قضايا ثقافية
د. محمد يسري
من المسلَّم به أن دخول العلمانية إلى بلاد المسلمين كان في فترة من الضعف
العام والانكسار الشامل والهزيمة النفسية والعسكرية على حد سواء.
ومع كل الركام الهائل من الأسباب والملابسات الداخلية والخارجية فقد صمد
العالم الإسلامي طويلاً، وحفظ التاريخ مواقف الثبات في الذود عن ثوابت العقيدة
ومحكمات الشريعة، كتلك الصرخة الجريئة التي أطلقها الشيخ الشرقاوي في وجه
نابليون حين قال له: «لو كنتَ مسلماً حقاً كما تدعي، لطبقت الشريعة الإسلامية
في بلدك فرنسا، بدلاً من تنحية الشريعة هنا، ووضع القوانين الوضعية» [1] .
ثم لم ينصرم قرن من زمان الكيد والمكر حتى أدخل الخديوي إسماعيل
القانون الفرنسي إلى بلاد المسلمين سنة 1883م، وحفظ التاريخ وللأسف فتاوى
ومقالات وكتباً لأمثال محمد عبده، وعبد الرحمن الكواكبي، وعلي عبد الرازق،
كان لها أسوأ الأثر في تقويض سلطان الشريعة في البلاد، وتوهين عقيدة الولاء
والبراء في قلوب العباد، واجتراء المتربصين على ثوابت الملّة ومحكمات الشرع،
وتمهيد الطريق أمام مكايد العلمانية الخبيثة لتمتد بجذورها الفكرية والسياسية
والقانونية إلى أرجاء العالم الإسلامي الكبير، وإذا أرَّخْنا للمحاولات الجادة لعلمنة
الشرق المسلم بأواخر القرن الثامن عشر فنحن الآن أمام حصاد نكد وثمرة خبيثة
لشجرة مبتوتة الصلة بأمة الإسلام تاريخاً وعقيدة وشريعة.
مظاهر الخلل العقدي:
إن إلقاء الأضواء على الحصاد العقدي، والإشارة إلى التطبيقات العلمانية
المعاصرة التي تمس الأمة في عقيدتها وثوابتها، هو ما ينبغي التركيز عليه في هذا
الموضوع، على أنه ينبغي ملاحظة أن الخلل العقدي والانحراف الفكري ينتج
ويثمر ما لا ينحصر من فروع الخلل العملي في أرض الواقع؛ ومن ثم فإننا نركز
على أبرز تلك الأصول العقدية التي طرأ عليها الخلل على النحو الآتي:
أولاً: زلزلة موقف الأمة من ثوابتها العقدية والفكرية:
ما أكثر تلك الرماح التي وجهت إلى نحر العقيدة الإسلامية عبر القرون، من
خلال تلك المذاهب المنحرفة التي شوَّهت صفاء الاعتقاد، وفي أنواع شتى من
الصراعات والمعارك التي خاضها الفكر الإسلامي منذ فجر الإسلام. غير أن
الملاحظة الجديرة بالاهتمام أن معظم هذا الباطل ساد ثم باد، وأن حالة الالتباس في
المفاهيم لم يصاحبها اندراس لمعالم العقيدة الحقة، وأن وجه الحق خرج من هذه
الفتن مستعلياً متلألئ القسمات، لم يهادن ولم يتدنس بالالتقاء في منتصف الطريق
مع غيره، فلما جثمت العلمانية على صدر الأمة، وضربت في أرض الإسلام
بجذورها ونصبت شباكها، وتربت على موائدها أفكار وعقول، ونطقت باسمها
أفواه وأقلام، كان من المنطقي أن تواجه الأمة هذه الفتنة كما واجهت غيرها من
فتن البدع والأهواء.
