مجله البيان (صفحة 4095)

المسلمون والعالم

فليستقل جورج الثالث عشر!

خالد أبو الفتوح

abulfutoh@hotmail.com

عندما كانت رحى المعركة الانتخابية الأخيرة دائرة في أمريكا كانت تصاحبها

معركة إعلامية بين أنصار المرشحَيْن: الجمهوري جورج دبليو بوش،

والديمقراطي آل جور. وكانت تدور على الألسن تهكمات عليهما أطلقها الإعلام

الأمريكي نفسه، أهمها أن هذه المعركة إنما هي تنافس بين (غبي) و (كذاب)

على رئاسة أقوى دولة في العالم، لم يكن كثير منا يأبه لهذه التهكمات أو

(التجاوزات) باعتبار أننا متفرجون على هذه المشاهد وأن الأمر لا يعنينا؛ لأننا في

جميع الأحوال علينا الرضا وطلب الرضا!

ولكن الأحداث أثبتت وما زالت تثبت خطأ هذا السلوك، ولفتت أنظارنا إلى

أهمية الاهتمام بمعرفة وربما البحث عن عدو عاقل الذي هو خير من صديق أحمق.

فالواقع أننا شئنا أم أبينا نعاني من انعكاسات قرارات هذا الرئيس أو ذاك

ومجموعة مستشاريه ومعاونيه وخبرائه، التي يكون من عوامل التأثير فيها أي تلك

القرارات قدرات هؤلاء الأشخاص وميولهم وقناعاتهم وأخلاقهم.

وهكذا شاهدنا حدوث (تحولات) ضمن ثوابت معينة صاحبت كل رئيس

وإدارته، وكان من أبرز مظاهر هذه التحولات في عهد الرئيس الأمريكي الحالي

هو تبنيه خيارات اليمين الجمهوري (الذي هو يمين سياسي أصلاً) المتمثل في

ثالوث: الرأسمالية في أقصى صورها تسلطاً، والقوة العسكرية في أشد صورها

عجرفة، ومنظومة الأمن القومي..

وعلى إثر ذلك رأينا ظواهر لتلك التحولات، مثل: التسارع المحموم في

تبني مشروع (الدرع الصاروخي) الذي استفيد فيه من مشروع الرئيس الجمهوري

الأسبق ريجان والمسمى (بحرب النجوم) والذي أُنفق عليه سابقاً زهاء ثلاثين

مليار دولار، ورأينا أيضاً محاولات الرئيس بوش وإدارته لإلغاء معاهدة الحد من

الأسلحة الباليستية الموقعة مع الاتحاد السوفييتي السابق عام 1972م، التي تشكل

عائقاً أمام المشروع السابق ذكره، وكذلك الجدل الثائر حول اتفاقية كيوتو للحد من

الاحتباس الحراري الناتج عن الغازات الصناعية، والأقاويل التي ذكرت بخصوص

إلغاء حكم تقسيم شركة مايكروسوفت العملاقة، كما رأينا موقف الإدارة الأمريكية

من مؤتمر مكافحة العنصرية بديربان ... إلى آخر الظواهر التي شكلت مظهر

السياسة الأمريكية، وأفرزت معها في زمن قياسي عداوات (أو إزعاجات) متعددة

بين قطاعات كثيرة من الناس في بقاع شتى من العالم.

ولكن ساعد على إشعال هذه العداوات أيضاً: شيوع الأخطاء الناتجة عن

ضعف (دبلوماسية) الرئيس الأمريكي وانخفاض مستوى لباقته (أو لياقته) ،

ويأتي في هذا السياق ما تحدث به في حديقة البيت الأبيض عقب عودته من

مناقشات عقدها مع مستشاريه المقربين في كامب ديفيد يوم 16/9/2001م؛ حيث

دشن إعلان حرب أمريكا على الإرهاب متوعداً «بشن ما سماه حملة صليبية طويلة

الأمد لتخليص العالم ممن وصفهم بفاعلي الشر» [1] .

فهو باستعماله هذا المصطلح أعطى انطباعاً عنه يتجاوز ما هو سائد عن

سلوك راعي البقر الأمريكي الذي يكون زناد مسدسه أقرب إليه من طرف لسانه،

ليلفت النظر إلى أن في القادة الأمريكان من يعيشون أجواء القرون الوسطى، على

ما ينطوي في ذلك من إرث تعصبي ومضامين عنصرية تهدر وتتعارض مع جميع

مواثيقهم الدولية لحقوق الإنسان، بل تصطدم مع القيم التي يعلن قيام المجتمع

الأمريكي نفسه عليها.

