مجله البيان (صفحة 3955)

البيان الأدبي

الأدونيسية.. وإرهاصات النهاية

محمد علي البدوي

تظل الحداثة العربية التي بشَّر بها أدونيس وأوقف حياته عليها؛ تظل من

جملة الأسباب التي عمَّقت ثقافة الهزيمة والتبعية، بالرغم من أنها غلَّفت نفسها

بأغلفة برَّاقة من التمرد والتحرر، ولكن على حساب قيم الدين والفضيلة، بينما

ظلت في حقيقتها تابعة ذليلة للمشهد الثقافي الغربي.

وبدءاً من عصابة «شعر» التي انطلقت من بيروت عام 1376هـ 1957م

«التي جعلت قضيتها الكبرى استيراد الآراء النظرية الغربية المتناقضة، وتخدير

إحساس الأمة» [1] ، ودفعها للثورة على مسلَّمات الدين، ومروراً برسالة (الثابت

والمتحول) التي تقدم بها أدونيس النُّصَيْري إلى جامعة القديس يوسف، ونال دركة

الدكتوراه مكافأة له على إسفافه وإلحاده حيث قعَّد فيها لمذهبه وشرحه، وبيَّن منهجه

في حياته العامة والخاصة « [2] ، إضافة إلى ما تقيأه من كتب ورسائل تفوح منها

رائحة الزندقة والجرأة على الله تعالى، وانتهاء بـ (المرايا المحدبة) التي دقت

الإسفين الأخير في نعش الحداثة.

والناظر بعين البصيرة إلى واقع الحداثة اليوم يرى أنها تعيش حالة احتضار،

وذلك لجملة من الحقائق الآتية:

أولاً: الحداثة بتمردها على الدين تظل خروجاً على السنن الكونية التي قضت

بأن ما ينفع الناس فقط هو الذي يمكث في الأرض ويُكتب له الخلود، ولنا في

الماركسية اللينينية خير شاهد؛ فبعد سبعين سنة من حكم الحديد والنار، إذا بها

تصير أثراً بعد عين ... وما الحداثة عنها ببعيدة.

ثانياً:» الحداثة لا تمثل التطور الطبيعي للشعر العربي الأصيل، وإنما هي

حالة هروبية ناتجة عن إحساس بالإخفاق وشعور بالانهزام النفسي تولد عن هزيمة

1967م، وانهيار حلم المشروع القومي، وهو ما أدى إلى انصراف قطاع كبير من

الشعراء إليها، هروباً من الواقع المرير ... « [3] ، والآن بعد أن اتضحت الصورة،

وظهرت بعد الهزيمة الأُمِّ هزائم متعددة ومتوالية فقدت الحداثة مكانتها ورغب

عنها أهلها.

ثالثاً:» الحداثة العربية مستوردة عن النموذج الحداثي الفرنسي الذي نقله

أدونيس حرفياً إلى العالم العربي؛ فهي نبتة غربية وشاذة على أرض عربية، وليته

كان نبتاً جديراً مفيداً، وإنما نفاية من نفايات الغرب المستهلكة تجاوزها الزمن

وتلقفها تلاميذ الحداثة الذين اعتادوا العيش على نفايات الغرب ومخلفاته « [4] ،

وقد» سُئل المستشرق الفرنسي المعاصر «شارل بيلا» في أثناء

زيارة له في أحد البلدان العربية: «ماذا تقرأ: الأدب العربي القديم أم الحديث؟

فأجاب: بل أقرأ الأدب العربي القديم وحده. فسأله محاوره: لماذا لا تقرأ الأدب

الحديث؟ فأجاب: لأنه أدب أوروبي مكتوب بحروف عربية» [5] .

والعجيب أن الغرب نفسه بدأ يتنكر لهذا التحديث المزعوم؛ «فقد طالب

الشاعر الفرنسي الحداثي (رامبو) بإلغاء الشعر ودمجه في النثر» [6] ، بل لقد

انقلب أدونيس على نفسه وأعلن موت الحداثة العربية وأكد «على ضرورة الإفادة

من الإمكانيات الموسيقية والإيقاعية الكثيرة للعروض الخليلية، وقد قرأ نماذج

موقعة ملتزمة عروضياً من شعره الجديد» [7] ، كما أعلن ذلك أيضاً الدكتور

عبد الله الغذامي أحد أبرز رموز الحداثة العربية، وأحد أكبر المنظرين لها في

الخليج العربي؛ حيث قرر فشلها وتراجعها كمشروع ثقافي في الوطن العربي على

وجه الخصوص « [8] .

