وقفات
أحمد بن عبد الرحمن الصويان
عرفنا التبعية الثقافية والفكرية من خلال أطروحات النخب العلمانية المثقفة،
ورأينا كيف يحاصرهم الفكر الغربي أو الشرقي بمدارسه المختلفة من كل اتجاه
فيؤثر على مبادئهم وقدراتهم النقدية، وعلى موازينهم الفكرية، حتى أصبح ذلك
الفكر عندهم هو المرجعية المعصومة التي يستسلمون لها، ويتحاكمون إليها.
ولئن كان من طلائعهم الفكرية من دعا منذ عقود إلى: «أن نسير سيرة
الأوروبيين، ونتبع طريقتهم في خيرها وشرها، حلوها ومرها» [1] ؛ فإن كثيراً
منهم في زمن العولمة! مضى إلى أكثر من ذلك، وراح يصول على أمنها وفكرها
صولة المحاربين، ويتشدق بكل صلف وكبرياء مفتخراً بانتسابه إلى المدرسة
الغربية، وما الاحتفال الحاشد بمناسبة مرور مائتي عام على دخول نابليون إلى
مصر إلا دليلاً قاطعاً على مقدار السقوط المريع لتلك النخب تحت أعتاب الغرب،
ووقوعهم في مأزق التبعية العمياء التي لا تتجاوز ترجمة الفكر الغربي، والانكفاء
المطلق على أدواته المعرفية وأصوله الفكرية..! ! [2] .
ويشرح المفكر الفرنسي الشهير (جان بول سارتر) بوضوح كيفية تربية
التبعية الفكرية بقوله: «كنا نُحضر رؤساء القبائل وأولاد الأشراف والأثرياء
والسادة من إفريقيا وآسيا، ونطوف بهم بضعة أيام في أمستردام ولندن والنرويج
وبلجيكا وباريس؛ فتتغير ملابسهم، ويلتقطون بعض أنماط العلاقات الاجتماعية
الجديدة، ويتعلمون منا طريقة جديدة في الرواح
والغدو، ويتعلمون لغاتنا، وأساليب رقصنا، وركوب عرباتنا، وكنا ندبِّر لبعضهم
أحياناً زيجات أوروبية، ثم نلقنهم أسلوب الحياة الغربية. كنا نضع في أعماق
قلوبهم الرغبة في أوروبا. ثم نرسلهم إلى بلادهم.. وأي بلاد؟ ! بلاد كانت أبوابها
مغلقة دائماً في وجوهنا، ولم نكن نجد منفذاً إليها، كنا بالنسبة إليهم رجساً ونجساً،
ولكن منذ أن أرسلنا (المفكرين!) الذين صنعناهم إلى بلادهم، كنا نصيح من
أمستردام أو برلين أو باريس: الإخاء البشري! فيرتد رَجْعُ أصواتنا من أقاصي
إفريقيا أو الشرق الأوسط أو شمالي إفريقيا.. كنا نقول: ليحل المذهب الإنساني أو
دين الإنسانية محل الأديان المختلفة، وكانوا يرددون أصواتنا هذه من أفواههم،
وحين نصمت يصمتون، إلا أننا كنا واثقين من أنَّ هؤلاء المفكرين (! !) لا
يملكون كلمة واحدة يقولونها غير ما وضعنا في أفواههم ... !» [3] .
غير أنَّ اللافت للنظر أن بعض صور هذه التبعية الفكرية وقع في شراكها
بعض من ينتسب إلى الفكر الإسلامي الحديث، وجرفه تيار الهيمنة الغربية ليذوب
في بوتقته الثقافية. ولئن كانت الصدمة الحضارية التي تعرَّض لها الشيخ الأزهري
رفاعة الطهطاوي (1801 1873م) لمَّا سافر إلى باريس إماماً للبعثة المصرية قد
زلزلت قناعاته السابقة وأسقطته في مأزق التبعية للفكر الفرنسي، فراح يُمجِّد
الحضارة الغربية ويدعو إلى السير في ركابها؛ فإنَّ الصدمة الحضارية التي تعرَّض
لها بعض المفكرين الإسلاميين المعاصرين بعد أكثر من مائة عام على صدمة
الطهطاوي قد كشفت عن أنماط فكرية متعددة حاولت أن تفسر نصوص الكتاب
والسنة تفسيراً عصرياً تقدُّمياً (!) يجرِّدها من مقاصدها الشرعية، كما سعت إلى
تفريغ عقول الأمة من فكرها وعقيدتها الصافية التي لم تكدرها شوائب الضلالة،
وحشوها بفكر مستورد يمسخ الهوية، ويقطعها من جذورها الأصيلة، ويدعو إلى
إعادة صياغة القيم والمبادئ الإسلامية لتتلاءم مع واقع العولمة والانفتاح الحضاري
المعاصر.
وبرزت في الآونة الأخيرة أقلام واتجاهات من المتغربين الإسلاميين في شتى
التخصصات الاجتماعية والسياسية والفكرية والفقهية.. ونحوها طوَّفوا كثيراً في
مدارس الفكر الغربي وتأثروا برشاشها، ثم انتحلوا كثيراً من ثقافتها، وانطلقوا
ينشرون أطروحاتهم في فهم الإسلام و (عقدة الغرب) تسيطر على عقولهم باسم
التجديد والإبداع حيناً، وباسم السماحة والتيسير أحياناً أخرى [4] .
نعم! ربما كان كثير من هؤلاء المفكرين لا يريد إلا نصرة الإسلام والذبَّ
عنه، وآلمهم هجمة التيارات العلمانية الشرسة على الأمة، فأرادوا صياغة فكر
جديد وفقه حديث يسد الثغرات زعموا! على هؤلاء المفسدين؛ ولهذا مثلاً كان
المعيار الفقهي الذي استندوا إليه هو (تحسين صورة الإسلام) ! فانهزموا أمام ذلك
الواقع المنحرف، وتأثروا بالضغوط الإعلامية والفكرية، وراحوا يطوّعون
النصوص لتتجارى مع ذلك الواقع، وبدؤوا ينقِّبون في أقوال الفقهاء المتقدمين
والمتأخرين عمَّا يسوِّغ آراءهم..!
إذن لم يكن المنطلق في تحسين صورة الإسلام هو البحث في النصوص
الشرعية المحكمة وتعظيمها والوقوف عند حدودها، بل كان المنطلق هو البحث عن
مخارج فقهية وإن كانت متكلفة لتتوافق مع الرأي الفكري السائد.
صحيح أنَّ التيسير على الأمة، ورفع الحرج عن المكلفين مما تواترت به
النصوص الشرعية، وما خُيِّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار
أيسرهما ما لم يكن إثماً، ولكن التيسير إنما يكون بالنصِّ لا بالهوى، ورفع الحرج
يكون بالدليل لا بمجاراة الناس.
وها هنا تتضح المعضلة؛ فأهم ما يميز هذا التيار هو سقوطه في بحر
الانهزامية، وآفة التقليد الأعمى، واستسلامه لضغط التيار السائد، وجعله حَكَماً
على النصّ..!
والعجيب أنك عندما تتحفظ على هذه الانهزامية تُتَّهم بالجمود والرتابة
والانغلاق، حتى أصبح المعروف منكراً، والمنكر معروفاً..! وهنا مكمن
الخطر.