دراسات في الشريعة والعقيدة
د. عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف [*]
ما كان لشعيرة الولاء والبراء أن تندرس وتضعف في واقع الكثير من
المسلمين إلا بسبب ضعف عبوديتهم ومحبتهم لله تعالى؛ فإن عبادة الله ومحبته هي
الأصل، ويتفرع عنها الحبّ والولاء في الله، والبغض والبراء في الله تعالى؛
فكلما كان الشخص أكمل عبودية ومحبة لله تعالى كان أكثر تحقيقاً للولاء والبراء.
ولما غلب على الكثير الولعُ بالشهوات من الأموال والنساء والمناصب وأُشربوا حبّ
الهوى صاروا يوالون ويوادون على حسب أهوائهم وعقولهم المعيشية؛ فضعفت
عبوديتهم لله تعالى بسبب الانهماك في تلك المحبوبات والشهوات، فزاحمت عبوديةَ
الله تعالى ومحبته، ومن ثم ضعف حبهم في الله تعالى، وبغضهم في الله؛ فالحب
في الله والبغض في الله ولوازمهما متفرع عن حب الله تعالى وعبادته. يقول
العلامة عبد الرحمن السعدي: «أصل التوحيد وروحه إخلاص المحبة لله وحده،
وهي أصل التأله والتعبد له؛ بل هي حقيقة العبادة، ولا يتم التوحيد حتى تكمل
محبة العبد لربه، وتسبق محبته جميع المحابِّ وتغلبها، ويكون لها الحكم عليها
بحيث تكون سائر محاب العبد تبعاً لهذه المحبة التي بها سعادة العبد وفلاحه. ومن
تفريعها وتكميلها الحب في الله؛ فيحب العبد ما يحبه الله من الأعمال والأشخاص،
ويبغض ما يبغضه الله من الأشخاص والأعمال، ويوالي أولياءه، أو يعادي أعداءه،
وبذلك يكمل إيمان العبد وتوحيده» [1] .
ولما كان الخليلان (إبراهيم ونبينا محمد عليهما الصلاة والسلام) أكمل الناس
عبادة لله تعالى، حتى خُصّا بمرتبة الخلّة، وكانا أكمل وأعظم الناس تحقيقاً للولاء
والبراء. قال تعالى: [إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِّلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ المُشْرِكِينَ]
(النحل: 120) [2] .
وقال عز وجل: [قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا
لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ العَدَاوَةُ
وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ] (الممتحنة: 4) .
وأما عن عبادة نبينا صلى الله عليه وسلم لربه سبحانه فكان يقوم الليل حتى
تتورم قدماه، ويستغفر الله في اليوم مائة مرة، وقالت عائشة رضي الله عنها عن
عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كان عمله ديمة، وأيكم يطيق ما كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يطيق؟» [3] .
وقد حفلت سيرته الشريفة بأمثلة رائعة في تحقيق الولاء والبراء، وقد قال
تعالى: [مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ]
(الفتح: 29) .، فكان نبي المرحمة، ونبي الملحمة، وهو الضحوك
القتّال.
فأما عن موالاته للمؤمنين فقال تعالى: [لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ
عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ] (التوبة: 128) .
وعن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: كنا عند رسول الله صلى
الله عليه وسلم في صدر النهار، قال: فجاءه قوم حفاة عراة، مجتابي النمار أو
العباء، متقلدي السيوف، عامتهم من مضر، بل كلهم من مضر، فتمعّر (تغيّر)
وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى بهم من الفاقة، فدخل ثم خرج، فأمر
بلالاً فأذَّن وأقام فصلَّى، ثم خطب فقال: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن
نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي
تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً] (النساء: 1) ، [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ]
(الحشر: 18) ، تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع برّه،
من صاع تمره حتى قال: ولو بشق تمرة. قال: فجاء رجل من الأنصار بصُرَّة
كادت كفه تعجز عنها بل قد عجزت، قال: ثم تتابع الناس حتى رأيتُ كومين من
طعام وثياب، حتى رأيتُ وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل (يستنير)
كأنه مُذْهَبة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سنّ في الإسلام سنة
حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم
شيء» [4] .
قال النووي رحمه الله: «وأما سبب سروره صلى الله عليه وسلم ففرحاً
بمبادرة المسلمين إلى طاعة الله تعالى، وبذل أموالهم لله، وامتثال أمر رسول الله
صلى الله عليه وسلم، ولدفع حاجة هؤلاء المحتاجين، وشفقة المسلمين بعضهم على
بعض، وتعاونهم على البر والتقوى. وينبغي للإنسان إذا رأى شيئاً من هذا القبيل
أن يفرح ويُظهر سروره ويكون فرحه لما ذكرناه» [5] .
