دراسات تربوية
عبد الحكيم بن محمد بلال
belal1422. yahoo. com
من المتقرر شرعاً أن المسلم يبقى منذ بلوغه التكليف إلى مفارقته الحياة عبر
أحواله المختلفة في دائرة الابتلاء والاختبار التي خلق من أجلها لينظر الله عمله
ويحصيه عليه ليجازيه به حين المصير إليه سبحانه وتعالى. قال عز وجل:
[تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ المُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ المَوْتَ وَالْحَيَاةَ
لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ العَزِيزُ الغَفُورُ] (الملك: 1-2) .
وحقيقة الابتلاء والتكليف تتطلب من المسلم السعي الحثيث إلى النجاح في هذا
الامتحان الطويل أمده، المختلفة صوره، فهو مستمر في الرخاء والسراء كما هو
في البلاء والضراء [وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ] (الأنبياء:
35) ، والابتلاء باقٍ مع الغنى كما أنه مع الفقر، يرافق المسلم في سره وعلانيته،
في حله وترحاله، في غضبه ورضاه، في بيته وعمله.. لا يخرج عنه ما دام
عقله معه لم يفارقه بنوم أو جنون، ولكل حال تمر بالمسلم عبودية تخصها.
وتبقى حالات الفتن أشد حالات الابتلاء؛ نظراً لالتباس الحق بالباطل، وكثرة
الدعاة على أبواب جهنم، وكثرة الصوارف عن الحق، وارتفاع ضريبة الثبات
عليه ومتابعته، وبسبب انشغال كثير من الناس عن العبادة بمتابعة الأحداث وتناقل
الأخبار والاستجابة للإثارة، في ظل تتابع الأحداث، واضطراب الأمور، وانقلاب
المواقف، وتوالي الهموم الدنيوية، من نجاة النفس والأهل، وسلامة الدور
والأموال والتجارات، وتوفير المعيشة، مع اشتداد دواعي الأثرة، والشعور بالندرة.
ويبدو أن تفجيرات أمريكا حدث كبير له ما بعده؛ فهو بالنسبة للأمريكان
والأوروبيين بداية حقبة تاريخية جديدة، ومرحلة من الصراع متقدمة، تجعلهم
يعيدون كثيراً من حساباتهم، وخاصة مع المسلمين مع أن الاتهامات ضدهم لم
تثبت؛ والظاهر أن مساحات الحرية الممنوحة لهم هناك ستكون بعد اليوم هامشاً في
بلاد الديمقراطية!
وقد بدأت الممارسات الشعبية لهذا على شكل مضايقات شخصية وعامة في
المساجد والمراكز بلغت درجة إحراق بعض المساجد، وخلع حجاب بعض
المسلمات ... ، في الحين الذي انطلقت فيه الإجراءات الرسمية، متمثلة في
الملاحقات والاعتقالات الواسعة نسبياً من أجل التحقيق، وفي الحملة المسعورة
لتجفيف المنابع، وتضييق الخناق المالي الذي بدأت دائرته تتسع في الغرب
والشرق؛ مما يؤذن بفتنة جديدة من الحرب مع المسلمين عموماً والصحوة
خصوصاً، هي أشرس وأوسع نطاقاً. نسأل الله العافية.
تستدعي تلك الحالة تأملات دقيقة للوقوف مع الحدث وتحليله ودراسته
وتقويمه، والبحث في أسبابه وتداعياته ونتائجه القريبة والبعيدة، وكيفية التعامل
معه.. وليس يمكن لهذه المقالة أن توفي شيئاً من ذلك حقه.
إنما تهدف المقالة إلى ذكر وقفات في التعامل مع الفتن عموماً.
أولاً: الاستعانة بالله تعالى والاعتصام بحبله:
يقين المسلم بأن الكون لله، وأن الخلق خلقه، والأمر أمره، يوجب عليه
التوجه إلى الملك المدبر عز وجل لصلاح شؤون الدنيا والدين. وذلك هو الباب
الوحيد الذي من ضل عنه لم يجد مخرجاً ولا خلاصاً؛ لأن الله يكله إلى نفسه رمز
العجز والضعف.
