المنتدى
عبد الله بن خضر الغامدي
قد تتغير المفاهيم، وتنقض المُسلّمات عند الكثير من الناس في حكمهم على
الأشياء وقناعتهم بها، ولكن رؤية هذه الأشياء بمنظارٍ سليم كفيلة بأن تبقيها داخل
أطر ثابتة بدون تغيّر، واضحة بدون غبش، مهما طال الزمان أو تغيّر المكان.
والجمال من الأشياء التي تختلف آراء الناس في تحديده والوقوف على حقيقته، فما
كان في نظر بعض الناس جميلاً قد يكون في نظر الآخرين قبيحاً! وما كان في
نظر بعضهم قبيحاً قد يكون في نظر الآخرين جميلاً! ولذلك قيل: «للناس فيما
يشتهون مذاهبُ» وهذه المذاهب وتلك الاختلافات نابعة من الرواسب التي نشأت
مع هذا الإنسان ونمت في أفكاره حتى أصبحت معياراً يقيس من خلاله الأمور،
ويسبر به غور الأحداث.
ولكن بماذا يقيس الشرع الجمال؟ وما الجميل في معياره وما القبيح؟ !
روى الإمام البخاري في صحيحه عن سهل رضي الله عنه قال: مرَّ رجل
غني على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما تقولون في هذا؟ قالوا: حريٌّ إن
خطب أن ينكح، وإن شفع أن يُشفّع، وإن قال أن يستمع، قال: ثم سكت، فمر
رجل من فقراء المسلمين، فقال: ما تقولون في هذا؟ قالوا: حريٌّ إن خطب أن لا
ينكح، وإن شفع أن لا يشفع، وإن قال أن لا يسمع، فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: «هذا خير من ملء الأرض مثل هذا» [1] . يقصد الأول.
إذن ليس الجمال بالأشكال ولا الصور، ولا في زهرة الدنيا وزينتها!
إن الأمر أعظم من ذلك، إن الإنسان بقدر استقامته على شرع الله تعالى
وتمسكه بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يكون جماله ورونقه مع هذا الكون العظيم
المنقاد لله تعالى الطائع لأمره المسبح بحمده.
لا والذي جمعَ الخلائقَ في (منى) ... وبدا فأعطى من أحلَّ وأحرما
ما في ربوعِ الكونِ أجملُ منظرٍ ... من مؤمنٍ للسعدِ جدَّ ويمّما [2]
ولهذا يقول عليه الصلاة والسلام: «فاظفر بذات الدين تربت يداك» [3] ؛
لأن الدين هو الجمال الحقيقي، أما المال والنسب وغيرها فهو جمال زائف ومتاع
زائل. يقول الله تعالى: [وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ]
(المنافقون: 4) ، ثم بيَّن تعالى ذلك بأن جمال الأجسام وعذوبة اللسان ليس
مقياساً ولا معياراً، فقال: [هُمُ العَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ]
(المنافقون: 4) ، وقال في موضع آخر: [وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا
يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الدُّنْيَا] (التوبة: 85) . (فتدبّر) .
وهب أنك ظفرت بزوجةٍ حسناء ذات مالٍ ونسب، ولكنها لا تتورع عن قول
الزور أو العمل به، فما قيمة جمالها ومالها!
أو أنك وجدت صديقاً يمتاز بقوة الجسم وعذوبة اللسان ووفرة المال، ولكنه
منتهك لحرمات الله، متعدٍّ لحدوده، فيما قيمة قوته وماله وعذوبة لسانه؟ !
وقد يكون هناك رجل أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره [4] .