المسلمون والعالم
مروان كُجُك
على خطى (شاؤول) اليهودي الذي انتحل النصرانية وتسمى باسم (بولس)
ودعاه النصارى (رسولاً) فقاد أبرز تحريف وقع للنصرانية على مدى العصور
على تلك الخطى توجه الركب البابوي لـ (يوحنا السادس) نحو دمشق في الرحلة
التي حملت الرقم (84) لهذا الرجل الذي يعد الأنشط بين بابوات الكنيسة
الكاثوليكية على مدى عمرها الذي يتكوَّن من سلسلة طويلة من البابوات بلغت
(264) رئيساً. ولسنا ندري إن كان البابا يوحنا ذو الأصل البولندي الذي عانت
بلاده ما عانت من لهيب النظام الشيوعي وذاقت من مرارته ما ذاقت لسنا ندري إن
كان يستحضر في ذاكرته خلال هذه الرحلة صورة حاكم روما (فيليب العربي)
الذي ولد في سوريا توَّجَهُ الرومان إمبراطوراً عليهم؛ إلا أنه بلا شك قد فوجئ
بتقديم الرئيس السوري له تمثالاً لذاك العربي الذي حمل تاج روما على رأسه
وهمومها على عاتقه، وما تحمله هذه الهدية من مغزى لا نظن أن حبر روما وعظيم
كنيستها يجهل ما تعنيه وتشير إليه.
وبمناسبة هذه الهدية التي تحتمل أكثر من معنى كتب مراسل صحيفة الحياة
في دمشق: «عُرِفَ (فيليب العربي) الذي ولد في (شهبا) جنوب سورية عام
200م بالقضاء على العبودية في روما، والعفو عن المعتقلين السياسيين، وعودة
المنفيين، والاعتماد على الشعب، ومبدأ سيادة القانون» [1] ، ولسنا ندري إذا ما
كان حبر روما رضي أن يحمل رسالة من منظمة صحافية عالمية إلى الرئيس
(بشار العربي) متذكراً (فيليب العربي) ، وفي طيات الرسالة طلب بإطلاق سراح
الصحفي السوري المعتقل (نزار نيوف) الذي تم إطلاق سراحه فعلاً بعد تسلُّم
الرئيس بشار الأسد الرسالة من البابا، ويا ليت البابا قد مارس التزوير هذه المرة
فأضاف إلى الرسالة بضع كلمات تقضي بـ (العفو عن المعتقلين السياسيين،
وعودة المنفيين، والاعتماد على الشعب، ومبدأ سيادة القانون) ، ولا نظن أن هذه
الكلمات - لو رأى حبر روما إضافتها - تستطيع إعنات الرئيس الأسد؛ فهي لا
تدعو إلى إضافة شيء إلى الميزانية، ولا تكلف خزانة الدولة ما لا تطيق؛ ولا
تفتقر إلى نقد نادر ولا إلى عملة صعبة، ولا تستدعي جهداً عضلياً ولا أطناناً من
الحبر والورَق؛ فهذه الطلبات وإجراءات تنفيذها لا تستلزم أكثر من «جرة قلم!»
من الرئيس السوري لا «جرة ذهب» .
وقبل زيارة البابا لسورية كان في زيارة لليونان لقي فيها ما لقيه من الازدراء
والمقاطعة من الأرثوذكس الذين يرون أن الكنيسة الكاثوليكية قد أجرمت بحقهم
واضطهدت آباءهم وأجدادهم؛ وعلى الرغم مما قدمه لهم من اعتذار إلا أنهم لم
يجدوا في اعتذاره ما ينسيهم شيئاً من تاريخ حافل بشتى صنوف القهر الذي مارسته
الكنيسة الكاثوليكية؛ إلا أن ما لقيه في سورية من الحفاوة الرسمية الحارة،
والتفاعل الشعبي العام الفاتر لعله مما هدأ من روع البابا، وأعاد الطمأنينة إلى
نفسه، فاستمرت زيارته إلى سورية أربعة أيام حتى غدت من أطول رحلات حبر
روما بل لعلها أطولها.