واجتماع أمر الناس وصلاح شأنهم أمر من المستحيل تحققه دون الاعتصام
بحبل الله، والقيام بدينه.
ومع توجه العبد إلى عبادة الله وطاعته فإنه لا غنى له عن عون الله طرفة
عين؛ ولذا أمر العبد أن يقول: [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ] (الفاتحة: 5) ،
وقال عز وجل: [فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ] (هود: 123) . وهكذا سائر شأن
الإنسان ما لم يستعن فيه بربه تفرق عليه أمره واستعصى عليه أسهل الأمور،
فكيف بالفتن والشدائد.
ومشروعية الاستعاذة بالله من الفتن كل صلاة تنبؤك عن مسيس الحاجة إلى
ذلك، وإذا كان المعصوم صلى الله عليه وسلم يدعو ربه قائلاً: «اللهم إني أعوذ
بعزتك لا إله إلا أنت أن تضلني، أنت الحي الذي لا يموت، والجن والإنس
يموتون» [1] فنحن أحوج إلى هذا.
ثانياً: التعامل مع الفتنة بذكاء:
من المقاتل التي تصيب الناس في الأزمات: الانشغال بردود الأفعال التي لا
تنتهي في ظل توالي الأحداث. وخطورة الأمر تكمن في إمكانية تحويل المسار من
قِبَل الخصم الذي يجره عدوه إلى معركة ليست في صالحه، أو ساحة لا يحسن فيها
النزال، أو يشغله بقضية تحوِّل مساره وتلهيه عن رسالته، وعلى أحسن الأحوال
لا تخدم أهدافه.
ومن الذكاء: التخطيط لمواجهة الأزمة بحيث لا يُلغى الأصل بحالة الطوارئ،
والتحلي بالعقل والتؤدة والعمق في النظرة، واستشراف المستقبل، وحساب
المصالح الشرعية الحقيقية لا الوهمية بدقة، والسعي إلى الاستفادة من الحدث
بكل وسيلة.
فالمرء عليه من الواجبات ما يوجب عليه السعي للتوازن بينها؛ إذ من
الخطورة بمكان أن ينشغل المرء عن إصلاح نفسه ومحاسبتها والقيام بالفرائض
الواجبة عليه، وكذا أن يعطل مشاريعه التربوية والتنموية الحية التي يرتبط بها
مصيره ومصير الأمة كلها ... وليشعر كل فرد يعي مسؤوليته أنه على ثغر؛
فليحذر أن يؤتى الإسلام من قِبَله!
ومن الذكاء المطلوب: تجاوز ضغط الشائعات، والتحرر من أسرها، بإحياء
منهج تلقي الأخبار وروايتها، ومعرفة أن من الكذب والإثم أن ينقل الإنسان
ويتحدث بكل ما يسمع [2] دون فحص وتمحيص. وكم بنيت مواقف وأُقيمت
علاقات وقُطعت أخرى وحدثت أزمات من جراء تلقف الشائعات! وما أجل الأمر
الرباني للمؤمنين بالتبين والتثبت [3] لئلا يصيبوا قوماً بجهالة فيندموا! !
ورحم الله الإمام مالكاً حين قال: «اعلم أنه ليس يسلم رجل حدَّث بكل ما
سمع، ولا يكون إماماً أبداً، وهو يحدِّث بكل ما سمع» [4] .
ومن الذكاء ما يأتي في النقطة التالية.
ثالثاً: تجنب مواجهة الفتنة بفتنة أخرى:
الأسلوب الذي يقع فيه صاحبه في مثل ما فرّ منه أو أشد أسلوب قديم [وَمِنْهُم
مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الفِتْنَةِ سَقَطُوا] (التوبة: 49) ، رداً على من
اعتذر عن الخروج في غزوة تبوك؛ خشية الافتتان بنساء الروم فوقع في فتنة
القعود عن الجهاد [5] .
ولتتضح الفكرة: فإن الفتنة في أصلها تدل على الابتلاء والاختبار [6] ، ومن
معانيها: «الضلال، والإثم، والكفر، والفضيحة، والعذاب، وإذابة الذهب
والفضة، والإضلال، والجنون، والمحنة، والمال، والأولاد، واختلاف في
الآراء» [7] . «وعلى هذا فالسكوت على المنكر، وتفرق الكلمة، والقعود عن
الجهاد، وتقليد اليهود والنصارى، كل هذا من الفتن» [8] .
