ملفات
حقوق الإنسان بين الحق والباطل
التفسير الغربي لحقوق الإنسان
شرور المواءمة ومقتضيات المفاصلة
محمود سلطان
يثير طرح موضوع «حقوق الإنسان» بصيغته المعترف بها دولياً الآن على
العالم الإسلامي حزمة من التحديات والإشكاليات التي تمسه مساً مباشراً في ثقافته
وسمعته وسيادته، ولعل أبرز هذه الإشكاليات حضوراً، والتي من المفترض أن
يدرجها العقل المسلم على رأس قائمة أولوياته هي إشكالية «المرجعية» : بمعنى أن
السؤال عن المعايير والضوابط والأحكام التي تقرر ماهية «الحق الإنساني» من
عدمه، يظل هو السؤال الذي من الواجب شرعاً أن تكون إجابته واضحة ومحددة
سلفاً، قبل الانسياق وراء أية دعاوى عن حقوق الإنسان، تكون صادرة عن
«اجتهاد بشري» ، علماني أو لا ديني، فالمرجعية في مثل هذا الموضوع، أو
في غيرها بالنسبة للمسلم ليست ترفاً فكرياً أو سفسطة فلسفية، وإنما هي قضية
تمس عقيدة التوحيد في جوهرها.
وفيما يتعلق بالتفسير السائد الآن لـ «حقوق الإنسان» ، والمفروض علينا منذ
نصف قرن تقريباً، فإن الموقف منه لا يحتمل التردد، وإنما يحتاج إلى ما يشبه
«المفاصلة» معه، دونما اكتراث بعبارات التوبيخ التي عادة ما يطلقها العلمانيون
لإرهاب خصومهم فكرياً وثقافياً: [وَلاَ تُطِعِ الكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ
عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً] (الأحزاب: 48) ؛ إذ إن المرجعية المعتمدة الآن
عالمياً، في تأطير نمط «الحق الإنساني» المشروع، وتقرير ما هو دون ذلك،
هي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي تبنته الأمم المتحدة منذ خمسين عاماً
تقريباً. هذا «الإعلان المرجعية» ، هو في واقع الحال: وثيقة غربية متحيزة،
استجابت فقط لرغبات وشهوات الإنسان الغربي، وتبنت تفسير الأخير لـ «حقوق
الإنسان» الذي ينظر إلى الإنسان باعتباره مخلوقاً نفعياً، مبلغ همه في الدنيا تحقيق
أقصى درجات «اللذة والاستمتاع» ! ! وهو منحى ينزل الإنسان منزلة تجعله أكثر
قرباً من «الحيوانية» التي أدانها القرآن الكريم في قوله - تعالى -: [وَالَّذِينَ
كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ] (محمد: 12) ، وفي
الوقت نفسه فهي شديدة التناقض في كثير من جوانبها مع الرؤية الإسلامية التي
تنظر إلى الإنسان بوصفه مخلوقاً صاحب رسالة، ومكلفاً بإعمار الأرض والدفاع
عن الحق والفضيلة؛ فضلاً عن أنها تأسست على مبدأ «النسبية» الذي يرفض
الاعتقاد بثبات القيم والأخلاق والعقائد الدينية؛ فما يراه الناس اليوم بأنه «غير
أخلاقي» قد ينال غداً اعتراف الجماعة الغربية به على أنه «أخلاقي» ، وما كان
بالأمس عملاً تدينه التقاليد والأعراف بل والقوانين السائدة قد يتحول بمضي الوقت
في العالم الغربي إلى عمل مشروع، وقد يمسي حقاً من «حقوق الإنسان» التي
يوفر لها الغرب المشروعية بل الحماية الدولية أيضاً؛ فعلى سبيل المثال كانت
ممارسة الجنس قبل الزواج تواجه معارضة شديدة وقوية في الغرب حتى فترة ما
بعد الحرب العالمية الثانية، كما كان هناك قوانين تحظر مثل هذه الممارسة مع غير
الزوج؛ أما اليوم فقد أصبح الجنس قبل الزواج أمراً شائعاً بموافقة المجتمع
والوالدين أيضاً. وفي هذا الإطار فإن أفعال الشذوذ الجنسي بين الذكور كانت تعتبر
جريمة في بريطانيا العظمى حتى الستينيات، على الرغم من أن الشذوذ بين الإناث
(السحاق) لم يكن ممنوعاً قانوناً. أما الآن فقد أصبحت مثل هذه الأفعال بين
البالغين والتي تتم برضاهم، سواء كانوا ذكوراً أو إناثاً قانونية في معظم دول
الغرب؛ بل باتت غالبية العالم الغربي ترى أن القوانين الصادرة ضد الشذوذ
الجنسي ما هي إلا انتهاك لـ «الحقوق الإنسانية» للشواذ من الرجال أو النساء!!