فما الذي جاء بالبابا إلى سورية؟ وما الرسالة التي يحملها؟
إن كثيراً من الناس تصور أن رحلة البابا تهدف في الدرجة الأولى إلى تهدئة
الأوضاع في المنطقة، وخاصة في هذه المرحلة التي يتعرض فيها الفلسطينيون
لأعتى صنوف الهمجية اليهودية؛ وإذا كان كثير من العامة من أهل الأديان لا
يدركون ما تحمله الأديان في أصلها من معاني العدل والإنصاف والرحمة فإن رجال
كل دين وأحباره وعلماءه هم الأوْلى بفهم مرامي الدين تلك، والأقدر على الصياغة
العملية لها؛ فهل سبق للبابا قبل وصوله إلى دمشق أن ندد بالعدوان اليهودي على
شعب مهيض الجناح يُذَبَّحُ أبناؤه وأطفاله وشبابه ونساؤه وشيوخه، وتستباح حرماته
وفي مهد المسيح عليه السلام، وفي ظلال نخلة مريم؟ غير أنه ولسان حاله ومقاله
شاهد عليه لم يكن يعنيه من ذلك شيء إلا أن يرسل عبارات إنشائية فاترة لا تؤثِّم
المعتدي ولا تطلب رفع الحيف عن المظلوم؛ على الرغم من أن بابا الألفية الثالثة
والقرنين الأخيرين وهو يحيا عصر تسجيل التاريخ لحظة بلحظة بالصوت
والصورة يعلم أن اليهود محتلون معتدون وضعوا أنفسهم في مقام المظلوم الذي لا
يتحرك إلا لرد العدوان عن نفسه؛ وليت شعري متى كان المحتل الغاصب صاحب
حق؟ وهل نحن الذين دعوناهم من أقطار الدنيا لنقتلهم هنا، أم أنهم هم الذين
تداعوا من آفاق الدنيا وقفارها، وتجمعوا من كل حدب وصوب على شعب أعزل،
فقتلوا منه من قتلوا، وهجَّروا من هجَّروا، وأبقوا من أبقوا لخدمة مصالحهم
والشغل في مزارعهم ومصانعهم، وإعمار مغتصباتهم، وكنس شوارع اليهود
وأزقتهم؟
لقد بشرتنا الحضارة الغربية - والبابا أحد أهم رموزها - في آخر صرعاتها
بالنظام العالمي الجديد المتمثل بعولمة الأقوياء لـ «تنعيم المسحوقين» وذر
رمادهم في حقولها المترامية الأطراف لتكون سماداً يهِيجُ به زرعُهم ويدرّ
ضرعُهم، وتتضاعف أموالهم، وتفتح عليهم أبواب كل شيء - بشرتنا أنها
ستنصف المظلوم، وتفك العاني، وتعين على نوائب الدهر؛ ولكنها ويا للأسف
استطاعت ترجمة دعواها إلى ظلم أرخى سدوله على العالم الثالث وجزءاً من العالم
الثاني وطرفاً من العالم الأول؛ وهذا ما رأينا التعبير عنه جلياً في المظاهرات
الصاخبة الدامية التي قامت في عقر دار أهل العولمة؛ لأنها تمس بشواظها فئات
كثيرة منهم؛ هذه العولمة التي تريد أن تحكم العالم من منطلق «القرية الصغيرة»
لم يعلن باباها ولا كنيسته ما يحذر من غلواء القائمين عليها، ولم يتوجه إليهم
بالنصح للرفق ببني الإنسان؛ فكيف يرتجى مثلُه بعد ذلك للقضية الفلسطينية، أو
لمثلها في العالم وخاصة إذا كان أهلها مسلمين؟
إن زيارة البابا لسورية لم تكن للمساهمة في إحقاق الحق وإبطال الباطل؛
فليس الحل الذي يسمونه: «سلمياً» مما تحتجن دمشق أوراقه؛ بل هو في
مواطن أخرى إن أخطأها أحد فلن يخطئها البابا الذي يعلم وكاءها وعفاصها، ولكن
البابا ككثير غيره من النصارى فرحون لما يجري في فلسطين؛ فما يجري في
نظرهم ليس إلا مقدمة لعودة المسيح واعتناق اليهود للنصرانية؛ فكيف يكون لهؤلاء
وأمثالهم كلمة جادة في رفع الحيف والظلم والتقتيل عن المسلمين في فلسطين؟ !
