مجله البيان (صفحة 3949)

دراسات في الشريعة والعقيدة

العمليات الاستشهادية دراسة شرعية

هاني بن عبد الله بن جبير

الجهاد في سبيل الله ذروة سنام الإسلام وقُبّته، ومنازل أهله أعلى المنازل في

الجنّة، وكما لهم الرفعة في الدنيا فهم الأعلون في الدنيا والآخرة [1] .

وقد أخبر الله تعالى بأن: [وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ

نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً] (النساء: 74) . وأخبر الله أنه: [اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ

أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ] (التوبة: 111) . «فليتأمل العاقد مع ربّه هذا

التبايع ما أعظم خطره وأجلّه؛ فإنَّ الله عز وجل هو المشتري، والثمن جنّات

النعيم، والفوز برضاه، والتمتّع برؤيته

هناك» [2] .

ولقد نعى الله تعالى على من ترك الجهاد فقال: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ

إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ] (التوبة: 38) .

عن عبد الرحمن بن جبر رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم

قال: «من اغبرّت قدماه في سبيل الله حَرّمه الله على النار» [3] .

قال ابن حجر: «وفيه إشارة إلى عظيم قدر التصرّف في سبيل الله، فإذا

كان مجرد مَسّ الغبار القدم يحرم عليها النار؛ فكيف بمن سعى وبذل جهده واستنفد

وسعه» [4] .

عن سهل بن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رباط يوم في سبيل

الله خير من الدنيا وما عليها، والروحة يروحها العبد في سبيل الله أو الغدوة خيرٌ

من الدنيا وما عليها» [5] .

ولا عجب أن كانت هذه منزلة الجهاد؛ فالتغلب على الشهوات والاستعلاء

على المحبوبات من الأزواج والأولاد والأموال، بَلْهَ النفسَ، ليس بالأمر السهل،

وبالجهاد يعرف المؤمن الذي يستعلي على حبّه للحياة.

إنّ أمتنا المسلمة مع طول ما عاشت وعايشت لم تشهد ظروفاً كهذه التي تمر

بها في هذا العصر المتأخر، ولم تُبتلَ قطّ بما ابتليت به الآن؛ فهي مع أنها لم تكن

قط تبلغ ما بلغ عدد المنتسبين إليها الآن، فإنها لم تعانِ ضعفاً ووهناً كهذا.

وهذا مصداق خبر النبي صلى الله عليه وسلم: «يوشك أن تداعى عليكم

الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، قيل: ومن قلّة نحن يا رسول الله؟ قال: لا؛

بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم

المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن. قالوا: وما الوهن؟ قال: حب الدنيا

وكراهية الموت» [6] .

ومع تخاذل الأمة عن النصرة الواجبة فإنا نشاهد من هانت عليه نفسه فباعها

لله مسترخصاً ما يبذل.. يحمله على ذلك شوقه لربه ويقينه بموعوده، فهناك «يلتذ

العبد أعظم اللذة بما تحمَّل من الألم من أجله وفي مرضاته، وتكون لذته وسروره

وابتهاجه بقدر ما تحمّل من الألم في الله ولله» [7] ، ولا تعجب من فعله فإنّه

«ربما غيّبه الشوق إلى لقائه عن شهود الألم والإحساس به. فالشوق يحمل المشتاق

على الجد في السير إلى محبوبه، ويقرّب عليه الطريق، ويطوي له البعيد ويهوّن

عليه الآلام والمشاق» [8] .

ومن ضمن الأعمال الفردية التي نشهدها في هذا الزمن ما يفعله بعض

الفدائيين من عمليات تودي بحياتهم، قاصدين إلحاق الضرر بأعداء الله، وحيث

ظهر أثر هذه العمليات في إرهاب أعداء الله، وزرع الخوف في قلوبهم، فقد كَثُرت،

وتعددت طرقها وأساليبها، إلا أنها جميعاً تشترك في كونها تودي بحياة منفذها

يقيناً.

ولمّا كان في هذه العمليات ملحظان: أولهما: ما فيها من إزهاق الروح وقتل

النفس، والثاني: ما فيها من نكاية في العدو وإضرار به مما يجعلها راجحة

المصلحة وقريبة من حال المجاهد الذي تزهق روحه شهيداً؛ فقد تنوعت آراء من

كتب في هذا الموضوع، ووقفت فيه على آراء متقابلة اجتمعت على عدم تحديد

المراد بهذه العمليات؛ فإن من أشاد بها وجعلها نوعاً من الجهاد استدلّ على

مشروعيتها بمثل فعل البراء بن مالك رضي الله عنه لمّا ألقاه أصحابه إلى داخل

حديقة الموت ليفتح بابها لهم معرِّضاً نفسه للموت، مع أنَّ واقع فعله ليس من جنس

العمليات الاستشهادية المعاصرة؛ إذ هي قتل للنفس، والبراء لم يقتل نفسه، بل

ولم يُقْتل في تلك المعركة! [9] .

