مجله البيان (صفحة 3885)

الإصلاح التشريعي موجز تاريخي وخطوات عملية صراع الفقهاء والتحديثيين قبيل العلمانية الشاملة نماذج منت

دراسات في الشريعة الإسلامية

الإصلاح التشريعي

موجز تاريخي وخطوات عملية صراع الفقهاء والتحديثيين قبيل

العلمانية الشاملة نماذج منتصرة

(?)

عبد العزيز بن محمد القاسم [*]

azalgasem@hotmail.com

أسباب التغريب التشريعي الذاتية:

لم تكن الضغوط الأجنبية لتمكين هيمنة الدول المنافسة أو المعادية بأدواتها

المختلفة ومنها الغزو التشريعي أمراً جديداً في تاريخ العلاقات الدولية، وقد مارسته

الدول باستمرار بمختلف ثقافاتها، فمارسته دول الغرب على الدول الإسلامية كما

مارسته على اليابان والصين ودول أفريقيا ومناطق أمريكا الجنوبية، كما مارسته

فرنسا في كندا؛ ومن هنا تبرز أهمية العوامل الداخلية التي أدت إلى توفير المناخ

للغزو التشريعي الملائم لتأثير تلك الضغوط، ومن أهم عناصر المناخ الملائم ما

يلي:

1 - الضعف المادي والعسكري: لقد غطَّ العالم الإسلامي في سبات طويل

في مجالات الإنتاج وتطوير أدواته، ودعم العلم التقني، وتحسين وسائل المنافسة

مع الدول المعادية، وكان من أخطر أسباب هذه الظاهرة انتشار الظلم وبغي

السلاطين، وصراعهم، وتفرق الممالك، وفرض الجباية المنهكة، واضطراب

التجارة، والملكيات العقارية عبر المصادرة والتعدي، وقد لاحظ ذلك في وقت مبكر

العلماء. يقول ابن مسكويه: «صار الرسم جارياً أن يخرب الجند إقطاعاتهم ثم

يردوها ويعتاضوا عنها حيث يختارون» ، وبذلك «فسدت المشارب وبطلت

المصالح.. فمن هارب جالٍ، وبين مظلوم صابر لا ينصف، وبين مستريح إلى

تسليم ضيعته إلى المقطع العسكري ليأمن شره ويوافقه؛ فبطلت العمارات» [1] .

ويقول المقريزي: «وعظمت نكاية الولاة والعمال واشتدت وطأتهم على أهل

الفلح.. فخرب بما ذكرنا معظم القرى، وتعطلت أكثر الأراضي من الزراعة

ونقصت الغلات..» ، ويروي المقريزي نفسه ما أحدثه المماليك من نظام الرق

الزراعي المقتبس من الإقطاع الأوروبي فيما يظهر؛ حيث عرفه المماليك من

الصليبيين في مواجهاتهم المختلفة؛ وهو الذي يجعل الفلاح قنّاً مملوكاً لصاحب

الأرض، فيقول عن تحول الفلاح ليكون: «قنّاً.. لمن أقطع تلك الناحية، إلا أنه

لا يرجو قط أن يباع ولا أن يعتق» [2] .

وفي الأعمال المدنية يذكر العلماء المظالم التي أفسدت معايش الناس حتى كثر

تسخير الناس للعمل في عمائر السلطان بالقلعة في مصر كما يذكر ابن تيمية [3] .

وساءت الأحوال حتى قال ابن خلدون كلمته المشهورة: «كأنما نادى لسان حال

الكون في العالم بالخمول والانقباض فبادر بالإجابة» [4] .

وقد انتقلت تلك الآفات من مصرٍ إلى مصرٍ، وضاعف أضرارها انتشار

الصوفية في كافة الأقطار، وكان من آثار ذلك ضعف الدول الإسلامية عن مواجهة

العدو الخارجي، ومن ثم محاولة تقليده التماساً لأسباب القوة كما جرى للدولة

العثمانية على سبيل المثال بعد معركة كارلوفجا سنة 1111هـ سيأتي الحديث عنها

التي قادت الدولة العثمانية إلى النقل الأعمى من الغرب دون منهجية تبين ما يجب

تغييره وما يحسن استيراده، وكيفية تهذيبه وتطويعه.

