مجله البيان (صفحة 4084)

دراسات تربوية

عملية لا تعرف التوقف.. حتى في الفتن

عبد اللطيف بن محمد الحسن

صلى الله عليه وسلمlhasan1422@yahoo.com

مهما قيل في مواجهة الفتن، فإن تغيير النفوس هو بداية التغيير وطريقه

الصحيح: [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ] (الرعد: 11) .

وعملية بناء النفس عند الموفَّقين الجادّين: مسألة لا تعرف التوقف والملل،

فهي مستمرة بتوالي الأنفاس، [وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ اليَقِينُ] (الحجر: 99)

(أي: الموت) ؛ ليقينهم بأن اللحظة التي لا تساهم في البناء فإنها تشرع في الهدم

[لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ] (المدثر: 37) ، [قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا *

وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا] (الشمس: 9-10) .. حالان لا ثالث لهما!

والملاحظ: أنه في الوقت الذي يتطلب مراجعة جدية للنفوس، وتجديداً

لإيمان القلوب، واستمراراً لبناء النفس الشمولي المتكامل.. بشكل أكثر إلحاحاً؛

لربما وقع إهمال لذلك بسبب ازدحام الأحداث، واضطراب الأمور، وافتقاد

التوازن، وتكاثر الأعباء، وتزاحم الأولويات جداً. ويكتسب التنبيه على أمر

مزيداً من الأهمية بارتفاع أهمية ذلك الأمر، وازدياد الصوارف عنه. وهذا ما

يدعو إلى الوقفات الآتية، في مثل هذه الظروف، والله المستعان.

أولاً: رعاية الإيمان:

المتأمل في الصراعات على مر التاريخ يبصر أن الأثر العقدي المحرك الأول

للصراع، ومع موجة التدين العامة التي يشهدها العالم بجميع ملله ونحله يتأجج

الدافع العقدي، وتتكشف كثير من الأقنعة عنه، وتزداد مع الأيام الأدلة الشاهدة على

الداء المتأصل عند جميع الملل في الكيد لدين الإسلام وأهله، وكما تحركت حروب

صليبية في القرون الوسطى تتحرك مثيلتها اليوم في قرن الصراع! !

حقيقة من لم يفهمها بالأمس فهمها اليوم، ومن لم تتكشف له اليوم تبدت له غداً

[لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ] (الأنفال: 42) . حقيقة هي

من الجلاء بحيث شهد بها التنزيل الحكيم في مواضع عديدة، كقوله تعالى: [وَلَن

تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ] (البقرة: 120) ، وقوله:

[وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداًّ مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّنْ

بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الحَقُّ] (البقرة: 109) ، [وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ

العَزِيزِ الحَمِيدِ] (البروج: 8) .

فإذا كان الإيمان محور الصراع فما أمام المسلم إلا خياران لا ثالث لهما:

متابعة أعدائه وإزالة أسباب التوتر بينه وبينهم، أو الاستعلاء بإيمانه وعقيدته،

والتحصن بذلك الحصن الحصين، وتحقيقه بالعمل قلباً وجوارح، والقيام بحقه

ولوازمه.

وإذا كان قيام الصراع من أجل الإيمان، فهل يرتضي عاقل أن يفقد الصراع

جوهره، ويتخلى عن محور تميزه وعقدة عداء الأعداء له؟

ولن تكون هناك وسيلة لرعاية الإيمان مثل مجاهدة النفس على فعل أمر الله

واجتناب نهيه، وتعاهد محاسبتها، وتجديد التوبة، وتفتيش القلب على الدوام.

ثانياً: الإقبال على العبادة:

يضعف أمر الدين في النفوس، ويقل الاعتناء به في حال الفتن، وينصرف

الناس إلى أمر دنياهم ومعاشهم..، ومن هنا عظم شأن العبادة في تلك الحال.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: «العبادة في الهرْج كهجرة إليّ» [1] .

قال النووي: «المراد بالهرج هنا: الفتنة واختلاط أمور الناس [2] ، وسبب

كثرة فضل العبادة فيه: أن الناس يغفلون عنها ويشتغلون عنها، ولا يتفرغ لها إلا

أفراد» [3] ، وهذا من مظاهر غربتهم «فمن تشاغل بالعبادة في تلك الحال كان

متشاغلاً بما أمر بالتشاغل به، تاركاً لما قد تشاغل به غيره من الهرج المنهي عن

الدخول فيه والكون من أهله، فاستحق بذلك الثواب العظيم» [4] .

