متابعات
صلاح الخليفة أحمد الحسن [*]
استطاع علم الاجتماع الغربي بمناهجه وفروضه ونظرياته ومفهوماته
وتصوراته وتفسيراته المناهضة في كثير من جوانبها للعقيدة الإسلامية أن يُنشئ له
امتدادات سرطانية في معظم جامعات العالم الإسلامي، وقد وصل إلى تحقيق كثير
من مقاصده في غيبة الوعي الإسلامي عند القائمين بأمر الجامعات، فتكونت جبهة
عريضة من أعضاء هيئات التدريس من المسلمين تشبعت بمضامينه، وسعت بقوة
إلى الدفاع عنها ونشرها بين الطلاب كمسلَّمات علمية لا يجوز عليها النقض.
وحين جاءت الصحوة الإسلامية إلى الجامعات من خارج أسوارها، وانتقدت
بقوة مقولات علم الاجتماع، ودعت إلى دراسة المجتمع وفق منهجية أصولية قرآنية،
وجدت هذه الدعوة إهمالاً وسخرية وتسفيهاً باعتبار أن (قواعد المنهج في علم
الاجتماع) تدرس الإسلام كغيره من الأديان بوصفه ظاهرة اجتماعية، كما أن
(علم الاجتماع الديني) له منهجية محددة في بيان نشأة الأديان وتطورها ووظائفها
في النسيج الاجتماعي.
وقد رفض بعض الباحثين في العالم الإسلامي مقولات علم الاجتماع الغربي
جملة وتفصيلاً باعتباره مناقضاً للعقيدة الإسلامية. وقد قام أحمد إبراهيم خضر [1]
وهو من أساتذة علم الاجتماع ليبرهن صحة هذا الرأي، وانتهى في كتاباته المتعددة
الموثقة من الناحية العلمية (التي رجع فيها إلى المصادر الأصلية لأساطين علم
الاجتماع الغربيين) إلى أنه لا حاجة بالمسلمين أصلاً إلى علم الاجتماع، وأنه ليس
هناك مسوِّغ موضوعي لبذل أي جهد لاستنقاذ أي علم نافع منه؛ لأنه ببساطة لا
يحوي علماً نافعاً [2] .
وفي العدد (151) من مجلة البيان كتب أحمد إبراهيم خضر مقالاً بعنوان
وجهة نظر: (حول ظاهرة أسلمة العلوم) توصل فيه إلى أن هناك اتجاهات ثلاثة
تؤصل لمشروع أسلمة العلوم:
أ - الاستعانة بالقواعد الفقهية والمنهجية والأصولية وتطبيقاتها في العلوم
الاجتماعية، وعرض نتائج العلوم الاجتماعية على علماء الدين وإقامة جسر بينهما.
ب - يغلب على الاتجاه الثاني صفة السطحية والوصولية.
ج - الاتجاه الثالث تطرق إلى الحد الذي دعا فيه إلى نقد التراث ومراجعة
الدراسات التي بنيت على القرآن والسنة وتجديدها مع استبعاد مفاهيم الحق والباطل
والإيمان والكفر.
ويقرر أحمد إبراهيم خضر في مقاله المذكور بأن هذه الاتجاهات جميعها تعتقد
أن مستجدات العصر قد أحدثت خللاً في الأبنية الاجتماعية، ومشكلات لم تكن
قائمة في الصدر الأول؛ مما يستوجب مواجهتها بالعلوم الاجتماعية العصرية، مع
مراعاة اتساق ما يؤخذ منها مع الكتاب والسنة.
كما يقرر أحمد إبراهيم خضر أن هذا المشروع برمَّته لا يخرج عن كونه
هوى متبعاً، وتبدُّعاً، وتنطعاً، وخروجاً على الصراط المستقيم؛ وذلك لأن
الطرائق في الدين تنقسم إلى ما له أصل في الشريعة وما ليس له أصل فيها. ومن
الأهداف الحقيقية لهذا المشروع إضفاء الشرعية على علوم أوروبية الصنع ليست
حيادية كالعلوم الطبيعية، وإنما ذات موقف خاص من الدين. وينطلق أصحاب هذا
المشروع في سعيهم إلى أسلمة العلوم من المفاهيم والمصطلحات الغربية بالبحث عن
أصول لها في القرآن والسنة ولو تعسفاً، وهم يعملون على تحويل المقولة القديمة
لزكي مبارك إلى واقع ملموس، وهي التي يقول فيها: «قد نزعنا راية الإسلام
من أيدي الجهلة ويقصد بهم علماء الدين وصار إلى أقلامنا المرجع الأول في شرح
أصول الدين» .