ومما يؤكد أن البابا لا يعنيه هذا الأمر من قريب ولا من بعيد ما أكدته صحيفة الحياة
حين قالت: (وناشد الشيخ أحمد كفتارو مفتي سورية ناشد البابا اتخاذ مواقف أكثر
من الصلاة والأدعية إزاء المجازر الصهيونية، والعمل مع الكنيسة الكاثوليكية
والحكومات المسيحية للضغط على إسرائيل لإيقاف عدوانها؛ لكن البابا ركز على
الحوار بين الأديان) [2] .
ولا غرابة في هذا المبتغى من هذه الزيارة؛ فالشيخ أحمد كفتارو سلخ شطراً
من حياته وأوقفه في سبيل دعوة «الحوار بين الأديان» مستجيباً وداعياً، وكم
حملته الطائرات شرقاً وغرباً إلى تلك المؤتمرات الزائفة لكنه لم يَعُدْ من ذلك كله
حتى بخفي حُنَيْن، أو بـ «سمبريرة الحمداني» [3] .
وكما أن ما ينادي به اليهود من السلام ويعنون به الاستسلام؛ فإن ما ينادي
به النصارى من الحوار بين الأديان هو الدعوة إلى التسليم بانحرافهم واعتباره حقاً
وصراطاً مستقيماً يوازي الإسلام إن لم يزد عليه، أما الحوار الحقيقي الذي دعا إليه
الإسلام قبل أن يتفطَّن إليه أحد فهو حوار آخر صريح واضح المعالم والمعاني
ومعلن الأهداف؛ فقد كان ذلك والدعوة الإسلامية ما تزال في مهدها ولم تكد تجاوز
الحجاز أو بعضاً من جزيرة العرب؛ فقال تعالى مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم:
[قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ
شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا
مُسْلِمُونَ] (آل عمران: 64) ، فالحوار على أساس تحقيق العبودية لله؛ فلا
يُشرَك معه صليب ولا صنم ولا طاغوت [4] .
هذه مادة الحوار وهي واضحة جلية ولا تحتمل مساومة ولا تخضع إلى
مراوغة، وهي سهلة التبليغ والإعلان وخاصة أننا في عصر يلتقي فيه الناس
بالصوت والصورة مهما نأت بهم المسافات أو حظرت لقياهم الأنظمة؛ أما ما يهم
أمر الدنيا مما لا يتعارض وأمور الدين فالحوار فيه ينحو كل منحى؛ كما لو اجتمع
مسلمون مع يهود أو نصارى لدرء أخطار سيل أو جراد أو وباء أو مخدرات؛ فهذا
وما جرى مجراه مما ليس فيه بأس.
وإذا ما جاء البابا ليشعر نصارى العرب أنه إنما تحمل ما تحمل من مشاق
السفر ووعثائه، وقطع ما قطع من أجواز الفضاء، وتعرض لما تعرض له من
المطبات الهوائية وخضِّ البدن؛ فإنما هو لأجل عيونهم، ولرفع الحيف والضيم
والظلم عنهم؛ فإن واقع ما يحياه نصارى بلادنا من المعاملة العادلة يبطل هذا
الهدف؛ لأنه يخالف الواقع، فلم تشهد بلادنا اضطراباً طائفياً ذا بال إلا ما كان من
حوادث عام 1860م في جبل لبنان حيث امتدت إلى دمشق، وكان مُشعل فتيلها
الإرساليات النصرانية الغربية التي كانت تعمل يومئذ على تقويض دعائم الخلافة
الإسلامية العثمانية برغبة صليبية جامحة، وبتحريض خسيس من اليهود الذين رأوا
في دولة الخلافة والسلطان عبد الحميد الثاني صخرة شماء عاتية تقف بصلابة في
وجه أطماعهم في فلسطين المعلن منها والمستتر؛ فعملوا على تفتيتها وإذهاب
ريحها بالتعاون مع أهل الصليب؛ فكانت جائزتهم وعد بلفور المشؤوم وتمكينهم من
اغتصاب الأرض التي بارك الله حولها. ولم يعرف المشرق العربي مثل تلك
الجرائم التي لا نقرها ولا نؤيدها؛ لأنها قتل في غير ساحة الحرب حتى جاءت
الحرب (اللبنانية اللبنانية) ، فأعادت إلى الذاكرة الإنسانية صورة محاكم التفتيش؛
ففي الحرب اللبنانية هذه أقدمت الأحزاب النصرانية على ما عرف بـ «القتل على
الهوية» ، فما من مسلم عبر الطريق بين بيروت والشمال اللبناني ماراً بمنطقة
مسيحية وخاصة (جونية) إلا قتل فور الاطلاع على هويته والتأكد من أنه مسلم
سواء كان لبنانياً أو سورياً أو فلسطينياً أو من أي تابعية أخرى.
