خير الهدي
أحمد بن عبد الرحمن الصويان
للتربية الصالحة أثر كبير في بناء الرجال وتهذيب النفوس وتزكيتها، ولذا
كان الفلاح كل الفلاح في تطهير القلب من الأهواء والشهوات التي تهوي بالعبد
بعيدًا عن جادة الصراط المستقيم. قال الله - تعالى -[قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ
خَابَ مَن دَسَّاهَا] (الشمس: 9-10) .
وتزكية النفوس أحد المقاصد العظيمة لإرسال الرسل - عليهم الصلاة والسلام-
قال الله - تعالى -[هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ
وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ]
(الجمعة: 2) .
وإذا سرى نور الإيمان في القلب، ورسخت معالمه في النفس، أثمر ذلك في
الجوارح عملاً خالصًا زكيًا، وأصبحت حياة المرء كلها في مرضاة الله تعالى.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم رحيمًا بأمته، مشفقًا على أصحابه -
رضي الله عنهم - يحوطهم بنصحه وتوجيهه، ويربيهم على الإقبال على الله تعالى،
ويدلهم على أبواب الخير، ومعاقد البر. ومنها ما رواه أبو هريرة - رضي الله
عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أدلكم على ما يمحو به الخطايا
ويرفع به الدرجات؟) قالوا: بلى يا رسول الله: قال: (إسباغ الوضوء على
المكاره، وكثرة الخطأ إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط،
فذلكم الرباط) [1] .
وهذا حديث عظيم يُعَدُّ من جوامع الكلم، قال عنه الإمام ابن عبد البر
القرطبي: (هذا الحديث من أحسن ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم في
فضائل الأعمال) [2] .
وللنصوص الشرعية الواردة في الترغيب والترهيب أثر عظيم في تزكية
النفس وتربيتها، وحثها على فعل الصالحات والحذر من الموبقات، ولهذا كان
الأئمة يحرصون على جمعها وروايتها، فها هو ذا الإمام وكيع ابن الجراح يُصنف
خاصًا في هذا الباب سماه: كتاب الزهد، ومثله الإمام أحمد بن حنبل، والإمام
عبد الله بن المبارك، في جمع كثير من أئمة الإسلام.
وإن العلماء والدعاة وطلاب العلم من أحوج الناس للتربية والتزكية،
والواجب عليهم أن يربُوا أنفسهم وطلابهم على دلائل الكتاب والسنة، وثمرة العلم
العمل به. وما أجمل قول عمرو بن قيس: (وجدنا أنفع الحديث لنا ما نفعنا في
أمر آخرتنا: من قال كذا، فله كذا) [3] .
وتحقيقًا لهذا الغاية العظيمة رأيت أن أنفع نفسي وإخواني بشرح هذا الحديث
لعل الله - تعالى - أن يجعلنا من أهله. وأن يستعملنا في طاعته، وقد انتظم
شرحه في الفوائد الآتية:
الفائدة الأولى: شواهد الحديث:
للحديث شواهد كثيرة، منها:
الشاهد الأول: حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه:
عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول: (ألا أدلكم على ما يكفر الله به الخطايا، ويزيد به في الحسنات؟
قالوا: بلى يا رسول الله! قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى
المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة) [4] .
الشاهد الثاني: حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال: (إسباغ الوضوء على المكاره وإعمال الأقدام إلى المساجد،
وانتظار الصلاة بعد الصلاة، يغسل الخطايا غسلا) [5] .
الشاهد الثالث: حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه: وهو حديث (اختصام
الملأ الأعلى) الطويل، وفيه: (قال يا محمد؟ فقالت: لبيك ربِّ وسعديك! قال:
فِيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت في الدرجات والكفارات، وفي نقل الأقدام إلى
الجماعات، وإسباغ الوضوء في المكروهات وانتظار الصلاة بعد الصلاة، ومن
يحافظ عليهن عاش بخير، ومات بخير، وكان من ذنوبه كيوم ولدته أمه) [6] .
