المنتدى
نهى بنت عبد الله العريني
إننا اليوم نواجه تياراً من تيارات مسخ الهوية بدأ يسيطر على جل مقدرات
الأمة، فقلَّ من ينجو منه، فأصبح يحيطه بسلاسل من القيود والتبعية الممقوتة
بحيث يسير وقد تخلَّى عن كل مظاهر ذلك التميز، وليس ذاك إلا من مظاهر
الضعف في بنيان الذات المسلمة التي استشرى فيها الوباء فأضعفها. ولا غرو أن
قوة التيارات والأعاصير تزلزل الجبال؛ ولكن هناك قوة تتصدَّى لها وهي القوة
الثابتة المحافظة على تميزها المتحررة من قيود التبعية «حتى لو دخلوا جحر ضب
تبعتموهم» [1] ولكن عجباً! ! كيف كان لهذا التيار الخبيث الكثير من الانتشار
والذيوع في مجتمعاتنا المحافظة؟
بالطبع إنه تلبس بأقنعة الحضارة الزائفة ذات الشعاع الكاذب، وكثير
ممن كان طابعهم التقليد يتأثرون بتلك البهارج، ولكنهم حتماً سيصطدمون بمسلَّماتهم
التي نشؤوا عليها مما تقوم عليه معالم الشخصية المسلمة؛ فإمِّا أن تعود إلى الأصل
وإمِّا أن يستمر التذبذب بها إلى أن تأتي موجة فتبتلعها وينتهي خبرها؛ وهو
الأكثر والأغلب مع الأسف. فما أجمل المسلم أن يحافظ على تميزه في كل جوانب
حياته، وأن يتخلص من تلك القيود «فإن مسلماً نودي بالسير مع الهمم العالية،
فانتفض وأفلت من قيود الأرض، وحلق بجناح العزة هو مسلم حري به أن تتم
انتفاضته بخطوة تميز واضحة» [2] ، ولكن المسلم قد يستشكل عليه ماهية التميز
المطلوب؛ فقد يتشبث بأنواع مختلفة من السلوك ظناً منه أن ذلك تميز وهو في
الحقيقة وهم.
إن التميز الحق هو المنبثق من أقاصي الذات، ومن بنيات أفكارها، إن
تميزها في مبادئها الأصيلة التي لا تبلى ولا تتحلل مع مرور الزمن؛ فتتأصل فيها،
وتترسخ حتى تسري مسرى الدم في العروق، فيعمَّ الجسد كله، وتعمل به
الجوارح في ثبات ورسوخ؛ حينها لن يجرفه أي تيار مهما عظم بعد تثبيت الله -
تعالى - له. ولعل أكبر مثال على ذلك ثبات الصحابة - رضي الله عنهم -
وتميزهم في الحبشة، في زمن الهجرة من أرض الوطن، وهم في موضع التجاء
وطلب معونة من أهلها بعد طلبها من الله - تعالى - حيث كانوا فارين بدينهم من
عذاب المشركين وملاحقتهم لهم؛ فبعد طول المشوار ولجوئهم إلى الحبشة، ومنها
إلى النجاشي ملكها الذي كان آنذاك نصرانياً ابتدرهم الرهبان والقساوسة أن
اسجدوا للملك! فأجاب جعفر بن أبي طالب وهو على رأسهم، وانطلقت منه تلك
الأحرف الشجاعة المتميزة: «نحن قوم لا نسجد إلا لله» ، في عزة وأنفة، في
يقين بالمبادئ، في أحلك الأحوال وأكثرها إظلاماً، لكن يبقى التميز المتأصل في
النفس يعمل دوره، فماذا كان رد هذا الملك أمام ذلك الثبات؟ هل قتله.. هل
وبخه.. أم طرده؟ كلا، أتدرون ماذا فعل به؟ ! ! لقد أكرمه ورفعه، ورد عليه
بالحسنى، ومنحه امتياز الأمان والجوار فلا يُعتدى عليه هو ومن معه. أرأيتم
كيف يصنع التميز بالمواقف! ! أرأيتم كيف يصنع الثبات بالرجال؟ ! !
وبالمقابل نرى كيف تفعل الانهزامية فيما نراه من رموز التغريب أمثال رفاعة
الطهطاوي، وقاسم أمين، وسلامة موسى وغيرهم ممن تترفع أقلامنا عن تسطير
أسمائهم؛ فما كان لهم إلا الخسران والسقوط في تلك الأوحال النتنة. بقي القول:
إن مثل هذا التميز المنشود يعزُّ وجوده في هذه الأجواء إلا لمن رحم الله.