إن ما يروِّج له الغرب اليوم من الدعوة إلى حرية الأديان المترافقة مع دعوى
الاضطهاد الديني في بعض البلدان التي لم ينج منها حتى المملكة العربية السعودية
التي تخلو من أية ديانة أخرى سوى الإسلام إن ذلك الترويج هو أحد آليات السياحة
البابوية في أقطار الأرض لا ليدعو إلى راحتها وتآلفها ككل الدعوات الغربية التي
تطلق بين حين وآخر فلا تأتي للشعوب إلا بالتعب والضنك والجوع، وما الحروب
الأهلية التي دارت وما تزال تدور في أنحاء شتى من العالم إلا ثمرة من ثمرات
النظام العالمي الجديد بصلفه وكبريائه ووقاحته. وقد كان الغرب قديماً في أنظمته
التي استعمر بها العالم كأنما ينطلق من المثل: (رمتني بدائها وانسلَّت) فكان
التآمر سرياً؛ أما اليوم فلسان حال العولمة يقال فيه:
(رمتني بدائها ومكثت) فلا حياء ولا خوف ولا إنسانية؛ فوحشية الأخلاق غلبت،
وخلا الجو لأشقياء الكاوبوي ليعيثوا في الأرض فساداً ويتيهوا غطرسة وكبراً.
إن الإسلام لا يقسر أحداً على اعتناقه؛ وما سريان أحكامه العامة في سلطانه
على غير المسلمين بقسرٍ لهم على اعتناق الإسلام، وهذا أمر واضح لكل من أراد
الوصول إلى الحق؛ وعلى سبيل المثال فإن من يقيم في بلدٍ مَّا عليه الالتزام بأنظمة
ذلك البلد من غير أن يعني ذلك منحه جنسية ذلك البلد أو إرغامه على اتخاذها
تابعية له؛ كالصيني وغيره الذي يقيم في بريطانيا فإنه يظل صينياً على الرغم من
خضوعه طيلة مقامه بين أظهر الإنكليز للأنظمة الإنكليزية وليس لأحد أن يقحمه
على التعبد في الكنيسة البروتستانتية؛ فهل في ذلك ما يدعو إلى التململ
والاستغراب؟ كما أن على الإنكليزي الزائر للصين أو المقيم فيها أيضاً الالتزام
بالأحكام العامة للصين من غير أن يعني ذلك انتقاصاً من حقوق الإنكليزي الزائر أو
المقيم أو إرغامه على الصلاة في معبد بوذي.
وقد تركت الدولة الإسلامية لغير المسلمين على أرضها التحاكم إلى ما في
كتبهم ومللهم من أحكام في الأحوال الشخصية، فلا تتدخل في شؤونهم الدينية ولا
قضاياهم التعبدية؛ فلهم دينهم ولنا ديننا، وقد أثبت المسلمون عملياً قضية التعايش
الإسلامي الكتابي في شتى أنحاء الوطن الإسلامي إلا ما نُصَّ عليه؛ فقد أورد مسلم
في صحيحه عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول: «لأُخرجنَّ اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع
إلا مسلماً» [5] .