بل إن الكنيسة في عدد من الدول الغربية أباحت «الزواج» المثلي بين
الشواذ، وسنت القوانين والتشريعات التي تحفظ «الحقوق» المترتبة على عقد
الزواج في النفقه والميراث وتبنِّي الأطفال وغير ذلك..! ! ومنذ ثلاثة عقود
مضت اتخذ المجتمع الغربي موقفاً مشدداً إزاء عملية إنجاب أطفال من نطفة
مجهولة النسب، واستند في ذلك إلى أن هذا المنحى يعد عملاً غير أخلاقي يخلِّف
مشكلات اجتماعية ونفسية بالغة القسوة للأطفال الذين يجري إنجابهم على هذا النحو؛
أما الآن فقد بات من «الحقوق الإنسانية» - بل القانونية - للمرأة أن تلجأ إلى
إحدى بنوك الحيوانات المنوية المنتشرة هذه الأيام في طول البلاد الغربية
وعرضها، وتقوم بعملية تلقيح صناعي تنجب على إثره أطفالاً لا يعرف بالتحديد من
هم آباؤهم، والتفسير الغربي لحقوق الإنسان الذي يتبناه الإعلان العالمي المشار
إليه فيما تقدم تتسع مظلته لحضانة كل ما يفرزه تصور الإنسان الغربي
بنسبية القيم العليا للمجتمع، من تحولات أخلاقية وما شابه؛ وهو على هذا
النحو يتعارض تعارضاً جوهرياً مع ما يعتقده الإنسان المسلم بكمال مصدري
التشريع الأساسيين وقداستهما: كتاب الله، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
ومن هنا تتجلى لنا المخاطر والمحاذير من التعاطي مع المرجعية الغربية
لحقوق الإنسان على النحو الذي: إما أن يرفعها إلى مرتبة التقديس (الرؤية
العلمانية العربية التي تعتقد «كمال» الغرب و «عصمته» ، لتفوقه المادي
والعسكري على العرب والمسلمين، وإما مواءمة المفاهيم الإسلامية في ذلك الشأن
مع الطرح الغربي لحقوق الإنسان (الاتجاهات التوفيقية داخل التيار الإسلامي التي
تجتهد في إطار المواءمة بين الوافد والموروث) . ولعل المنحى الأخير يعد أكثر
الخيارين خطراً على نقاء وصفاء البنية العقدية والفكرية للإنسان المسلم. فالأول
صادر عن التيار التغريبي الذي يستدعي مجرد ذكر اسمه معاني الشكوك والريبة في
روع الإنسان المسلم بسبب الارتباط الروحي والنفسي والفكري لهذا التيار بالغرب؛
ولهذا السبب فهو أقل خطراً من الثاني الذي يتحدث باسم الإسلاميين، إن لم يكن
باسم الإسلام؛ إذ لوحظ أن كثيراً من «الاجتهادات» التي تصدر بدعوى «تطوير
الفقه» تارة وباسم «التنوير» تارة أخرى من داخل هذا التيار التوفيقي (أو التلفيقي)
كما يطلق عليه منتقدوه قد دأبت على القيام بعمليات مواءمة بين مفاهيم إسلامية
وبين الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ما يعني أن تلك الاجتهادات تستبطن بلا وعي
منها الطرح الغربي لحقوق الإنسان، وتعتقد اعتقاداً خفياً بثباته وعصمته، وهو
منحى قد ورط أصحابه بالفعل في تقديم سلسلة من التنازلات على حساب دينهم
ابتغاء مرضاة الغرب أو أذياله من العلمانيين أو اللادينيين في العالمين العربي
والإسلامي، أو ابتغاء التجمل بمظاهر الحداثة والاستنارة، ولقد بلغ الأمر بأحدهم،
أن زعم بأن شهادة الرجل لا تعدل شهادة امرأتين إلا في حال إثبات واقعة الزنى
