لكنه
على الجانب العربي لا يعرف الناس عما يجري إلا أقل القليل «.
واختتم بالقول:» إنه لا يستطيع أن يكون صادقاً مع الآخرين من لا يستطيع
أن يكون صادقاً مع أهله، ولعلم الجميع فإن الحكومة الأمريكية لم تطلب من أي
طرف عربي شيئاً إلا واستجاب للطلب بالكامل.
ومع ذلك راح بعض العرب يقولون إنهم (تحفظوا) و (رفضوا) و (منعوا) ،
وكل ذلك يخصم من أرصدة الصديق العربي، ويخصم من بند مهم فيه، وهو
بند الثقة بالنفس والاستناد عند التصرف إلى شرعية معترف بها من الكل، مقبولة
في تعبيرها عنهم، بما لا يضطرهم إلى التغطية على (التصرف) بالإخفاء أو
بالتمويه! «.
ومن هنا يبدو الموقف الأمريكي أكثر وضوحاً وصراحة في احتقاره الكامل
للطرف العربي؛ وتجلى ذلك في رفض بوش برغم وساطة عربية مجرد مصافحة
عرفات خلال تواجدهما في مبنى الأمم المتحدة!
ولا تعنينا مصافحة عرفات وقبلاته، وإنما يعنينا أن الولايات المتحدة قد ألقت
بثقلها السياسي والعسكري وراء تفكيك حركتي حماس والجهاد الإسلاميتين، وتبعها
الاتحاد الأوروبي الذي طالب عرفات بتفكيك حركتي حماس والجهاد وتحميله
مسؤولية العنف في فلسطين بلهجة وقحة لم تعهد من الاتحاد الأوروبي الذي حافظ
دوماً على توازن لفظي على الأقل في التعاطي مع القضية الفلسطينية ولا سيما أن
الاتحاد غير مسموح له بالتدخل المباشر في المفاوضات بين (إسرائيل)
و (فلسطين) .
ولقد تجلى ذهاب الولايات المتحدة الأمريكية إلى أبعد حد في محاربتها لحق
الفلسطينيين في تحرير أرضهم عندما قررت تجميد أرصدة جمعية الأرض المقدسة
الخيرية، وهى جمعية لا تقوم سوى برعاية أسر الشهداء والمعوقين.
السلطة الفلسطينية:
توقعها اللحظة الراهنة في وضع بالغ الحرج، (إسرائيل) والولايات المتحدة
الأمريكية تضعان لعرفات مهلة محددة لإنجاز مهمة اعتقال كوادر ونشطاء حركتي
حماس والجهاد الإسلاميين، وليست الوطنية والورع هما اللتان تكبلان يدي عرفات
لإتمام المهمة وإنما قوة الحركتين وشعبيتهما الجارفة التي حدت بمهندس (التنسيق
المصري الفلسطيني) د. أسامة الباز المستشار السياسي للرئيس المصري إلى
القول إن حركتي حماس والجهاد ليستا إرهابيتين وإنما حركتا تحرر وطني، وذلك
برغم موقف الحكم المصري المعروف من كافة الحركات الإسلامية ولتغلغل تلك
الشعبية داخل حركة فتح نفسها؛ حيث لا يفتأ أمين سر حركة فتح مروان البرغوثي
ينوه بدورهما النضالي الوطني.
من جهة أخرى، فإن عرفات يأخذ تهديدات شارون بإطاحته على محمل الجد
لا سيما وهو يرى رجال سلطته أمثال جبريل الرجوب ومحمد دحلان ومحمود
عباس (أبو مازن) وصائب عريقات على أهبة الاستعداد لخلافته إذا ما أعطتهم
(إسرائيل) الضوء الأخضر لذلك.