إلا أن شيئاً لم يكن بالحسبان قد وقع حين تصدت طائفة من أهل الإسلام
والدعوة لهذا الكيد بنَفَسٍ إسلامي، فما لبثت أن كلّت، وطال عليها الطريق فملّت،
واشتدت وطأة الباطل على حرياتها فانحرفت، وذلك حين أرادت أن تجمع بين
الضدين، وهما لا يجتمعان العلمنة والإسلام؛ وطائفة أخرى ساءت طويتها فخابت
وخسرت لمَّا اعتقدت أن الإسلام دين علماني، وعملت كلتا الطائفتين على أسلمة
العلمانية أو علمنة الإسلام، ومن هذين الاتجاهين تشكَّل تيار فكري توفيقي تلفيقي
يوالي الإسلام ولا يتبرأ من العلمانية، يقبل الشعائر، ولا يحرص على الشرائع،
يتزين بالإطار والشكل، ويعبث بالمضمون والمحتوى، يُظهر التمسك بثوابت الملَّة
ومحكمات الأدلة، ثم يعمل على إعادة صياغة موقف المسلم من ذلك كله، يرفع
راية القرآن والسنة، ثم ينزع القداسة عن نصوصهما، ويقيم العقل عياراً عليهما،
وينصب شَرَك التعارض بينهما، ويعقد المناظرة على سبيل المخاصمة بين أهل
الفقه وأهل الحديث، وبين النص ومقاصد التشريع، وبين مُحْكَمات الأدلة
والمصالح المرسلة! !
وتناسى هذا التيار أن التناقض بين معسكري الإسلام والعلمانية حقيقة جذرية،
وأن اللقاء بينهما يكاد يكون ضرباً من الخيال إن لم يكن ضرباً من المحال.
ولأجل ذلك الوهم تأسست المعاهد، وأُصدرت المجلات، وصنعت المنابر، حتى
نما زرع الباطل وعلا واختلط الحابل بالنابل؛ فتشعبت المسالك وضاعت المعالم،
فمفاصل الإسلام قد ذابت، وحدوده قد اشتبهت، وشرائعه قد التبست بـ (نسبية)
مزعومة، أو بـ (تعددية) في الحق والثوابت موهومة، أو (بتجديدية) مشبوهة
في التعامل مع الأصول.
ووقفت الأمة في برزخ من الشك حيرى بين نظرة إلى إسلاميين التقوا
بالعلمانية في حل وسط، تعرف الصحوة لهم نسباً وصهراً، وتربطهم بها وشائج
القربى، ثم تُنكِرُ منهم إسلاماً في ثوب التجديد، كثرت فيه رقع التلفيق، واختلطت
فيه خيوط الحق بألوان التزويق.
ثم تنظر الأمة تارة أخرى إلى علمانيين تدثروا بدثار الإسلام ولا يزال عليهم
شعار غيره، تُنكِر منهم الأمة أكثر مما تعرف، وعلى أي حال ولهذا السبب وغيره
فإن فصاماً نكداً بين الدنيا والآخرة قد تأصل، وخللاً في مفهوم العبادة قد طرأ
وتجذّر، وبعدت الشقة بين العقيدة والسلوك، وشعائر النسك وشرائح الحكم،
وزادت الهوة بين الماضي والحاضر، وتلك علمانية معدّلة أو إسلام ممسوخ، وهذه
الجولة من معركة الإسلام والاستنارة لم تنحسم بعدُ، وهي حرب ما تزال قائمة
مشبوبة.
ثانياً: بروز صور الشرك السياسي والقانوني في الأمة:
«اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس» تلك صيحتهم في ثورتهم الفرنسية،
وكانت علمانيتهم تتويجاً للكفاح ضد طغيان الكنيسة في المجال الفكري، وكانت
ديمقراطيتهم تتويجاً للنضال ضد طغيان الحكام في المجال السياسي، وكانت نظرية
السيادة تتويجاً للصراع ضد نظرية الحكم بالحق الإلهي المقدس!
