مجله البيان (صفحة 4107)

فاعتبروا يا أولي الأبصار ما أشبه الليلة بالبارحة

إشراقات قرآنية

فاعتبروا يا أولي الأبصار

ما أشبه الليلة بالبارحة

د. أحمد بن عبد الله الزهراني [*]

إن الله تعالى قد بيَّن لعباده أن سنته لا تتبدل ولا تتحول؛ كما أخبر سبحانه

أنه جعل الأيام دولاً. قال تعالى في شأن المنافقين: [لَئِن لَّمْ يَنتَهِ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ

فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي المَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلاً

* مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً * سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن

تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً] (الأحزاب: 60-62) .

فإن الله سبحانه ذكر ثلاثة أصناف من الخلق كلهم محل اتهام ومرض،

وصرح باسم المنافقين وهم الذين يبطنون السوء للإسلام والمسلمين، ويظهرون

خلافه ثم ذكر الذين في قلوبهم مرض أي مرض من حب المعاصي، أو الأمراض

القلبية المتنوعة من الغل والحقد والحسد والغيبة، وغير ذلك.

ثم ذكر الصنف الثالث وهم أهل الإرجاف الذين ينشرون الأقاويل الكاذبة

والتخريفات والتحذيرات للمؤمنين من الأعداء.

قال ابن كثير: «يعني الذين يقولون: جاء الأعداء، وجاءت الحروب. وهو

كذب وافتراء» [1] .

ولذا نهى الله سبحانه المؤمنين أن يتخذوا بطانة من هؤلاء المنافقين والمرضى

والمخذلين، فقال عز وجل: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ

يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ

بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ] (آل عمران: 118) ؛ لأن اتخاذ هؤلاء بطانة

فيه مضرة على الإسلام والمسلمين؛ حيث لا ينصحون في مشورتهم، ويأمرون

بالسوء، ويحضون عليه، كما جاء في الحديث الذي رواه البخاري عن أبي سعيد

الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما بعث الله من

نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان: بطانة تأمره بالمعروف، وتحضه

عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه؛ فالمعصوم من عصمه الله تعالى» [2] .

ويقول سبحانه في شأن الكافرين: [وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءَهُمْ

نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً * اسْتِكْبَاراً

فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلاَ يَحِيقُ المَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ

الأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً] (فاطر:

42- 43) .

لقد كذب أولئك الكافرون في أيْمانهم، وفَجَروا في خصومتهم، وتنكروا

للمصطفى صلى الله عليه وسلم لما جاءهم بذكر من عند ربهم وقالوا: [لَوْ أَنَّ

عِندَنَا ذِكْراً مِّنَ الأَوَّلِينَ * لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ المُخْلَصِينَ * فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ]

(الصافات: 168-170) . وصدوا وصدفوا عنه كما قال تعالى: [أَوْ تَقُولُوا لَوْ

أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ

أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ

العَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ] (الأنعام: 157) .

ومع وجود أولئك المنافقين ومن سار في ركبهم من المرضى والمرجفين،

ووجود الكفار الأصليين، وما يخطط الجميع للصد عن سبيل الله، بشر الله تعالى

عباده المؤمنين أن الدولة لهم على أولئك، وأن تلك سنة الله التي لا تتبدل، ولا

تتغير.

قال تعالى: [وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ

النَّاسِ عَنكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً * وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا

عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً * وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا

الأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يَجِدُونَ وَلِياًّ وَلاَ نَصِيراً * سُنَّةَ اللَّهِ الَتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ

اللَّهِ تَبْدِيلاً] (الفتح: 20-23) .

إن أتباع الأنبياء مبتلون؛ وأعظم الابتلاء أن يدفع المسلم بنفسه في سبيل الله

مقبلاً غير مدبر ولا متردد في طريقه إلى الله. قال تعالى: [هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ

وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ * وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ]

(آل عمران: 138-139) .

لقد أمرنا الله سبحانه في محكم التنزيل أن نعتبر بما وقع للمؤمنين والكافرين،

فقال سبحانه في شأن فرعون: [فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى * إِنَّ فِي ذَلِكَ

لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى] (النازعات: 25-26) . ويقول سبحانه في شأن نبينا صلى

الله عليه وسلم مع أعدائه يوم بدر: [قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ التَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي

سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ العَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ إِنَّ فِي

ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ] (آل عمران: 13) . ويقول في شأنه يوم حاصر

يهود بني النضير: [هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ

الحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ

حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي المُؤْمِنِينَ

فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ] (الحشر: 2) .

