دراسات في الشريعة والعقيدة
د. عبد الحميد محمود غانم
انصبَّ اهتمام أهل التفسير في القديم والحديث على سبر أغوار السور
والآيات القرآنية بحسب الترتيب المصحفي من جهة المعنى الإجمالي، ورُتب
الإعجاز والطرق المؤدية إلى ذلك دون تتبع ما بينها من روابط موضوعية.
وبرغم تنوع مدارس التفسير واتجاهاته بين نقلي، وعقلي، وفقهي، ولغوي،
وتاريخي، وباطني، وإشاري، وصوفي، وإجمالي، ومقارن، وتحليلي،
وغيرها ... يبقى الاتجاه الذي ينظر للتفسير على أنه فهم للقرآن باعتباره منهاجاً
ربانياً يرشد الناس إلى سعادتهم الدنيوية والأخروية، ويجعل هذا الفهم القرآني
المقصد الأعلى - يبقى هو أكثر اتجاهات التفسير فهماً لهذا القرآن العظيم.
فحيث جعل المولى - جل جلاله - هذا الكتاب الكريم حجة دينه الخاتم، فإنه
تعالى جعل من معجزته أنه مع قلة الحجم متضمن للمعنى الجم؛ بحيث تقصر
الألباب عن إحصائه، وآلات الدنيا عن استيفائه، بقدر ما جعله محفظة للعلم
والخير ليتناول منه كل عقل على قدر طاقاته في الفهم والاتباع [1] .
يقول الحسن البصري: «أنزل الله مائة كتاب وأربعة كتب، جمع علمها في
أربعة، وجمع علم الأربعة في القرآن الكريم» [2] .
وكما جعله الله كتاب معجزة وحجة أبقاه موضع نبراس وهداية؛ في ثناياه
البراهين ما تراكمت الشبهات، وفي إرشاداته برد اليقين ما حاكت في الصدور
الوساوس. ومن يتدبره يدرك وفاءه لحاجات البشر على تجدد الحوادث التي لا عهد
للسابقين بها، وهذا الإدراك إنما يتجلى على صورته الكاملة من خلال منهج التفسير
الموضوعي للقرآن الكريم سوراً وآياتٍ وموضوعات، هذا المنهج الذي يُعنى
بالتعرف على الروابط بين الآيات، والروابط بين السور، وتنسُّم هدايات الذكر
الحكيم، وربط القرآن بقضايا العصر، ومعالجة مشكلاته معالجة تدل على أنه كتاب
الله الخاتم ومعجزته لكل عصر.
وعلى كثرة ما كتب في التفسير الموضوعي فإن القليل من تلك الكتابات قد
نجح في تناول الجانب المنهجي منه في حين اكتفى أغلبها بالدراسات التطبيقية
لموضوع أو سورة، لكن الذي ينبغي التنبيه عليه أنه لا يمكن الفصل بين اتجاهات
التفسير فصلاً يقطع الوشائج بينها؛ إذ المجال بينها واحد وهو كلام الله - تعالى -،
والغاية واحدة وهي الكشف عن مرادات الله - تعالى - فيه.
وإن مناهج هذا الكشف لتتعدد وتتغاير تغاير تنوع وتعاضد، وترادفاً لا تبايناً،
ولا انفصالاً أو تضاداً، بل إن بعض أنواع التفسير يكون أساساً للبعض الآخر؛
فالتفسير التحليلي مرتبط بكل من التفسير الإجمالي والموضوعي والمقارن؛ لأنه
ينصبُّ على معرفة دلالات الألفاظ لغوياً وشرعياً، وإدراك الروابط بين أجزاء
الجملة القرآنية من جهة، وبين الجمل في الآية من جهة ثانية، وبين الآيات في
السورة من جهة ثالثة، كما أن التعرف على أسباب النزول والناسخ والمنسوخ
والقراءات وآثارها في فهم دلالات الآيات، وكذا وجوه الإعراب وأساليب البيان
وسبل الإعجاز ودلالات القصص؛ هي كلها من الوجوه التي تعين على تجلية
المقاصد القرآنية؛ بحيث يلزم للمهتم بالتفسير الإجمالي الإلمام بكل ما تقدم من معالم
التفسير التحليلي.