حقاً لقد كانت العلمانية الأوروبية في قوالبها الفكرية والسياسية والقانونية
تحطيماً لأغلال القلوب والعقول وتحريراً للحريات الخاصة والمقدرات العامة لتلك
الأمم والشعوب؛ حيث قامت حكومة علمانية ديمقراطية تمتلك فيها الأمة سيادة
مطلقة، تدَّعي (العصمة من الخطأ) وتحمي الحقوق والحريات، ومع التسليم
تنزلاً في الحوار بأن هذا أفضل ما كان بحضرتهم؛ إذ لا يملكون عقيدة صحيحة
كما لا يملكون شريعة أصلاً؛ فهذا شأن يخصهم ولا يخصنا، وميراث بغي وتسلط
وجهل يتعلق بهم ولا يشغلنا، إلا أن سدنة العلمانية في بلادنا وصنيعة التغريب
والاستعمار في ديارنا أبوا إلا اتباع كل ناعق من همج العلمانية الغربية؛ فأنظمة
علمانية في الجانب الفكري، وديمقراطية في الجانب السياسي، ثم هي ترد الأمر
إلى الشعب في الجانب القانوني. وعلى الرغم من أن القرآن يهيمن على الكتب
السماوية فإن علمانيي بلادنا يجعلونه أهون من أن يهيمن على الدساتير الأرضية
والأنظمة الوضعية.
ومع قيام الأدلة الشرعية المستفيضة والبراهين العقلية المضيئة بأن لا حاكم
إلا الله ولا سيادة إلا لشرع الله، ولا إيمان إلا بعد الرضا بالله رباً حاكماً ومشرِّعاً،
وبالإسلام ديناً مهيمناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً خاتماً، إلا أن
النعيق العلماني الذي يتردد في الإعلام عبر السنين الماضية قد أثار الغبار حول
قضية مسلَّمة، وشوّش على مسألة من الدين محكمة، فكان من حصاد السنين
التفاف فئام من الأمة حول أحزاب الخراب العلمانية، وما سبب اندفاع بعض العوام
إليها إلا لأنها تلوِّح بلعاعة من الدنيا، أو تَعِدُ بما يملأ جوعة البطون أو يواري
عري الأجساد.
وكان من الثمرات النكدة لهذا الشِرْك السياسي المستعلن بالكفر بمرجعية
الشريعة في الدماء والفروج والأموال ورد ذلك كله إلى غير شرع الله، أن تناول
بعضهم هذه القضية في إطار جزئي مبتور الأطراف، مشوه الحقائق، فنزلت رتبة
هذه القضية الناقضة لأصل الدين إلى رتبة المسائل الجزئية، والانحرافات
العَرَضية، فلم تبلغ مبلغ الثوابت المحكمات، ولا المسائل المهمات، فاعتراها
التشكيك، ودخلتها المساومة، وحكمتها المصالح والأهواء، وترتب بناءً على ذلك
من الوهن والتخاذل في نصرة الشريعة ما قرت به عيون دهاقنة العلمانية، بل إن
المرارة تبلغ ذروتها وللأسف حين تتأرجح مواقف بعض الإسلاميين من هذه القضية
فتنطلي عليهم الحيل وتقذف في قلوبهم الشُّبه، أو تنحرف ببعضهم السبل في
مواجهة هذا الشرك الصراح، ولذلك صور وألوان؛ فمن الدخول تحت مظلة تلك
الأحزاب العلمانية تارة؛ إلى التحالف معها ثانية؛ وهكذا تتغير خريطة الولاء
والبراء بتذبذب المصالح، وفي أثناء ذلك يغيب الهدف الذي سوَّغ لبعضهم الاشتغال
بالسياسة من تطبيق الشريعة وإقامة الحجة، واستفاضة البلاغ، والحيلولة دون
مزيد من المفاسد والانحرافات.
إن مكافحة هذا اللون من الشرك السياسي والقانوني حقٌّ لا ريب فيه، وجدٌّ لا
هزل فيه، وهو معترك بين الإيمان وضده، وحد فاصل بين التوحيد ونقيضه،
وليست محاربة شرك القبور والأضرحة بأوْلى من محاربة شرك الحكم والتشريع.
