الافتتاحية
سلسلة الهزائم والنكسات الحضارية والعسكرية التي تشهدها الأمة الإسلامية
في هذا العصر أصابت قطاعًا عريضًا من المسلمين بالإحباط والوهن والتخاذل
العقدي والاجتماعي، وجعلتهم يستسلمون للواقع مكبلين بآصار ثقيلة من العجز
أقعدتهم عن الحركة والعمل، وسلبت قدرتهم على الصمود والثبات.
وساعد هذا الواقع في هيمنة المشروع الحضاري العلماني والتغريبي الذي
انطلق في بلادنا الإسلامية كالطوفان الجارف حتى طغى وبغى وراح يعيد صياغة
القيم والمثل صياغة جديدة لا تعدو أن تكون محاكاة مسوخة للتيارات الليبرالية
الغربية.
وأشد أنواع الهزيمة الاستسلام للواقع، والركون إليه؛ لأنه يفت في عضد
الأمة ويحطم قدراتها وطاقاتها. وسبيل النهوض بهذه الأمة من كبوتها واضح
المعالم؛ فمن الحقائق البينة الثابتة التي تواترت فيها النصوص الشرعية أن
الاستقامة على دين الله - تعالى - هي طريق النصر والتمكين، قال الله - تعالى -
[وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ] (الحج: 40) .
والمؤمن بحق لا يمكن أن يغلبه اليأس أو يشعر بالإحباط المطلق؛ لأنه يعلم
يقينًا أنه يستمد قوته من إيمانه بالله العلي الأعلى؛ ولهذا قال الله - تعالى -
للمؤمنين لما خرجوا منكسرين بعد غزوة أحد [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ
إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ] (آل عمران: 139) . فالاستعلاء بالإسلام، والاعتزاز بالدين،
هو الطريق الصحيح لنهضة الأمة وعزتها.
ومن سنن الله - تعالى - الثابتة التي لا تتبدل ولا تتحول أن نهضة الأمة لن
تتم بمعجزة خارقة، بل بسنة جارية بيَّنها ربنا - عز وجل - في قوله: [إِنَّ اللَّهَ
لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ] (الرعد: 11) .
ولكن من أيد يبدأ تغيير واقع الأمة ... ؟ !
لقد تعددت مناهج المدارس الدعوية المعاصرة في تغيير ذلك الواقع، وتباينت
مسالكها وأطروحاتها، ونحسب أن إعادة بناء الإنسان وتربيته هي الطريق الصحيح
للتغيير الحضاري المنشود، وهي بداية لكل التحولات الإنسانية.
التي نطمح إليها؛ فالإنسان أساس البناء والنهوض، وعليه تقوم الحضارات
والأمم؛ ولهذا توجهت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لبناء الإنسان وتزكيته، قال
الله - تعالى -[هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ
وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ] (الجمعة: 2) . وتحطيء الحركات الإسلامية خطأ
بالغًا عندما تبدأ في تغيير الواقع دون تغيير الإنسان نفسه..!
إن الإنسان بما وهبه الله - تعالى - من ملكات يملك طاقات هائلة قادرة على
صناعة التاريخ، ولهذا حمله ربنا - عز وجل - أمانة من أعظم الأمانات، [إِنَّا
عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا
وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً] (الأحزاب: 72) .
وبناء الإنسان من أعقد وأشق ألوان التغيير والبناء، ويتطلب قدرًا كبيرًا من
الجدية والمثابرة وطول النَّفَس، كما يتطلب قدرًا كبيرًا من سعة الأفق ويُعد النظر،
وبقدر ضخامة المهمة التي سيقوم بها الإنسان يكون مقدار التربية وطبيعتها، ولهذا
كانت ريادة البشرية وقيادة الشعوب والحضارات تتطلب نوعية من الرجال مختلفة،
قال الله - تعالى -: [وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ
إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ] (البقرة: 124) .
وقال الله - تعالى -[وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا
بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ] (السجدة: 24) .
وتأمل التربية النبوية الكريمة للرعيل الأول من جيل الصحابة - رضي الله
عنهم - فأولئك الأعراب الحفاة أصبحوا رواد الأمم، وقادة الشعوب، لما آمنوا بالله
حق الإيمان واعتصموا بحبله المتين، وها هو ذا خباب بن الأرت - رضي الله
عنه - يقول: «أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة وهو في ظل
الكعبة - وقد لقينا من المشركين شدة -، فقلت: يا رسول الله! ألا تدعو الله لنا؟
فقعد وهو محمر وجهه فقال: لقد كان من قبلكم ليًمشط بمشاط الحديد، ما دون
عظامه من لحم أو عصب، ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مفرق
رأسه فيشق باثنين، ما يصرفه ذلك على دنيه، وليًتمن الله هذا الأمر حتى يسير
الراكب من صنعاء إلى حضر موت ما يخاف إلا الله والذئب على غنمه» [1] .
إنها تربية إيمانية عظيمة تبنى الإنسان وترفعه عن زخارف الدنيا وأهوائها،
وترسى في نفسه عائم صلبة راسخة الجذور، قادرة على تحمل تبعات الطريق،
ويسمو هذا الإنسان بعد ذلك على الفتن والأهواء، فلا تضره فتنة ما دامت السموات
والأرض. ومن هنا يكون التغيير المنشود بإذن الله تعالى.