وفي هذا السبيل يتحدث شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن واقع اعتقادي
تنظيمي فيقول: «أمر النبي صلى الله عليه وسلم في مرض موته أن تُخرج اليهود
والنصارى من جزيرة العرب، وهي الحجاز، فأخرجهم عمر بن الخطاب رضي
الله عنه من المدينة، وخيبر، وينبع، واليمامة، ومخاليف هذه البلاد، ولم
يخرجهم من الشام؛ بل لما فتح الشام أقر اليهود والنصارى بالأردن، وفلسطين،
وغيرها، كما أقرهم بدمشق وغيرها» [6] .
وبموجب هذا الأمر التشريعي التنظيمي تعايش المسلمون وأهل الكتاب على
أرض واحدة في عقر دار الإسلام؛ فلم تكن إقامة الكتابيين بين أظهر المسلمين حقاً
لليهود والنصارى اكتسبوه في حرب، ولا نتيجة اجتماعات بين أطراف متنازعة
تمخضت عنها معاهدات واتفاقات، وإنما كانت إجراءاً تشريعياً تنظيمياً أمر به الذي
لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم.
ومما جاء له البابا هو تدعيمٌ للادعاءات التي كثرت في هذه الأيام من أن
النصارى في ديار المسلمين يتعرضون للاضطهاد؛ إلاَّ أن شواهد الواقع تدحض أي
ادعاء؛ ففي مصر على سبيل المثال عاينتُ الواقع فيها من خلال إقامتي الطويلة
على أرضها فوجدت أن النصارى هناك ليسوا أقل حصولاً على حقوقهم من
نصارى سورية في سورية؛ بل إنهم يحصلون على حقوق المواطنة كاملة؛ إضافة
إلى بعض المسائل التي قد يفوقون بها حقوق المسلمين؛ ومع ذلك تجد في الغرب
وفي أمريكا خاصة رهطاً من الأقباط يزيفون الواقع ويجدون لهم آذاناً صاغية في
محافل معروفة بدأبها على ترويج مثل هذه الشائعات بين حين وآخر، وكانت إحدى
هذه الحملات ما سبق زيارة الرئيس المصري الأخيرة إلى واشنطن لتهنئة بوش
الابن بملء منصب بوش الأب رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية، ولم تكن هذه
الحملة الجديدة إلا ضرباً من الخزعبلات التي لا يتورع قائلوها ومن على شاكلتهم
عما أخبر عنه المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله: «إن مما أدرك الناس من
كلام النبوة الأولى: إذا لم تستحي فاصنع ما شئت!» [7] .
إن زيارة البابا لمسجد دمشق الكبير لتذكرنا بزيارة عمر بن الخطاب رضي
الله عنه للقدس فاتحاً مع الفارق الذي لا يدع مجالاً للمقارنة بين الرجلين؛ فما بينهما
من اختلاف في المعتقد وسمات الرجولة والجرأة على النفس يلغي المقارنة؛ ولكن
الشيء بالشيء يذكر، وهو ذلك التألق الحسي الباهر، والتطلع الاستشرافي العظيم
الذي نظر به مُحدَّثٌ كريم هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوم دعاه النصارى
في القدس إلى الصلاة في كنيستهم فأبى ذلك وصلى خارجها خشية أن يأتي
المسلمون من بعده فيقولون: هنا صلى عمر، فيدَّعوا أحقيتهم بالمكان، فيأخذوه من
أصحابه؛ فهل ستجعل صلاة البابا في المسجد الأموي لغلاة النصارى حائطاً جديداً
كحائط البراق الذي يسميه اليهود جدار المبكى؛ وخصوصاً أن المسجد كان معبداً
رومانياً ثم كنيسة نصرانية؟
وإذا كانت دعوى اضطهاد النصارى في بلاد المسلمين يُعْمَلُ لها على قدم
وساق من قِبَلِ أوساط صليبية ويهودية، فلا نستغرب أن يمتح من بئرها من يشاء
ممن استهوتهم الدعوى؛ فها هو الكاتب اللبناني النصراني (فيكتور سحاب) يضع
كتاباً بعنوان: (مَنْ لنصارى لبنان؟) فلف ودار طويلاً واستقر به النوى عند
الرئيس الراحل حافظ الأسد أنه من ينعقد عليه الأمل في حفظ نصارى الشرق،