ووجه تمثيله بالهجرة: أن الناس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كانوا

يفرُّون من دار الكفر وأهله إلى دار الإيمان وأهله، فإذا وقعت الفتن وجب على

المرء أن يفر بدينه من الفتنة إلى العبادة [5] ، لترجع النفوس إلى طبيعتها وسجيتها

بهذه الجرعات المهدئة من طاعة الله وذكره، حتى تفكر بشكل صحيح، وتعمل

بشكل صحيح أيضاً.

وإني أدعو القارئ الكريم إلى تدبر مثل سورة [أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ]

(الشرح: 1) ، التي «فيها البشرى.. باليسر والفرج، وفيها التوجيه إلى سر

اليسر وحبل الاتصال الوثيق» [6] ، إنها العبادة الحقة.

أنواع العبادة:

إذا عرفنا أن لفظ العبادة يشمل كل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال

الظاهرة والباطنة.. أمكننا أن نستوعب دخول أمور لا حصر لها من أعمال القلب

والجوارح واللسان في مفهوم العبادة، وسواء كانت تلك من العبادات اللازمة

الخاصة بالفرد، أو المتعدية التي يمتد أثرها إلى غيره، وسواء كانت من الفرائض

والواجبات أو النوافل..

ومما يتأكد من العبادات:

1 - تطهير القلوب وعمارتها:

من أخطر أسباب فتنة العبد عن الحق ووقوفه مع الباطل أو وقوعه فيه:

أمراض قلبه، وتقصيره في القيام بالواجبات القلبية، الأمر الذي لا يشعر به كثير

من الناس، ولا يلقون له بالاً! رغم أن القلب موضع نظر الرب تعالى، وسبب

صلاح الجوارح أو فسادها.

وللتحصن من الفتن: فإنه يتأكد تطهير القلوب من أمراض الرياء والعُجب

والغش والحقد والحسد وسوء الظن والتعلق بالدنيا وشهواتها وملذاتها، والسعي

الحثيث إلى إصلاح القلب وعمارته بمعرفة الله تعالى بالتعرف على أسمائه الحسنى

وصفاته العليا ومعانيها وآثارها، لتتحقق العبودية له تعالى [7] :

- حباً له ولدينه وأمره ونهيه، فيقدم محبته على محبة كل شيء سواه حين

يشتد امتحان المحبة، ومحبة لحزبه وموالاة لهم ونصرة على أعدائهم.

- وخوفاً منه وحذراً من وعيده ليكون رادعاً عن الزيغ عن الحق في زمن

تكثر فيه الصوارف عنه والاستجابة لاستهواء الباطل في وقت تقوى فيه الدوافع إليه.

- ورجاء لموعوده دنيا وأخرى الذي يهون كل أذى في سبيله.

- وتوكلاً عليه يقوِّي القلب على الصعاب، ويعظم أمله في تحقق موعود الله

عز وجل، في زمن يكثر فيه اليائسون القانطون.

- واستعانة به على طاعته، وعلى شؤون الحياة كلها.

- وصبراً على طاعة الله، وعن معصيته، وعلى أقداره.

- ورضىً بقضائه وقدره، حلوه ومره.

- واعتقاداً بحكمته البالغة في كل أفعاله.

- ويقيناً في قدرته على كل شيء، وفي صدق خبره بنصرة حزبه، وفي

تفرده بالتدبير والتصرف.. سبحانه وتعالى.

- وإقبالاً على أمره، واستسلاماً له، وسعياً في مراضيه، وتجنباً لمساخطه.

وما لم تتوجه الرعاية المركزة إلى القلوب؛ فما أسرع الفتن إليها! وما أبعد النجاة

منها! ؛ إذ إن إهمال ذلك سبب خيانة القلب لصاحبه وقت الشدائد والفتن، وتكمن

الخطورة في تأصل الأمراض واستفحالها، واشتداد تعلق الإنسان بمكاسب الدنيا

وملذاتها، وخوفه من فواتها وإلفه لها، حتى تقف عقبة كؤوداً دون اتباع الحق

وتقديمه على النفس والمال والولد.

2 - العناية بالفرائض والواجبات:

وهي أحب ما تقرب به العبد إلى ربه عز وجل في السراء والضراء [8] .