فحسب! وزعم أيضاً أنه ليس في كل حالات الميراث يكون «للذكر مثل حظ
الأنثيين» ، وأنه - بحسب زعمه - في حالات أخرى يتساوى حظ الأنثى مع حظ
الذكر. وأن الأولى قد تفوق حظ الأخير في حالات لم يسمها أيضاً..! ! ولبيان ما
سوف تجلبه المواءمة على المسلمين من شرور، ومعصية لله ولرسوله صلى الله
عليه وسلم فلنتأمل هذين المثالين:
الأول: تقر وثيقة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أن من «الحق الإنساني»
للمرأة أياً كان دينها أن تتزوج ممن تحب بغض النظر عن دين الزوج. ونظير ذلك
فإن الإسلام يحرم على المرأة المسلمة الزواج من الرجل الكتابي (نصرانياً كان أو
يهودياً) ، أو من غير المسلم بصفة عامة، ومن ثم فإن هذا التحريم يعتبره
«الإعلان العالمي» والغرب من ورائه «تعدياً» على أحد الحقوق الإنسانية للمرأة
المسلمة! !
المثال الثاني: في مسألة تزويج الإناث، فإن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان
لا يعتد بأية شروط في هذه المسألة، ويعطي للمرأة الحق في تزويج نفسها بنفسها
دون اشتراط الولي لصحة عقد الزواج، ومن ثم وبغض النظر عن الخلاف الفقهي
بين الجمهور والأحناف في هذه المسألة فإن قوله صلى الله عليه وسلم: «لا نكاح
إلا بولي» ، وقوله: «أيما امرأة نكحت (أي تزوجت) بغير إذن وليها فنكاحها
باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من
فرجها، فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له» [1] .
سيعتبر هذا الحديث الشريف - من وجهة نظر الإعلان العالمي لحقوق
الإنسان - إكراها وتعدياً على حرية المرأة، وعلى حق من حقوقها الإنسانية حال
إقدامها على الزواج! !
ولعلنا نتساءل الآن: كيف يمكن المواءمة بين الرؤيتين (الغربية والإسلامية)
في المثالين المشار إليهما قبل قليل؟ !
إن المواءمة هنا مسألة بالغة الصعوبة إن لم تكن مستحيلة، إنها تضعنا أمام
خيارين لا ثالث لهما: إما التمسك بثوابتنا الدينية، وإما التخلي عنها نزولاً على ما
يراه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. ولذا فإن قولنا في مستهل هذه المقالة بأن هذه
القضية تحتاج إلى ما يشبه المفاصلة لم يكن مشوباً - في اعتقادي - بالمبالغة أو
بالشطط، وإنما كان من أجل ضبط موقفنا من المرجعية الغربية في ذلك الشأن؛
فمن الثابت بالنسبة لنا نحن المسلمين أن المرجعية العليا والمهيمنة على ما عداها من
المرجعيات، ولها سلطة الأمر والنهي، ولا نعصي لها أمراً، ولا نقبل بأي حال
من الأحوال أن تكون موضوعاً للمواءمة أو التسوية السياسية أو الفكرية مع الغرب
هي كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فإذا قالت الآية: [لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ
الأُنثَيَيْنِ] (النساء: 11) فلا خيار لنا إلا أن نقول: سمعنا وأطعنا امتثالاً
لقوله تعالى: [وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن
يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِيناً]
(الأحزاب: 36) .