يقول ابن تيمية رحمه الله: «فأمرنا أن نعتبر بأحوال المتقدمين علينا من هذه

الأمة، وممن قبلها من الأمم، وذكر في غير موضع أن سنته في ذلك سنة مطردة،

وعادته مستمرة ... فينبغي للعقلاء أن يعتبروا لسنة الله وأيامه في عباده، ودأب

الأمم وعاداتهم» [3] .

ولقد تسلط العدو الكافر على أحوال المسلمين، فأفسد عليهم عقائدهم

وتصوراتهم، واقتصادهم وتعليمهم وإعلامهم، وصاروا له تبعاً في كل شيء،

وساعده على ذلك وجود العدو الداخلي من صفوف المسلمين من المنافقين

والمتصوفة والباطنية والرافضة والزنادقة من العلمانيين والملحدين الذين يتعاونون

معهم في تنفيذ المؤتمرات والمعاهدات والمخططات باسم المصالح المشتركة،

والتعايش السلمي للجميع، وتطبيع الثقافات وغير ذلك، ولقد أشبه حال العالم

الإسلامي اليوم بحال العالم الإسلامي عند دخول الحروب الصليبية سنة 490 هـ

عليه من عدة أمور:

1 - وجود الخلاف بين أمراء المدن العربية، حتى إن كل أمير لا يهمه إلا

الحفاظ على إمارته دون النظر إلى غيره. وقد سطر هذا الخلاف ابن الأثير رحمه

الله حيث قال في حوادث سنة 497 هـ: «لما استطال الفرنج خذلهم الله تعالى

بما ملكوه من بلاد الإسلام، واتفق لهم اشتغال عساكر الإسلام وملوكه بقتال

بعضهم بعضاً؛ فتفرقت حينئذ بالمسلمين الآراء، واختلفت الأهواء، وتمزقت

الأموال» [4] .

ومن الأمثلة على هذا ما وقع بين الأخوين دقاق والي مدينة دمشق،

وأخيه رضوان والي مدينة حلب؛ حيث تشيَّع هذا الأخير وهادن الإسماعيلية

والصليبيين [5] . يقول ابن الأثير: «وكانت أمور رضوان غير محمودة قتل أخويه

أبا طالب وبهرام، وكان يستعين بالباطنية في كثير من أموره لقلة دينه» [6] .

2 - وليت الأمر وقف عند الحفاظ من كل أمير على إمارته، بل تطاول

بينهم الخلاف حتى نشبت بينهم الحروب، وأخذ بعضهم يسطو على بعض،

وساءت أحوال الناس، وعم الفساد جميع أنحاء البلاد حتى طمع فيهم العدو.

يقول ابن الأثير رحمه الله في قصة الصلح الذي تم بين السلطانين بركيارق

ومحمد بن ملكشاه قال: «في هذه السنة في ربيع الآخر وقع الصلح بين السلطانين

بركيارق ومحمد بن ملكشاه، وكان سببه أن الحروب تطاولت بينهما، وعم الفساد

فصارت الأموال منهوبة، والدماء مسفوكة، والبلاد مخربة، والقرى محرقة،

والسلطنة مطموعاً فيها محكوماً عليها، وأصبح الملوك مقهورين بعد أن كانوا

قاهرين، وكان الأمراء الأكابر يؤثرون ذلك ويختارونه ليدوم تحكمهم وانبساطهم

وإدلالهم» [7] . بئس التحكم والانبساط والإدلال إذا كانت دماء المسلمين تسفك،

وأموالهم تنهب، وأركان عقيدتهم تهدم، وأطراف مملكتهم تسلب.

3 - لقد وصل الحال بأولئك السلاطين المغفلين إلى الارتماء في أحضان

العدو الصليبي، وتعاونوا معهم ضد إخوانهم المسلمين، وأُبرمت المعاهدات فيما

بينهم وبين عدوهم ضد بعضهم بعضاً.

يقول ابن الأثير رحمه الله في وصف الفرنج بعد أن احتلوا معرة النعمان:

«وساروا إلى عرقة فحاصروها أربعة أشهر، ونقبوا سورها عدة نقوب فلم

يقدروا عليها، وراسلهم منقذ صاحب شيزر فصالحهم عليها، وساروا إلى

حمص وحاصروها فصالحهم جناح الدولة» [8] .