رابعاً: عصابة (شعر) التي احتضنت أدونيس، ووليدها المسخ» مجلة

شعر «لم يعد يخفى على الجميع أمرها؛ فالعصابة تكونت بإمكانيات مادية غير

طبيعية» على يد شاعر عربي الأصل أمريكي المنشأ والثقافة واللغة والأدب

والهوية عرف بانتمائه لتجمعات أمريكية أدبية «مشبوهة» وحمل من خلال مسخه

هذا وعصابته تلك على كل خصائص الأدب العربي والثقافة العربية، وأخذ يعلن

الثورة على قيم المجتمع، وأديانه والإسلام تحديداً « [9] . وقد فضح زيفها للعالم

العربي أخيراً الشاعر السوري محمد الماغوط الذي كان أحد أفرادها وعضواً في

هيئة تحريرها» [10] .

خامساً: شكلت الصحف والمجلات بملاحقها الثقافية والأدبية، ودور النشر

الكبرى، شكلت في الستينيات والسبعينيات وإلى الآن اللوبي الحداثي الذي أخذ

يصنع العقلية العربية، ويعيد ترسيم الحدود الثقافية، ويمارس سياسة الإقطاع مع

التيارات الأخرى وخصوصاً الإسلامية منها ولكن اليوم فإن الإعلام الإسلامي بدأ

ينضج وإن لم يكتمل ويمكنه أن يقف على قدميه ويشكل الند، بما يكتنزه من

الأسماء الشعرية والأدبية التي تبوأت مواقع مرموقة على خريطة الذائفة العربية..

والبقاء للأنفع.

سادساً: ظلت الحداثة أدب النخبة كما يدعون أو أدب الطبقة البرجوازية التي

تعيش في قصور عاجية وترفض أن تنزل إلى مستوى العامة من الناس فتلامس

همومهم وتبحث قضاياهم، فاكتنفها الغموض وشاعت فيها الطلاسم والأحاجي

والألغاز، وإذا سألت أحدهم: لماذا لا تقول ما نفهم؟ ردد لك مقولة سيدهم وكاهنهم

الأعظم: «ليس من الضروري أن يفهم الناس الشعر» [11] ، ولذلك رفضه

الناس؛ لأنه لا يتكلم بلسانهم ولا يصدر عن معاناتهم.

سابعاً: أخذ أدونيس يشهد انخفاضاً حاداً في شعبيته وهبوطاً مروِّعاً في

حضوره، بل لقد بدأ العد التنازلي لذلك فعلاً؛ فقد قلبوا له ظهر المجن، وتنكروا

لأستاذيته وريادته؛ ويشهد لذلك «ما حدث مؤخراً في القاهرة والمتمثل في ذلك

الاستقبال الفاتر الذي لقيه من قِبَل عدد من تلامذته، والذي فسره عدد من المتابعين

بأنها شهادة رسمية لشعر الحداثة وسادنها» [12] .

ثامناً: صدور كتاب القرن «المرايا المحدَّبة» للدكتور عبد العزيز حمودة

«فتح على الحداثيين العرب أبواباً من الجحيم كانت مغلقة، وأطلق أصواتاً كان

يخرسها الخوف من هيمنة الحداثة على المؤسسات والهيئات الثقافية بطول العالم

العربي وعرضه» [13] . وقد يفتح هذا الكتاب الباب على مصراعيه لغيره من

الكتَّاب في تناول الحداثة ونقدها وبيان خطرها، ولعل كتاب الدكتور كمال نشأت:

(شعر الحداثة في مصر: الابتداءات، الانحرافات، الأزمة) يدور في الفلك

نفسه، ويشكل صفعة أخرى في وجه أرباب الحداثة.

وأخيراً: فإن الأيام القليلة القادمة قد تشهد تعرية للواقع الحداثي مما يؤذن

بنهاية قريبة ومخزية لها ... وهذا ما ننتظره!

طور بواسطة نورين ميديا © 2015