وأما عن بغضه لأعداء الله تعالى، فقد قال تعالى في صفة النبي صلى الله
عليه وسلم وأصحابه: [وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ
فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الكُفَّارَ] (الفتح: 29) .
وفي صلح الحديبية «نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم في جملة هديه
جملاً كان لأبي جهل ليغيظ به المشركين، وكان هذا الجمل قد غنمه صلى الله عليه
وسلم يوم بدر» [6] .
واستنبط ابن القيم من هذه القصة: استحباب مغايظة أعداء الله تعالى [7] .
ولما منّ صلى الله عليه وسلم على أبي عزة الجمحي وعاهده ألا يعين عليه
فغدر به، ثم قدر عليه بعد ذلك وطلب أن يمنّ عليه، فقال صلى الله عليه وسلم:
«لا تمسح عارضيك وتقول: سخرت بمحمد مرتين» ، ثم قال صلى الله عليه
وسلم: «لا يُلدغ المؤمن من جحر مرتين؛ اضرب عنقه يا عاصم بن ثابت!
فضرب عنقه» [8] .
والمقصود أن ننظر في هديه صلى الله عليه وسلم بعلم وشمول؛ فلا يقتصر
على جانب كونه نبي الرحمة أو التسامح أو المحبة، كما لا يقتصر على الطرف
المقابل، بل إن المتعيّن أن نشتغل باتباع هديه وسيرته في الحب والبغض، والولاء
والبراء.
ولما كان الحب في الله والبغض في الله أوثق عرى الإيمان كما قال المصطفى
صلى الله عليه وسلم: «أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله» [9] ،
ولما كان الإيمان له ظاهر وباطن؛ فكذا الحبّ والبغض والولاء والبراء؛ فالحبّ
والبغض هما الأصل وهما أمران قلبيان، والولاء والبراء أمران ظاهران؛ فلازم
الحبّ الولاء، ولازم البغض البراءة والعداء.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «أصل الموالاة هي المحبة، كما أن أصل
المعاداة البغض؛ فإن التحاب يوجب التقارب والاتفاق، والتباغض يوجب التباعد
والاختلاف» [10] .
ويقول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن: «أصل الموالاة الحبّ،
وأصل المعاداة البغض، وينشأ عنهما من أعمال القلب والجوارح ما يدخل في
حقيقة الموالاة والمعاداة كالنصرة والأنس والمعاونة، وكالجهاد والهجرة ونحو ذلك
من الأعمال» [11] .
ويقول الشيخ عبد الرحمن السعدي: «فالولاء والبراء تابع للحب والبغض،
والحبّ والبغض هو الأصل» [12] .
فالولاء والبراء لازم الحبّ والبغض، وإذا تخلّف اللازم تخلّف الملزوم؛
فالظاهر والباطن متلازمان، ولا يكون الظاهر مستقيماً إلا مع استقامة الباطن، وإذا
استقام الباطن فلا بد أن يستقيم الظاهر [13] .
ومن لوازم الحب في الله: النصح للمسلمين والإشفاق عليهم، ونصرتهم،
والدعاء لهم، وتفقد أحوالهم.
ومن لوازم البغض في الله: الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام، وعدم
التشبه بهم، وعدم مشاركتهم في أعيادهم.
ولما كان الإيمان شُعَباً متعددة، فيمكن زوال بعضها مع بقاء بعضها الآخر،
ويجتمع في الشخص الواحد بعض شُعَب الإيمان مع بعض شعب الكفر الذي لا
يخرج من الملة؛ فكذا الولاء والبراء وهو من الإيمان فيجتمع في الشخص الواحد
موجب الولاية من جهة، وموجب العداوة من جهة أخرى، كما هو حال الكثير منا
معشرَ المسلمين ممن خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً؛ فالواجب أن نحبهم ونواليهم
لما معهم من إيمان وصلاح، كما نبغضهم على قدر معاصيهم وتفريطهم.
يقول ابن تيمية: «أما أئمة السنة والجماعة فعلى إثبات التبعيض في الاسم والحكم،
فيكون مع الرجل بعض الإيمان، لا كله، ويثبت له من حكم أهل الإيمان وثوابهم
بحسب ما معه، كما يثبت له من العقاب بحسب ما عليه، وولاية الله بحسب
إيمان العبد وتقواه؛ فيكون مع العبد من ولاية الله بحسب ما معه من الإيمان
والتقوى» [14] .