وغاب عن (فيكتور) التاريخ وحقائقه المتواترة في أن الرئيس الأسد وُلِد ونصارى
المشرق العربي ينعمون في طمأنينة منحهم إياها الإسلام لا الحكام؛ فهم أهل ذمتنا
والذين نُهينا عن أذيتهم أو استغلالهم أو إرغامهم على التخلي عن دينهم أو الجلاء
عن أرضهم، وقد جهل كثير من الناس معنى الذمة وأداروها شرقاً وغرباً ونأوا بها
عن معانيها الطيبة الخيرة؛ فهي تعني المسلم قبل أن تعني النصراني أو اليهودي؛
فمعناها وقوع المذمة على المسلم إن هو أخل بعقد الذمة فظلم أهلها أو جار عليهم؛
وهكذا تتبدى لكل ذي عينين وراءهما بصيرة نيرة وعقل منصف أن المذمة تلحق
بالمسلم لا بالكتابي الذي عقد له الإسلام عقداً، وشرع لأجله شرعاً لم يأت نتيجة
لنضال أو تجنباً لاحتجاج أو تصفيق جماهير الكتابيين للحاكم المسلم؛ فنحن نعرف
حقوقهم ونقرُّها بتعريف الله ورسوله لنا هذا الحق وإقرارنا ورضانا به، وجعله
أمانة وذمة في أعناقنا يقوم بها أعلانا وأدنانا؛ ولكن ماذا يفعل المرء وقد غدا
التلاعب بالألفاظ وإخراجها عن معانيها التي وضعها لها العرب وهم أفصح الأمم
حتى غدا العالم تحت وطأة مسميات حُقِنت بمعانٍ كاذبة، كما أن معاني سيئة
ألبسوها أردية تزيف حقيقتها وساروا بها في الأمم. ألا فليستمع المسلم والكتابي معاً
إلى هذا الوعيد الشديد الذي يتوجه به النبي صلى الله عليه وسلم إلى المسلم لا إلى
الذمي المعاهد فيقول:
«ألا مَنْ ظلمَ مُعاهداً، أو انتقصه، أو كلَّفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئاً بغير
طِيبِ نَفْسٍ فأنا حجيجه يوم القيامة» [8] .
إن الذي حفظ النصارى هو مفهوم الذمة، ولولاه لما كان لهم الآن وجود ولا
حضور في بلاد العرب خاصة وبلاد المسلمين عامة؛ فروح الإسلام وتعاليمه تأبى
على أهله إلا أن يكونوا رحماء بالناس لا يغمطون أحداً حقاً؛ فهم عدلاء في قوتهم
وضعفهم، كرماء في غناهم وفقرهم، يحسنون جوار من جاورهم، ولا يعرفون
الخدعة إلا في الحرب، وأما في السلام فهم أهله وذووه وحفَّاظه.
أما دخول بابا الكاثوليك رحاب مسجد بني أمية الكبير فيوضح الموقف منه ما
ذكره ابن كثير من شأن وفد نصارى نجران عندما جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه
وسلم في المدينة المنورة أنهم دخلوا المسجد في تجمُّل وثياب حسان، وقد حانت
صلاة العصر فقاموا يصلون إلى المشرق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«دعوهم» [9] .
وبعد زيارة بابا الكاثوليك الفاتيكاني لدمشق لم يطب التمهُّل للبابا شنودة الثالث
بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية للكنيسة القبطية الأرثوذكسية، فشد
رحاله نحو سورية يوم 28/5/2001م لتهنئة الرئيس السوري بانتخابه رئيساً
للجمهورية والتي جاءت بعد عام تقريباً من المناسبة؛ ولعل الذي هيَّج هذا البابا
على زيارة سورية ليست التهنئة التي غدت (بائتة) وإنما هي زيارة بابا روما لها
وما لقيه من الحفاوة والاهتمام؛ حيث أقام قداساً في القنيطرة على أنقاض كنيسة
للأرثوذكس التي لقي من أتباعها في اليونان في طريقه إلى سورية ما لم يسره. ولا
يُستبعد أن يعمد شنودة بدوره إلى مثل هذا القداس في الكنيسة ذاتها لمحو آثار حذاء
البابا التي وطئت تراب كنيسة شرقية! ولإعادة الاعتبار لأرثوذكس سورية الذين
يشكلون أغلبية بين الطوائف المسيحية فيها، وهم يرون أن من أهداف رحلات بابا
روما في أنحاء الأرض كثلكة النصارى وهرطقتهم!