2 - انتشار الجمود والضعف الفقهي؛ بحيث أدى ذلك إلى فتح الأبواب

للحلول الوضعية المجافية للشريعة، وهو ما خاف عاقبته الفقهاء المفكرون في

عصور سابقة، وقد نقلنا في الحلقة الأولى من هذا المقال كلام ابن تيمية عن

الحلول الوضعية العباسية، وتداول الفقهاء في مصادرهم الفقهية تأصيل السياسة

الشرعية وتطبيقاتها لظهور انحراف السياسة الوضعية عن المعايير الشرعية، وهو

حديث مشهور فلا نكرره، وقد بذل الفقهاء المجددون جهوداً رائدة لمواكبة

المتغيرات وملاحقتها بالتأصيل، وتيسير تدوين مصادر الفقه لتحقيق هذا الغرض.

ومن أمثلة ذلك في العصور المتأخرة الفتاوى الهندية التي كتبها ثلاثة

وعشرون فقيهاً من أقدر فقهاء الهند، كلفهم بتدوينها ملك الهند أبو المظفر محيي

الدين محمد أورنك الشهير بـ (عالمكير) في القرن الثاني عشر الهجري السادس

عشر الميلادي، وكان غرض تأليفها تيسير الوصول إلى الراجح. ومن أمثلة

التقريب ما أنجزه الفقيه الحنفي إبراهيم الحلبي الرومي في كتابه: (ملتقى الأبحر)

ليقرب الراجح من الفقه الحنفي كما ذكر في مقدمة كتابه.

وقبيل وضع مجلة الأحكام العدلية كانت الظنون تسوء بقضاة الشرع الأحناف

لتعدد الأقوال وتغير الأحكام مما جعل الفقيه المغربي محمد الحجوي المعاصر لأوائل

عصر تطبيق المجلة يقول بعد نقل كلام الفقهاء في جواز مخالفة المذهب: «تأليف

قانون يدعى المجلة.. كان القصد منه ضبط نصوص الأحكام التي يُتلاعب بها..

حتى إن القضية الواحدة يحكم فيها القاضي اليوم بالإباحة وغداً بالمنع، ويجد في

النصوص فسحة وإجمالاً.. وكم رأينا لهذا من نظير..» [5] .

3 - أن الصياغة الفقهية المتأخرة تميزت ببعض الخصائص التي كانت تعوق

ضبطه وتيسر الوصول إليه، وفهم حكمته، والمصالح التي يرعاها، ويظهر ذلك

مما يلي:

أ - صعوبة صياغة المصادر الفقهية وتعقيدها:

لاحظ الفقهاء قديماً بعض عيوب صياغة المصادر الفقهية وحاولوا الإسهام في

إصلاحها؛ فوفق بعضهم؛ لكن ذلك لم يتحول إلى ظاهرة عامة، بل تحول الفقه في

العصور الأخيرة إلى تعقيد أغلق الفقه على كثير من أصحابه فضلاً عن غيرهم

خاصة في المذهبين المالكي والحنفي.

يقول الحجوي عن مصنفات ما بعد القرن الثامن إنهم: «قضوا على الفقه أو

على من اشتغل بتواليفهم وترك كتب الأقدمين من الفقهاء.. وتخدرت الأنظار بسبب

الاختصار، فترك الناس النظر في الكتاب والسنة والأصول، وأقبلوا على حل تلك

الرموز.. فضاعت أيام الفقهاء في الشروح.. وتحمل الفقهاء آصاراً وأثقالاً بسبب

إعراضهم عن كتب المتقدمين.. وأحاطت بعقولنا قيود فوق قيود.. فالقيود الأولى:

التقيد بالمذاهب.. الثانية: أطواق التأليف المختصرة المعقدة التي لا تفهم إلا

بواسطة الشروح.. أحاطوا بستان الفقه بحيطان شاهقة ثم بأسلاك شائكة، ووضعوه

فوق جبل وعر بعدما صيروه غثاً.. حتى يظن الظان أن قصدهم الوحيد جعل الفقه

حُكْرة بيد المحتكرين ليكون وقفاً على قوم من المعمَّمين، وأن ليس القصد منه العمل

بأوامره ونواهيه وبذله للناس.. وحاشاهم من أن يقصدوا شيئاً من هذا؛ لأنه ضلال

في الدين؛ وإنما حصل من دون قصد؛ فيا لله! أين نحن من قوله عليه السلام:

» سددوا وقاربوا « [6] ، وقوله:» بلِّغوا عني ولو آية.. « [7] .. ولله درُّ عبد

العزيز اليحصبي حيث قال:» هذه الأعمار رؤوس أموال يعطيها الله للعباد

يتَّجرون فيها، فرابح وخاسر؛ فكيف ينفق الإنسان رأس ماله في حل مقفل كلام

مخلوق مثله، ويعرض عن كلام الله، ورسوله الذي بعثه إليه « [8] .