وكم كان فقه الفاروق رضي الله عنه عظيماً، بعدما طُعن وأيقنوا موته، حين
دخل عليه شاب قد أطال إزاره، فناداه وقال: «ابن أخي: ارفع ثوبك؛ فإنه أبقى
لثوبك، وأتقى لربك» [9] . وهذا يدل على غاية اليقظة لأمر الله وشرعه، وتجنب
السكوت على المنكر، حتى عند مجيء وقت فتنة الموت!
ومن الفتنة: الافتتان بالحدث وتضخيمه، وكأنه كل شيء، حتى يفقد الإنسان
توازنه، فتختل أحكامه، وربما كال بمكيالين، هذا من جهة. ومن جهة أخرى:
تجد آخرين يذهلون عن فرض الوقت وواجبه، والمطلوب: الإفاقة السريعة
وتجاوز الانبهار بالحدث والانتقال لمرحلة أخرى؛ فإن من يعيش روح الأزمة
وظلالها لربما أصابته بالشلل.
رابعاً: ضرورة تدارس أسباب الأزمة للخروج منها حالياً والاستفادة منها
مستقبلاً:
الظن بأن الأحداث وليدة نفسها خطأ كبير في التفكير؛ لأنها وإن بدت أحياناً
منبتَّة الصلة بما قبلها، إلا أن حقيقة الأمر ارتباطها بالأسباب والممهدات
والإرهاصات ارتباطاً وثيقاً، بمقتضى العقل والشرع.
وبمحاولة تجزئة المشكلة الواقعة الآن وتلمس أسبابها وهذا ما يحتاج إلى
دراسة مستقلة من ذوي الاختصاص، فإنه على كل حال لا يجوز قطع النظر عن
الممارسات الأمريكية التي صنعت العداوات في كل اتجاه، وخاصة مع المسلمين
في بلدان عدة، وبشكل فجّ مع القضية الفلسطينية.
ومن جهة أخرى: فإنه لا ينكر ما بالمسلمين من ضعف في شتى الجوانب:
الشرعية والفكرية والاقتصادية والإعلامية والسياسية والاجتماعية والعسكرية
والتقنية والتربوية والدعوية.
ودلائل هذا الضعف كثيرة في مثل هذه الأزمة، ومن ذلك:
* التأخر في بيان الحكم الشرعي لما وقع، من كثير من المعنيين.
* النظرة القاصرة التي تنظر إلى الحدث دون أسبابه وملابساته؛ مما يؤدي
إلى الكيل بمكيالين.
* العجز عن مواجهة الحملة الإعلامية المسعورة في اتهام المسلمين دون بينة.
* العجز عن القرار القوي المستقل أو الذي يخرج بأكثر المكاسب وأقل
الخسائر على الأقل.
* ظاهرة ضعف الأخوة الإيمانية والشعور بالجسد الواحد في بعض البقاع.
* التقصير في عرض الإسلام، وبيان حقيقة الصراع، واستغلال الحدث.
ولعل من الشواهد على أن جوانب الضعف تورث تسلط الأعداء أن ما وقع
من بيانات العلماء بحرمة التحالف مع أمريكا ضد الأفغان، ومن تحركات الشعب
الباكستاني وغيره من الأسباب التي جعلت أمريكا تتريث في ضرب أفغانستان وتعيد
حساباتها في طريقة الضربة وأهدافها.. وبالعكس كان تسلطها سيزداد بغياب مثل
هذه التحركات الإيجابية؛ مما يدل على أن ضعفنا سبب أزمتنا.
ومن ضعفنا أن لا ندرك أننا ضعفاء، فنعزو كل مصائبنا إلى أعدائنا
وتآمرهم، وتوضيحه في المسألة التالية.
خامساً: الحذر من طغيان فكرة المؤامرة ونسيان التقصير:
يحلو لكثيرين أن يعزوا مصائب المسلمين إلى مكائد الأعداء دائماً، فيُخرجوا
من دائرة تفكيرهم الأسباب الداخلية التي تصنع مناخاً مناسباً لنفاذ مكائد الأعداء
وفاعليتها وأثرها الذي لا ينكر.