السلطة إذن في تلك المرحلة الدقيقة تحاول أن تمرر الأزمة دون خسائر،
وتناور بشأن الأوامر (الإسرائيلية) المصلتة على رقابها بشأن حماس والجهاد،
وهي سعت لذلك عبر الاقتراح الذي طرحه نبيل شعث بصدد مقابلة تفكيك حماس
والجهاد بنزع أسلحة المستوطنين وتفكيك وحدات المستعربين في مناطق السلطة،
وهي بهذا تضع القاطرة أمام الحصان أملاً في تجاوز المحنة! غير أن هذه
المناورات السياسية قد لا تجدي كثيراً مع شارون الذي لا يضع خطوطاً حمراء
سوى من دماء الفلسطينيين في طريقه لتحقيق مصلحة (إسرائيل) واقتناص
الفرصة الحالية السانحة.
حركتا حماس والجهاد: كمقاتلي (القاعدة) ليس لهم سوى خيار واحد، وهو
خيار المقاومة حتى الموت، وخصوصاً أن العدو الأمريكي والصهيوني لا يرضيان
لهما سوى التفكيك الكامل، والقتل لعناصرهما أو الاعتقال والتنكيل. والحق أن
الحركتين تديران علاقتهما بالسلطة بقدر عال من الذكاء؛ فهما تنسقان كثيراً مع فتح
(آخر تجليات ذلك اتفاق الهدنة الذي وقعته الأجنحة العسكرية لفتح وحماس والجهاد
والشعبية 10/12/2001) ، وفي ذات الوقت تكبح بقوة السلاح جماح السلطة في
فرض الإقامة الجبرية على زعيم حركة المقاومة الإسلامية الشيخ أحمد ياسين.
السيناريوهات المحتملة:
السيناريو الأول:
إطاحة الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات (يستبعد تماماً قتل الرئيس الفلسطيني
لما لذلك من تأثير على المستويات المحلية والعربية والدولية. وقد دلت دلائل كثيرة
جداً على أن الكيان الصهيوني كان قادراً دوماً على النيل من عرفات عندما تسوء
علاقاته باليهود، ولم يقدم على ذلك مثلما كان أثناء حصار بيروت وأثناء الأزمة
الأخيرة وغيرهما) وهذا يؤدي إلى أحد حالين:
- إما انهيار السلطة الفلسطينية تماماً: إذ تتساوى حظوظ العديد من الأسماء
المرشحة لخلافته، وهو ما قد يخلق حالة من الارتباك بين الأجنحة المتناقضة في
منظمة التحرير الفلسطينية قد تتصاعد لحال من الفوضى والاشتباك إذا ما أصرت
قوى خارجية أمريكية وعربية على فرض خيارها على الأطراف المناضلة في
المنظمة.
وهذه الفرضية قد تعني تدخلاً أمنياً دائماً لقوات الاحتلال في أراضي السلطة
وحضوراً أكبر لحركتي حماس والجهاد برغم تعرضهما لأقصى درجات القمع
واختراقاً استخبارياً أقل لهما.
- الحال الثانية: هي تمكن البراجماتيين الفلسطينيين (الرجوب و..) من
إحكام قبضتهم على السلطة من دون انهيارها، وسعيهم لتنفيذ كل الإجراءات القمعية
بحق المعارضة الفلسطينية التي تأمرهم بها (إسرائيل) وفي كلا الحالين يستشرف
طغام (إسرائيل) المشهد الأفغاني؛ إذ ليس سراً أن شارون يبدي إعجابه بالمجازر
التي نفذها الجيش (الصليبي) الأمريكي بحق المسلمين الأفغان، ويستلهمها
أنموذجاً يصلح للتطبيق في الأراضي المقدسة، ولا يخفي الجزار رغبته في وجود
سلطة فلسطينية لا تنتمي إلى دين أو وطن.
وفي كلا الحالين كذلك سيكون على المقاومة الاستعداد لمرحلة أكثر شراسة
وتضحية.