ثالثاً: نشوء المذاهب العقدية والفكرية الباطلة:
إن فكرة كالقومية العربية أو مبدأ كزمالة الأديان ما كان لأيها أن يولد في بلاد
الإسلام أو أن يلقى قبولاً، لولا أنهما ولدتا في محاضن العلمانية، وفي كنف من
اللادينية التي تنظر للدين على أنه قاصر على جانب شعائر التعبد ومسائل الاعتقاد،
لا يتجاوز حدود القلب وحنايا الصدر، هذا إذا كان للدين مكان واعتبار عند
أرباب العلمانية، ولقد تمهد طريق إسقاط (دولة الإسلام) المتمثلة في الخلافة
الإسلامية بإحياء النعرات القومية، وإذكاء العصبيات العرقية، والأواصر والروابط
الأرضية، ليجتمع الناس حول راية عِمِّيَّة لا تحفل بالدين ولا تقيم لروابطه وزناً،
ويكفي أن يُعلَم أن القومية العربية ولدت في دار المندوب السامي البريطاني، وكان
ذلك على يد نصارى لبنان وبلاد الشام [2] .
قال برنارد لويس: «فإدخال هرطقة القومية العلمانية، أو عبادة الذات
الجماعية كان أرسخ المظالم التي أوقعها الغرب على الشرق الأوسط» [3] .
والقومية العربية تتجاهل قروناً متطاولة من حضارة الإسلام العريقة التي
انصهرت في بوتقتها حضارات عديدة سادت ثم بادت، والقومية حين تنبش الأرض
لتستخرج حضارات ما قبل الإسلام، ليست تطمح كما يقول أحد المستشرقين في أن
يرتد المسلم إلى عقائد ما قبل الإسلام؛ ولكن يكفيهم أن يتذبذب ولاء المسلم بين
الإسلام وتلك الحضارات؛ فالفرعونية لمصر، والفينيقية للبنان، والآشورية
والسومرية والبابلية في العراق، والكنعانية في فلسطين، والبربرية في المغرب،
وأخيراً الطورانية في تركيا.
وهكذا دخل الفكر القومي ليحل محل الرابطة الإسلامية الجامعة، فكان هذا
من أهم أسباب إضعاف دولة الخلافة والتعجيل بسقوطها سنة 1924م، وانعقد
اجتماع المسلمين على أساس من الأعراق والقوميات واللغة والتأريخ، وكان وجود
الفكر العلماني الذي يعطل الدين أن يعمل ويؤثر هو البيئة الصالحة لنمو القوميات
العربية وغير العربية، حيث يتعين على القومي المسلم والقومي اليهودي
والنصراني والملحد أن يجمع بينهم رباط الأرض واللغة والعشيرة؛ إذ الدين لله
والوطن للجميع، وهذا يفضي ولا بد إلى النتيجة التي يرمي إليها الفكر العلماني
على مستوى الأمة، وهو نبذ الدين وأحكام الشرع الحنيف، «فالتكتل حول راية
القومية يفضي بالمجتمع ولا بد إلى رفض حكم القرآن؛ لأن القوميين غير المسلمين
لن يرضوا تحكيم القرآن، فيوجب ذلك لزعماء القومية أن يتخذوا أحكاماً وضعية
تخالف حكم القرآن، حتى يستوي مجتمع القومية في تلك الأحكام» [4] .
ولقد خدعت جموع المسلمين لفترات طويلة بهذه القومية الأكذوبة حتى ظهرت
حقيقتها خواء من كل فائدة، فليت الرابطة القومية العلمانية جمعت القلوب،
ووحدت الصفوف، والْتألمت بها الصدوع، إلا أن الأمة استبدت بها الفرقة،
وسرت فيها روح التقاطع، والواقع خير شاهد، وصدق الله تعالى: [لَوْ أَنفَقْتَ مَا
فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ] (الأنفال: 63) .
رابعاً: وهن عقيدة الولاء والبراء:
العلمانية دين يجمع ويؤلف على أساس من المصلحة؛ فحيثما لاحت المصلحة
فثمة الرابطة العلمانية، مع قطع النظر عن أي معنى آخر. والإسلام دين قوامه
التوحيد، فكلما تحقق التوحيد فثمة الرابطة الإيمانية العالمية التي تذيب فوارق
الأنساب واللغات والألوان، فتجمع رحم التوحيد أبناء الإسلام تحت شعار: [إِنَّمَا
المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] (الحجرات: 10) ، ويقوم بناء الأمة الاجتماعي على أساس من
قوله تعالى: [وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ] (التوبة: 71) .