والحقيقة أن «اليأس ... ، والخور المميت، والثقة المفقودة.. كل ذلك هو
العدو الحقيقي والعقبة الكبرى التي تواجه المسلمين. أما العدو الخارجي:
الصهيونية والصليبية والدعوات الملحدة؛ فكلها أمرها يهون إذا استطعنا أن نغير ما
بأنفسنا، لنقرّ فيها معاني الإيمان واليقين والصبر والجلد والثقة والعمل» .
«إن أكبر الأخطار التي تواجه المسلمين اليوم، كامنة في النقص في تربية
أفرادهم، والضعف الذي أصيب به أبناؤهم. وأكبر المصائب أن يصاب الفرد في
نفسه؛ وذلك أن معالجة أي خطر ممكنة ميسرة حينما تكون تربية الأفراد تربية قوية
تستطيع أن تجابه الصعاب وتصمد للشدائد» [10] .
وفي القرآن الكريم تجلية لهذه الحقيقة؛ فحين ذكر الله كيد الأعداء وشدته قال:
[وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً] (آل عمران: 120) ، وحين
ذكر مدده وعونه ربطه بالصبر والتقوى فقال: [بَلَى إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم
مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ المَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ] (آل عمران:
125) .
فلا بدّ من الشعور بالخطر الداخلي في المجتمع المسلم، وكشف مخططات
الأعداء في الداخل، ومكر الغزو الفكري الذي يناصرونه، ويعين على ذلك:
دراسة التاريخ التي تكشف عن عوامل الانحراف، ودراسة الحركات الإصلاحية
والعقبات التي قامت في وجهها.
كما أن من المهم إدراك مصائب النفوس الداخلية التي تسمح بتمرير مخططات
أعداء الداخل والخارج، كالسطحية، والأثرة والفردية، وضعف التعاون والتكافل،
وروح التردد والحذر، والخور والجبن، وعدم الإقدام، وفقدان روح المغامرة
والدافع للعمل [11] .
سادساً: الإيجابية في التعامل مع الحدث:
أُمر المسلم باعتزال الفتن، لخطورتها على دين المرء؛ فهي مرحلة تمحيص
يخشى المرء فيها الهلكة؛ نسأل الله السلامة والعافية والهدى والسداد.
وينبغي أن لا يعرض العبد نفسه للفتن اعتماداً على الثقة بنفسه وقدراته
وتمكنه من العلم وثباته في دينه؛ ففي الفتن تنقلب الموازين، ويلتبس الأمر وتختلط
الأوراق، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: «من سمع بالدجال فلينأ عنه؛
فوالله إن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن، فيتبعه مما يبعث من الشبهات أو لما
يبعث به من الشبهات» [12] .
هذا هو نهج الصحابة رضوان الله عليهم في الفتن الواقعة في زمنهم، بين
علي ومعاوية رضي الله عنهما، كما قال محمد بن سيرين: «هاجت الفتنة
وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرات الألوف، فلم يحضرها منهم مائة،
بل لم يبلغوا ثلاثين» [13] .
وإنما يجب اعتزال الفتنة حينما يلتبس الأمر، فلا ينحاز المرء مع رأي أو
جانب حتى تتضح الأمور، وتتمايز الرايات. أما إذا اتضح الحق فلا يجوز التذرع
بهذا إلى السكوت عن الحق والجهر به، وترك القيام بالواجب الشرعي في نصرة
الحق وأهله. هذا أمر.
وأمر آخر هو أن اعتزال الفتنة شيء، واعتزال الناس وترك العمل في زمن
الفتنة شيء آخر.
إن اعتزال الناس زمن الفتنة إنما يكون للضعفاء العاجزين عن فعل شيء،
وليس كذلك أهل العلم والدعوة والفكر الصحيح، وإذا كان يجب عليهم السعي في
شؤون الناس عموماً؛ فذلك أوكد عليهم زمان الفتنة التي هي أزمة كبيرة تفتقر
لجهود ضخمة متكاتفة؛ سعياً في إزالتها أو التخفيف من وطأتها.