وفي كلا الحالين يتوقع أن يؤدي تسلط العملاء الواضحين الذين لم يشهد لهم
التاريخ أي دور نضالي (اللهم إلا في نهب أموال الإغاثة) أو الفوضى العارمة إلى
استقطاب لعناصر فتح المناضلة إلى حركتي حماس والجهاد؛ فمن الجدير ذكره أن
هناك جيلاً من نشطاء فتح قد ولدوا من رحم الانتفاضة الأولى (1987) وتربوا
على معان فدائية وكفاحية لا يفهمها مناضلو الفنادق (التوانسة) في منظمة التحرير
الفلسطينية، وأن الفجوة بين هؤلاء وأولئك تتسع يوماً بعد يوم، وربما حدث
الانفصال التام بينهما في حال نفذت (إسرائيل) هذا السيناريو. فما زال أبو عمار
يمثل رمانة الميزان لهذين الجناحين لما له من قبول لدى الطرف البراجماتي،
ولتاريخه (النضالي) السابق، ولانخداع العديد من نشطاء فتح بسياسته المتأرجحة
(على رأس هؤلاء مروان البرغوثي أمين سر حركة فتح الذي ما تزال أسرته
رهينة بيتهم الذي تحتجزهم فيه سلطات الاحتلال لحين تسليم البرغوثي نفسه لهم ما
تزال كذلك حتى كتابة هذه السطور) . ولعلنا لا نبالغ إذ نقول: إن هذا الاستقطاب
بدأ يحدث منذ فترة.
السيناريو الثاني:
تشديد الضغط على عرفات عبر قصف مقاره ومنعه من السفر وعزله تماماً
لدفعه لتنفيذ الأوامر الأمريكية (الإسرائيلية) ، وهذا السيناريو يرتكن إلى أن حاجة
شارون إلى عرفات ما زالت كبيرة؛ فالختيار ما زال قادراً على ضبط الشارع
الفلسطيني (المنفلت) وغيره لا يملك قدراته ودهاءه.
السيناريو الثالث:
بقاء الحال على ما هو عليه الآن، وهذا السيناريو هو أكثر السيناريوهات
استبعاداً؛ فما طرأ على القضية الفلسطينية والانتفاضة كفيل بنقلها إلى طور آخر
أكثر شراسة.
دخلت الانتفاضة الفلسطينية مرحلة دقيقة ومسننة؛ فالحلقة المفرغة التي تدور
فيها الأطراف جميعها (تضرب قوى الاحتلال الفلسطينيين والمقاومة، فترد
المقاومة، فتضغط قوى الكيان الصهيوني على السلطة فتقمع المقاومين الذين يفلتون
من القتل (الإسرائيلي الانتقائي) ولا بد وأن تتغير معادلاتها؛ إذ إن توازن الدم:
850 شهيداً وأكثر من عشرة آلاف جريح فلسطيني، ونحو 250 قتيلاً و 950
جريحاً يهودياً يمثل عنصر ضغط عالٍ على كافة الأطراف؛ فشارون بدأ يفقد
شعبيته إيذاناً بانهيار ائتلافه، وعرفات بدأ في فقدان سلطته، وكلاهما بصدد العمل
على تدمير المقاومة؛ بينما الشعوب العربية والإسلامية تستهويها مشاهدة
(إرهابيات شارون) .
وهذه المقاومة بدورها تؤرجحها أمواج الأزمة في بحر بعيدة شطآنه؛ ذاك أنها
قد أصبحت عرضة للتفكيك إذا ما استمرت العمليات الاستشهادية أو التضحية بجميع
مكتسبات الانتفاضة وترك الكيان الصهيوني يهريق الدم الفلسطيني، ويتلذذ باغتيال
قادة ونشطاء حماس والجهاد من دون رادع يثأر لأرواح الشهداء.
ولأن قادة حماس السياسيين لا يقلون روعة ولا بهاء عن قادة جناحها
العسكري؛ فقد تبنوا خياراً مرحلياً مسؤولاً يضع جميع التغيرات الآنية في حساباته
ليحد نوعياً من غلواء الصهيونية / المسيحية (التي أغرتها أصوات أجراس
احتفالات أعياد الميلاد في كابول السليبة) بالتقليل من أخطار الإجراءات السلطوية
القمعية من دون أن يسقط خيار الانتفاضة من حساباته؛ وذلك حين قررت قيادة
حماس (تبعها بعد ذلك حركتا الجهاد والشعبية) في النصف الثاني من شهر ديسمبر
الماضي تعليق العمليات الاستشهادية في فلسطين المحتلة 48، وكذلك تعليق إطلاق
قذائف الهاون وصواريخ (قسام 1) مقابل توقف الجانب الصهيوني عن سياسة
الاغتيالات وقتل المدنيين.