وإنَّ الناظر في هذه المسألة لا ينبغي له أن يحمله إعجابه ببذل الفدائي نفسه

وإقدامه على الشهادة، وما لفعله من أثرٍ عن تأمل حقيقة الحكم مستفيداً من واقع

الحال.

وبين يديك أخي القارئ أسطر قلائل حاولت فيها إيضاح هذه المسألة، مع

علمي بقصوري عن ذلك، ولكن لعلها أن تكون خطوة تفتح الباب لأبحاث جادّة

تجلّي الموضوع، وما توفيقي إلا بالله.

أولاً: تعريف العمليات الاستشهادية:

العمليات: جمع عملية.

والعملية لفظ مشتق من العمل، وهو: عام في كل فعل يُفْعل [10] .

ويطلق العمل على المهنة [11] .

أمّا العملية فهي كلمة محدثة تُطلق على جملة أعمال تُحدث أثراً خاصّاً، يقال:

عمليّة جراحيّة أو حربية [12] .

والشهادة هي القتل في سبيل الله [13] .

واستشهد أي تعرّض أن يقتل في سبيل الله [14] .

ولم أرَ من عرّف العمليات الاستشهادية. ويمكن أن يُقال في تعريفها بناء على

ما تقدّم: إنها أعمال يقوم بها المجاهد تعرّضه للقتل.

ويطلق البعض عليها عمليات انتحارية من جهة ما فيها من قتل النفس.

فالانتحار قتل النفس. يقال: انتحر الرجل إذا قتل نفسه بوسيلة ما [15] .

وفي تسميتها بذلك نظر من جهتين:

الأولى: أن المقدم على العملية لا يقصد قتل نفسه، ولو أراد الانتحار لكان له

طرق أخرى.

والثانية: أن المقدم عليها إنما حمله فيما يظهر يقينه بأجر المجاهد وثواب

الشهيد، ولولا ذلك لما أقدم عليها.

ثانياً: مقدمات لا بد منها:

قبل الشروع في تفصيل أحوال هذه العمليات وبيان الحكم المنزَّل على كل

حالة منها بناءً على توصيفها التوصيف المناسب فإنه يحسن أن نُقَدّم بمقدمات تمهد

لها وتجلّي حقائق ينبغي أن يتأملها من أراد إطلاق الحكم عليها.

1 - المبادئ العامة لكيفية القتال:

لا بد في كل عمل جهادي من أن يكون ملتزماً بالمبادئ التي قررها الشرع في

كيفية القتال وأسلوب الحرب وطريقة المقاومة.

فإن «أول عامل يعتمد عليه جيش الإسلام في استنزال النّصر من عند الله

عز وجل: التقوى، وعفة النفس، والوفاء بالعهد، والبعد عن الفاحشة،

والمروءة، واحتساب الأجر عند الله تعالى، وتجنب البغي والانتقام عند الظفر،

واتقاء البطر، ومراعاة الناس في الحرب» [16] .

ومن هذه المبادئ: عدم قتل المدنيين. وهم من لم ينصب نفسه للقتال، وكذا

النساء والصبيان الذين لا يقاتلون ولا يعينون على القتال بنفس أو رأي [17] ؛ فقد

نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان [18] .

وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «اتقوا الله في الفلاحين الذين لا

ينصبون لكم الحرب» [19] .

قال الإمام أحمد: «من أطبق بابه على نفسه ولم يُقاتل؛ لم يُقْتل» [20] .

أما من قاتل من المدنيين أو النساء والصبيان، أو أعان على القتال ولو

بالرأي فإنه يُقتل؛ إذ قد يُشير برأي هو أنكى للمسلمين من القتال.

فقد قتل دريد بن الصمة في حرب هوازن وقد جاوز المائة فلم ينكر رسول الله

صلى الله عليه وسلم قتله لِمَا كان من رأيه [21] .

وقد قتل النبي صلى الله عليه وسلم يوم بني قريظة امرأة ألقت رحىً على

خلاد بن سُويد [22] .

لكن إذا لم يتوصل إلى قتل المقاتلة إلا بقتل النساء والأطفال ونحوهم، كأن

يتترسوا بهم في الحرب، أو تحصنوا جميعاً في مكان واحد، أو هُجم عليهم ليلاً فلم

يمكن التمييز بينهم؛ فيجوز قتلهم، فقد نصب النبي صلى الله عليه وسلم المنجنيق

على أهل الطائف ورماهم به [23] .

قال في المغني: «وإن تترسوا في الحرب بنسائهم وصبيانهم جاز رميهم،

ويقصد المقاتلة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رماهم بالمنجنيق ومعهم النساء

والصبيان؛ ولأن كف المسلمين عنهم يُفْضي إلى تعطيل الجهاد؛ لأنهم متى علموا

ذلك تترسوا بهم عند خوفهم، فينقطع الجهاد، وسواء كانت الحرب ملتحمة أو غير

ملتحمة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يتحيّن بالرمى حال التحام

الحرب» [24] .