وإذا تتبعنا بعض الدراسات التي عملت على أسلمة علم الاجتماع نجد أن فيها
دراسات ذات (نظرة جزئية) لم تستطع الفكاك من أسر علم الاجتماع الغربي، وقد
مثلت عائقاً منهجياً في مضمار أسلمة علم الاجتماع، ويصدق عليها في كثير من
جوانبها ما رآه أحمد إبراهيم خضر حول (أسلمة العلوم) ، كما أن هناك دراسات
ذات (نظرة كلية) قدمت جهوداً جادة ومتعمقة في مضمار أسلمة علم الاجتماع.
ف (أحمد الخشاب) يرى أن علم الاجتماع الإسلامي هو علم تقريري،
وصفي، بنائي، تركيبي، تكاملي، وهو يعتبر فرعاً من فروع علم الاجتماع شأنه
في هذا شأن علم الاجتماع العائلي، وعلم الاجتماع الصناعي، وعلم الاجتماع
التربوي، وعلم الاجتماع الأخلاقي ... إلخ [3] .
وفي كتابه (علم الاجتماع الإسلامي) يقرر (زيدان عبد الباقي) بأن علم
الاجتماع الإسلامي يمثل فرعاً متخصصاً من فروع علم الاجتماع العام. وكذلك
ترى (سامية مصطفى الخشاب) في كتابها (علم الاجتماع الإسلامي) أن علم
الاجتماع الإسلامي يدور في فلك علم الاجتماع العام. وحين حللت الباحثة الدين
اعتمدت في تحليلها على المنظور الغربي الذي يرى أن الدين ظاهرة اجتماعية
مجردة عن أصلها الإلهي [4] . وترى (سامية الخشاب) أن قيام علم الاجتماع
الإسلامي سوف يكشف لنا أن المصادر الإسلامية بما انطوت عليه من مادة علمية
كانت مراجع للنظريات الاجتماعية المعاصرة! !
وفي كتابه: (نحو علم اجتماع إسلامي) يقرر (زكي محمد إسماعيل) تبعية
علم الاجتماع الإسلامي لعلم الاجتماع الغربي من حيث إنه فرع من فروع علم
الاجتماع العام.
وتقيداً (بقواعد المنهج في علم الاجتماع) يردد (زكي محمد إسماعيل)
دعوى الموضوعية ومفهوم العلمية، ويحذِّر من المعيارية وفق مواضعات المدرسة
الفرنسية في علم الاجتماع.
كذلك يتوصل (علي عبد الرازق جلبي) في مؤلفه: (قضايا علم الاجتماع
المعاصر) إلى تسمية علم الاجتماع الإسلامي بـ (علم المجتمعات الإسلامية)
محدداً له نطاقاً جغرافياً معيناً يتمثل في حدود العالم الإسلامي، وهو يرى عدم
وجود أي فروق منهجية بين منهج علم المجتمعات الإسلامية وعلم الاجتماع الغربي.
ويرفض (علي عبد الرازق جلبي) تسمية (علم الاجتماع الإسلامي) بهذا الاسم؛
لأنه انقضى الوقت الذي كان يضفي فيه الباحثون صفات على العلم، مثل قولهم
علم الاجتماع الأمريكي أو الاشتراكي بعد أن أدركوا أن اتباع هذه الطريقة في
تسمية العلم قد تنطوي على تحيز وتمسُّك بقيم وتوجهات لا تستقيم مع موضوعية
المنهج العلمي [5] أما (عبد الباسط محمد حسن) فقد توصل إلى أن علم الاجتماع
الإسلامي يمثل أحد الفروع المنبثقة من علم الاجتماع الديني [6] .