كما أن من يكتب في التفسير المقارن يحتاج إلى الإحاطة بأقوال المفسرين
عموماً، وبالتفسير التحليلي والإجمالي خصوصاً، أما الباحث في التفسير
الموضوعي فيجب عليه أن يعتمد جملة ما تقدم؛ لأن عمله ثمرة لهذه الاتجاهات
كلها، ومرحلة تخصصية متأخرة عما سبقها؛ فليس ما سبقه إلا لَبِنات عمله ومادته
الأولية التي عليها يقيم بنيانه. وقد لا أكون مبالغاً إذا قلت إن المكتبة الإسلامية
تفتقر إلى جملة بحوث ذات صبغة تخصصية في التفسير الموضوعي، وإن
الموجود منه لا يعدو أن يكون نتفاً متناثرة.
وإذا نظرنا إلى مراتب التفسير وجدنا أن أدناها يُبيِّن بالإجمال ما يُشرِب القلب
عظمة الله وتنزيهه، ويصرف النفس من الشر إلى الخير، وأعلاها لا يتم إلا بأمور
تتحقق مجتمعة من خلال منهج التفسير الموضوعي وحده، وتلك الأمور هي [3] :
1 - فهم معاني الألفاظ المفردة بحيث يحقق المفسر اللفظ من القرآن بجمع ما
تكرر منه وينظر فيه؛ فلربما استعمل بمعان مختلفة كلفظ: (الهداية) فيعرف
المعنى المطلوب من بين معانيه؛ فإن القرآن يفسر بعضه بعضاً، وإن أفضل قرينة
تقوم على حقيقة معنى اللفظ هي موافقته لما سبق له من القول، واتفاقه مع جملة
المعنى، وائتلافه مع المقاصد التي جاء بها الوحي في جملته.
2 - فهم الأساليب والتفطن لنكت القرآن ومحاسنه بقدر الطاقة، ويحتاج هذا
إلى علم الإعراب، وعلوم المعاني والبيان، واستعمالات أهل اللغة باعتبارها آلة
الوحي ومحفظته.
3 - العلم بأحوال البشر؛ فهذا الكتاب آخر الكتب، وفيه بيان ما ليس في
غيره من أحوال الخلق وطبائعهم، والأمم وتبدلها، والسنن الإلهية، وأحسن
القصص، ومناشئ الاتفاق والافتراق، وذلك يحتاج إلى جملة فنون من أهمها علوم
التاريخ، والسنن الإلهية.
4 - العلم بوجوه هدايات القرآن للبشر، وذلك يستلزم الوقوف على ما كان
عليه الناس في عصر الرسالة وقُبَيْلَهُ، وما قبّحه القرآن من طباع الجاهلية؛ فإن
عُرى الإسلام تُنتقض إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية، ومن جَهِل حال
الناس قبل القرآن جهل تأثير هداياته فيهم.
5 - العلم بالسيرة النبوية وأحوال الصحابة والتابعين؛ فإن هذا العصر هو
أزكى مراحل الاتباع النقي لهدايات الوحي ومقاصده.
كما تتجلى أهمية التفسير الموضوعي في عصرنا أكثر مما تجلت في غيره؛
ذلك أننا نعيش عصر القضايا المتلاحقة وإفرازات النشاط البشري والطارئ
المعاشي، وقد أقر لسان حال الحضارة المادية بإفلاسها في مواجهة تحديات الحياة،
وإنسان عالم السلطة الزمنية، والحضارة الشيئية، والمراهنة الصناعية بحيث لم
يعد هذا الإنسان قادراً على مواجهة المشكلات التي صنعها، فلا هو يقدر على
التخلص منها، ولا هي بالتي تريد تركه؛ ذلك الإنسان الذي يستدعي النشوة
بدمار ذاته، ويستبدل بالدين بدائل وضعية، ويضع تفسيرات للحياة والموت،
ويخترع نظريات وحلولاً يقنع بها نفسه ويلقنها أجياله حتى أصبح العالم بين وثني
إلحادي ومادي نفعي، وجاهل بالدين قد فقد توازنه القيمي، وسلامه الداخلي،
وصفاءه النفسي؛ في تعاند واضطراب حوَّل حياته إلى أرقام، والأرقام لا قلب
لها.