عن الصعب بن جَثّامة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه

وسلم يُسأل عن الديار من ديار المشركين يُبَيّتون فيصيبون من نسائهم وذراريهم

فقال: «هم منهم» [25] ، ومن هذه المبادئ جواز الإتلاف والتخريب والتدمير مما

تقتضيه الأعمال الحربية، وكان في إتلافه إضعاف للكفار أو إغاظتهم أو النكاية

فيهم [26] .

عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: حرَّق

نخل بني النضير وقطع [27] .

قال في تتمة أضواء البيان [28] عند تفسير قوله تعالى: [مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ

أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الفَاسِقِينَ] (الحشر: 5) :

«والذي يظهر أن الإذن المذكور في الآية هو إذن شرعي، وهو ما يؤخذ من

عموم الإذن في قوله تعالى: [أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ

لَقَدِيرٌ] (الحج: 39) ؛ لأن الإذن بالقتال إذن بكل ما يتطلبه بناء على قاعدة

الأمر بالشيء أمر به وبما لا يتم إلا به، والحصار نوع من القتال، ولعلَّ من

مصلحة الحصار قطع بعض النخيل لتمام الرؤية أو لإحكام الحصار أو لإذلال

وإرهاب العدو في حصاره، وإشعاره بعجزه عن حماية أمواله وممتلكاته، وقد يكون

فيه إثارة له ليندفع في حميّة للدفاع عن ممتلكاته وأمواله فينكشف عن حصونه

ويسهل القضاء عليه؛ إلى غير ذلك من الأغراض الحربية التي أشار الله تعالى إليها

في قوله: [وَلِيُخْزِيَ الفَاسِقِينَ] (الحشر: 5) أي بعجزهم وإذلالهم وحسرتهم

وهم يرون نخيلهم يقطع ويحرق فلا يملكون له دفعاً.

وعلى كل فالذي أذن بالقتال وهو سفك الدماء وإزهاق الأنفس وما يترتب عليه

من سبي وغنائم لا يمنع مثل قطع النخيل إن لزم الأمر، وبهذا يمكن أن يقال: إذا

حاصر المسلمون عدواً ورأوا أن من مصلحتهم أو من مذلة العدو إتلاف منشآته

وأمواله فلا مانع من ذلك؛ وغاية ما فيه أنه إتلاف بعض المال للتغلب على العدو

وأخذ جميع ماله» ، ولهذا أمثلة في السيرة، منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم

أمر بقطع أعناب ثقيف لما حاصر الطائف [29] .

ومنها أن علياً رضي الله عنه عقر جمل حامل راية الكفار في هوازن [30] .

ومن هذه المبادئ: جواز تبييت الكفار ومباغتتهم وقتلهم وهم غارّون [31] .

عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أغار على بني

المصطلق وهم غارّون آمنون، فقتل المقاتلة وسبى الذُّريّة [32] .

2 - إيثار العطب على السلامة الممكنة أحياناً:

فقد ورد الشرع في مسائل عدة بتفضيل الصبر على القتل والموت على

السلامة الممكنة الجائزة. ومن هذه المسائل:

أ - أن المكره على الكفر يجوز له إظهار كلمة الكفر لقوله تعالى: [مَن كَفَرَ

بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً

فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ] (النحل: 106)

ومع ذلك فإن الصبر أفضل وأعظم أجراً، قال ابن بَطّال: «أجمعوا على أن

من أكره على الكفر واختار القتل أنه أعظم أجراً عند الله ممن اختار

الرخصة» [33] .

وقال ابن كثير: «والأفضل والأوْلى أن يثبت المسلم على دينه ولو أفضى

إلى قتله» [34] .

عن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه

وسلم: «قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها، فيجاء

بالمنشار فيوضع على رأسه فيُجْعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد من دون لحمه

وعظمه؛ فما يصدّه ذلك عن دينه» [35] .

قال القرطبي: «فوصفه صلى الله عليه وسلم هذا عن الأمم السابقة على

وجه المدح لهم، والصبر على المكروه في ذات الله وأنهم لم يكفروا في الظاهر

ويبطنوا الإيمان ليدفعوا العذاب عن أنفسهم، وهذه حجة من آثر الضرب والهوان

على الرخصة» [36] .

ب - أن المسلمين متى كانوا أقل من نصف الكفار جاز لهم الانصراف؛

لقوله تعالى: [فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ] (الأنفال: 66) .

