البيان الأدبي
قراءات في الشعر الإسلاميّ العالميّ مع الشاعر الإسلاميّ التركي
(رجب غريب)
محمد شلال الحناحنة [*]
ما زال المتوجّسون المرجِفون يرون في الأدب الإسلاميّ تقوقعاً نحو الذات،
وخروجاً على غيّهم وظلام كفرهم وإلحادهم، هذا الغيّ والضلال الذي يسمّونه
«تنويراً» إمعاناً في تلبيس إبليس. وليس هذا الشطط غريباً؛ لأنَّ هذا الأدب هو
أدب الثوابت العقدية الإسلامية أمام زيغ الملحدين وتيه العلمانيّين، ومع تلك
الثوابت نرى ذلك التلاحم الجليّ بين القيم الفاضلة في أدبنا الإسلامي وبين جماليّاته
الفنيّة! ومن هنا تأتي هذه القراءة النقدية لتفتح نوافذ مضيئة على أدب الشعوب
الإسلاميّة، فنقف مع الشاعر الإسلاميّ التركيّ (رجب غريب) في قصيدته (أمّاه)
التي نقلها إلى العربيّة الكاتب الإسلامي (شمس الدين درمشّ) ، ونشرها في
مجلة الأدب الإسلاميّ في عددها الخامس عشر، والقصيدة في فضائها العام لا
تخرج عن لوعات وجدانيّة عائليّة ممزوجة بالغربة والحنين؛ وآهات حزينة
مفجوعة بغياب الأهل:
(أين أبي يا أمّاه؟ ...
أعمامي وأخوالي، في أيّ مكان؟ ...
أين كنتم يا إخوتي. ...
بينما كان أولادي يحترقون؟ !)
ومن المظاهر الأسلوبية التي تميّز هذه القصيدة أنها تترع بالمواجع
الاستفهامية المكانية، فتفضي خصوصية المكان إلى مزيد من الأسى لدى شاعرنا
الإسلامي رجب غريب، فنجده يشدو بحرقة وألم:
(قلبي يبكي دمًا ...
والظلام يغطّي ضياء الشفق ...
أين يدايَ ...
وأين رجلايَ ...
أين أبي يا أمّاه ...
أين بيتنا؟ في أيّ مكان؟)
لذا تتصاعد القصيدة إلى ذروتها من خلال نزف استفهامي زاد على اثنين
وعشرين موضعاً، فيعبّر الشاعر عن حزنه الدفين وألمه العظيم لمعاناة أهله وأحبابه
في البوسنة الجريحة، ويمكن ملاحظة عمق المشاعر، ودفق الجراح في الاستعارة
المكنيّة في مطلع القصيدة:
(قلبي يبكي دمًا) ...
كما يأتي لفظ (أمّاه) المنتهي بالهاء المسبوقة بحرف المدّ لتجسيد هذا النداء
الصافي الحزين الخاصّ؛ حيث ينمو ليكون رمزاً عامّاً (للبوسنة) بكلّ جبالها
وسهولها وأنهارها، رمزاً للبوسنة بشهدائها وعطائها ومآذنها، وجراحاتها الإسلامية
المفجعة:
(تعلّمتُ منك البكاء ...
والكلام ...
وعرفتُ الله الذي هو أقرب من حبل الوريد ...
كنتُ أتذكر الرسول صلى الله عليه وسلم ...
كُلّ أذان ...
والآن أين المآذن ...
ماذا دهاني يا أمّاه؟)
تتنفّس القصيدة لدى شاعرنا التركي رجب غريب عبر أُفُقها الإسلاميّ الذي
يرى أن الإسلام هو الحل مهما تعاظمت الطعنات، وكبرت الجراح، ويزاوج
الشاعر بين الجمل الاسمية والفعلية، ويلحُّ في آخر كلّ مقطع من مقاطع قصيدته
على الاستفهام التعجبي المؤلم:
(ماذا دهاني يا أمّاه؟)
كما يبثّ مواجده الإيمانية، وأشواقه الروحيّة في ثنايا إيقاعه الشعري فنقرأ:
(وعرفتُ الله الذي هو أقرب من حبل الوريد) ...
وتزهرُ القصيدة بحقلها الكونيّ الضارب في أعماق المأساة متكئة على تنامي
الحدث وتفجّره من نبض الأرض وآلام الإنسان:
(أين الدّروب والأنهار؟ ...
لو حمّلتُ السلامَ نسائمَ الأسحار ...
فهل يعودُ أبي يا أمّاه؟ ...
وهل تبرأ آلامي؟ !) ...
كما تنهض الجمل الشعرية في كثير من الأحيان على الصور المتقابلة
المتضادة لاستجلاء الهمّ الإسلاميّ:
(تتنزّل الأمطار بالرحمات ...
كأنَّ وِكاء السماء قد انحلّ ...
قامت القيامة ...
يظهر القمر وسط الظلمات) ...
إذن تُطلّ علينا القصيدة عبر مفارقات مرّة، إنَّ هذا الشعر يدرأ بعقيدة التوحيد
وبالمثل العليا زيغ الباطل والضلال في نفوس الممترين الذين باؤوا بغضب من الله:
(أقبلْ يا فجري بالنّور ...
حلّقي أيّتها الطيور في سمائي)
وينحو الشاعر عبر هذه الومضات منحى مجازيّاً للتعبير عن أشجان
المسلمين أينما وجدوا سواء في البوسنة أو إفريقيا، أو أذربيجان والشيشان:
(يحترقُ شغاف قلبي ...
ويبكي في أوج ربيعه ...
وا أسفاه يا قلبي: فمشاعرك تتفجّر! ...
أسرابُ الحمام لا تطير في الظلمات ...
ترتفع ألسنة اللهب من البوسنة ...
من إفريقيا وأذربيجان والشيشان ...
أين أنت يا أخي؟ ...
ألا تسمع نحيب التراب؟ !)
هكذا يصلنا شاعرنا الإسلاميّ التركيّ رجب غريب بالذاكرة الإسلاميّة،
يرصد أوجاعنا ويسمعنا نحيب التراب ليحشدنا لمزيد من الفعل الإسلاميّ القابض
على طيور الفجر بإذن الله! !