الفائدة الثانية: من منهج النبي صلى الله عليه وسلم في تعلم العلم:
كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم توجيه المسائل إلى الصحابة -
رضي الله عنهم - للفت انتباههم وتشويقهم، وحثهم على التركيز والتفكر،
ليستجمعوا أفهامهم، ويستحضروا أذهانهم وهذا منهج تعليمي تربوي في غاية
الأهمية يبني الفكر، وينشط الذهن، ويسترعي الانتباه.
ونظائر ذلك في حديث النبي صلى الله عليه وسلم كثيرة منها: قوله صلى الله
عليه وسلم هل تدرون من المفلس؟ ! [7] ، وقوله صلى الله عليه وسلم: (أتدرون
ما الغيبة؟) [8] ونحوهما.
ومن هدي النبي صلى الله عليه وسلم في تعليم العلم: حرصه على ابتداء
أصحابه - رضي الله عنهم - بالفوائد، قال ابن عبد البر القرطبي: (في هذا
الحديث: طرح العالم العلم على المتعلم، وابتداؤه إياه بالفائدة، وعرضها عليه) [9]
الفائدة الثالثة: تزكية النفس:
تأمل هذه التربية النبوية الكريمة لذلك الجيل العظيم، فهم الصحابة - رضي
الله عنهم - الذي يتربون عليه هو: (محو الخطايا، ورفع الدرجات) . وهذا
مطلب عظيم يتطلب إقبالاً صادقا على الله تعالى وحرصًا جادًا على فعل القربات.
ومن المعلوم أن غاية وجود الإنسان في هذه الدنيا هي عبادة الله - تعالى -
والتقرب إليه قال الله - تعالى -: [وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]
(الذاريات: 56) . ولكن الضعف البشري صفة ملازمة لجميع الناس، والوقوع في
الخطأ سنَّة لا يسلم منها أحد. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل بني آدم
خطّاء، وخير الخطائين التوابون) [10] .
وقد كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم حث أصحابه على معالي الأمور
ومكارم الأعمال، ولهذا نراه في هذا الحديث يستحث أصحابه على تطهير قلوبهم
من العطايا، ويُعلي من هممهم للترقي في مدارج العبودية ومسالك الطاعات،
وكلما ازداد إقبال العبد على ربه، وأخلص قلبه في ذلك؛ انفتح له من أبواب
الطاعات ما لا يخطر على بال. قال الإمام ابن القيم: (صِدْقُ التأهب للقاء الله هو
مفتاح جميع الأعمال الصالحة، والأحوال الإيمانية، ومقامات السالكين إلى الله،
ومنازل السائرين إليه، من اليقظة والتوبة والإنابة، والمحبة، والرجاء، والخشية،
والتفويض، والتسليم، وسائر إعمال القلوب والجوارح فمفتاح ذلك كله: صدق
التأهب، والاستعداد للقاء الله) [11] .
والأعمال التي تمحو الخطايا وترفع الدرجات هي الأعمال الخالصة التي
يستحضر فيها العبد تعظيم الله تعالى، وتعظيم شعائره، ولهذا قال الإمام ابن القيم
في بعض النصوص الواردة في تكفير الخطايا: (التكفير بهذه مشروط بشروط.
وموقوف على انتفاء موانع في العمل وخارجه، فإن علم العبد أنه جاء بالشروط
كلها، وانتفت عنه الموانع كلها؛ فحينئذ يقع التكفير، وأما عمل شملته الغفلة أو
شملت أكثره، وفقد الإخلاص الذي هو روحه ولبه ولم يوف حقه، ولم يقدره حق
قدره، فأي شيء يكفر هذا العمل..؟ !
ومحبطات الأعمال ومفسداتها أكثر من أن تحصر، وليس الشأن في العمل،
إنما الشأن في حفظ العمل مما يفسده ويحبطه) [12]
الفائدة الرابعة: من فضائل الوضوء: وحكمه:
قال أبو بكر بن العربي: (الوضوء أصل في الدين وطهارة المسلمين
وخصيصة لهذه الأمة في العالمين) [13] .
الوضوء من الأسباب العظيمة التي تكفر السيئات وترفع الدرجات. قال الله -
تعالى -[مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ
عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] (المائدة: 6) .