قال ابن عباس رضي الله عنه: «من فَرَّ من اثنين فقد فَرَّ، ومن فَرَّ من

ثلاثة فما فَرّ» [37] . ومع ذلك فإنه يُستحب لهم الثبات ولو غلب على ظنهم الهلاك

لينالوا درجة الشهداء المقبلين على القتال محتسبين فيكونون أفضل من المولِّين [38] ،

وفي قصة غزوة مؤتة شاهد لهذا؛ فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى الشام

بعثاً استعمل عليهم زيد بن حارثة وكانوا ثلاثة آلاف، ومضوا حتى إذا نزلوا

(معان) من أرض الشام بلغ الناس أن هرقل قد نزل (مآب) من أرض البلقاء

في مائة ألف من الروم انضمَّ إليهم من لخم وجذام وبلي مائة ألف منهم، فلما بلغ

المسلمون ذلك أقاموا ليلتين يفكرون في أمرهم، وقالوا: نكتب لرسول الله صلى الله

عليه وسلم فنخبره بعدد عدونا؛ فإمّا أن يمدنا بالرجال، وإمّا أن يأمرنا بأمره

فنمضي له، فشجّع الناس عبد الله بن رواحة وقال: إن التي تكرهون لَلَّتي خرجتم

تطلبون: الشهادة. فمضى الناس وقاتلوا عدوهم [39] .

ج - ما ذكره ابن القيم في حديثه عن الإيثار: «وعلى هذا فإذا اشتد العطش

بجماعة وعاينوا التلف ومع بعضهم ماء فآثر على نفسه واستسلم للموت كان ذلك

جائزاً ولم يُقَلْ أنه قاتلٌ لنفسه، ولا أنه فعل محرماً، بل هذا غاية الجود والسخاء

كما قال تعالى: [وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ] (الحشر: 9) .

وقد جرى هذا بعينه لجماعة من الصحابة في فتوح الشام وعُدَّ ذلك من مناقبهم

وفضائلهم» [40] .

د - ما ذكره بعض الفقهاء: أنه يجوز لأمير الجيش إذا حض على الجهاد أن

يُعَرّض للقتل والاستشهاد من يرغب فيها ممن يؤثِّر في المعركة بتحريض المسلمين

على القتال حميّة له [41] .

3 - نظرة في المصالح والمفاسد:

إنَّ مبنى الشريعة الإسلامية على جلب المصالح ودرء المفاسد [42] ؛ فالشريعة

جاءت لما فيه صلاح البشر في العاجل والآجل، ومن تأمل ما فيها من أحكام

شرعية متضمنة لمصالح الخلق تيقن أنها شريعة رب حكيم عليم بمصالح خلقه.

والمصالح قد تكون عامّة أو خاصة، وكذا المفاسد. والشرع جاء لتحصيل المصالح

وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها.

فإن تعارضت المصالح والمفاسد: فإن أمكن تحصيل المصالح ودرء المفاسد

فهو المطلوب، وإن لم يمكن تحصيل المصلحة إلا بارتكاب شيء من المفاسد فينظر

في هذه الحالة إلى الراجح والغالب منهما؛ فإن كان الغالب المصلحة لم ينظر إلى

المفسدة اللاحقة، وإن كان الغالب المفسدة لم ينظر إلى المصلحة [43] .

ويمكن أن يعرف ذلك بالنظر في قيمة المصلحة وشمولها؛ فالمصالح العامة

مقدمة على المصلحة الخاصة، والمصلحة المتعلقة بحفظ الدين مقدمة على غيرها،

وكذلك بالنسبة للمفاسد.

وكل ذلك بعد معرفة حقيقة الواقع، وواقع الحال.

قال الشاطبي لما تناول مسألة ما إذا كان قيام الشخص بالمصلحة العامة متلفاً

لنفسه: «وإن فرض في هذا النوع إسقاط الحظوظ فقد يترجح جانب المصلحة

العامة، ويدل علىه أمران:

أحدهما: قاعدة الإيثار المتقدم ذكرها.

والثاني: ما جاء في خصوص الإيثار في قصة أبي طلحة في تتريسه على

رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه وقوله: نحري دون نحرك، ووقايته له حتى

شُلَّتْ يده، ولم ينكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهو إيثار راجع إلى

تحمّل أعظم المشقات عن الغير، ووجه عموم المصلحة أنه وقى بنفسه من يعم

بقاؤه مصالح الدين وأهله» [44] .

ومن تطبيقات ذلك ما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية؛ إذ قال: «وقد روى

مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم قصة أصحاب الأخدود، وفيها أنَّ

الغلام أمر بقتل نفسه لأجل مصلحة ظهور الدين؛ ولهذا جَوَّز الأئمة الأربعة أن

ينغمس المسلم في صَفّ الكفار وإن غلب على ظنّه أنهم يقتلونه إذا كان في ذلك

مصلحة للمسلمين. فإذا كان الرجل يفعل ما يعتقد أنه يُقْتل به لأجل مصلحة الجهاد

مع أن قتل نفسه أعظم من قتله لغيره كان ما يفضي إلى قتل غيره لأجل مصلحة

الدين التي لا تحصل إلا بذلك ودفع ضرر العدو المفسد للدين والدنيا أوْلى» [45] .

