الإسلام لعصرنا
أ. د. جعفر شيخ إدريس
رئيس الجامعة الأمريكية المفتوحة
يتساءل كثير من المسلمين اليوم عما إذا كانت الحرب الأمريكية الغربية على
ما يسمونه بالإرهاب حرباً دينية؟ الإجابة تعتمد فيما أرى على المقصود بالحرب
الدينية. فإذا كان المعني بها أن الغرب يريد أن يحارب الإسلام باسم المسيحية أو
أنه يريد نشر المسيحية؛ فإن حربه ليست دينية؛ لأن الواقع أن إيمان الغربيين
بالمسيحية أو اليهودية صار أضعف بكثير مما كان عليه في الماضي، بل إن
جمهرة كبيرة من قادتهم ومسؤوليهم لم تعد تؤمن بها ولا بأمثالها من الأديان. بَيْدَ
أنهم وحتى الملحدين منهم لهم نوع من الانتماء إلى هاتين الديانتين باعتبارهما جزءاً
من تاريخهم ومكوناً مهماً من مكونات حضارتهم التي يفاخرون بها ويعدونها خير
حضارة عرفتها البشرية. وهذا هو الذي يعنيه بوش وبلير ومن دونهما حين
يُصرِّحون بأنهم يدافعون عن منهج حياتهم، أو حين يقولون إنهم يحاربون أعداء
الحضارة. هذه الحضارة التي لا ترضى عن دين إلا إذا رضي هو بأن يقر في
المكان الضيق الذي حددته له فلا يتعداه إلا إذا أقر بأن الله تعالى قد ترك الناس
سدى لا يأمرهم ولا ينهاهم في أي أمر يتعلق بحياتهم السياسية أو الاقتصادية أو
الاجتماعية، بل ترك كل هذا للناس يقررون فيه ما شاؤوا، ويغيرونه متى شاؤوا.
الدين المرضي لديهم عنه هو دين لا يعترض على رأسمالية ولا ليبرالية، ولا
يستعمل يداً في أمر بمعروف أو نهي عن منكر. وقد رضيت الأديان كلها فيما يبدو
بهذه الحدود التي خطتها لها العلمانية، بل إنه لم يبق بعد سقوط الشيوعية منهج
حياة منافس للمنهج الغربي الرأسمالي الليبرالي.
الاستثناء الوحيد هو الإسلام كما كان قد صرح بذلك فوكوياما الذي عبر عن
هذا الغرور الغربي تعبيراً واضحاً حين زعم أن التاريخ انتهى فيما يتعلق بمناهج
الحياة؛ فالناس كلهم سائرون نحو هذا النموذج الغربي الذي يراه النموذج الوحيد
المناسب لعصرنا، والذي يسمى لذلك بالحداثة. فالإسلام الذي ما يزال يؤمن كثير
من أهله بأنه بديل أصلح للناس من النموذج الغربي لا بد أن يكون حركة رجعية
تعرقل تقدم البشرية؛ فلا مناص من حربه وإيقافه عند حده. فإذا كان هذا هو
المقصود بالحرب الدينية فإنها لحرب دينية ما في ذلك من شك.
لكن السياسة عندهم مخادَعة. ومن المخادَعة أن لا يصرح قادة الدول الغربية
إلا بعض أغبيائهم بأن خصمها هو الإسلام. فالإسلام دين سلام ومعايشة مع بقية
الأديان، والغالبية العظمى من المسلمين أناس طيبون مسالمون راضون بالرأسمالية
والليبرالية، إلا شرذمة تسمى الوهابية.
واختيار الوهابية أيضاً اختيار سياسي بارع لا بد أن من أوصوا به أناس
مختصون في الدراسات الإسلامية وفي الشعوب الإسلامية. فما يسمى بالوهابية
دعوة لها خصوم كثر في العالم الإسلامي سيخدعون فعلاً ويظنون أن الهجوم عليها
ليس هجوماً على الإسلام وإنما هو هجوم على حركة ظلوا يعدونها خطراً عليهم
لمحاربتها لما هم عليه من أنواع الشرك في العقيدة، والبدع في العبادات، ولما
نسب إليها زوراً من أقوال مخالفة للإسلام. لكن الذي لا يدركه هؤلاء المخدوعون
أن ما يكرهه الغربيون فيما يسمونه بالوهابية ليس هو ما يكرهونه هم.
إن ما يعنيه الغربيون وأذنابهم بالوهابية إنما هو إسلام الكتاب والسنة الذي
يرسم للناس منهج حياة متكامل ويربيهم على الدعوة إليه وجهاد أعدائه؛ ولذلك فإنهم
لا يقصرون كلامهم عن الوهابية على السعودية وإنما يُدخلون فيه مصر وبلاداً
إسلامية أخرى أي كل بلد فيه حركة إسلامية سنية رشيدة سواء كانت سياسية أو
غير سياسية؛ لأنهم يرون أن مناخ الفكر السني هذا هو المناخ الذي يغرس فى
نفوس المسلمين اعتزازاً بدينهم ووقوفاً صارماً ضد خصومهم.