قال ابن رجب الحنبلي: قوله: [لِيُطَهِّرَكُمْ] (المائدة: 6) يشمل طهارة
البدن بالماء وطهارة الباطن من الذنوب والخطايا، وإتمام النعمة يحصل بمغفرة
الذنوب والخطايا وتكفيرها، كما قال الله - تعالى - لنبيه صلى الله عليه وسلم:
[لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً
مُّسْتَقِيماً] (الفتح: 2) ، وقد استنبط هذا المعنى محمد بن كعب القرظي) [14] .
والنصوص النبوية الدالة على فضائل الوضوء وأنه من القربات التي تمحو
الخطايا كثيرة جدًا اكتفى بذكر ثلاث أحاديث منها:
الحديث الأول: عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
(إذا توضأ العبد المسلم - أو المؤمن - فغسل وجهه خرج من وجه كل خطيئة نظر
إليها بعينيه مع الماء - أو مع آخر قطر الماء - فإذا غسل يديه، خرج من يديه كل
خطيئة كان بطشتها يداه مع الماء - أو مع آخر قطر الماء - فإذا غسل رجليه
خرجت كل خطيئة مشتها رجلا مع الماء - أو مع آخر قطر الماء - حتى يخرج
نقيًا من الذنوب) [15] .
الحديث الثاني: عن عثمان بن عفان قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: (من توضأ فأحسن الوضوء خرجت خطاياه من جسده، حتى تخرج من
تحت أظفاره) [16] .
الحديث الثالث: عن عمرو بن عبسة - رضي الله عنه - قال: قلت:
يانبي الله، فالوضوء حدثني عنه؟ قال: " ما منكم رجل يقرب وضوءه فيتمضمض
ويستنشق فينثر إلا خرت خطايا وجه من أطراف لحيته مع الماء ثم يغسل يديه إلى
المرفقين إلا خرت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء، ثم يغسل قدميه إلى
الكعبين إلا خرت خطايا رجليه من أنامله مع الماء فإن هو قام فصلى فحمد الله
وأثنى عليه ومجده بالذي هو له أهل وفرغ قلبه لله، إلا انصرف من خطيئته كهيئة
يوم ولدته أمه " [17] .
وللإمام ابن القيم كلام متين في محاسن الوضوء وحكمه، قال فيه: " تأمل
محاسن الوضوء بين يدي الصلاة وما تضمنه من النظافة والنزاهة ومجانبة الأوساخ
والمستقذرات، وتأمل كيف وضع على الأعضاء الأربعة التي هي آلة البطش
والمشي، ومجمع الحواس التي يتعلق أكثر الذنوب والخطايا بها ... فلمًا كانت هذه
الأعضاء هي أكثر الأعضاء مباشرة للمعاصي، كان وسخ الذنوب ألصق بها وأعلق
من غيرها، فشرع أحكم الحاكمين الوضوء عليها لتضمن نظافتها وطهارتها من
الأوساخ الحسية، وأوساخ الذنوب والمعاصي " [18] .
الفائدة الخامسة: المقصود بإسباغ الوضوء وفضله:
قال ابن عبد البر القرطبي: الإسباغ: الإكمال والإتمام في اللغة من ذلك قول
الله - عز وجل -[وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً] (لقمان: 20) ، يعني:
أتمها وأكملها، وإسباغ الوضوء: أن تأتي بالماء على كل عضو يلزمك غسله
وتعمّه كله بالماء وجر اليد، وما لم تأت عليه منه فلم تغسله بل مسحته ومن مسح
عضوًا يلزمه غسله فلا وضوء له، ولا صلاة حتى يغسل ما أمر الله بغسله،
حسبما وصفت لك " [19] .
وقال ابن رجب: " إسباغ الوضوء: هو إتمامه وإبلاغه مواضعه الشرعية
كالثوب السابغ المغطى للبدن كله " [20] .
وقد جاء الحث على إسباغ الوضوء في نصوص عديدة اكتفي بذكر ثلاثة منها:
الحديث الأول: عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - قال: سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من توضأ للصلاة فأسبغ الوضوء، ثم مشي
إلى الصلاة المكتوبة فصلاها مع الناس - أو مع الجماعة أو في المسجد - غفر الله
له ذنبوبه " [21] .