ثالثاً: حكم العمليات الاستشهادية:

قبل الحكم على هذه العمليات لا بد أولاً من معرفة صورتها؛ إذ الحكم على

الشيء مبني على تصوّره الصحيح.

والحقيقة أن هذه العمليات تتخذ صوراً وطرقاً مختلفة متفاوتة، وقد يظهر في

المستقبل صور أخرى منها. وإن كنت أرجو أن من تأمل ما سيأتي فلن يفوته منها

شيء تصريحاً أو دلالة وتضمناً.

وهذه الأعمال منها ما يتعرّض فيها للقتل بيد أعدائه، ومنها ما يَقْتُل فيها

نفسه، وعلى أساس هذا التقسيم سنسير.

الأول: أعمال استشهادية تعرّضه للقتل بيد أعدائه.

وهذه الأعمال تتحذ صوراً كثيرة منها:

1 - أن ينغمس وحده في الكفار حال القتال فيقاتل وحده العدد الكثير.

عن أسلم أبي عمران قال: غزونا من المدينة نريد القسطنطينية وعلى الجماعة

عبد الرحمن بن خالد ابن الوليد. والروم ملصقو ظهورهم بحائط المدينة، فحمل

رجلٌ على العدو، فقال الناس: مَهْ مَهْ! لا إله إلا الله يُلْقي بيده إلى التهلكة! فقال

أبو أيوب: إنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار لمّا نصر الله نبيه صلى الله

عليه وسلم وأظهر الإسلام. قلنا هَلُمّ نقيم في أموالنا ونُصْلحها. فأنزل الله عز وجل:

[وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ] (البقرة: 195) فالإلقاء

بأيدينا إلى التهلكة أن نقيم في أموالنا نصلحها وندع الجهاد. قال أبو عمران: فلم

يزل أبو أيوب يجاهد في سبيل الله حتى دُفن بالقسطنطينية [46] .

عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثة

يحبهم الله ويضحك إليهم ويتبشر بهم: الذي إذا انكشفت فئة قاتل وراءها بنفسه لله

تعالى؛ فإمّا أن يُقتل وإمّا أن ينصره الله ويكفيه، فيقول: انظروا إلى عبدي هذا

كيف صبر لي بنفسه! ... » [47] .

ومن ذلك فعل البراء بن مالك رضي الله عنه في حرب المرتدين من أهل

اليمامة؛ إذ دخلوا الحديقة وأغلقوها عليهم، فقال البراء: يا معشر المسلمين!

ألقوني عليهم في الحديقة. فاحتملوه فوق الحُجُف [48] ورفعوها بالرّماح حتى ألقوه

عليهم من فوق سورها؛ فلم يزل يقاتلهم دون بابها حتى فتحه ودخل المسلمون

عليهم [49] .

وأمثلة هذه الصورة كثيرة ذكر جملة منها في (مشارع الأشواق) ،

ومختصره (فكاهة الأذواق) في باب مستقل [50] .

2 - أن يتعرّض للشهادة ويسعى لها: عن أبي ذرّ رضي الله عنه أن النبي

صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثة يحبهم الله ... الرجل يلقى العدو في فئة فينصب

لهم نحره حتى يُقْتل أو يفتح لأصحابه ... الحديث» [51] .

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يبايع أصحابه في الحرب على ألا يفرّوا،

وربما بايعهم على الموت [52] .

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

«من خير معاش الناس لهم: رجل ممسك بعنان فرسه في سبيل الله يطير على

متنه كلّما سمع هيعة أو فزعة طار عليه يبتغي القتل أو الموت مظانّه» [53] .

3 - أن يُبَادر العدو، أو يحمي إخوانه بنفسه، فيؤْثِر إخوانه بالحياة:

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يُؤْثِرُ إخوانه على نفسه، فيتبادر إلى لقاء العدّو

دونهم.

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: فزع الناس ذات ليلة فركب رسول

الله صلى الله عليه وسلم فرساً لأبي طلحة، ثم خرج يركض وحده، فركب الناس

يركضون خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستقبلهم رسول الله صلى الله

عليه وسلم قد سبق الناس إلى الصوت وهو يقول: لن تُراعوا، لن تراعوا؛ وفي

عنقه السيف [54] .

وقد بات عليٌّ على فراش النبي صلى الله عليه وسلم ليلة هجرته إلى المدينة؛

إذ تربّص به الذين كفروا، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم حتى لحق بالغار،

وبات المشركون يحرسون عليّاً؛ فلما أصبحوا ثاروا إليه، فلمّا رأوا عليّاً رَدّ الله

مكرهم [55] .

وقد ذكر الحافظ ابن حجر أن عُكاشة الغنمي وقى النبي صلى الله عليه وسلم

يوم أحد يوم اجتمع المشركون وتمالؤوا عليه لقتله حتى ذهب أنفه وشفتاه وحاجباه

وأذناه [56] .