وصاحب شيزر هذا هو الأمير عز الدين أبو العساكر سلطان بن منقذ قد عمل

اتصالات مع قائد الفرنج المدعو «ريموند» عندما كان في كفر طاب، ووعده

بعدم اعتراض الصليبيين عندما يمرون بسلطنته بل وعده أن يقدم لهم ما يكفيهم من

الأطعمة، وأن يرسل دليلاً لهم يرشدهم الطريق حتى يمروا من مملكته [9] ، وذكر

ابن الأثير أن صاحب دمشق المسمى «طغتكين» هادن الفرنج سراً خوفاً على

ذهاب مملكته عندما شعر من أقرانه بعدم النصح [10] . يقول ابن الأثير: «وكان

طغتكين أيضاً استوحش من السلطان؛ لأنه نسب إليه قتل مودود فاتفقا على الامتناع

والالتجاء إلى الفرنج والاحتماء بهم فراسلا صاحب أنطاكية وحالفاه» [11] .

ويقول عن الملك رضوان إنه: «كتب إلى طنكري صاحب أنطاكية يعرفه ما

هو جارٍ عليه من الغدر، والمكر، والخداع، ويحذره منه، ويعلمه أنه على قصد

حلب، وأنه إن ملكها لا يبقى للفرنج معه بالشام مقام، وطلب منه النصرة والاتفاق

على منعه فأجابه طنكري إلى منعه» [12] .

وعندما حاصر نور الدين زنكي مدينة دمشق وكان الوالي عليها يدعى «معين

الدين أنر» فقام هذا الأخير بملاحقة الصليبيين، وطلب منهم العون والنصرة،

ودفع نور الدين زنكي عن دمشق، وبذل لهم أموالاً على ذلك وأن يسلمهم مدينة

بانياس، وبالفعل تم لهم ما وعدهم به [13] .

«وقد فرح بنو منقذ أصحاب شيزر، وبنو عمار أصحاب طرابلس وهم من

البيوت العربية العريقة بهزيمة السلاجقة، وأقبلوا يمدون يد المعونة للغزاة من

الصليبيين» [14] .

ولقد صدق دكتور حسن حبشي عندما قال: «إن مصيبة العالم الإسلامي لم

تكن في ضعف قواته أو تخاذل أبنائه، ولكنها كانت في الأمراء الذين حكموا نواحيه

المختلفة وفي مطامعهم الخاصة، دون أن تظهر من بينهم تلك الشخصية القوية التي

تجمعهم، وتسير بهم نحو هدف مشترك» [15] .

4 - تمكين البطانة السيئة بل المنحرفة فكرياً وعقائدياً وسلوكياً عن منهج أهل

السنة والجماعة من إدارة أمور المسلمين واستشارتهم وتسليطهم على رقاب المسلمين

مما كان لهم الأثر السيئ في التعاون مع الأعداء ضد المسلمين، وإضعاف شوكة

المسلمين والتربص بهم والوقوف ضد الحق وأهله. فمن ذلك أن الملك الرحيم

«ضره فيروز» لما تولى الملك بعد أبيه «أبي كاليجار» أقطع الرافضي دبيس

بن مزيد الملقب «نور الدولة» حماية نهر الصلة، ونهر الفضل من أعمال

واسط. ورفض الواسطيون قبوله لما علموا به، وثاروا عليه؛ لكنه تحايل عليهم

حتى غدر بهم وقتل منهم عدداً كبيراً [16] ، ومع أن الملك الرحيم هو الذي أقطعه

نهر الصلة ونهر الفضل ومكنه؛ إلا أن نور الدولة الرافضي دبيس خذله مع

البساسيري يوم أراد المواجهة مع السلطان طغرل بك [17] ، ولما وقعت الفتنة بين

السنة والشيعة في إحراق المشاهد البدعية، عظم ذلك على نور الدين دبيس الرافضي

«وبلغ منه كل مبلغ؛ لأنه وأهل بيته وسائر أعماله من النيل وتلك الولاية كلهم

شيعة» [18] ، وهو الذي تعاون مع البساسيري ضد قرسيس بن بدران صاحب

الموصل، وكاتبوا الخليفة الفاطمي بمصر المستنصر بالله بالطاعة فأرسل

إليهم الخلع [19] .

والبساسيري كان «مملوكاً تركياً من مماليك بهاء الدولة بن عضد الدولة،

تقلبت به الأمور حتى بلغ هذا المقام المشهور، واسمه أرسلان وكنيته أبو الحارث،

وهو منسوب إلى» بسا «مدينة بفارس، والعرب تجعل عوض الباء فاء فتقول:

» فسا «والنسبة إليها فساوي، ومنها أبو علي الفارسي النحوي، وكان سيد هذا

المملوك أولاً من» بسا «فقيل له: البساسيري لذلك، وجعل العرب الباء فاءً فقيل:

فساسيري» [20] .