الحديث الثاني: عن أبي مالك الأشعري - رضي الله عنه - عن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: " إسباغ الوضوء شطر الإيمان " [22] .
الحديث الثالث: عن لقيط بن صبرة قال: قلت: يا رسول الله، أخبرني عن
الوضوء، قال: " أسبغ الوضوء، وخلل الأصابع وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون
صائمًا " [23] .
الفائدة السادسة: احتمال المكاره:
تعظيم أوامر الله - تعالى - وشعائره علامة من علامات تقوى القلب كما
قال الله - تعالى -[ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القُلُوبِ]
(الحج:32) . ومن دلائل العبودية الصادقة تقديم محبوبات الله - تعالى - على
محبوبات النفس، وتحمل المصاعب والمكاره التي قد تعرض المسالك في طريقه إلى
ربه، " فمن امتلأ قلبه من محبة الله - عز وجل - أحب ما يحبه، وإن شق على
النفس وتألمت به " [24] .
والشيطان يحرص على تثبيط الإنسان عن الطاعات. مستغلاً المكاره التي
ربما تقترن ببعضها، فيدفعه لاستثقالها. ثم إلى تركها.
والنفس البشرية تحتاج إلى مجاهدة وترويض يهذبها ويقسرها على الطاعات
قسرًا، فالحرص على إسباغ الوضوء على المكاره آية من آيات تعظيم شعائر الله
تعالى، وطريق لبناء النفس وتهذيبها، وسبيل من سبل دفع الشيطان ومراغمته
ودحره.
قال ابن عبد البر: القرطبي في شرح قول النبي صلى الله عليه وسلم:
" إسباغ الوضوء على المكاره ": قيل: أراد البرد وشدته، وكل حال يُكره المرء فيها
نفسه، فدفع وسوسة الشيطان في تكسيله إياه عن الطاعة والعمل الصالح " [25] .
وقال الباجي: " المكاره على أنواعهن: من شدة برد، وألم جسم، وقلة ماء
وحاجة إلى النوم، وعجلة وتحفز إلى أمر مهم، وغير ذلك " [26]
وقال ابن رجب: " ولا ريب أن إسباغ الوضوء في شدة البرد يشق على
النفس وتتألم به، وكل ما يؤلم النفس ويشق عليها فإنه كفارة للذنبوب وإن لم يكن
للإنسان فيه صنع ولا تسبب، كالمرض ونحوه، كما دلت النصوص الكثرة على
ذلك. وأما إن كان ناشئًا عن فعل هو طاعة لله فإنه يُكتب لصاحبه به أجر. وترفع
به درجاته، كالألم الحاصل للمجاهد في سبيل الله تعالى، قال الله - عز وجل -
[ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَطَئُونَ مَوْطِئاً
يَغِيظُ الكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ
أَجْرَ المُحْسِنِينَ] (التوبة: 120) . وكذلك ألم الجوع والعطش الذي يحصل
للصائم، فكذا التألم بإسباغ الوضوء في البرد. ويجب الصبر على الألم بذلك فإنه
حصل به رضي فذلك مقام خواص العارفين المحبين " [27] .
الفائدة السابعة: شريعة التيسير والاعتدال:
من الأصول العامة المعررة أن الشريعة الإسلامية هي شريعة التيسير
والاعتدال، ورفع الحرج والمشقة عن المكلفين، وتواترت النصوص الشرعية
لتقرير ذلك وبيانه، حتى جزم الإمام الشاطبي أنها بلغت مبلغ القطع [28]
قال - تعالى -[وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ]
(الأعراف: 157) .