إننا لا نرى أن هذا التصريح نشاز في خطاب السياسيين والإعلاميين

الغربيين عندما يكون هذا الخطاب موجهاً للغرب؛ فهو متناغم مع ثقافتهم وخلفياتهم

المشوهة عن الإسلام والمسلمين. ولكن الجديد هو تسرب مثل ذلك إلى مسامعنا،

وأيضاً الجرأة على إعلانه بهذه الصورة الفجة، وهو ما نبهه عليه مستشاروه، فعاد

واعتذر أو أسف.

فقد سبقه إلى هذه الاستفزازات يوم (14/9) كاتب صهيوني يدعى (ريوفن

كورت) في مجلة (Israel Insider) (إسرائيل من الداخل) عندما دعا إلى

الرد على تفجيرات نيويورك وواشنطن التي طالت رموزاً للحضارة الغربية حسب

تعبيره بتفجيرات مماثلة لرموز إسلامية قائلاً: «وبالمثل فإن الغرب يتعين عليه

إيجاد وسائل أخرى لردع الجهاديين، ويجب أن نفعل ذلك من خلال فهمهم وإجابتهم

بمعايير نظام القيم الذي يؤمنون به، لا الذي نؤمن نحن به، فما الذي يجدي قصف

مطار كابول أو قواعد طالبان العسكرية؟ ... ففي مكة يوجد برجان طويلان في

شكل منارتين شامختين تحيطان بعلبة سوداء عريضة! يعبدها المؤمنون! ويتجهون

إليها في حجهم المقدس، وإلى هذا الشيء الرمزي يتجه كل المسلمين في

صلواتهم ... » .

ثم تبع تصريحات بوش تصريحات أخرى لرئيس الوزراء الإيطالي سيليفيو

بيرلوسكوني عندما قارن يوم 26/9 بين (الإرهاب الإسلامي) والحركة المضادة

للعولمة قائلاً: إن الأول حاول استفزاز العالم الغربي لدفعه لرد فعل عنيف، بينما

سعى الآخر لدفع العالم الغربي للشعور بالذنب، معللاً ذلك بأنه راجع إلى سمو

الحضارة الغربية على غيرها من الحضارات؛ لأن الغرب يضمن حقوق الإنسان

وحرية الأديان؛ وهو ما لا وجود له في العالم الإسلامي! .

ورغم محاولته التراجع كما حاول بوش مدعياً أن تصريحاته أسيء تفسيرها،

إلا أنه لم يستطع إيقاف توابع تصريحه التي تتابعت من مسؤولين (حكوميين)

آخرين، فقال وزير الثقافة جوليانو إرباني: «إن الفرق كبير بين أولئك الذين

يقترفون المجازر وأولئك الذين لا يقترفونها» ، وقالت نائبة وزير الدولة للشؤون

الخارجية مارجيتا يونيفر: «ليس هناك من شك بأن هذا التفوق يظهر بقوة في

مجال حقوق النساء..» ، أما وزير الشؤون الأوروبية روكو بوتيليوني فقد قال:

«إن حضارتنا هي حضارة تصون أكثر من غيرها القيم الأساسية التي تجعل الحياة

جديرة بأن تحياها» .

وكان بيرلوسكوني قد تفوه بكلام مماثل لم يثر زوبعة؛ لأنه صدر أثناء

اجتماع (مغلق) خلال انعقاد قمة استثنائية للمجلس الأوروبي في عاصمة بلجيكا

بروكسل يوم 21/9، حتى إن صحيفة (لوفيجارو) الفرنسية علقت ساخرة على

موقف رؤساء الدول والحكومات الأوروبية من تصريحه (الحضاري) الأخير

فتساءلت: «كيف أنهم استمعوا لـ (خطبة) بيرولوسكوني ولم يتجرأ أن يرد

عليه أحد؛ لأن الاجتماع كان مغلقاً، وليقينهم أن كلام الإيطالي لن يسمعه أحد

غيرهم!» .