5 - إن وجود هذه الفوضى بين الناس وتسلط الأعداء عليهم من داخلهم

وخارجهم كان يوجب على المرجعية العلمية أن تمسك بزمام الأمور وتقود الناس إلى

ساحات الجهاد، ليقفوا سداً منيعاً أمام جحافل الصليبيين الغادرين، وسيجدون من

الأمة من يسمع ويطيع لهم؛ لكن مع الأسف الشديد لم تسلم ساحتهم من الخلاف،

وبدلاً من أن يرصوا الصفوف للجهاد في سبيل الله اشتغلوا بالخلافات المذهبية

والانتصار لها. يقول ابن الأثير رحمه الله في حوادث سنة 447 هـ: «في هذه

السنة وقعت الفتنة بين الفقهاء الشافعية والحنابلة ببغداد، ومقدم الحنابلة أبو يعلى

ابن الفراء، وابن التميمي، وتبعهم من العامة الجم الغفير، وأنكروا الجهر بـ

(بسم الله الرحمن الرحيم) ، ومنعوا من الترجيع في الأذان، والقنوت في الفجر،

ووصلوا إلى ديوان الخليفة، ولم ينفصل حال، وأتى الحنابلة إلى مسجد باب

الشعير فنهوا إمامه عن الجهر بالبسملة، فأخرج مصحفاً وقال: أزيلوها من

المصحف حتى لا أتلوها» [21] .

ويقول ابن كثير رحمه الله في حوادث 447 هـ: «وفيها وقعت الفتنة بين

الأشاعرة والحنابلة، فقوي جانب الحنابلة قوة عظيمة؛ بحيث إنه كان ليس لأحدٍ

من الأشاعرة أن يشهد الجمعة ولا الجماعات» [22] .

إنها مأساة عظيمة أن يكون هذا الشقاق والخلاف والتناحر والتدابر في مسائل

يسع الخلاف فيها، وسواء فعلت أم لم تفعل فإن مباني الإسلام قائمة فيما بين

الطرفين، وأن تصل الحال بهم إلى ترك ما هو أعظم من تلك المسائل المثارة مثل

ترك الجمعة والجماعات؛ فإنه الفقه النظري وليس هو الفقه العملي؛ وإذا اجتمع

الفقه نظرياً وعملياً في شخص فذلك هو التوفيق والبصيرة في الدين. وفي سنة

488 هـ وقعت فتنة عظيمة بين طائفة الكرامية والشوافع والأحناف في خراسان

ذهب ضحيتها عدد من القتلى، وخربت مدارسهم [23] .

لقد خرجت دول الإفرنج على بلاد الإسلام سنة 478 هـ حيث ملكوا طليطلة

من بلاد الأندلس وغيرها.

وفي سنة 484 هـ قصدوا جزيرة صقلية واستولوا عليها.

وفي سنة 490 هـ قصدوا بلاد الشام، ودخلوها من طريق القسطنطينية [24] .

ومع الأسف أن تجد بعض العلماء الكبار كأبي حامد الغزالي يترك التدريس

في المدرسة النظامية وينيب عنه أخاه، ويذهب إلى زيارة بيت المقدس، ثم يتزهد

ويلبس الخشن والساحة تغلي من الشرق والغرب؛ وذلك في سنة 488 هـ[25] .

وإذا نظرت إلى بعض الشعراء رأيت همته وأعلى أمنيته أن يفوز بمنحة أو

عطية من وزير أو حاكم غير عابئ بما يقع حوله من الأحداث مع إسفاف في المدح

والثناء، وعثرة لسان فيما يقول من بعض الكلام. يقول الشاعر علقمة بن عبد

الرزاق العليمي: «قصدت بدراً الجمالي بمصر فرأيت أشراف الناس وكبراءهم

على بابه قد طال مقامهم ولم يصلوا إليه. قال: فبينا أنا كذلك إذ خرج بدر يريد

الصيد، فخرج علقمة في أثره، وأقام إلى أن رجع من صيده، فلما قاربه وقف

على نشز من الأرض وأومأ برقعة في يده وأنشأ يقول:

نحن التجار وهذه أعلامنا ... در وجود يمينك المبتاع

قلِّب وفتشها بسمعك إنما ... هي جوهر تختاره الأسماع

كسدت علينا بالشآم وكلما ... قلَّ النفاق تعطل الصناع

فأتاك يحملها إليك تجارها ... ومطيها الآمال والأطماع

حتى أناخوها ببابك والرجا ... من دونك السمسار والبياع

فوهبت ما لم يعطه في دهره ... هرم ولا كعب ولا القعقاع

وسبقت هذا الناس في طلب العلى ... فالناس بعدك كلهم أتباع

يا بدر أقسم لو بك اعتصم الورى ... ولجوا إليك جميعهم ما ضاعوا» [26]

نعوذ بالله من الشرك وأهله؛ فمن اعتصم بمخلوق وكله الله إليه.