ويقول أيضاً: «والمؤمن عليه أن يعادي في الله، ويوالي في الله، فإن كان
هناك مؤمن فعليه أن يواليه وإن ظلمه، فإن الظلم لا يقطع الموالاة الإيمانية، قال
تعالى: [وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى
الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ
وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ * إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] (الحجرات: 9-10) ،
فجعلهم إخوة مع وجود القتال والبغي، وأمر بالإصلاح بينهم، ... وليعلم أن المؤمن
تجب موالاته وإن ظلمك واعتدى عليك، والكافر تجب معاداته وإن أعطاك وأحسن
إليك؛ فإن الله سبحانه بعث الرسل وأنزل الكتب ليكون الدين كله لله، فيكون الحب
لأوليائه والبغض لأعدائه، ... وإذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر، وفجور
وبر، وطاعة ومعصية، وسنة وبدعة استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من
الخير، واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر، فيجتمع في الشخص
الواحد موجبات الإكرام والإهانة، كاللص الفقير تقطع يده لسرقته، ويُعطى من
بيت المال ما يكفيه لحاجته» [15] .
ومما يبيّن هذا الأمر ما جاء في هدي النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقد حقق
عليه الصلاة والسلام موجب العداوة والولاية في قصة ذاك الرجل الذي كان يشرب
الخمر، واسمه عبد الله، وكان كثيراً ما يُؤتى به فيجلد، فأتي به في إحدى المرات
فقال أحد الحاضرين: اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتى به! فقال عليه الصلاة والسلام:
«لا تلعنوه! فوالله ما علمتُ إنه يحب الله ورسوله» [16] .
ومن المعالم المهمة أن نتجرد لله تعالى في حبّنا وبغضنا، وأن نُخلِّص الولاء
والبراء من حظوظ النفس وشهواتها؛ فلا بد من المجاهدة والمحاسبة حتى يكون
الولاء والبراء ابتغاء وجه الله.
سئل الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله عن الحبّ في الله، فقال: «ألاَّ تحبه
لطمع في دنياه» [17] .
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «من أحب إنساناً لكونه يعطيه فما
أحب إلا العطاء، ومن قال إنه يحب من يعطيه لله فهذا كذب ومحال وزور من
القول، وكذلك من أحب إنساناً لكونه ينصره إنما أحبّ النصر لا الناصر، وهذا كله
من اتباع ما تهوى الأنفس؛ فإنه لم يحبّ في الحقيقة إلا ما يصل إليه من جلب
منفعة أو دفع مضرة؛ فهو إنما أحبّ تلك المنفعة ودفع المضرة، وإنما أحبّ ذلك
لكونه وسيلة إلى محبوبه وليس هذا حباً لله ولا لذات المحبوب.
وعلى هذا تجري عامة محبة الخلق بعضهم مع بعض، وهذا لا يثابون عليه
في الآخرة ولا ينفعهم؛ بل ربما أدى ذلك إلى النفاق والمداهنة؛ فكانوا في الآخرة
من الأخلاَّء الذين بعضهم لبعض عدو إلا المتقين.
وإنما ينفعهم في الآخرة الحبّ في الله ولله وحده، وأما من يرجو النفع
والنصر من شخص ثم يزعم أنه يحبه لله فهذا من دسائس النفوس» [18] .
ومما يجدر تقريره أن هذه الوشائج الإيمانية تبقى أو تدوم؛ لأن الولاء والبراء
يراد به وجه الله تعالى، والله تعالى هو الآخر ليس بعده شيء فلا يفنى ولا يبيد؛
بخلاف الصِّلات التي ليست لله تعالى؛ فسرعان ما تنقلب إلى عداوات في الدنيا
والآخرة.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: «من أحبّ في الله، وأبغض في الله،
ووالى في الله، وعادى في الله؛ فإنما تُنال ولاية الله بذلك، ولن يجد عبدٌ طعم
الإيمان وإن كثرت صلاته وصومه حتى يكون كذلك، وقد صارت عامة مؤاخاة
الناس على أمر الدنيا؛ وذلك لا يجدي على أهله شيئاً» [19] .
وقال ابن تيمية: «والناس إذا تعاونوا على الإثم والعدوان أبغض بعضهم
بعضاً، وإن كانوا فعلوه بتراضيهم، قال طاووس: ما اجتمع رجلان على غير
ذات الله إلا تفرقا عن تَقَالٍ (بغضاء) ، وقال الخليل عليه السلام: [إِنَّمَا اتَّخَذْتُم
مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ القِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ
وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ] (العنكبوت: 25) .