ومما كشفت عنه زيارة البابا من المخبوء مدى ما كُبِّلت به البلاد من جراء
اتفاقية فك الاشتباك المعقودة بين سورية ودولة العصابات اليهودية كما كان يدعوها
الخطاب الإعلامي في سورية قبل رفع شعار: سلام الشجعان إذ بيَّنت أن القنيطرة
المحررة لا يشمل تحريرها سوى الأرض؛ أما ما يعلو الأرض من فضاء فخاضع
لليهود؛ وهو ما يشبه مقترحات اليهود الأخيرة بشأن السيادة على المسجد الأقصى
من أن الحل لهذه المسألة يتجلى في سيطرة الفلسطينيين على ما فوق الأرض؛
بينما تكون السيطرة لليهود على ما تحت أرض المسجد! وهذا ما أشارت إليه
صحيفة الحياة حيث قالت: (وكانت زيارة البابا للقنيطرة مناسبة لتحليق ثلاث
طائرات سورية فوق الجولان للمرة الأولى منذ عام 1974م، عندما أنجز وزير
الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر اتفاقاً لفك الاشتباك بين سورية وإسرائيل
تضمَّن إجراءات أمنية وانتشاراً محدوداً للجيش باستِثناء تحليق الطائرات العسكرية.
وأمكن تحقيق هذه السابقة عبر «قوات الأمم المتحدة لفك الاشتباك» (بوندوف) .
وقال نائب رئيس القوات الجنرال البولوني (كواليستشك) لـ «الحياة» : إن
السلطات السورية أجرت اتصالات معنا قبل أيام، وقمنا بدورنا مع الإسرائيليين
بترتيب تحليق ثلاث طائرات مروحية خاصة بالإجراءات الأمنية والتغطية
التلفزيونية والإسعاف الطبي. وزاد: تلقينا تأكيداً بالنسبة إلى ذلك من جانب
الإسرائيليين يوم أول من أمس) [10] .
وغادر البابا سورية ليبدأ الرحلة التي تحمل الرقم (85) التي حملته إلى
مالطا ليسمع الأذان هناك؛ متابعاً رحلاته حتى يُتمَّ رأسُه الرحلة إلى قدميه، فيبصر
عندئذ مصيره ومآله [مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى]
(طه: 55) . وعندها يدرك أن ما التمسه في يد اليهود كان صفراً وسراباً.
ويمكن للمراقب أن يلحظ أن رحلات هذا البابا على مستوى العالم ليست سوى
رحلات تنصيرية تنطلق من هدف واحد ذي شقين:
1 - كثلكة النصارى.
2 - تنصير الشعوب.
إلا أن رحلات البابا تبدو غير خالصة لوجه الكنيسة، وقد فضح ذلك إلغاؤه
زيارةَ العراق وتخليه عنها؛ رغم إدراك الجميع أن صدام حسين كان قادراً على
توفير الحماية له بطريقة يفتقر لمثلها في حاضرة الفاتيكان نفسها؛ إلا أن إشارات
ذات اعتبار كشفت أن عملاق روما عضو فعال في اللعبة الاستعمارية تذكرنا بكتاب
قرأه كثير من المثقفين عنوانه: (التبشير والاستعمار) للدكتورين: عمر فرُّوخ،
ومصطفى الخالدي.
وفي النهاية لا يسعنا إلاَّ أن نقف مع الكتاب العزيز نقول بما قال ونؤمن به
كله: [لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اليَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم
مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ
يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا
عَرَفُوا مِنَ الحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ] (المائدة: 82-83) .
[وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ] (يوسف: 21) .