إن الاعتبار بحال من سبق وأخذ الدروس والعبر منه مطلوب شرعاً؛ لأن

سنة الله مطردة، وعادته مستمرة كما قال ابن تيمية رحمه الله تعالى، وإن واقع

العالم الإسلامي اليوم شبيه بواقع العالم الإسلامي قبل الحروب الصليبية وبعدها من

عدة وجوه:

1 - وجود الخلافات بين حكامه وأمرائه؛ فكل قطر منه يحكي انتفاخاً صولة

الأسد، له جامعة تخص العالم العربي وتسمى جامعة الدول العربية، فخرجت منها

بقية دول العالم الإسلامي التي ليست عربية وهي أكثر؛ لكنها دخلت تحت شعار

رابطة العالم الإسلامي، ومنظمة المؤتمر الإسلامي، وكل قراراتها مجرد شجب

واستنكار وليس لها واقع عملي.

وإذا نظرت إلى أقطار العالم الإسلامي تجد التناحر والتنازع فيما بينهم على

أشده أحياناً، ويطفو أحياناً؛ بل بعض دوله تتربص ببعض، مثل غزو العراق

للكويت، وغزو مصر لليمن، وغزو سوريا للبنان، وغزو إيران لبعض دول

الخليج، وغير ذلك.

وإذا حصل لأي دولة أي اعتداء عقدت المؤتمرات الجوفاء، وأصدرت بيانًا

بعد التي واللتيا، يحمل في طياته الشجب والاستنكار فقط، وهذا كلٌّ يجيده ويقوم

به حتى القواعد في داخل بيوتهن يستطعن أن يقمن بهذا الدور، بل الصحيح والحق

أن هذا هو دور العجائز. [وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ] (الحج: 18) .

لقد وصل بهم الحال إلى أن طمع فيهم العدو الخارجي وسامهم سوء العذاب.

وزعماء هذا العالم منعمون تحت المكيفات ويستأثرون بكل ما لذ وطاب من العيش

وشعوبهم تحت وطأة القهر والخذلان.

إن دولة إسرائيل خُطط لها من قبل دول الكفر لتكون في الأرض المباركة،

وما ذلك التخطيط إلا امتداد للحروب الصليبية التي اجتاحت العالم الإسلامي في

القرن السادس الهجري، وهي دولة صغيرة في مواردها المالية والبشرية لا

تستغرق ساعة واحدة من ساعات النهار في حياة عماد الدين زنكي أو من قواده مثل

نور الدين محمود زنكي أو صلاح الدين رحمهم الله، لكنه الخذلان والبعد عن منهج

الله وحب الأنانية والتمتع بلذات الدنيا وتمكن الهوان في قلوبهم.

وليتهم وقفوا عند هذا الحد؛ لكنهم ارتموا في أحضان الأعداء، فعقدوا معهم

المعاهدات المتعددة والمتنوعة، وتبادلوا السفارات فيما بينهم؛ وركعوا وخضعوا

لطواغيت الكفر؛ وانطبق عليهم قول الله تعالى: [وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإِنسِ

يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الجِنِّ فَزَادُوَهُمْ رَهَقاً] (الجن: 6) .

إنهم لجؤوا إلى طواغيت الأرض شرقاً وغرباً، فمنوهم ووعدوهم [وَمَا

يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً] (الإسراء: 64) . لقد ارتمى الشريف حسين بن

علي والي مكة في أحضان الإنجليز، ومنته ووعدته بإعادة الخلافة وإرجاعها إلى

العرب في سبيل أن يتخلص من سيطرة الخلافة العثمانية عليه وعلى غيره من

العرب، وتمت المراسلات بين الشريف بواسطة أبنائه عبد الله وفيصل وبين

الإنجليز بواسطة السير مكماهون نائب ملك بريطانيا في مصر [27] ، وقد تنازل

الشريف عن أجزاء من العالم العربي الإسلامي في مقابل أن تفي له بريطانيا بما

منته من إعادة الخلافة للعرب. وهيهات؛ فقد خدعته وخدعت العرب عموماً؛ ولا

غرابة في ذلك؛ فالعدو هو العدو، والذئب هو الذئب ولو أنه في صورة قط أليف.