قال الإمام النووي في حديث «خير الناس في الفتن رجل آخذ بعنان فرسه أو
قال: برسن فرسه خلف أعداء الله يخيفهم ويخيفونه، أو رجل معتزل في بادية
يؤدي حق الله تعالى الذي عليه» [14] ، قال النووي: «فيه بيان فضل العزلة في
أيام الفتن، إلا أن يكون له قوة على إزالة الفتن، فيلزمه السعي في إزالتها عيناً
وكفاية» [15] .
وصاحب القوة على إزالتها هم أهل العلم والفكر والدعوة والتربية وأصحاب
القدرات والطاقات والقيادة، وكل من له قدرة على شيء توجب عليه القيام به..
ولا خيار له في ذلك، ولا يجوز له التهرب من المسؤولية المتعلقة به، ولا التعلل
بتقاعس الآخرين، ولا الاحتجاج بالقدر.. إلى آخر قائمة فنون التهرب من
المسؤولية [16] .
أسهل شيء على الإنسان أن يلقي باللائمة على غيره ليبرئ ساحته،
ويتخلص من تأنيب الضمير وحالة الشعور بالخطأ التي تقلقه وتُذهب راحته وتؤثر
في اتزانه.
وتسمع كثيراً تساؤلات عن دور العلماء والقادة، وهذه التساؤلات لها ما
يسوِّغها؛ لكن هل تخاذُلُ فئة عن واجبها يجيز للآخرين مزيداً من التخاذل
والانسحاب والتقصير؟
إن رعاية الأمة وإصلاح شأنها وقيادتها زمن فتنتها واجب كبير لا يكفي فيه
دور شريحة دون أخرى، وهل سمعت أن أمة تقوم بفرد أو أفراد ما لم توجد الرغبة
والجدية لدى مجموع أفرادها؟ !
وإذا كان العمل والإصلاح والسعي في مواجهة الفتنة محفوفاً بالمخاطر، فذلك
شأن كل مناحي الحياة وشؤون المعاش زمان الفتنة؛ فهل يمتنع المتذرع بهذا عن
الخروج والسعي في شأنه الخاص؟ !
سابعاً: البحث عن المنح في رحم المحن:
اعتاد بعض الناس النظرة السوداوية إلى كثير من الأمور والأوضاع، في ظل
غلبة التشاؤم والسلبية والريبة في تقويم أعمال الآخرين.. وإذا كان الحال كذلك فما
ظنك بنظرتهم إلى الفتن التي لا يبدو منها سوى السوء والشر؟ !
غير أن يقين المسلم بحكمة الله عز وجل وأنه تعالى لا يخلق شيئاً عبثاً، بل لا
يخلق شراً محضاً.. يجعله يصحح نظرته لكثير من الأمور وطريقة تعامله معها،
بحيث يستكشف محاسنها وحِكَمها بنظرته الشمولية، ويحاول الاستفادة منها
وتوظيفها في التوجه والتوجيه نحو الأفضل.
فالشيطان الذي يسعى في إضلال الناس وإغوائهم وصدهم عن الصراط
المستقيم إنما كان خَلْقُه لحكمة بالغة، مما ندرك منها: تحقق الابتلاء وكماله، فالله
عز وجل بيَّن للناس الطريقين، وجعل للعبد ملائكة تدفعه للخير، وشياطين تؤزه
إلى الشر؛ ليتبين الراغب في الخير المقبل عليه من عكسه.. وهذا مقتضى حديث
النبي صلى الله عليه وسلم: «والشر ليس إليك» [17] .
وحادثة الإفك التي أزعجت بيت النبوة وهزت أطهر مجتمع قال الله في شأن
الإفك الذي قيل فيها: [لاَ تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ] (النور: 11) .
وصلح الحديبية الذي لم يرُق لبعض المسلمين، كان بداية فتح مكة، بل سمَّاه
الله فتحاً، فأنزل في طريق رجوع النبي صلى الله عليه وسلم منه: [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ
فَتْحاً مُّبِيناً] (الفتح: 1) .