فهذه الصورة وغيرها مما يعرّض المجاهد للقتل بيد أعدائه جائزة بثلاثة

شروط:

1 - أن يكون في عمله مصلحة للمسلمين.

2 - ألا يكون في قتله لو قتل مفسدة عامة، من كسر قلوب المسلمين أو

إضعافهم أو تقوية قلوب الكفار.

3 - أن يتصف بالإخلاص في عمله؛ فبدونه لا قيمة للعمل ولا ثواب ولا

بركة ولا تأثير.

قال شيخ الإسلام: «إنه إذا فعل ما أمره الله به فأفضى ذلك إلى قتل نفسه

فهذا محسن في ذلك كالذي يحمل على الصف وحده حملاً فيه منفعة للمسلمين وقد

اعتقد أنّه يقتل، فهذا حَسَنٌ، وفي مثله أنزل الله قوله: [وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي

نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ] (البقرة: 207) . ومثلما كان

بعض الصحابة ينغمس في العدو» [57] .

الثاني: أعمالٌ استشهادية تعرّضه للقتل بيده.

وهذه الأعمال يمكن أن تُقَسّم أقساماً لكل قسم منها حكم مستقل، وإليك

التفصيل:

1 - أن يضرب الكفّارَ فيصيبه سلاحه دون قصد منه:

وهذا شهيد إذا لم يقصد قتل نفسه، وهذا كما لو أراد إطلاق قذيفة فانفجرت

فيه أو أصابته منها شظيّة مثلاً، ويدل لذلك:

ما روى أبو داود عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال:

أغرنا على حيّ من جهينة، فطلب رجل من المسلمين رجلاً منهم فضربه فأخطأه

فأصاب نفسه بالسيف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخوكم يا معشر

المسلمين! فوجدوه قد مات فقالوا: يا رسول الله! أشهيدٌ هو؟ قال: نعم، وأنا له

شهيد [58] .

وعامر بن الأكوع بارز مَرْحَباً يوم خيبر فذهب يُسفِل له فرجع سيفه على

نفسه فكانت فيها نفسه [59]

قال في المغني [60] : «فإن كان الشهيد عاد عليه سلاحه فقتله فهو كالمقتول

بأيدي العدو» .

2 - أن يضرب العدو، ويخاف أن يؤسَر أو يعذّب إن عُرف فيقتل نفسه.

وهذا كما لو فجّر أو قتل أو أنكى في العدوّ وخاف أن يكشف ويؤسر فيعذّب

ويؤذى ويعرِف أنه قليل الصبر، وأنّ لأعدائه من التفنن في التعذيب والقدرة عليه

ما يعجز عنه فيقتل نفسه مع أعدائه؛ وهذا إنما أقدم على قتل نفسه طلباً للتخلّص

من مفسدةٍ مظنونة غير واقعة، وهي لو وقعت لكان مأموراً بالصبر على الابتلاء،

فكيف وهي لم تقع؟ وعلى كلٍّ فقتله لنفسه ليدفع مفسدةً خاصّة مظنونة غير سائغ،

وهو من جنس الذي جذع من الجرح فقتل نفسه.

عن جندب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن رجلاً ممن كان

قبلكم خرجت به قرحة، فلما آذته انتزع سهماً من كنانته فلم يرقأ الدم حتى مات.

قال ربكم: قد حرَّمت عليه الجنة [61] .

وحديث الذي جرح جرحاً شديداً في إحدى غزواته مع رسول الله صلى الله

عليه وسلم فاستعجل الموت، فوضع نصل سيفه بالأرض وذبابه بين ثدييه فتحامل

عليه فقتل نفسه [62] .

سُئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن رجل له مملوك هرب ثم رجع،

فلمّا رجع أخفى سكينة وقتل نفسه؟ فأجاب:» لم يكن له أن يقتل نفسه وإن كان

سيّده قد ظلمه واعتدى عليه، بل كان عليه إذا لم يمكنه دفع الظلم عن نفسه أن

يصبر إلى أن يفرّج الله. فإن كان سيّده ظلمه حتى فعل ذلك مثل أن يقتّر عليه في

النفقة أو يعتدي عليه في الاستعمال أو يضربه بغير حقّ أو يريد به فاحشة ونحو

ذلك فإنّ على سيده من الوزر بقدر ما نسب إليه في المعصية « [63] .

إلا أنه يستثنى من ذلك القسم الثالث وهو:

3 - أن يؤسر، أو يراد أسره ويكون ممن يعرف أسرار المسلمين فيخشى أن

يفضح المسلمين.

وهذا كما لو علم أنَّ الأعداء معهم من الأدوية ووسائل انتزاع الاعترافات ما

يغلب على ظنّه أنّه سيُخبرهم بحال المجاهدين وخططهم ومخابئهم ونحو ذلك.