يقول الدكتور محمد فاروق الخالدي: «لقد خدعت بريطانيا العرب خدعة كبيرة

فأبرمت اتفاقات معاكسة لاتفاقاتها مع العرب مع حكومات تطمع بأراضي العرب…،

فلم يطمع الإنجليز والفرنسيون بجزء من الوطن العربي، بل طمعوا به كله،

ومن ثم تقاسموه كله، وقرروا أن يمارسوا درجات مختلفة من السلطة السياسية فوق

البلاد العربية الآسيوية كلها باستثناء الحجاز» [28] .

إن دولة الخلافة ضعفت أمام العدو الخارجي والداخلي، وقويت الصلة بين

العدوين في الإطاحة بمركز الخلافة والقضاء عليه، ودخلت حملات العدو الخارجي

إلى بعض أقطار العالم الإسلامي، بدأ بدخول الحملة الفرنسية إلى القطر المصري

ثم توالت بعد ذلك حملاته وتوزع العالم الإسلامي وسامه سوء العذاب وساسه

بقوانينه وتشريعاته الكافرة، وأرهقه بتقنياته ومعداته الحربية، واقتنص أبناءه

وأرسلهم إلى بلاده لكي يتلوثوا بمبادئه وأفكاره، وتم له كل ما خططه وتمناه،

واستخدم أبناء العالم الإسلامي في تحقيق مخططاته وأهدافه رويداً رويداً حتى تمت

له السيطرة الفكرية والعقدية السلوكية مع السيطرة الاقتصادية والسياسية والإعلامية

والتعليمية في جميع أقطار العالم الإسلامي [29] عبر سنين عديدة [30] ، وتولى

زعامة العالم الإسلامي تلامذته، فواصلوا السير في تنفيذ مخططاته وتحقيق أهدافه

بروح وثابة، ونفوس تواقة إلى موالاته واحترام قراراته، وصار الغرب والشرق

مرجعاً لهم في تشريعاتهم وحماية أوطانهم وحل مشاكلهم. وانحصرت المرجعية

العلمية في أقطار العالم الإسلامي في إقامة الزوايا الصوفية، والموالد البدعية،

والخلافات المذهبية حتى وصل الحال بهم في أرض الحرمين أن يكون لكل مذهب

من مذاهب أهل السنة محراب ومنبر مستقل عن الآخر يؤدي الصلاة فيه على

مذهبه؛ لأنه يرى بطلانه على المذهب الآخر.

يقول الأمير الصنعاني: «بل أضرب لك مثلاً آخر: هذا حرم الله الذي هو

أفضل بقاع الدنيا بالاتفاق، وإجماع العلماء، أحدث فيه بعض ملوك الشراكسة

الجهلة الضُّلاَّل هذه المقامات التي فرقت لعبادات العباد، واشتملت على ما لا

يحصيه إلا الله عز وجل من الفساد، وفرقت عبادات المسلمين، وصيرتهم كالملل

المختلفة في الدين؛ بدعة قرت بها عين إبليس اللعين؛ وصيرت المسلمين ضحكة

للشياطين، وقد سكت الناس عنها، ووفد علماء الآفاق والأبدال والأقطاب إليها،

وشاهدها كل ذي عينين، وسمع بها كل ذي أذنين؛ فهذا السكوت دليل على جوازها.

هذا لا يقوله من له إلمام بشيء من المعارف. كذلك سكوتهم عن هذه الأشياء

الصادرة من القبوريين» [31] .

بل كان الناس يقعون في الشرك الأكبر من الاستغاثة والاستعانة بغير الله

تعالى، وبناء المساجد والقباب على الأضرحة ودعوتها من دون الله، والذبح والنذر

لغير الله، وغيرها من البدع والشركيات التي هيمنت على حياة الناس، ولا تجد

لمن عندهم علم دور فعال في إنكارها وبيان خطرها. يقول الدكتور علي بخيت

الزهراني بعد أن ذكر بعضاً منها: «والداهية أن تهيمن هذه البدع لا على حياة

العوام فحسب ولكن على حياة كثير من العلماء الذين شايعوها ونصروها، وهكذا

أصبحنا نرى البدع في كل مكان تكاد تحتل منزلة الصدارة من حياة الناس، يعمل

بها الجاهلون، ولا يستنكف عن تأييدها العالمون، حتى لقد انتهينا إلى اليوم الذي

ورد ذكره في حديث ابن مسعود إذ قال: يأتي على الناس زمان تكون السنة فيه

بدعة، والبدعة سنة. وقد كان الناس عند حلول الأزمات والشدائد يفرون إلى هذه

البدع كي تزول أزمتهم، وتنكشف شدتهم، ومن ذلك قراءة صحيح البخاري عند

وقوع الأحداث، وكذلك ما كان يقوم به أرباب الطرق والعوام من أذكار مبتدعة،

ومجالس مخترعة، وقد كان سلاطين المسلمين وملوكهم يرسلون إلى العلماء في

زمن الحروب ليقرؤوا لهم صحيح البخاري» [32] .