إن يقين المرء بذلك معين له في تحقيق العبودية لله تعالى والنجاح في الابتلاء،
والصبر على المصائب، وسعادة القلب واطمئنانه، وسلامته من أمراض الخوف
والطمع والشحناء والحسد.
ومن الفوائد المرجوة في الفتن: تمحيص الصفوف، وتمايز المؤمنين من
المنافقين والكافرين، وتميز الصديق من العدو، ومراجعة النفس ومحاسبتها،
واختبار بعض الوسائل والأساليب، وإدراك آثار الأخطاء والتقصير في العلم
والعمل والتربية، وتصحيح كثير من المفاهيم والمواقف.
ومن أهمها: التعرف على سنن الله تعالى في خلقه وأقداره، وسننه في
التغيير للسير على هداها، مثل: أن الصراع بين الحق والباطل حتمي لا بد منه،
وأن العاقبة للمتقين وأن الغلبة والنصرة لهذا الدين، وأن الله لا يغير ما بقوم حتى
يغيروا ما بأنفسهم، وأن عاقبة العصيان الذل والهلاك [18] .
وهذا ما نرى أن كثيراً منه قد يتضح أكثر وأكثر في هذه المحنة وغيرها.
ومن الواجب: بث الطمأنينة في قلوب الناس وتبشيرهم بوعد الله ونصره،
وشروط تنزله، من واقع القرآن والسنة والتاريخ والواقع لترتفع معنوياتهم، وتزداد
فاعليتهم؛ وإلا فإن الدنيا تسودّ في أعين كثير من الناس، حتى الصالحين أحياناً،
إلى درجة تمني الموت! والإسلام لا يدعو «أتباعه إلى الموت، ولكنه يدعوهم
إلى الحياة، وليس في معاني الإسلام معنى تمني الموت، وإن اشتدت الفتن، وليس
في الإسلام فقدان كل أمل وضياع كل رجاء، ولكن روح الإٍسلام: روح الأمل،
وروح الجهاد، وروح القوة المستمدة من عند الله، والثقة بنصره، والاطمئنان إلى
عونه. أين يقع تمني الموت من قوله تعالى: [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ
الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ] (آل عمران: 139) » [19] .
ثامناً: التفكيرالعميق في الخروج من الأزمة:
هذه المسألة مما يستحق حديثاً خاصاً بل دراسات واسعة وجهوداً تراكمية
متتابعة، غير أن هذا لا يمنع من بعض الوقفات العجلى:
1 - قراءة التاريخ ضرورة ملحّة، لمعرفة الفتن التي مرت بالمسلمين
وأسبابها، وكيف استطاعوا تجاوزها والخروج منها. وأبرز ذلك غزو الصليبيين
والتتار [20] ؛ فنجاح من قادوا الأمة إلى بر الأمان يدعو إلى دراسة تلك التجارب
دراسة تحليلية عميقة.
2 - ضرورة إحياء مفهوم الأخوة الإيمانية ولوازمها؛ فهذه الفرقة سببتها
الإقليميات والوطنيات؛ فلا بد من بعث مفهوم الأمة الذي تجتمع به القلوب، وتشعر
بشعور الجسد الواحد، والبنيان المرصوص، بحيث نعدُّ التكافل واجباً لم نقم به بعدُ
كما ينبغي؛ فمهما قُدِّم لإخواننا فذلك جزء من واجب الأخوة، ولا يجوز أن ننظر
إليه على أنه تفضل ومنة.
3 - الإسهام في صناعة الرموز المنتجة الفاعلة لتكون نماذج يقتدى بها في
وقت تضعف فيه الفاعلية، ويستشري التخاذل، ويكثر المشاهدون الذين ينتظرون
(صلاح الدين) دون أن يهيئوا النفوس والأوضاع لتكون رصيداً لـ (صلاح الدين)
وعوناً له في أداء مهمته الكبيرة التي لا بد أن تتكاتف فيها الأمة.
4 - ضرورة السعي في استثمار الحدث والحذر من تضييع الفرصة.
وتقدَّمَ في طيات هذه المقالة عدد من الوسائل والآليات المعينة على الخروج
من الأزمات. أسأل الله أن يلهمنا رشدنا، ويعيذنا من شر أنفسنا.