فليست المشقة في التكليف الشرعية مطلوبة في ذاتها ولهذا قال الله - تعالى -
[يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ] (البقرة: 185) ، وقال الله تعالى
[وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ] (الحج: 78) . ولكن الشارع الحكيم قد
يُكلف عباده ببعض العبادات التي لا تخلف من مشقة. ولكنها مشقة محتملة،
كأمرهم بالجهاد، والوضوء على المكاره، والصيام في الحر.. ونحوها، ليبلوهم
أيهم أحسن عملا. قال الإمام ابن القيم: الله - سبحانه - لم يبتل العبد ليُهلكه،
وإنما ابتلاه ليمتحن صبره وعبوديته؛ فإن لله - تعالى - على العبد عبودية في
الضراء، كما له عبودية في السراء، وله عليه عبودية فيما يكره، كما له عبودية
فيما يحب وأكثر الخلق يعطون العبودية فيما يحبون. والشأن في إعطاء العبودية
في المكاره، فيه تفاوتت مراتب العباد وبحسبه كانت منازلهم عند الله تعالى،
فالوضوء بالماء البارد من شدة الحر عبودية، ومباشرة زوجته الحسناء التي يحبها
عبودية، ونفقته عليها وعلى عياله ونفسه عبودية، وهذا الوضوء بالماء البارد في
شدة البرد عبودية، وتركه المعصية التي اشتدت دواعي نفسه إليها من غير خوف
من الناس عبودية. ونفقته في الضراء عبودية. ولكن فرق عظيم بين العبوديتين،
فمن كان عبدًا لله في الحالتين قائمًا بحقه في المكروه والمحبوب، فذلك الذي يتناوله
قوله - تعالى -[أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ] (الزمر: 36) .
فإذا تبين أن المشقة ليست مطلوبة لذاتها، فإنه لا يصح التقرب إلى الله -
تعالى - بالمشاق فإذا تيسر تسخين ماء الوضوء البارد ليتوضأ العبد بإسباغ وسكينة
بلا مشقة فإن ذلك أولى من الوضوء بالماء البارد. قال العز بن عبد السلام: " لا
يصح التقرب بالمشاق لأن القرب كلها تعظيم للرب سبحانه وتعالى وليس عين
المشاق تعظيمًا ولا توقيرًا " [29] .
وقال الشاطبي: " الشارع لم يقصد إلى التكليف بالمشاق والإعنات فيه " [30] ،
ثم ذكر أن الدليل على ذلك أمور:
أحدهما: النصوص الدالة على ذلك كقوله: [وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ
الَتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ] (الأعراف: 157) . ولو كان قاصدًا للمشقة لما كان مريدًا
لليسر ولا للتخفيف. ولكان مريدًا للحرج والعسر وذلك باطل.
والثاني: ما ثبت أيضًا من مشروعية الرخص، وهو أمر مقطوع به، وممّا
علم من دين الأمة ضرورة؛ كرخص القصر والفطر والجمع ... ولو كان الشارع
قاصدًا للمشقة في التكليف لما كان ثمّ ترخيص ولا تخفيف.
والثالث: الإجماع على عدم وقوعه وجودًا في التكليف وهو يدل على عدم
الشارع إليه. ولو كان واقعًا لحصل في الشريعة التناقض والاختلاف. وذلك منفي
عنها؛ فإنه إذا كان وضع الشريعة على قصد الإعنات والمشقة، وقد ثبت أنها
موضوعة على قصد الرفق والتيسير، كان الجمع بينها تناقضًا واختلافًا وهي
منزّهة عن ذلك " [31] .
أنواع المشاق:
تختلف المشقة باختلاف التكاليف، وباختلاف المكلفين، وقد بيَّن العز بن
عبد السلام أن المشاق على ضربين:
" الضرب الأول: مشقة لا تنفك عنها العبادة غالبًا:
مثل مشقة الوضوء والغسل في شدة السبرات (*) وكمشقة إقامة الصلاة في
الحر والبرد ولا سيما صلاة الفجر وكمشقة الصوم في شدة الحر وطول النهار..
فهذه المشاق كلها لا أثر لها في إسقاط العبادات والطاعات، ولا في تخفيفها، لأنها
لو أثرت لفاتت مصالح العبادات والطاعات في جميع الأوقات أو في غالب الأوقات،
ولفات ما رُتب عليها من المثوبات الباقيات ما دامت الأرض والسموات [32] .
الضرب الثاني: مشقة تنفك عنها العبادات غالبًا، وهي أنواع:
النوع الأول: مشقة عظيمة فادحة كمشقة الخوف على النفوس والأطراف
ومنافع الأطراف فهذه مشقة مجوبة للتخفيف والترخيص.