وذكر الجبرتي أن السلطان العثماني أرسل ألف قرش رومي «تفرق على

طلبة العلم بالأزهر، ويقرؤون له صحيح البخاري ويدعون له بالنصر» ، قال

الجبرتي: «وفي يوم الجمعة كتبوا قائمة أسماء المجاورين والطلبة وأخبروا الباشا

أن الألف قرش لا تكفي طائفة من المجاورين، فزادها ثلاثة آلاف قرش من عنده،

فوزعها بحسب الحال: أعلى، وأوسط، وأدنى، فخص الأعلى عشرون قرشاً،

والأوسط عشرة، والأدنى أربعة، وكذلك طوائف الأروقة بحسب الكثرة والقلة، ثم

أحضروا أجزاء البخاري وقرؤوا» [33] .

إنها مأساة! الفرنسيون يدخلون القاهرة من كل باب والمسلمون بزعامتهم

ومرجعياتهم الدينية يقرؤون صحيح البخاري تبركاً به من أجل أن يرد العدو! وأنى

له ذلك إذا لم يكن له رجال يحملونه هادياً لهم والسيف ناصراً له كما هو هدي

المصطفى صلى الله عليه وسلم؟ !

يقول الدكتور علي بخيت الزهراني: «واحتل الفرنسيون القاهرة فلم يكن

لمثل هذه الجموع الفوضوية التي كانت في البدع والخرافات أن تقاوم الجيش

الفرنسي في قوته وتدريبه ونظامه، وكان الأوْلى بهؤلاء الطرقية وغيرهم أن يلقوا

بطبولهم وأشايرهم ومزاميرهم، ويحملوا السلاح ليقاتلوا به الفرنسيين بدلاً من

صخبهم وضجيجهم وصياحهم بأذكار المبتدعة، كما كان الأوْلى بعلماء الأزهر الذين

كانوا يعكفون على قراءة الصحيح لحصول النصر أن ينظروا ما بين دفتي صحيح

البخاري من أحاديث وسنن وسير ومغازٍ فيقتدوا بما فيها ويقوموا بواجبهم في نصح

الأمة وقيادتها وتوعيتها وحثها على الجهاد ولإعداد وبذل جميع الأسباب بدلاً من

تجزِّي صحيح البخاري وقراءته فيما بينهم. وقد ظل علماء الأزهر وشيوخه

يحافظون على هذه البدعة كلما ألمت بالبلاد مصيبة أو داهمتها كارثة؛ فبعد مرور

ما يقارب تسعين عاماً على مجيء الفرنسيين إلى مصر قام الأسطول الإنجليزي

بقصف مدينة الإسكندرية، وتمكن من احتلالها.

يقول القباني وهو من شيوخ الأزهر:» وعندما انتشبت الحرب بين الإنجليز

وأهل الوطن العزيز اجتهدوا غاية الاجتهاد في سبيل المدافعة والجهاد بأخذ الأهبة

والاستعداد، وكانت السادة العلماء الأعلام ولا سيما أستاذنا شيخ الإسلام يقرؤون

كتاب البخاري الشريف في الجامع الأزهر الأنور المنيف «؛ فهل كان يقف دور

علماء الأزهر عند هذا الحد مكتفين بقراءة البخاري معتقدين أن فعلهم ذلك من أعظم

أسباب النصر على الأعداء؟ !» [34] .

إن مواقف جماهير العلماء الذين هم المرجعية العلمية للأمة في الرخاء والشدة

كانت مؤلمة ووخيمة، ولو أردت الاستطراد في ذكر مواقفهم المخزية في جميع

أنحاء العالم الإسلامي لطال بي المقام، ولكن فيما ذكرنا إشارة تفيد ولا تغني، ومن

أراد التوسع والاطلاع فعليه بمراجعة كتاب (الانحرافات العقدية العلمية في القرنين

الثالث عشر والرابع عشر) ، الفصل التاسع: (مواقف العلماء) ، من صفحة

(593- 625) حيث أورد نماذج وشواهد متعددة ومتنوعة.