وهؤلاء لا يكفر بعضهم ببعض ويلعن بعضهم بعضاً لمجرد كونه عصى الله، بل
لما حصل له بمشاركته ومعاونته من الضرر» [20] .
ومما قاله ابن القيم في هذا المقام: «كل من اتخذ من دون الله ورسوله وليجة
وأولياء، يوالي لهم ويعادي لهم، ويرضى لهم ويغضب لهم، فإن أعماله كلها باطلة
يراها يوم القيامة حسرات عليه مع كثرتها وشدة تعبه فيها ونصبه؛ إذ لم يجرد
موالاته ومعاداته، ومحبته، وبغضه، وانتصاره وإيثاره لله ورسوله؛ فأبطل الله
عز وجل ذلك العمل كله، وقطع تلك الأسباب، فينقطع يوم القيامة كل سبب وصلة
ووسيلة ومودة وموالاة كانت لغير الله تعالى» [21] .
ونختم هذه المقالة بالجواب عما يظنه بعضهم أن تحقيق الولاء والبراء قد
يؤدي إلى نفور الكفار عن الإسلام؛ وليس الأمر كذلك؛ فإن الله تعالى هو أرحم
الراحمين، وهو سبحانه أحكم الحاكمين؛ حيث شرع بغض الكفار وعداوتهم [أَلاَ
يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ] (الملك: 14) ، فلا يتوهم أن تحقيق شعيرة
البراءة من الكافرين يؤول إلى مجانبة الإسلام، بل إن الالتزام بهذه الشعيرة وسائر
شرائع الإسلام سبب في ظهور الإسلام وقبوله، كما وقع في القرون المفضلة، ومن
ذلك أن اليهود خافت وذلت من يوم قتل رئيسهم كعب بن الأشرف على يد محمد بن
مسلمة رضي الله عنه [22] .
ويقول ابن تيمية: «وكان عدد من المشركين يكفُّون عن أشياء مما يؤذي
المسلمين خشية هجاء حسان بن ثابت؛ حتى إن كعب بن الأشرف لما ذهب إلى
مكة كان كلما نزل عند أهل بيت هجاهم حسان بقصيدة، فيخرجونه من عندهم،
حتى لم يبق بمكة من يؤويه» [23] .
وجاء في سيرة ابن هشام: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:» من
ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه « [24] ، فوثب محيصة بن مسعود على ابن سُنَيْنَة
رجل من تجار اليهود يبايعهم فقتله، وكان حويصة بن مسعود إذ ذاك لم يُسلم،
وكان أسنّ من محيصة، فلما قتله جعل حويصة يضربه ويقول: أي عدو الله!
أقتلته؟ أما والله لربّ شحم في بطنك من ماله، قال محيصة: والله! لقد أمرني
بقتله من لو أمرني بقتلك لضربت عنقك، قال: فوالله إن كان لأول إسلام حويصة،
قال: آلله لو أمرك محمد بقتلي لقتلتني؟ قال: نعم! والله لو أمرني بضرب
عنقك لضربتها، قال: والله إن ديناً بلغ بك هذا لعجب. فأسلم حويصة» [25] .
وها هم الكثير من بني جلدتنا قد ارتموا في أحضان الكفار، وتنازلوا عن
دينهم مداهنة لأعداء الله تعالى؛ فما زاد الكفار إلا عتواً ونفوراً عن الإسلام،
واستخفافاً وامتهاناً للمنتسبين له.
ولما عمد علماء السوء إلى تحليل ما حرم الله تعالى بأدنى الحيل كان ذلك
سبباً في الصدّ عن دين الله تعالى، وامتناع الكثيرين من الدخول فيه، كما بينه ابن
القيم رحمه الله [26] .
بل إن المشركين، وأهل الكتاب إذا رأوا المسلم القائم بالإسلام عظموه
وأكرموه [27] .
يقول ابن تيمية: «مثل الآصار والأغلال التي على أهل الكتاب وإذلال
المسلمين لهم، وأخذ الجزية منهم، فهذا قد يكون داعياً له أن ينظر في اعتقاده:
هل هو حق أو باطل؟ حتى يتبين له الحق، وقد يكون مرغباً له في اعتقاد يخرج
به من هذا البلاء، وكذلك قهر المسلمين عدوهم بالأسر يدعوهم للنظر في محاسن
الإسلام» [28] .