وأشعر أنّا بحاجة إلى وقفة مراجعة صادقة، ونظرة فاحصة في مدى رعايتنا

لتلك الفرائض؛ لندرك الهوة بين الواقع والواجب.

فصلاتنا مثلاً تفتقر لمزيد من العناية بالاستعداد لها، والتبكير إليها،

واستشعار معانيها وأسرارها وحكمها، واستكمال خشوعها وسننها.. وتأمل في حال

كثير من الصالحين اليوم مع صلاة الفجر، وصلاة الجمعة تَرَ عجباً.. وعلى هذا

فقِس.

والملاحظ أن الله تعالى لم يمتدح المؤمنين بمجرد أدائهم لها، بل بالمداومة

والمحافظة عليها، وهي تقتضي شيئاً فوق مجرد الأداء، وهكذا الأركان الأربعة

كلها وسائر الواجبات.

3 - الاستكثار من أعمال البر المصلحة للقلب والعمل:

وهي طريق محبة الله عز وجل لعبده: «ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل

حتى أحبه» [9] ، وبها يزيد الإيمان، وترتفع الدرجات، وتصان الواجبات.

ومن أعمال البر المتأكدة في زمان الفتنة:

أ - دخول جنة القرآن:

وذلك بالإقبال على تلاوة كتاب الله تعالى، وتدبره وتفهمه، واستلهام العبر

منه، وترسيخ الحقائق، وتوضيح المبادئ، وتصحيح المفاهيم، وبيان المواقف من

الأحداث والمستجدات.

ولحكمةٍ كان القرآن يتنزل على حسب الوقائع والأحداث.. وأنت ترى أن

فهمك للآيات يختلف تماماً حينما تجيء مناسباتها، حتى كأنك لم تسمعها من قبل..

وهذا ما وقع لعمر بن الخطاب رضي الله عنه بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم،

حين تلا أبو بكر رضي الله عنه قوله تعالى: [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن

قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ] (آل عمران: 144) ،

فاندهش، وقال بعد: «والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها، فعَقِرت حتى ما

تقلني رجلاي، وحتى أهويت إلى الأرض حين سمعته تلاها، علمت أن النبي

صلى الله عليه وسلم قد مات» [10] .

فهنيئاً لمن رزق إقبالاً على كلام الله وتدبراً له، فأبصر الحقائق قبل فوات

الأوان.

ب - الزاد الليلي:

قيام الليل.. تلك العبادة مفزع المؤمنين في الملمات، وقد أوجبها الله تعالى

على المؤمنين أول الإسلام عاماً كاملاً، ثم بقيت واجبة على النبي صلى الله عليه

وسلم، فصارت دأب الصالحين وسنة المصلحين يستمدون منها قوتهم، باستلهامهم

عون الله وتأييده، فكان ذلك سر قوة قلوبهم وثباتهم وهدايتهم، وخاصة مع

استفتاحهم صلاتهم بما كان النبي صلى الله عليه وسلم يستفتح به صلاة الليل:

«اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم

الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف

فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم» [11] .

ج - الذكر:

وهو وصية الله لعباده عند اشتداد البأس: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً

فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] (الأنفال: 45) .

والذكر يستجلب تعرُّف الله على عبده حال الشدة، إذ يكون له عند الله تعالى

ما يذكِّر به.

عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه

وسلم: «الذين يذكرون من جلال الله من تسبيحه وتحميده وتكبيره وتهليله،

يتعاطفون حول العرش، لهن دوي كدويّ النحل، يذكرن بصاحبهن؛ ألا يحب

أحدكم أن لا يزال له عند الله تعالى شيء يذكر به؟» [12] .

د - الدعاء والتضرع وإظهار الافتقار:

كل خير يحصل للعبد فأصله التوفيق، والتوفيق بيد الله لا بيد العبد، ومفتاحه

الدعاء والافتقار، وصدق اللجأ والرغبة والرهبة إليه. فإذا منح الله عبده ذلك

المفتاح فقد أراد أن يفتح له، وإذا أغفله عنه فقد أُغلق باب الخير دونه. ولذا قال

عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «إني لا أحمل همّ الإجابة، ولكن همّ الدعاء،

فإذا ألهمت الدعاء فإن الإجابة معه» [13] . وعليه فإن من خاب فخيبته من

إعراضه عن ربه؛ ومن ظفر ونجح فبصدق افتقاره ودعائه وقيامه بالشكر على ما

يعطيه ربه. والله لا يخيب من دعاه مقبلاً عليه: [أَمَّن يُجِيبُ المُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ

وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ] (النمل: 62) .

والمتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم يجد من شأنه عجباً في دعائه وضراعته،

وخاصة يوم بدر الذي قد وعده الله النصرة فيه، ومع ذلك فقد اشتدت ضراعته،

«فما زال يهتف بربه، مادّاً يديه، مستقبلاً القبلة، حتى سقط رداؤه عن منكبيه،

فأتاه أبو بكر، فأخذ رداءه، فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه، وقال: يا

نبي الله! [كفاك] مناشدتك ربك؛ فإنه سينجز لك ما وعدك» [14] .

ومن قام بذلك وهو في حال الرخاء نفعه ذلك حال الشدة: «تعرف إلى الله

في الرخاء يعرفك في الشدة» [15] ، وكل شدة بالنظر إلى ما هو أشد منها تعدُّ رخاء،

فليغتنمها العبد لئلا يشبه حال المشركين الذين لا يدعون إلا وقت الشدة، وهو

حال استنكره الله تعالى فقال: [وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا

خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ] (الزمر: 8) ، وقال: [وَإِذَا

أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ]

(فصلت: 51) .

وأشد نكارة منه حال المعرضين كلية: [وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ

فَأَخَذْنَاهُم بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلاَ إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِن

قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا

عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ]

(الأنعام: 42-44) .

«وقد جاء أثر معناه: أن العبد المطيع الذاكر لله تعالى إذا أصابته شدة أو

سأل الله تعالى حاجة، قالت الملائكة: يا رب! صوت معروف من عبد معروف،

والغافل المعرض عن الله عز وجل إذا دعاه وسأله قالت الملائكة: يا رب! صوت

منكر من عبد منكر» [16] .

4 - العناية بالعبادات المتعدية:

مفهوم ضيق أن نقصر العبادات على ما تقدم مما يخص المرء في نفسه،

وذلك المفهوم لوثة علمنة، منشؤها: نظرة قاصرة في تصور العبادة وفهم الإسلام

الذي أراد الله له أن يصلح الدين والدنيا.

ومن أبرز العبادات المتأكدة هنا:

1 - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

2 - الدعوة إلى الله تعالى ونشر الخير.

3 - القيام بتعليم العلم ونشره.

4 - الاجتهاد في تربية الأمة على الإسلام بجميع فئاتها، وخاصة الشباب

ذكوراً وإناثاً.

قال الله تعالى في كل ذلك: [وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ

بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] (آل عمران: 104) .

5 - العناية بتربية الأهل والأولاد ووقايتهم من النار، بتعريفهم حقيقة الإسلام،

وآثار التوحيد، وفوائد العبادة، ومضار الشرك والمعاصي، وتعريفهم بحال أمتهم،

وتحذيرهم من سبل الشر والفتنة والفساد وأسبابه وكيد المفسدين في تحسينه

والدعوة إليه.

6 - الاجتهاد في القيام بالعدل، وأداء الحقوق والسعي في ردها لأصحابها

مادية كانت أم معنوية.

7 - حسن الخلق من سعة الصدر واحتمال الأذى، وبذل الندى، والكلمة

الطيبة.

8 - الإحسان بكل صوره، وخاصة بر الوالدين وصلة الأرحام وأداء حقوق

الأخوة والجوار.

9 - نصرة المستضعفين والاستعداد للتضحية والقيام بالواجب.

10 - بذل المعروف والجود والإنفاق والتكافل:

وما أجمل تلك الصورة الرائعة التي أثنى عليها النبي صلى الله عليه وسلم،

فقال: «إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو، أو قلّ طعام عيالهم بالمدينة.. جمعوا

ما كان عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية؛ فهم مني

وأنا منهم» [17] .

ثالثاً: محاسبة النفس وتجديد التوبة:

من السنن الإلهية الجارية: أن الذنوب من ترك مأمور أو فعل محظور

تستنزل المصائب، ولم يخرج عن تلك السنة خير الأجيال رضي الله عنهم، فحين

ذكَّرهم الله بمصيبتهم يوم أحد قال: [قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ] (آل عمران:

165) ، وبيَّن تعالى سبب هلاك الأمم فقال: [وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي القُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا

ظَالِمُونَ] (القصص: 59) .