لقد أتى بالمشكلة وعجز عن الحل، فنجح في اختزال الزمان والمكان،
وأصبح منتفخاً بالتقدم الكمي، فاشلاً في تحقيق رصيد يحميه من خواء الروح،
فتحول إلى (العملاق القزم) فهو عملاق في التمدد العلمي واختراع الأسباب، وقزم
في إشراقات الروح وصحة الفطرة ومنظومة القيم، قد ضاع منه انسجام الحياة،
وسلام النفس، واتساق المشاعر، وتوازن النوازع، وحميمية العلاقات فحدثت
التناقضية الهائلة بين المادة الغالبة والروح المغلوبة.
إن الإنسان اليوم بحاجة إلى حل كبير على قدر مأساته، ولما كان الخالق
أدرى بصنعته فإنه لا مفر من رد الصنعة إليه، بعد أن تعددت مشكلات الحياة إلى
حد يُلْزِم بضرورة التدخل لوضع الحلول الشرعية لها، ولن يتم ذلك بغير تنسم
الهدايات الربانية واستنطاق مدلولات الآيات، وإماطة اللثام عن وجوه جديدة
للإعجاز؛ فالنصوص محدودة ومشكلات البشرية لا نهاية لها.
والحق أنه ما من نوع من أنواع التفسير يمكن أن يوفر للباحث رُتَبَ الإحاطة
والدرس الذي تحتاجه مشكلات الحياة مثل ما يوفره التفسير الموضوعي من قدرة
على جمع أطراف موضوع الدراسة والاطلاع على أسباب النزول، وشروط
المرحلة التي تنزلت فيها الآيات وتنزيلها عليها، وتوجيه ما ظاهره التعارض،
والاسترشاد بالدلالات اللغوية والأساليب البيانية، والتفتيش عن أسرار الترتيب
المصحفي والنزولي، واستنطاق إيحاءات الوحي بشروطها، وإماطة اللثام عن
وجوه هداياتها الجديدة.. وجمع ثمرات طرق التفسير جملةً، وتوظيفها لتحقيق تلك
الغاية الشريفة.
الوحدة الموضوعية في اللغة:
أ - الوحدة: تطلق الوحدة لغة على الانفراد؛ فالواحد في الحقيقة هو الشيء
الذي لا جزء له البتة، ثم يطلق على كل موجود [4] وتستعمل الوحدة في معنى
الاتحاد، أي صيرورة الاثنين وما فوقهما واحداً [5] .
ولما كان من شأن التعدد التشتت استعملت الوحدة التي أصلها الانفراد في
الاجتماع الذي فيه الضبط والالتئام [6] .
قال أبو البقاء في «كلياته» : «الوحدة كون الشيء بحيث لا ينقسم، وتطلق
ويراد بها عدم التجزئة والانقسام» [7] .
ب - الموضوع: يطلق لغة على الوضع، وهو جعل الشيء في مكانٍ ما
سواء كان ذلك بمعنى الحط والخفض أو الإلقاء والتثبيت، والوضع أعم من الحط،
ويقال: ناقة واضعة؛ إذا رعت حول الماء ولم تبرح. وقيل: وضعت تضع
وضيعة وكذا موضوعة، والفعل منها يتعدى ولا يتعدى [8] .
وقد استعمل الوضع في القرآن الكريم على عدة معان: منها: الموضع:
[يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ] (النساء: 46) . ووضع الحمل: [فَلَمَّا وَضَعَتْهَا
قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ] (آل عمران: 36) ،
والإيجاد والخلق: [وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ] (الرحمن: 10) ، أي خلقها
وأوجدها. والبناء: [إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وَضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ]
(آل عمران: 96) ، أي بني وخصص للعبادة. كما يأتي الوضع في القرآن
على معنى بث الشيء في النفس قال تعالى: [وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الفِتْنَةَ]
(التوبة: 47) ، أي حملوكم عليها [9] .
والوضع ضد الرفع، ومنه: وضعه يضعه وضعاً وموضوعاً، والموضوع
في الكتب هو ما بحث فيه عن عوارضه الذاتية كالجسم بالنسبة للطلب، واللفظ
العربي بالنسبة للنحو. والموضوعية: مصدر صناعي نسبة للموضوع المأخوذ من
الموضع [10] والموضوعي نسبة إلى موضوع. ومنه موضوع الألوهية، وموضوع
البر والثواب ونحوها، وهذا المعنى ملحوظ في التفسير الموضوعي؛ لأن المفسر
يرتبط بمعنى معين لا يتجاوزه إلى غيره حتى يفرغ من تفسير الموضوع الذي التزم
به [11] .