أما (عبد الرؤوف الجرداوي) فيقرر في كتابه (دراسة في علم الاجتماع
الإسلامي: الإسلام وعلم الاجتماع العائلي) أن قيام علم الاجتماع الإسلامي ضرورة
باعتباره فرعاً مستقلاً من فروع علم الاجتماع اعتزازاً من المفكرين العرب،
وتقديراً للفكر والتراث الإسلامي الذي ساهم في حضارة العالم وفي العلوم والمعارف
الإنسانية [7] ؛ وقد تبنى الباحث رؤية علم الاجتماع الغربي في المسائل التي طرحها
عن الأسرة وسمات الظاهرة الدينية كما يسميها. كما اتسم طرحه للمسائل
الاجتماعية التي تناولها من منظور إسلامي بالسطحية دون أن يعقد مقارنات ويجري
تحليلات وصولاً إلى تفسير اجتماعي عميق وفق منظور الإسلام.
وقد ألف (سيد عبد الحميد مرسي) كتاباً بعنوان: (الفرد والمجتمع في الإسلام)
ربط فيه بين بعض آراء العلماء المسلمين الأوائل وبين آراء بعض علماء الاجتماع
الغربي المعاصرين في صورة إسقاطية تلفيقية واضحة.
ونجد أن (محمد أبو القاسم حاج محمد) [8] قد تطرق إلى الحد الذي دعا فيه
إلى محاكمة النصوص الشرعية إلى المنظومة الفكرية الغربية باعتبارها تمثل إطاراً
مرجعياً لكل المفاهيم والتصورات والمبادئ في كل زمان ومكان؛ إذ إن علماء
السلوك الاجتماعي من الغربيين قد وضعوا معايير علمية عامة يقاس بموجبها تأثير
المجال على حالة الإنسان بكل أبعادها العقلية والسلوكية، ولا مجال لأن يرتاب أحد
اليوم في بعض النتائج التطبيقية لهذا الفرع العلمي الهام. وإذا تتبعنا مراحل التطور
في التفكير الإنساني على ضوء فرضيات (جون ديوي) و (آرثر بتلر) فإننا
نستطيع أن نميز خصائص السلوك الفكري الغربي في تلك الآونة بانتمائه إلى
مرحلة الحركة الذاتية (self action) ، وهي مرحلة تتميز خصائصها بمحاولة
الإنسان تفسير كل ظاهرة من ظواهر الكون بمعزل عن غيرها من الظواهر. فلم
يكن الإنسان في تلك المرحلة قد أدرك ما بين ظواهر الكون جميعاً من علاقات.
وقد أطلق رجال علم الأجناس على تلك المرحلة: الإحيائية (animistic
stage) ، وبغضِّ النظر عن حقيقة التطورية أو بطلانها؛ فإن المهم أن التطورية
بمدارسها المختلفة غير الداروينية الآن هي جزء في الدماغ المعاصر وتتضمن
إسقاطاته النظرية على كل المواضيع بما فيها آيات الكتاب [9] .
ويرى (طه جابر العلواني) [10] أن هذه الأمة تميزت بأنها أمة الجمع بين
القراءتين؛ فأي انحراف عن منهجية الجمع بين القراءتين سواء بإهمال القراءتين
والانصراف إلى منهجية أخرى، أو بالاقتصار على إحداهما سيؤدي إلى هلاك
محقق وكارثة مؤكدة. ومن أبرز من أعادوا بناء هذه (المنهجية) من المعاصرين
وبلورتها في إطار السقف المعرفي الراهن (محمد أبو القاسم حاج حمد) حيث
شرحها وأوضحها وبنى عليها كثيراً من الأفكار الهامة في كتابه: (الإسلامية
العالمية الثانية) . وعلى هذه القاعدة المتينة تقوم عملية (إسلامية المعرفة) وبناء
نظرية التطور الحضاري الإسلامي في مستواها الراهن [11] .
إذن فإن (طه جابر العلواني) يثمن جهود (محمد أبو القاسم حاج حمد)
ويراه من الممثلين الحقيقيين لأسلمة العلوم والرواد المعاصرين في هذا الصدد؛
على الرغم من دعوته الصريحة إلى محاكمة النصوص الشرعية إلى المنظومة
الفكرية الغربية والنتائج التلفيقية التي يتوصل إليها من جراء منهجيته (غير
القرآنية) هذه.