والحقيقة أن تصريحات مثل هؤلاء ومنهم بوش لا تخرج صريحة إلا في حالة

عبر عنها وزير الشؤون الأوروبية الإيطالي بقوله: «إن بيرلوسكوني يطلق

التصريحات دون أن يزنها، أو بعبارة أخرى: هو يتحدث أحياناً من القلب ولا

يحكم عقله» [قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ]

(آل عمران: 118) .

نعود إلى تصريح جورج بوش؛ حيث لم يكتف بهذا التصريح الفج، بل

أطلق تصريحاً لا يقل خطورة عن سابقه، عندما أعلن أن من ليس مع أمريكا في

هذه الحرب فهو ضدها، أو مع الإرهاب، وهي محاولة لإرغام جميع دول العالم

على التورط في الحرب لا محالة، بل هي تهديد صريح لدول مستقلة ذات سيادة،

وفرض سافر على هذه الدول بتبني مفهوم أمريكا للإرهاب، وتبني تحديدها

لأطرافه، وطريقتها لمعالجته، وتحمل عواقب ذلك كله صاغرة ومرغمة؛ فهي

محاولة لإكراه الآخرين على الانخراط في (حملة) أمريكا العسكرية، بعد أن

وضعت نفسها موضع الضحية والمحقق والمدعي والقاضي والجلاد في آن واحد،

وهو منطق شريعة الغاب التي يعلو فيها صوت القوة على الحق.

ثم زاد بوش وأعلن أن أمريكا لن تعلن دليلاً على اتهاماتها، وكأنه يطالب

الأمم (غير الإرهابية) بإغماض عينيها والسير خلفه منقادة بلا نقاش.

إن أمريكا ومعها الغرب في سعيها المحموم للبحث عن عدو بعد سقوط الاتحاد

السوفييتي تشحذ به إرادتها في التحدي الحضاري، وتنفذ من خلال مواجهته

مخططاتها وتحقق من تحت ستار القضاء عليه مصالحها الحيوية ومفهومها

(الواسع) للأمن القومي.. تضع العالم جميعه على شفا حرب عالمية مهلكة، ربما

لم يسبق لها مثيل، بما في ذلك من مخاطر ليس على المسلمين فقط، بل على

البشرية جمعاء، وإذا نظرنا إلى تصريحات رموز الإدارة الأمريكية من أن هذه

الحرب سوف تشمل أكثر من ستين دولة، وأنها قد تستمر أكثر من عشر

سنوات، ومرصود لها 40 مليار دولار (دفعة تحت الحساب) ، وأن زمن

(الحروب النظيفة) قد ولى ... لأدركنا حجم الكارثة التي اشتعل فتيلها من غير

تروٍّ وبالأخذ بالشبهات.

وإذا كان الرئيس الأمريكي جورج بوش يشاع عنه أنه لا تسعفه قدراته إلى

حسن اختيار كلماته، ومن ذلك: زلة الصدق التي أطلقها مؤخراً (الحروب

الصليبية) ؛ فكيف يحسن اختيار قرارات تتوقف عليها إزهاق أرواح آلاف -

وربما ملايين - من البشر، وتدمير لأراض ومنشآت، وخراب لبلدان، وإعادة

رسم لخريطة مناطق بأكملها، بل قد يتوقف عليها مستقبل البشرية؟ .. كيف يُؤمَن

على كل ذلك من يفتقر إلى مثل ذلك؟

إننا في ضوء كل ما سبق نرى أن من حقنا، بل من حق جميع الشعوب

المعنية، لا أن نطالب الرئيس بوش بالشجاعة التي كان يتحلى بها بعض أسلافه من

القادة الصليبيين، وهو الذي أعلن عقب التفجيرات في نيويورك وواشنطن عدم

عودته إلى واشنطن، وذهب إلى لويزيانا ثم إلى نبراسكا ليختبئ في أحد الأقبية

المحصنة ضد الهجمات النووية.. ولكن نطالبه بالتحلي بقدر من الشجاعة الأدبية

تتيح له الجرأة على تقديم استقالته من قيادة العالم نحو الهاوية؛ لأنه كما قيل عنه

ليس على مستوى الأزمة، وعندها سوف يدخل التاريخ السياسي على أنه

(سان جورج) بدل أن يدخله على أنه (جورج الثالث عشر) .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015