وكم كان فقه أحد الصحابة رضي الله عنهم عظيماً حين بكى لما فتح المسلمون

إحدى المدن؛ فعن عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عن أبيه قال: «لما فتحت

قبرص فُرِّق بين أهلها؛ فبكى بعضهم إلى بعض، فرأيت أبا الدرداء جالساً وحده

يبكي، فقلت: يا أبا الدرداء! ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله؟ فقال:

ويحك يا جبير! ما أهون الخلق على الله عز وجل إذا أضاعوا أمره؛ بينما هي أمة

قاهرة ظاهرة لهم الملك، تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى» [18] وعلى هذا

النهج أوصى عمر جنده فقال: إنما سُلِّطتم على عدوكم بعصيانهم الله، فإذا

شاركتموهم المعصية فاقوكم بالعدد والعُدد.

وغير خاف على من عرف حال الأمة وما هي فيه من بعد عن كتاب الله في

واقع حياتها؛ فصور تضييع الفرائض، وشيوع المنكرات، وانتشار الظلم،

وتحكيم القوانين، وقلة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، مع سكوت كثير

من المعنيين عن قول الحق والصدع به.. كلها تدعو إلى وقفة مراجعة لعودة صادقة.

رابعاً: كف اللسان وترك ما لا يعني من قول أو فعل:

والذي لا يعني هو: كل ما لا تعود على الإنسان منه منفعة لدينه ولا لآخرته.

فالخوض في أعراض المسلمين والتخرص في الأحكام وتناقل الشائعات..

أمر يتفاقم في الفتن، وهو شيء آخر تماماً غير الحديث الجاد في تحليل الحدث،

واستخراج الدروس، واستنباط العبر، وتوجيه الناس وتحذيرهم. والاشتغال بما لا

يعني ينقص حسن الإسلام والإيمان، ويضيع على الإنسان فرص النجاح في الحياة؛

لأنه اشتغل بغير رسالته فانحرف مساره [19] .

وبهذا الإجراء حفظ المصلحون والجادون جهودهم عن الهدر؛ فهذا عمر بن

عبد العزيز على نهج أهل السنة يقول في الفتنة بين الصحابة: «تلك دماء طهَّر

الله منها سيوفنا، فلا نخضِّب بها ألسنتنا» [20] ، وهذا الربيع بن خيثم لما قُتل

الحسين بن علي رضي الله عنه استرجع، وقرأ قول الله تعالى: [قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ

السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ

يَخْتَلِفُونَ] (الزمر: 46) ، قال ابن العربي: «ولم يزد على هذا أبداً؛ فهذا

العقل والدين، والكف عن أحوال المسلمين، والتسليم لرب العالمين» [21] .

وأراد رجل أن يستخرج منه سيئة فقال: «ما تقول؟ فقال: ما أقول؟ إلى

الله إيابهم، وعليه حسابهم» [22] .

قارن هذا بإطلاق الألسن في كل صوب بما يندم عليه الإنسان أو يتراجع عنه

عجلاً؛ فكيف إذا جاء وقت الحساب؟

خامساً: استمرار بناء النفس الشمولي المتكامل:

«التحديات التي تواجه الأمم كالتحديات التي تواجه الأفراد هي غالباً داخلية،

والأفراد العظماء كالأمم العظيمة حين يشتد عليهم الهجوم من الخارج لا ينهمكون

في أنشطة خارجية لصده، وإنما يرتدون إلى الداخل تنمية وتحصيناً وتنظيماً

وتطهيراً» [23] .

وتنمية الأمة والفرد تستلتزم الشمول والتكامل في الجوانب الفكرية والمعرفية

والشخصية والخلقية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها [24] . مع التوازن، والعناية

بالعمل والتدريب على تطبيق المعارف والعلوم، وإلا أصيبت التربية في مقتل.

وختاماً: قبل أن نتذكر شدة الهول حين لا ينفع التذكر: [كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ

الأَرْضُ دَكاًّ دَكاًّ * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفاًّ صَفاًّ * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ

الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي] (الفجر: 21-24) .

فلتكن الذكرى من هذه اللحظة.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015