الوحدة الموضوعية في الاصطلاح:
الموضوع في الاصطلاح: هو أمر متعلق بجانب من جوانب الحياة في
العقيدة أو مظاهر الكون أو السلوك الاجتماعي تعرضت له آيات القرآن الكريم [12] .
وإذا ذكرت الوحدة الموضوعية من خلال اعتبارها مركَّباً وصفياً فإن معناه: اتحاد
الموضوع الذي ذكر متناثراً بحيث لا يكون فيه تباين أو اختلاف، بل يؤلف وحدة
كاملة، كما نقول: وحدة الموضوع [13] ؛ فالمراد بالوحدة الموضوعية في القرآن
هو البحث عن القضايا الخاصة التي عرض لها الكتاب الحكيم في سوره المختلفة
ليظهر ما فيها من معان خاصة تتعلق بالموضوع العام الذي نبحثه [14] .
ولقد أُضيفت كلمة «تفسير» إلى كلمة «موضوعي» فصارتا عَلَماً على هذا
اللون من التفسير، ثم تُنُوسيت من الأذهان تلك الإضافة. كما تعددت تعاريف هذا
الاصطلاح بين جمهرة الباحثين وإن بدا من أكثرهم اتجاه إلى حصره في جانب من
جوانبه الرحيبة وهو الجانب المتعلق بموضوع ما من موضوعات الحياة، لذلك
ترجَّح عندهم تعريفه بأنه: علم يتناول القضايا القرآنية، من خلال جمع الآيات
المتفرقة لفظاً أو حكماً، ذات العلاقة بموضوع واحد وتفسيرها بحسب المقاصد
القرآنية [15] .
وعلى ذلك فلا يُعد التفسير الموضوعي تفسيراً عاماً بالمعنى الاصطلاحي
المألوف لدى جمهرة المفسرين؛ ذلك أنه لا يتناول كل آيات القرآن على صورة
الترتيب المُصْحفي، وإنما هو جمع للآيات الواردة في موضوع واحد، ثم تصنيفها
بطريقة منهجية تعين على تنسم هداياتها، وتلمس مقاصدها، واستخراج
مكنوناتها [16] .
إلا أن بعض أهل العلم ينظرون إليه على أنه لون تفسيري مستقل يعتمد
المنهجية في النظر إلى القرآن الكريم كمنحة إلهية ذات مقاصد شمولية تشمل
حاجات البشرية في كل زمان ومكان، على مستوى يضمن لها الصلاح والترقي
اللائق برتبة التكريم الإلهي للإنسان.
يقول الدكتور محمد البهي: التفسير الموضوعي ليس تفسير جملة من الآيات،
ولا استخلاص مضمونها في وحدة قرآنية، وإنما هو استخلاص مضمون الكتاب
ككل من نظرة موضوعية شاملة مرة، أو استخلاص موضوع محدد كمنهج القرآن
في تطوير المجتمع، أو موقف القرآن من المادية مرة أخرى، أو استخلاص هدف
السورة الواحدة وما عنيت بإبرازه في إطار الدعوة كلها مرة ثالثة [17] .
ولعل أبلغ مهام التفسير الموضوعي وجل أهميته تتعلق بكون «سر القرآن
ولبابه الأصفى ومقصده الأقصى إنما يكمن في دعوة العباد إلى الله - تعالى -، وأن
معانيه تدور حول أصناف ستة: ثلاثة منها أصول، والأُخَرُ توابع. فالأصول:
تعريف المدعو إليه، وتعريف الصراط، وتعريف الحال عند الوصول إليه.
والتوابع: أحوال المجيبين للدعوة والناكثين عنها، والرد على الجاحدين، ومعرفة
الطريق إلى الله - تعالى -» [18] .