قادة الحضارة الغربية يريدون منا معاشر المسلمين أن نلبي لهم ثلاثة مطالب:
أولها: أن تكون العلمانية منهج حياتنا كما هي منهج حياتهم، وأن لا يحتل
الإسلام إلا مكاناً ضيقاً في إطارها.
ثانياً: لكن هذه العلمانية يجب أن تكون ليبرالية ديمقراطية في السياسة،
رأسمالية حرة في الاقتصاد، إباحية في القيم.
ثالثاً: أن تكون هذه العلمانية العربية أو «الإسلامية» خادمة لمصالح الدول
الغربية ولا سيما الولايات المتحدة الأمريكية؛ وذلك لأن الدولة قد تحقق ذينك
الشرطين السابقين لكنها تكون مع ذلك دولة قوية مستقلة منافسة للدول الغربية.
فالذي تحرص عليه الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة هو أن لا يكون لها في
مجال القوة المادية منافس تمكنه قوته من الاستقلال عنها في مراعاة مصالحه. ومن
هنا فإنهم ينظرون بكثير من القلق إلى دول مثل الصين واليابان، ويعملون على
أن لا تكون أي منهما منافساً للغرب.
فالمطلب الثالث هذا هو أبو المطالب عندهم، وما الآخران إلا وسائل إليه،
إن حققا غرضهما فبها، وإلا ضحي بهما في سبيله. أعني أن الديمقراطية مثلاً
مطلوبة شريطة أن لا تؤدي إلى موقف معاد، أو منافس للولايات المتحدة. فإذا
كانت كذلك استبدل بها نظام دكتاتوري يحقق التبعية.
وهم يسعون لتحقيق هذه الردة فينا أولاً بأن نتبع سبيلهم في الاستماع إلى
نصائح يسدونها إلينا في الطريقة التي نفهم بها ديننا ونفسره. تأتي هذه النصائح
أحياناً منهم مباشرة، ولكنها تأتي في كثير من الأحيان عن طريق عملائهم الفكريين
المنافقين في بلادنا. لكنهم ينسون أن كتاب ربنا يحذرنا من الاستماع في أمر ديننا
إلى قوم جاهلين به، معادين له، كافرين به. قال الإمام الطبري معلقاً على قوله
تعالى: [مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ وَلاَ المُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ
خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ] (البقرة:
105) . قال رحمه الله: «وفي هذه الآية دلالة بينة على أن الله تبارك وتعالى
نهى المؤمنين عن الركون إلى أعدائهم من أهل الكتاب والمشركين، والاستماع من
قولهم، وقبول شيء مما يأتونهم به على وجه النصيحة لهم منهم، باطلاعه جل
ثناؤه إياهم على ما يستبطنه لهم أهل الكتاب والمشركون من الضغن والحسد، وإن
أظهروا بألسنتهم خلاف ما هم مستبطنون» .
أما الوسيلة العملية الخطيرة الثانية فهي أن يطلب منا أن نغير مناهج دراساتنا
الإسلامية لكي تتمشى مع تلك الفهوم التي يرونها مجافية للأصولية، ومجاملة
للعلمانية. لكن هذه وسيلة خاسرة. فإن خضعت بعض الدول فغيرت وبدلت
وحرفت؛ فما كل الدول بفاعلة ذلك. ولئن غاب الدين الصحيح من المدارس
الرسمية فلن يغيب من صدور العلماء الدعاة الربانيين. لقد تكفل الله تعالى بحفظ
هذا الدين في صورة آيات تتلى، وأحاديث تقرأ، وفي صورة طائفة لا تزال على
الحق ظاهرة لا يضرها من خالفها ولا من خذلها حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون.
لكن هذا الإيمان ينبغي أن لا يكون سبباً للتثاقل والغفلة، بل يجب أن يكون
دافعاً قوياً للسعي والحركة استبشاراً بوعد الله الذي لا يخلف الميعاد.
وإنه لمما يساعد على الاستبشار والرجاء أن نعلم أنه ما كل الغرب على قلب
رجل واحد في عدائه للإسلام؛ ففيه مسلمون تتزايد أعدادهم صباح مساء، وفيه
منصفون متعاطفون مع المسلمين، وفيه مرتابون في حضارتهم أو كافرون بها
باحثون عن بديل لها. فعلينا أن لا نعادي الناس في الغرب كافة ما داموا لا يعادوننا
كافة، وأن نتذكر أن هذا من نعم الله علينا وإلا [وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ
فَلَقَاتَلُوكُمْ] (النساء: 90) .