ويتبلور الموقف من أهل الكتاب في نحو قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
لاَ تَتَّخِذُوا اليَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ
مِنْهُمْ] (المائدة: 51) .
وإذا كانت عقيدة الولاء والبراء من التوحيد بمكان الركن؛ فلقد حرص دعاة
العلمانية على إضعاف هذا المفهوم في حياة الأمة، وكسر الحاجز النفسي بين المسلم
والكافر، وبحث قيم جديدة، ومفاهيم غربية للموالاة بين الأمم، فمن الإنسانية إلى
زمالة الأديان، ومن التقارب الإسلامي النصراني إلى تطبيع علاقات الأمة مع
شراذم أحفاد القردة والخنازير.
ولقد أدى الكيد المنظم على مستوى الأفراد والشعوب والدول إلى تذبذب هذه
العقيدة في القلوب، وتحيّر كثير من المسلمين بين إعلام ينشر الوعي المزيف،
وعالم سلطة يعانق ويهنئ ويشيد بحاخام وقسيس، وسياسة لاهثة وراء شرق ملحد
أو غرب كافر، وفكر مذبذب، لا يدين إلا بالمصلحة ولا يحالف إلا المنفعة حيث
كانت، وأقلام مأجورة من صنائع التغريب ودعاة التقدم وسدنة «الوحدة الوطنية» .
ولا يخفى أن بقاء الإسلام خارج دائرة التأثير في ولاءات الأمة، وخارج
نطاق معركة البراء من أعداء الملّة، من شأنه أن يسلم قياد الأمة إلى أعدائها
يتخبطونها من كل جانب، ويمحون عنها كل هوية، ويجرونها إلى كل هاوية، ولا
تخطئ عين المتأمل عمالة السياسة العلمانية تجاه قضية فلسطين أو البوسنة أو
كوسوفا، كما لا يخفى على مُطَّلع تواطؤها في شأن العراق أخيراً.
وبعد عرض هذه النتائج والتطبيقات العقيدية للعلمانية، تجدر ملاحظة بعض
الأمور:
- إن هذا الكيد المنظم والمكر الدائب لو وُجه إلى أي نِحْلة أو ملة غير
الإسلام لعفت آثارها من قديم، ولكن الحق أصيل والباطل دخيل.
- إن آثار هجمة العلمانية على بلاد المسلمين وإن تنوعت أشكالها وألوانها
فإن تفاعل الأمة معها وقبولها لها ونفوذها في أعماق المجتمع المسلم لا يزال محدوداً،
ولا تزال الديمقراطية وقضاياها وأحزابها حبيسة داخل ما يسمى بالنخبة المفكرة؛
ففي دراسة أجريت عام 1980م جاء الاهتمام بقضية الديمقراطية في المرتبة
السادسة ضمن قائمة تشمل سبعة هموم رئيسية للرأي العام العربي، وبلغة الأرقام لم
تذكر الديمقراطية بوصفها أحد الهموم الرئيسية سوى 5. 4% فقط من عينة شملت
عشرة أقطار عربية، وفي عام 1990م أجريت نفس الدراسة على ثمانية عشر
قطراً عربياً فجاءت المسألة الديمقراطية في المرتبة السادسة ضمن ثماني تحديات
رئيسية، وبلغة الأرقام أيضاً لم يذكر المسألة الديمقراطية سوى 11% فقط من أفراد
العينة، وهي على كل حال نسبة متواضعة للغاية [5] ، «فالديمقراطية تجد
أصداءها في مجال الشعار السياسي والدعوة الفكرية أكثر بكثير مما تعكسه
مجتمعاتنا من استعداد فعلي لاعتناق هذا الشعار والانتماء إليه» [6] .
- وأخيراً: فإن عين المتأمل لتلحظ وعياً متنامياً، ويقظة إسلامية، بين
طوائف الأمة عامة، وتبصراً بكثير من الحقائق التي عَلَتها غاشية من الغبش
والتزييف، وتوجهاً نحو الفكرة الإسلامية والنهج الإسلامي، وهو بلا شك مؤشر
صحة وعلامة خير.
والله غالبٌ على أمره، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.