ب - أن التعليم الفقهي مبني - في الغالب - على حفظ المسائل والخلاف فيها،

وقد أشغل ذلك عن ضبط الكليات وتنظيم الفروع تحت أصول تشدها وتيسر تنمية

الملكة الفقهية في التطبيق الفقهي. يقول القرافي في كتابه الذخيرة:» وأنت تعلم

أن الفقه وإن جلَّ، إذا كان مفترقاً تبددت حكمته وقلَّت طلاوته وبعدت عند النفوس

طَلِبَتُه، وإذا رتبت الأحكام مخرَّجة على قواعد الشرع، مبنية على مآخذها نهضت

الهمم حينئذ لاقتباسها، وأعجبت غاية الإعجاب بتقمص لباسها « [9] .

ج - عدم بيان حكمة الشريعة ومعناها، والمصالح التي ترعاها في الأحكام،

وقد تنبه الفقهاء لأهمية ذلك في تمكين الشريعة وبسط أحكامها. يقول ابن تيمية:

» ومعرفة الحِكَم والمعاني التي تضمنتها الشريعة من أشرف العلوم؛ فمنه الجلي الذي

يعرفه كثير من الناس، ومنه الدقيق الذي لا يعرفه إلا خواصهم « [10] .

وبيَّن أثر معرفة الحكم والمعاني وكليات الدين الجامعة لمصالحه فقال:» فإن

معرفة أصول الأشياء ومبادئها ومعرفة الدين وأصله.. من أعظم العلوم نفعاً؛ إذ

المرء ما لم يحط علماً بحقائق الأشياء التي يحتاج إليها يبقى في قلبه حسكة « [11] .

4 - خضوع رجال التحديث - المفكرون والساسة - للحلول الجاهزة التي

أنتجها من يقتبسون منه، وضعف مقدرتهم النقدية للنماذج المستوردة؛ بحيث لم

يمكن إخضاع تلك الإصلاحات للشريعة ومقاصدها، وكثيراً ما يتسبب ذلك في

الضعف النقدي في حركات المقاومة أو التمرد، وفي أحسن الأحوال تواجههم مشكلة

سلبية المجتمع وصعوبة انتمائه إلى مشروعاتهم، ويتضاعف هذا الجانب في حالات

التطرف التغريبي؛ إذ يصاحبه بخس للتراث وواقع المجتمع ومزاياه يصل إلى

مستوى الشتيمة المجافية لمكارم الأخلاق ومناهج العلم، كما حصل في كثير من

مشروعات التنمية المعاصرة.

وقد يصل خطاب هذا التيار إلى مستوى السذاجة والخرق كمقولة استنساخ

حضارة الغرب بعنبها وشوكها، وحلوها ومرها التي أطلقها بعض مفكري النهضة

المعاصرة، أو ترديد بعضهم لسجعات خاوية يستغفل بها المخاطب عن برهنتها،

وهل يغني هذا النثر المرسل عن الدراسات التي تؤسس عليها النظم الاقتصادية مثل

قول بعضهم: لا اقتصاد بلا بنوك، ولا بنوك بلا فوائد، ويؤدي هذا التقليد المطلق

إلى تقليص الأعمال النقدية التي تستلهم الصالح من التراث والمجتمع، وتضم إليه

الصالح من الحضارات بعد إخضاعه لأصول الشريعة ومقاصدها.

ومن عجائب هذه الظاهرة أن روادها يتغنون بالحرية النقدية وهم أعجز ما يكونون

عن ممارستها بأنفسهم، فتحول فكرهم إلى حفظ وتقليد محض لما تعلموه بعيداً عن

وسائل النقد والمنهجية التي تعلموها؛ فلم تغادر مقاعد دراستهم في جامعات

الغرب [12] .