ومن هنا تتجلى أهمية التفسير الموضوعي فيما يلي:
أولاً: تجدد حاجات المجتمعات للهدايات الإلهية، وبروز أفكار جديدة على
الساحة الإنسانية، وانفتاح ميادين ثرية للنظريات العلمية الحديثة يوجب على
الباحث المسلم أن يلجأ إلى هدايات الكتاب وإرشادات السنَّة ليستشف منها الحلول
لمشكلات العصر.
ثانياً: لما كانت المشكلات الإنسانية غير محدودة ونصوص الوحي محدودة
فإن مجابهة تلك المشكلات توجب البحث عن حلولها من خلال آليات الاجتهاد
والسعة الكامنة فيما تحمله آيات التنزيل من قواعد كلية وظنّيات دلالية.
ثالثاً: الدراسة الموضوعية هي أوقع المناهج وأعمقها للكشف عن علل
النصوص ومناسباتها وحكمها وهديها ودلالاتها وظلالها، باستخدام منظار القرآن
نفسه طلباً لإدراك ملكة التعرف على المقاصد القرآنية.
رابعاً: إن هذا النوع من التفسير ينظر إلى موضوع معين في القرآن كله
ليجلّي جوانبه ويحدد ملامحه ويربطه بالحياة، ومن ثم يرتب المجال لكل دارس كي
يربط تخصصه بهدايات الوحي ويصنع الحياة على عينه؛ فالفقيه يجد مَعيِنَهُ في
آيات الأحكام، والمفكر يلتقي بالموارد القرآنية التي يبحث عنها في مظان التدبر
وإعمال النظر، والاقتصادي يقف على آيات المال والإنفاق والثروة والإعمار،
وعالم الكونيات يرى مراداته في آيات الفلك والنجوم وحركة الكواكب والليل
والنهار، والباحث التربوي يلقى ضالته في آيات الإرشاد والوعظ والتوجيه
والاعتبار، والمؤرخ يعثر على أخبار الأمم السابقة ودروس العبر القرآنية
وأحوال الأقوام والدول، وباحث الاجتماع يجمع ثروة هائلة من الآيات الدالة
على سنن الابتلاء والتمكين والاستدراج والزوال، وأحوال العمران.
وكلهم يسوس الحياة كما يريدها الله بعد أن برزت إلى الساحة علوم جديدة
تحتاج إلى من يضبط قواعدها ويؤصل لها، مثل:
1 - الإعجاز العلمي: بغرض الاعتدال في توجيهه بعد أن تعرض لنوع
إفراط عند إدخال الآيات القرآنية ذات العلاقة إلى مجالات العلوم التجريبية التي لم
تقعّد نظرياتها بعدُ كما حدث في علوم الفلك والحياة والفيزياء.
2 - أصول التربية: بعد أن تعددت مدارس علوم النفس والاجتماع حتى
فرضت مناهجها على مجالات الفكر التربوي وتطبيقاته ومعظمها غربي النبتة
والتوجه؛ بحيث أصبح المسلمون بحاجة ماسة إلى علماء راسخين في علوم
الدراسات الإسلامية، وقادرين على استيعاب ثقافات العصر ومناهجه في هذا
المجال وغيره، مع التمتع بملكة الاستنباط والإبداع عن بصيرة.
3 - أصول الاقتصاد.
4 - أصول الإعلام.
5 - أصول التاريخ البشري.
ولا شك أن كل هذه العلوم وغيرها، وما سوف يستحدث منها بحاجة إلى
الكتابة فيها من خلال قراءة الوحي وقراءة العصر، وليس لغير منهج التفسير
الموضوعي القدرة على تلك القراءة، الأمر الذي سيؤدي إلى تأصيل هذه العلوم في
ميادينها.
خامساً: إن التفسير الموضوعي هو الأقدر على أن يُجَلِّي وجوهاً جديدة
للإعجاز القرآني الذي لا تنقضي عجائبه ولا يَخْلَق على كثرة الرد [19] ، وإذا كان
فهم القرآن يتوقف على إدراك ما تدل عليه آياته من طريق العبارة، والتعرف على
مرامي ألفاظه بالإشارة، وإدراك لطائفه ومن ثم بلوغ حقيقته على وجهها، فإن
تَمَثُّلَ أوقعِ طرق فهم القرآن إنما يأتي من طريق التفسير الموضوعي الذي تجتمع
عنده خيوط غيره من فنون التفسير جملة.