ويقرر (طه جابر العلواني) في كتابه (إصلاح الفكر الإسلامي بين القدرات
والعقبات) أن الفرق جد كبير بين التلفيق الذي هو محاولة تفسير الإسلام من خلال
المقولات الفكرية الغربية، وانتقاء ما ينسجم من تراثه مع طروحاتها المقررة
مسبقاً، والتوفيق الذي يخضع لمقياس حضاري واضح يمكن من الأخذ والترك في
ضوء منظومة فكرية واضحة الضوابط والمقاييس. وهذه العملية تبدو خطورتها في
ممارسة عملية التغريب وفق لغة تدَّعي قراءتها للتراث وتدعي فهمه والوعي على
سياقه التاريخي، وتطبيق مناهج غربية حديثة على الإسلام ومصادره. والحقيقة
أنه لا بد من بيان الفساد المنهجي لهذه الدراسات التلفيقية رغم ما يبدو عليها في
الظاهر من رصانة ومنهجية؛ لأنها في الحقيقة لا تملك من المنهج إلا صورته
وشكليته وخداعه، لا أصوله وجوهره، كما أنها تتخطى مجموعة من التناقضات
الأساسية بين الإطار المرجعي الإسلامي من ناحية، والإطار المرجعي الغربي من
ناحية أخرى؛ ولذلك فهي لا تصلح ابتداء للدراسة، كما أنها تهمل في الوقت نفسه
أصولاً منهجية استقرت للإنتاج الفكري والمعرفي في التراث الفكري الإسلامي،
مثل علم أصول الفقه، وأصول وآداب البحث والمناظرة ... إلخ [12] .
إذا كان رأي (طه جابر العلواني) كذلك فكيف قام بالتقديم لكتاب (الإسلامية
العالمية الثانية) مع تقريظه الشديد له وهو مضاد لرؤيته التي طرحناها آنفاً في
أسلمة العلوم؟
وقد أصاب (طه جابر العلواني) كبد الحقيقة حين قال: «فأخطاؤنا نحن
الذين نذرنا أنفسنا لحمل القضية والقيام على شأنها، هي من أشد المعوقات إضراراً
بها. ومن أبرز الأخطاء الذاتية التي يمكن أن نقع فيها وأهمها: عدم الوصول إلى
رؤية مشتركة وقاعدة فكرية واحدة في المنطلقات والأهداف، وهو ما يؤدي إلى
اختلاف الأطروحات في مبادئ القضية ومقاصدها من جانب القائمين عليها، وهو
أمر يجب الوعي به وبحقيقته وحدوده؛ ذلك لأن الأطروحات المتناقضة والمختلفة
في هذه المجالات، قد تعني عدم وضوح الفكرة بالشكل الكافي لدى أصحابها ...
وإذا كان تنوع الخطط، والوسائل الاجتهادية قد ينشأ عن تنوع القائمين على القضية
وخلفياتهم الثقافية وتنوع أجهزتها إلى حد ما؛ فإن الاختلاف في المبادئ والمقاصد
يؤدي إلى اهتزاز القضية قبل رسوخها والعجز عن توصيلها، وإثارة الاهتمام
وروح التعاون لدى الآخرين [13] .
وإذا تناولنا (النظرة الكلية) في علم الاجتماع الإسلامي فنجدها تعي في
طرحها أن علم الاجتماع الغربي بشقيه الرأسمالي والماركسي ينطلق من مذهبين
رئيسيين بينهما كثير من (الأشباه والنظائر) في الخصائص والمعايير والمنطلقات.
كما أن للإسلام مذهبيته الربانية ذات الخصائص والمعايير والمنطلقات التي
تختلف تماماً عن الرأسمالية والماركسية.