حركة حماس اتخذت إذن قرارها الذي بنته على أسس تأخذ في الاعتبار ما
يلي:
1 - سحب البساط من تحت أقدام شارون وعصابته المجرمة، ودفعه تدريجياً
إلى تخفيف الطوق الأمني والحصار والمطالبة الدائمة بدحر حركتي حماس والجهاد
الإسلاميتين.
2 - توسيع الطوق قليلاً عن عنق عرفات، ودفعه إلى اتخاذ موقف أقل
تشدداً حيالها، وربما إنقاذ عرفات شخصياً من الاغتيال السياسي في هذه المرحلة
العصيبة بالذات، والتي يعد فيها عرفات أقل ضرراً من خلفائه القمعيين المنتظرين؛
إذ إن حماس أحرص الآن على انهيار حكومة شارون أكثر من حرصها على
إطاحة عرفات.
3 - الحد من افتراس السلطة الفلسطينية لمناضلي المقاومة الإسلامية،
وتخفيف وطأة القمع عليها.
4 - وأد الفتنة الداخلية ومنع الاحتراب الفلسطيني/ الفلسطيني.
5 - المحافظة على بقاء الحركة كفصيل من فصائل التحرر الوطني (على
حد اعتراف المستشار السياسي للرئيس المصري / أسامة الباز) .
6- اقتصار الانتفاضة - في هذه المرحلة - على الأعمال الاحتجاجية
» السلمية «، والأعمال الفدائية التي تستهدف عسكريين والتي هي بالأساس موجعة
لكنها لا تثير ضجيجاً كالذي تثيره العمليات الاستشهادية - في ظرف عالمي متحفز
لوصم جميع العمليات الجهادية بالإرهاب (يشار في ذلك إلى أن عملية الحدود
الأردنية/» الإسرائيلية «والتي استهدفت عسكريين يهود لم تلق الإدانة ذاتها التي
تلقاها العمليات الاستشهادية) ؛ وذلك بالطبع بحجة استهدافها لمن تدعوهم
» إسرائيل «مدنيين) .
وقد اختارت حماس توقيتاً دقيقاً لإعلان قرارها هذا حيث أرادت إحباط مهمة
الأمريكي الجنرال زيني، وإيصال رسالتين إلى» إسرائيل «والسلطة الفلسطينية
قبل تعليق عملياتها الاستشهادية:
* الأولى: تتعلق بإفهام الكيان الصهيوني أن دماء قادة حماس ليست رخيصة،
وأن الثأر لهم يسمو على كل حسابات الموقف (بدا ذلك في عمليات الثأر لمقتل
المجاهد البطل محمود أبو هنود) .
* الثانية: تقول لعرفات إن حرص حماس على اللحمة الشعبية ومنع
الاحتراب الداخلي لا يعني صمتها على اعتقال أي من كبار رموزها، وأن السلطة
الفلسطينية يجب أن تعيد التفكير أكثر من مرة قبل أن تلبي المطالب» الإسرائيلية «
بطريقة أوتوماتيكية (تصدت حماس بنجاح لعمليتي تحديد إقامة الشيخ أحمد
ياسين واعتقال د. عبد العزيز الرنتيسي) . وأن حماس ستتصدى بكل حزم
للمطالب» الإسرائيلية «الخمسة لوقف إطلاق النار.
خلاصة القول أن حماس والسلطة و» إسرائيل «يتعرضون الآن لمحن
سياسية وعسكرية كبيرة حدت بهم جميعاً إلى اتخاذ سياسات متوازنة بين تطلعاتهم
والضغوط المؤثرة عليهم. وهم جميعاً قد أجروا حساباتهم بدقة تتلاءم مع دقة تلك
المرحلة التي تتبدى فيها بجلاء سنة التدافع الإلهي بين الفئات المتصارعة في
الأرض المباركة. والمراقب الإسلامي لن يخطئه اليقين بديمومة الانتفاضة