وفي هذا القسم أفتى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم [64] ، وأسوق نَصّ تقريره

بتمامه:» الفرنساويون في هذه السنن تصلبوا في الحرب ويستعملون الشرنقات [*]

إذا استولوا على واحد من الجزائريين ليعلمهم بالذخائر والمكامن ومن يأسرونه قد

يكون من الأكابر فيخبرهم أن في المكان الفلاني كذا

وكذا، وهذه الإبرة تُسْكره إسكاراً مقيّداً، ثم هو مع هذا كلامه ما يختلط فهو يختص

فيما يبيّنه بما كان حقيقة وصدقاً.

جاءنا جزائريّون ينتسبون إلى الإسلام يقولون: هل يجوز للإنسان أن ينتحر

مخافة أن يضربوه بالشّرنقة ويقول: أموت أنا شهيد مع أنهم يعذبونهم بأنواع

العذاب؟

فقلنا لهم: إذا كان كما تذكرون فيجوز؛ ومن دليله: آمنا برب الغلام [65] ،

وقول بعض أهل العلم: إن السفينة [66] إلخ، إلا أن فيه التوقف من جهة قتل

الإنسان نفسه ومفسدة ذلك يعني اعترافه أعظم من مفسدة هذا يعني قتله لنفسه

فالقاعدة محكمة، وهو مقتول ولا بُدَّ « [67] .

وبناء على ما سبق، وللأدلة التي ذكرها سماحته فإن من كان يعرف من

أسرار المجاهدين ما في كشفه إضرار عام بهم وقد علم أنّ لدى الأعداء ما يمكنهم

من انتزاع الإقرار منه؛ فإن له أن يقتل نفسه عند مهاجمته لهم ومقاتلته إياهم.

4 - أن يخشى إن لم يقتل نفسه بمهاجمته للأعداء أن يُسْتأصل المجاهدون

ويصطلمهم أعداؤهم.

وهذا كأن يعلم أنه إن تقدم إليهم وقام بعملية ضدهم، امتنعوا عن استئصال

المسلمين الآخرين.

وهو مشروط بأن لا يستطيع ذلك إلا بإتلاف نفسه، إمّا لشدة تحصيناتهم، أو

قوّة مراقبتهم فيحتاج لإخفاء ما معه بداخل جسده أو بين ثيابه، أو نحو ذلك؛

فيجوز له الإقدام؛ إذ قَتْلُ البعض خير من موت الجميع، وهذا متفق مع قواعد

الفقه؛ وذلك أنه متى تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما بارتكاب أخفهما [68] .

كما أنَّ الضرر الخاص يُتَحمّل لدفع الضرر العام [69] .

قال شيخ الإسلام:» وقد اتفق العلماء على أن جيش الكفار إذا تترسوا بمن

عندهم من أسرى المسلمين وخيف على المسلمين الضرر إذا لم يُقاتلوا فإنهم يُقاتلون

وإن أفضى ذلك إلى قتل المسلمين الذين تترسوا بهم ... وهؤلاء المسلمون إذا قُتلوا

كانوا شهداء، ولا يترك الجهاد الواجب لأجل من يقتل شهيداً، ومن قتل وهو في

الباطن لا يستحق القتل، لأجل مصلحة الإسلام كان شهيداً « [70] .

وفي القسم الخامس زيادة بيان.

5 - أن يقصد النكاية في الكفار بما لا يُمْكن إلا بقتل نفسه.

وهذا هو غالب ما يقع وإن كان القسم الثاني قد يقع أيضاً كثيراً.

وهنا يقصد المجاهد أن ينكأ في العدو بإتلاف شيءٍ من ممتلكاتهم أو قتل بعضٍ

من مقاتلتهم أو أعوانهم فيزرع في جسده أو عربته نوعاً من المتفجرات ويقتحم به

ليتلف ما أراد فتصاب نفسه مع ذلك الإتلاف.

ونحتاج إذا أردنا إيضاح مشروعية هذا العمل وتوصيف حكمه إلى أن نتذكر

مقدمات مبسوطة في كتب الفقه لا بد من استحضارها والتمهيد بها، ولعلنا أن نربط

أعناق تلك الممهدات ببعض لنتوصّل إلى نتيحة:

فمن ذلك:

- أن دفع الكفار واجب.

- وأن المدنيين لا يقتلون إلا إذا أعانوا على القتال بنفس أو رأي، أو لم

يمكن التمييز، أو اختلطوا بالمقاتلة في موضع واحد.

- وأن تخريب أموال الكفار ومنشآتهم وتدميرها جائزٌ، إذا اقتضته الأعمال

الحربية.

- وأن تبييت الكفار ومباغتتهم جائز.

- وأن الموت يفضل على السلامة الممكنة أحياناً، ولا يكون اختياره قتلاً

للنفس. ومن تلك المقدمات أن المصالح إذا تعارضت مع المفاسد نُظر في الأرجح

منهما.