ومن آثار ظاهرة العجز النقدي لدى التحديثيين عدم مبالاتهم بالرأي الفقهي

والفكر الإسلامي مما أدى إلى قطيعة خاصة في البيئات المحافظة التي لا تحسن

التعامل مع الآراء المخالفة وتقريبها، وهذا بدوره ما يغذي انفراد التغريب بالعملية

التشريعية أو تعميق انقسام المنظومات القانونية بحيث يتحكم كل قطاع في ما تحت

يده من مؤسسات.

5 - ازدهار المذاهب الفلسفية الاجتماعية التي تؤسس نظريات وضعية

تستغني عن وظيفة الدين الكنسي في الغرب؛ وذلك بعد انهيار الكنيسة بوصفها

مرجعية في الأمور الدنيوية، وانهيار الإقطاع بوصفه نظاماً اجتماعياً وسياسياً، وقد

جاءت تلك التغيرات بعد نهضة العلوم في الغرب واقتباس مناهج لتحصيل الحقائق

في المجالات الإنسانية. وبالفعل انتشرت في فجر القرن التاسع عشر - وهو

العصر الذهبي لانتشار القوانين الغربية في العالم كما سيأتي - الفلسفات المؤسسة

للعلوم الاجتماعية خارج النظام الديني بل وخارج النظام القيمي التقليدي، ويكفي

لمعرفة ذلك مراجعة أشهر الفلاسفة مثل (جريمي بينتام) الذي توفي سنة 1832م،

وهو فيلسوف القانون الإنجليزي الداعي إلى تأسيس التشريع على مبادئ المنفعة،

ويرفض بناء التشريع على أساس التقاليد والدين، ويمنع تجريم أي فعل لا يؤذي

أحداً بعينه، وقد أصدر مجلة للدعوة إلى الإصلاح القانوني [13] .

و (ستيوارت ميل) الذي توفي سنة 1873م، الداعي إلى إفساح المجال

للحرية الشخصية لدعم الفكر والعلوم ما لم ينتج عن الحرية ضرر بالآخرين،

و (أوجيست كونت) الذي توفي سنة 1857م مؤسس الفلسفة الوضعية، وكان يرى

أن تراجع القيم الدينية والتقليدية بسبب تغيرات أوروبا التي أشرت إليها قد أوجد

أزمة اجتماعية في أوروبا، وسعى من خلال الوضعية إلى تأسيس نظام اجتماعي

وضعي [14] .

لقد كان أولئك وغيرهم من الفلاسفة إزاء أزمة عميقة في أوروبا بعد انهيار

النظم القديمة - الكنيسة، الإقطاع - وقد أوجد هذا الفراغ مناخاً ملائماً لابتكار

أنظمة اجتماعية جديدة، ومنها النظم القانونية والسياسية. أما في العالم الإسلامي

فالظرف مختلف تماماً؛ فمع كل عيوب التقليد الفقهي إلا أننا أمام مؤسسة عظيمة

قادرة بين حين وآخر على تجديد نفسها، ويكفي للبرهنة على هذا التجديد أن تنظر

في مصادر الفقه المذهبية وتقارن حجم التغيير الذي أحدثه المجددون المذهبيون في

العصور المتأخرة. انظر مثلاً في حاشية ابن عابدين تجد أن النقل عن مجدد

مشهور هو شيخ الإسلام أبو السعود العمادي الحنفي يبلغ حوالي 250 مرة ليضخ

في المذهب من اجتهاداته ما يزيل كثيراً من مواضع الحرج والضيق ليتسع الأمر

مرة أخرى بعيداً عن قيود المذهب. أما في المذهب الحنبلي فيتكرر النقل عن ابن

تيمية في كتاب الإنصاف ما يزيد عن 1190 مرة، ويطعِّم ذلك النقل فقه المذهب

بتجديد متين ينقله إلى رحابة النصوص ورعايتها مصالح الناس بعد ضيق التقليد.