وتستمد المذهبية الإسلامية رؤيتها الشاملة للكون والمجتمع والإنسان من
الكتاب والسنة المطهرة، ومن بقية مصادر الشريعة الإسلامية رؤيةً وتحليلاً
وتفسيراً. فقد حدد الإسلام لمعتنقيه القيم والمعايير التي تنظم حركة المجتمع في
مجال الأسرة، والتنشئة الاجتماعية، والتربية، والعلاقات الاجتماعية، والاقتصاد،
والسياسة، والقانون، والضبط الاجتماعي، وغير ذلك من نظم المجتمع. وقد
اتخذ من الوسائل والضوابط ما يجعل هذه القيم والمعايير تطبق في الواقع
الاجتماعي. ألا يدل ذلك على أن للإسلام مذهبيته الخاصة في الاجتماع الإنساني؟
أليس لجميع ما ذكرناه من قيم ومعايير أصولاً في الشريعة الإسلامية؟
والمذهبية الإسلامية في علم الاجتماع لها مفاهيم ومصطلحات لا تجدها في أدبيات
علم الاجتماع الغربي إطلاقاً منها: الكفر الإيمان النفاق البدعة الاستخلاف التسخير
الشرك الشورى الوسطية السنن الربانية حتمية الميعاد حدود الله التوبة التقوى
الحلال الحرام فرض عين فرض كفاية فسوق فطرة عمل صالح المؤلفة قلوبهم
الآخرة استغفار أمة الدعوة أمة الإجابة أهل الذمة أهل الحل والعقد أهل السنة
والجماعة الطاغوت الهجرة الجهاد العفة ... إلخ.
والمذهبية الإسلامية في علم الاجتماع لها جوانب تطبيقية؛ إذ تعمل على
دراسة المشاكل الاجتماعية، والانحرافات والبدع العقدية، ومعوقات الدعوة
الإسلامية، والأمراض الاجتماعية وفق المنظور الإسلامي على نطاق الأمة
الإسلامية وعلى النطاق العالمي حتى تشارك بفعالية في عملية البلاغ المبين للدعوة
الإسلامية.
والمذهبية الإسلامية بعبارات أستاذنا (أحمد إبراهيم خضر) تعمل على
مواجهة تغيرات العصر بحلول مستنبطة من الخطوط العريضة للشريعة، أو بإقامة
مصالح الدنيا بالرجوع إلى التعاليم المتضمنة في القواعد الكلية للشريعة، وإنزال
الوقائع المتجددة التي تعرض الأفراد والجماعات عليها وفحص ما يترتب عليها من
المصالح والمفاسد [14] .
فهذا الذي ذكرناه أخيراً عن المذهبية الإسلامية في علم الاجتماع يمثل مفهوماً
كلياً لم يتطرق إليه مقال (أحمد إبراهيم خضر) . ونحسب أن هذا المفهوم الكلي
يتمثل في كتابات بعض المتخصصين في علم الاجتماع أمثال: محمد المبارك
(نحو صياغة إسلامية لعلم الاجتماع) ، وبشارات علي (الفلسفة الاجتماعية
الإسلامية) ، وعلي شريعتي (المفكر ومسؤوليته في المجتمع) ، ومصطفى محمد
حسنين (المدخل إلى المدرسة الإسلامية في علم الاجتماع) ، وإلياس با يونس
وفريد أحمد (مقدمة في علم الاجتماع الإسلامي) ، وأحمد المختاري (نحو علم
اجتماع إسلامي) ، ومحمد محمد إمزيان (منهج البحث الاجتماعي بين الوضعية
والمعيارية) ، ومنصور زويد المطيري (الصياغة الإسلامية لعلم الاجتماع:
الدواعي والإمكان) ، وعبد اللاوي محمد (إشكالية العلوم الاجتماعية في العالم
الإسلامي: وضعيتها وآفاقها) ، والتيجاني مصطفى محمد صالح (لماذا الصياغة
الإسلامية لعلم الاجتماع) ، وطارق الصادق عبد السلام (الضبط الاجتماعي في
الإسلام) .
وكما تفضل (أحمد إبراهيم خضر) فإن العلوم الإنسانية تشتمل على الحق
والباطل، ويلتبس فيها الحق بالباطل. فالمذهبية الإسلامية في علم الاجتماع ذات
النظرة الكلية لها موقفها الواضح في بيان نقائص قواعد المنهج في علم الاجتماع
الغربي. وتعمل على وزن مقولات هذا العلم بميزان الكتاب والسنة لتميز الخبيث
من الطيب فتحذر من الخبيث وتكشف عواره.