- وفي هذا العمل تعارضت مفسدة قتل النفس بمصلحة الجهاد، وإذا أردنا

الموازنة فإننا نقول:

في الجهاد حفظ للدين ودفع عنه، وفيه حفظ للنفس والنسل والمال مما يلحقها

من تسلط الكفار وغلبتهم؛ فإنه يترتب على تغلبهم من إفساد الدين:

1 - منع المؤمنين من القيام بشعائر دينهم والتضييق عليهم.

2 - وإظهار الأحكام والقوانين المنافية للإسلام.

3 - زهد الآخرين في الدين لما يرون من حال أهله من الذلّة والمهانة [71] .

وقل مثل ذلك من إفساد النسل والاعتداء على الأعراض، وإفساد الأموال

بالاستيلاء عليها أو إتلافها، وإتلاف النفوس مما شهد به الواقع، ونطقت به وسائل

الإعلام ولم يعد خافياً [72] .

يقابل ذلك مفسدة قتل النفس، وهي مفسدة خاصّة.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية:» إذا فعل ما أمره الله، فأفضى ذلك إلى قتل

نفسه فهذا محسن في ذلك كالذي يحمل على الصف وحده حملاً فيه منفعة

للمسلمين ... وقتل الإنسان نفسه حرام بالكتاب والسنة والإجماع كما ثبت عنه في

الصحاح أنه قال: «من قتل نفسه بشيء عُذّب به يوم القيامة» ، وحديث الذي قتل نفسه لما اشتدت عليه الجراحة وكان النبي صلى الله عليه وسلم يخبر أنّه من

أهل النار لعلمه بسوء خاتمته.

فينبغي للمؤمن أن يفرّق بين ما نهى الله عنه من قصد الإنسان قتل نفسه أو

تسببه في ذلك، وبين ما شرعه الله من بيع المؤمنين أنفسهم وأموالهم له كما قال

تعالى: [إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ]

(التوبة: 111) ... والاعتبار في ذلك بما جاء به الكتاب والسنة لا بما يستحسنه

المرء أو يجده أو يراه من الأمور المخالفة للكتاب والسنة.

ومما ينبغي أن يُعْرَف أن الله ليس رضاه أو محبته في مجرد عذاب النفس

وحملها على المشاق ... لا! ! ولكن الأجر على قدر منفعة العمل ومصلحته وفائدته،

وعلى قدر طاعة أمر الله ورسوله؛ فأي العملين كان أحسن وصاحبه أطوع وأتبع

كان أفضل؛ فإنّ الأعمال لا تتفاضل بالكثرة وإنما تتفاضل بما يحصل في القلوب

حال العمل ... فالله سبحانه إنما حرم علينا الخبائث لما فيها من المضرة والفساد،

وأمرنا بالأعمال الصالحة لما فيها من المنفعة والصلاح لنا، وقد لا تحصل هذه

الأعمال إلا بمشقة كالجهاد والحج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وطلب العلم

فيحتمل تلك المشقة ويثاب عليها لما يعقبها من المنفعة ... وأما إذا كانت فائدة العمل

منفعة لا تقاوم مشقته فهذا فساد والله لا يحب الفساد « [73] .

فبعد تبيُّن ما سبق من الدرجات المتعاقبة الممهدة، وما ذكره شيخ الإسلام

نقول: إذا تضمن العمل الاستشهادي من هذا القسم خمسة شروط فهو جائز وهي:

1 - أن يكون فيه مصلحة للمسلمين ونكاية لأعدائهم.

2 - أن لا تحصل المصلحة إلا به بأن لم يمكن زرع اللغم أو وسيلة الإتلاف

إلا بإتلاف النفس.

3 - ولم يقصد خوف الأسر حسبما سبق تفصيله.

4 - ولم يقصد إتلاف من لا مدخل له في القتال على ما سبق تفصيله.

5 - ولم يكن في عمله مفسدة تربو على مصلحة عمله بأن تزيد ضراوة

الكفار ونحو ذلك.

فإن الظاهر أن قيامه بالمصلحة يسوّغ له إتلاف نفسه ولا يكون قاتلاً لنفسه،

فإذا عدم منها شرط لم يجز له الإقدام على عمله. والله أعلم.

وبعد: فإنّ جميع ما سبق إنّما هو تصوير وتقعيد لقضية عصرية ومناقشتها

على ضوء قواعد الشريعة وما ذكره أهل العلم؛ أما تنزيل الأحكام على وقائعها

وتطبيقها وتحقيق المناط فيها، فإنه من عمل أهل الفتوى المعتبرين الذين ينزلون

الحكم الشرعي على كل واقعة بعينها بعد فهم الواقع والحال وتمام تصوّره، ومعرفة

المصالح والمفاسد من خلال ما يعرفه قادة المجاهدين وأهل الرأي والخبرة منهم،

والله الموفق.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015