النوع الثاني: مشقة خفيفة كأدنى وجع في إصبع أو أدنى صداع أو سوء
مزاج خفيف، فهذا لا لفتة إليه ولا تعرج عليه، لأن تحصيل مصالح العبادة أولى
من دفع هذه المشقة التي لا يؤبه لها.
النوع الثالث: مشاق واقعة بين هاتين المشقتين مختلفة في الخفة والشدة، فما
دنا منها من المشقة العليا أوجب التخفيف، وما دنا منها من المشقة الدنيا لم يوجب
التخفيف إلا عند أهل الظاهر " [33] .
وقد بين الإمام الشاطبي الفرق بين المشقة التي لا تعد مشقة عادة، والتي تعد
مشقة، فقال: " إن كان العمل يؤدي الدوام عليه إلى الانقطاع عنه، أو عن بعضه،
وإلى وقوع خلل في صاحبه: في نفسه أو ماله، أو حال من أحواله فالمشقة هنا
خراجة عن المعتاد، وإن لم يكن فيها شيء من ذلك في الغالب فلا يعد في العادة
مشقة، وإن سميت كلفة. فأحوال الإنسان كلها كلفة في هذه الدار، في أكله وشربه
وسائر تصرفات تحت قهره، لا أن يكون هو تحت قهر التصرفات، فكذلك
التكاليف، فعلى هذا ينبغي أن يفهم التكليف، وما تضمن من المشقة " [34] .
الفائدة الثامنة: كثرة الخطا إلى المساجد:
قال الإمام الباجي: " كثرة الخطا: يكون ببعد الدار عن المسجد، ويكون
بكثرة التكرار عليه " [35] .
والكثرة هنا تعني - والله أعلم - المداومة على الطاعة، والجلد فيها،
والصبر عليها، تقربًا إلى الله تعالى، ومحبة لأمره، وأستشعارًا لفضل الله - تعالى-
على عبده بتكفير السيئات، قال الإمام ابن القيم: " الدين كله استكثار من الطاعات،
وأحب خلق الله إليه: أعظمهم استكثار منها " [36] .
وقد ثبت في فضل الخطا إلى المساجد أحاديث عديدة منها:
الحديث الأول: عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: خلت البقاع
حول المسجد فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا إلى قرب المسجد، بلغ ذلك رسول الله
صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: " إنه بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا قرب المسجد؟
" قالوا: نعم يا رسول الله! قد أردنا ذلك، فقال: " يا بني سلمة، دياركم تُكْتَبْ
آثاركم! دياركم تُكتب آثاركم! " [37] .
الحديث الثاني: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: " من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له نزله من الجنة كلما
غدا أو راح " [38] .
الحديث الثالث: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: " من تطهر في بيته ثم مشى إلى بيت من بيوت الله ليقضي
فريضة من فرائض الله كانت خطواتاه: إحداهما تحط خطيئة، والآخرى ترفع
درجة [39] .
وأشير هنا إلى مسألتين:
الأولى: أنه قد يتحقق في القرب من المسجد مصالح أعظم من فوات كثرة
الخطا كيُسر محافظة الصغار والشباب على الصلاة، والتزامهم بحلقات العلم
ودراسة القرآن الكريم، وكالبعد عن كثير من الفتن التي قد تعرض للمسلم وهو في
طريقه إلى المسجد.. ونحو ذلك فيكون القرب منه أفضل بحسب المصلحة، كما أن
بقاء بني سلمة في ديارهم كان أفضل لما ترتب عليه من مصالح.
الثانية: أن الحرص على كثرة الخطا إلى المسجد لا تعني أن يتكلف المرء
سلوك الطريق الأبعد لأجل تكثيرها، فلم أجد من كان يفعل ذلك من الصحابة -
رضي الله عنهم - أو الأئمة المقتدي بهم.
الفائدة التاسعة انتظار الصلاة إلى الصلاة:
قال أبو بكر ابن العربي: " انتظار الصلاة بعد الصلاة أراد به وجهين:
أحدهما: الجلوس في المسجد، وذلك يُتصور بالعادة في ثلاث صلوات: العصر
والمغرب والعشاء وفي العبادة في أربع: في هذه وفي الصبح ولا تكون بين العتمة
والصبح، الثاني: تعليق القلب بالصلاة والاهتمام لها، والتأهب لها، وذلك يتصور
في الصلوات كلها " [40] .