وبناءً على ضعف مواقف العلماء في مقارعة الباطل والإنكار عليه بل وقوعهم

في التلبس به ظهرت الفرق الضالة في الساحة وبثت سمومها وأفكارها، وكانوا

عوناً للمستعمر الخبيث كما كانوا عوناً للصليبيين في وقتهم، وحوادثهم الشنيعة

كثيرة ومواقفهم من أهل السنة خبيثة. لقد ظهرت الباطنية في اليمن فأثاروا القلاقل

والفتن تحت زعيمهم وداعيتهم (المكرمي) الذي استمرت ولايته قرابة ثلاثين عاماً.

وفي سوريا قام الإسماعيلية في سلمية يقاتلون بجانب الاستعمار الفرنسي، كما

قاموا في إيران تحت زعامة (حسن علي شاه) وذاع صيته واتصل به الإنجليز

ومنوه حكم فارس، كما تفاقم أمر النصيرية في بلاد الشام وغذّى الفرنسيون هذه

النحلة الضالة ورعوها حتى صار زمام الملك بيدها، ونبتت بجوارهم طائفة الدروز

الذين كانوا عوناً كبيراً لمحمد علي باشا عندما أرسل ابنه إبراهيم بجيش لاحتلال

دمشق من أيدي العثمانيين بعد أن نزع يد الطاعة منهم عام 1247 هـ، وكان

زعيم الدروز يدعى (بشير الشهابي ت 1266 هـ) ، وهم الذين مدوا يد التعاون

مع قائد الحملة الفرنسية إلى الأقطار العربية (نابليون) وصاروا عوناً له للدخول

إلى بعض مدن بلاد الشام.

وانتشرت الزيدية في بلاد المسلمين وصار بينها وبين أهل السنة مواقف

ومشادات حتى إن أهل السنة لما علموا وتحققوا من ذهاب العثمانيين عن بلادهم

خافوا على أنفسهم من الزيدية؛ لأن مقاليد الحكم كانت بأيديهم، واستغل الإنجليز

هذا الخلاف الذي نشب بين أهل السنة والزيدية في تهييج العداء وإشعال الحريق

بينهما حتى تضعف شوكة الطرفين وهم يقطفون ثمرة ذلك بالتمكين لأقدامهم في

المنطقة. وكانت فرقة اليزيدية المعروفون بعبدة الشياطين يقطنون العراق، وقد

قاموا بثورات على بعض ولاة الأتراك، وروعوا الآمنين ونهبوا وقطعوا الطريق.

كما نشأت فرق البهائية والقاديانية في العالم الإسلامي ورعتها بعض دول

الكفر، وتهاونت دولة الخلافة في القضاء على هذه النحل المنحرفة، ومن أمن

العقوبة أساء الأدب [35] .

أما دور الرافضة قديماً وحديثاً فغير خاف على من له شبه إلمامة بتاريخهم

المشين [36] .

إن هذه العوامل الداخلية والخارجية كان لها الأثر السلبي على حياة الناس؛

حيث ضعفت الأمة في أهم وأقوى ما تحمله وهي عقيدتها، فأصبحت تحمل

شعارات إسلامية دون المضامين لتلك الشعارات، ومن أبرز ذلك القضاء على

عقيدة الولاء والبراء.

وقضى العدو على طريق العزة والكرامة في نفوسهم ألا وهو الجهاد في سبيل

الله، كما تضامن العدو الداخلي والخارجي على إيجاد الفساد الخلقي في صفوف

الأمة الإسلامية وتقنينه ورعايته وحمايته، وسعى سعياً حثيثاً في إقصاء التحاكم إلى

الشريعة الإلهية واستبدالها بقوانين وضعية، فحققوا من خلال هذا هدفين عظيمين

الأول: تنحية الشريعة الإلهية من حياة الناس، والثاني: تحقيق أهدافهم من خلال

الأنظمة والقوانين التي اختاروها بديلاً للناس عن هذه الشريعة الغراء. وتسلط

العدو على الموارد المالية، فخطط للاستفادة منها، وجعل له حق الامتياز فيها،

واتبع مع أهلها الأصليين قول عبد الله بن أُبَيّ بن سلول: «سمِّنْ كلبك يأكلك،

وجوِّع كلبك يتبعك» .

وبث العدو سمومه الثقافية من خلال أجهزة الإعلام المتعددة والمتنوعة المرئية

والمقروءة، وما من بيت من بيوت المسلمين إلا وقد وصله الإعلام، ودخل عليه

بدون استئذان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015