ولها أن تستفيد من الطيب باعتبار الحضارة الغربية متتالية حضارية تتسم بما
تتسم به من سلبيات وإيجابيات [15] .
ولله در شيخ الإسلام ابن تيمية القائل:» والمقصود أن هذه الأمة ولله الحمد
لم يزل فيها من يتفطن لما في كلام أهل الباطل من الباطل ويرده؛ وهم لما هداهم
الله به يتوافقون في قبول الحق ورد الباطل رأياً ورواية ... « [16] . ويقول في
معرض حديثه عن المنطق:» وأيضاً فإن صناعة المنطق وضعها معلمهم الأول:
أرسطو صاحب التعاليم التي لمبتدعة الصابئة يزن بها ما كان هو وأمثاله يتكلمون
فيه عن حكمتهم وفلسفتهم التي هي غاية كمالهم. وهي قسمان: نظرية، وعملية.
فأصبحت النظرية وهي المدخل إلى الحق هي الأمور الحسابية والرياضية. وأما
العملية: فإصلاح الخلق والمنزل والمدينة. ولا ريب أن في ذلك من أنواع العلوم
والأعمال التي يتميزون بها عن جهال بني آدم الذين ليس لهم كتاب منزل ولا نبي
مرسل ما يستحقون به التقدم على ذلك، وفيه من منفعة صلاح الدنيا وعمارتها ما
هو داخل في ضمن ما جاءت به الرسل.
ومنها أيضاً من قول الحق واتباعه والأمر بالعدل والنهي عن الفساد: ما هو
داخل في ضمن ما جاءت به الرسل « [17] .
ومن هنا لا يعارض (ابن تيمية) الصياغة العربية لعلوم الآخرين والاستفادة
منها فيقول:» لهذا تجد الذين اتصلت إليهم علوم الأوائل، فصاغوها بالصيغة
العربية بعقول المسلمين جاء فيها من الكمال والتخفيف والإحاطة والاختصار ما لا
يوجد في كلام الأوائل، وإن كان في هؤلاء المتأخرين من فيه نفاق وضلال (ولكن)
عادت عليهم في الجملة بركة ما بعث به رسول الله صلى الله عليه وسلم من
جوامع الكلم، وما أوتيته أمته من العلم والبيان الذي لم يشركها فيه أحد « [18] .
والمطلوب فيمن يتصدى لأسلمة العلوم أن يجتهد وسع طاقته في اكتساب
العلوم الشرعية، وفهم ما تقصد إليه العلوم الاجتماعية الغربية.
ولا مناص من اجتهاد جماعي شوري، يجمع إلى المجتهدين الفقهاءِ جماعةً
من العدول أولي علم بشؤون الاجتماع والاقتصاد. ويقول ابن تيمية رحمه الله
تعالى:» كنت دائماً أذكر الحديث الذي في الصحيحين في الرجل الذي قال: إذا
أنا مت فاحرقوني، ثم اسحقوني، ثم ذرُّونى في اليمِّ؛ فوالله لئن قدر الله عليّ
ليعذبني عذاباً ما عذبه أحداً من العالمين ... ففعلوا به ذلك. فقال الله له: ما حملك
على ما فعلت؟ ... قال: خشيتك ... فغفر له.
فهذا رجل شك في قدرة الله، وفي إعادته إذا ذُرِّيَ، بل اعتقد أنه لا يعاد.
وهذا كفر باتفاق المسلمين، لكنه كان جاهلاً لا يعلم ذلك، وكان مؤمناً يخاف الله أن
يعاقبه، فغفر له بذلك. والمتأول من أهل الاجتهاد الحريص على متابعة الرسول
صلى الله عليه وسلم أوْلى بالمغفرة « [19] .
وقد توافرت نصوص الكتاب والسنة على أن الله عز وجل لا يقبل من
الأعمال إلا ما كان خالصاً لوجهه الكريم، وموافقاً للمنهاج النبوي، ولا بد لمن
يتصدى لأسلمة العلوم أن يلاحظ ذلك.
وإننا نأمل أن تتضافر جهود المشتغلين بتأصيل علم الاجتماع وفق رؤية
منهجية معرفية قرآنية واضحة [وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ
وَالْعُدْوَانِ] (المائدة: 2) .