إن تعلق قلب العبد بالصلاة من دلائل الإيمان والصلاح؛ فهو وإن اشتغل في
دنياه وتحصيل معاشه والسعي في حاجات أهله إلا أنه يقدر الصلاة حق قدرها، فإذا
سمع المنادي ينادي للصلاة ترك شأنه كله مهما كان، وأقبل على مناجاة ربه بكل
تضرع وإنابة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " سبعة يظلهم الله في ظله يوم
لا ظل إلا ظله.. وذكر منهم: ورجل قلبه معلق في المساجد " [41] .
وقالت عائشة - رضي الله عنها -: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
يحدثنا ونحدثه، فإذا حضرت الصلاة فكأنه لم يعرفنا ولم نعرفه " [42]
وعن سالم بن عبد الله: أنه نظر إلى قوم من أهل المدينة تركوا بياعتهم إلى
الصلاة، فقال: " هؤلاء الذين ذكر الله في كتابه: [رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ
عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَلاةِ] (النور: 37) . [43] .
وهذا النوع من الانتظار هو المتيسر لغالب الناس، وإن كان ينبغي للإنسان
ألا يحرم نفسه من النوع الأول، بين الحين والآخر لما له من أثر على صلته بربه
عز وجل. ولذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحث أصحابه على ملازمة
المسجد، ويبشرهم بعظيم فضل الله - تعالى - عليهم، فعن عبد الله بن عمرو -
رضي الله عنه - قال: صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المغرب، فعقب
من عقب ورجع من رجع فجاء صلى الله عليه وسلم وقد كاد يحسر ثيابه عن ركبته،
فقال: أبشروا معشر المسلمين، هذا ربكم قد فتح بابًا من أبواب السماء يباهي
الملائكة، يقول: هؤلاء عبادي قضوا فريضة، وهم ينتظرون أخرى " [44] .
الفائدة العاشرة، مفهوم الرباط:
قال الخليل بن أحمد: الرباط: ملازمة الثغور ومواظبة الصلاة " [45] .
وقال ابن منظور: الرباط: المواظبة على الأمر [46] .
وقال ابن عبد البر القرطبي: الرباط هنا: ملازمة المسجد لانتظار الصلاة،
وذلك معروف في اللغة، قال صاحب كتاب العين: الرباط: ملازمة الثغور. قال:
والرباط مواظبة الصلاة أيضًا. [47] .
وقد شبه النبي صلى الله عليه وسلم المواظبة على الأمور المذكورة في
الحديث بالرباط في سبيل الله تعالى [48] ، بل قال أبو سلمة بن عبد الرحمن في
تفسير قول الله - تعالى -: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا
وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] (آل عمران: 200) ، هذه الآية في انتظار الصلاة
بعد الصلاة، ولم يكن في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزو يرابط
فيه " [49] .
إن ملازمة الطاعات والمواظبة على فعل الصالحات، هي الدلالة الصادقة
على عظيم الصلة بالله تعالى، وهي الطريق الصحيح لتزكية النفس وتربيتها،
وقد بين أبو بكر ابن العربي أن حقيقة الرباط: " ربط النفس والجسم مع
الطاعات " 50 [.
وقال القرطبي: المرابطة عند العرب: العقد على الشيء حتى لا يتحل،
فيعود إلى ما كان صبر عنه، فحبس القلب على النية الحسنة، والجسم على فعل
الطاعة، ومن أعظمها وأهمها: ارتباط الخيل في سبيل الله، كما نص عليه في
التنزيل في قوله] وَمِن رِّبَاطِ الخَيْلِ [ (الأنفال: 60) ، وارتباط النفس في
الصلوات، كما قاله النبي صلى الله عليه وسلم] 51 [.
الخاتمة:
احتوى هذا الحديث العظيم على فوائد كثيرة جمعها: وجوب حرص العبد
على تزكية النفس من شوائبها، وتطهير القلب من أدرانه بالامتثال لأمر الله
والإقبال الصادق على طاعة الله والتقرب إليه، والمواظبة على تعليق القلب على
الطاعات.