ومن خلال هذه المقارنة بين انهيار أنظمة المجتمع الأوروبي وقابلية الفقه

للتجديد بل وممارستهم له بين حين وآخر وإن لم تكن حركات التجديد بمستوى واحد

وإذا قارنا ذلك بموجات الهجرة الابتعاثية التي نشطت في القرن التاسع عشر،

وتذكرنا ضعف المقدرة النقدية يتبين لنا واحد من أهم أسباب تمكين القوانين الغربية؛

ذلك أن الفلسفات الاجتماعية كانت توهم الطلاب والمثقفين بشمولية انهيار الدين

والمجتمع فيزهد المسلمون في أنظمتهم؛ مما يدفعهم لاقتباس أنظمة نشأت وفق

شروط اجتماعية وثقافية وسياسية معينة. وقد تزامن ذلك مع ضعف المقدرة النقدية

لدى الفكر الإسلامي الذي تأخر بضعة عقود، فلما عادت القدرة النقدية أيقظت الفكر

الإسلامي المضاد، لكن بعد تمكُّن المستعمر، وفي هذا السياق المعقد يمكن إعادة

قراءة الاجتهادات الفكرية الإسلامية التي وقع أصحابها في أخطاء منهجية عديدة

كجمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وغيرهم.

6 - عزلة الجمهور عن قضايا الأمة الكبرى وقلة وعيه في هذا المجال، مما

يسهل تسخيره لمناصرة ما فيه إضرار بمصالحه وقيم الدين، ويعزز هذا ضعف

بيان المتخصصين الشرعيين لهذه القيم والمصالح وتقديمها في صورة واضحة

مقارَنة تبيِّن حكمة الشريعة وجلالها، وتعمق العلم الشرعي بما يستوعب المصالح

والحقوق المتجددة وفق هدي الشرع وضوابطه، وهذا ما يفسر سهولة انقياد

الجمهور للحركات المناوئة للشريعة ومصالح الأمة لمجرد تبني تلك الحركات

لمشروعات إصلاحية في هذا الجانب أو ذاك من جوانب الحياة؛ لكنها قد تهدم من

المصالح ما يزيد عما تصلحه إذ أعرضت عن الشريعة، أو قد تبطن بعض حركات

الاصلاح من المقاصد ما لا تظهر كما فعل حزب الاتحاد والترقي وغيره. والعاصم

من كل ذلك هو اليقظة الفكرية الإسلامية التي تضمن استيعاب كل مصلحة ودرء

كل مفسدة بالقدر الذي يمنع انفراد تلك الحركات بمصالح الناس بعيداً عن هدي

الشريعة ومقاصدها، وهذا وظيفة التعليم الشرعي الكلي، وربما يتيسر تفصيل ذلك

في مقال مستقل.

إن الظروف التي أحاطت بالعالم الإسلامي - كما يظهر مما تقدم وغيره - لم

تكن وحدها قادرة على تمكين التغريب التشريعي لو لم يتدخل المستعمرون لفرض

التشريع، ذلك أن لدى الفقهاء المقدرة على التجديد وملاحقة التغيرات بالتأصيل

والمراجعة والضبط، وهذا ما يبينه تاريخ التجديد الداخلي يوم يترك الفقهاء وميادين

العمل مهما تأخرت حركتهم؛ ففي أصعب الظروف كان وهج الشريعة ونور الكتاب

والسنة يمدان العلماء بما يضيء الطريق في ظلمات المحن التي تحيط بالأمة.

ومن شواهد ذلك تلك النهضة الجليلة للفقه الإسلامي التي أثارتها ظروف

الحروب الصليبية؛ إذ تزامن معها نهضة علمية كانت تقدم الزاد والهداية لأعمال

الجهاد المقاومة للغزو الصليبي على المستويات الفكرية والاجتماعية، لتلمع تلك

الأسماء الكبيرة المعروفة كالجويني، وابن عبد السلام، والقرافي، وابن تيمية،

وابن القيم، والشاطبي، وهم متوالون في الميلاد والوفاة، ولتقدم الزاد العلمي

والفكري الذي نهضت به الأمة يوم تصدى لها الرجال العاملون في حركات التجديد

الحديثة منذ دعوة الشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب إلى الدراسات والدعوات

الحديثة.

نماذج للتغريب التشريعي:

أ - تغريب التقنين في الدولة العثمانية.

ب - تغريب التقنين في مصر.

أ - تغريب التقنين في الدولة العثمانية:

تميزت الدولة العثمانية بقدراتها الحربية، وأنشأت تنظيماتها العسكرية التي

حققت نجاحاً مدوياً في القارات الثلاث، وكانت فرنسا تطلب المعونة العسكرية من

الخلافة، كما فعل فرانسوا الأول سنة 1525م مع السلطان سليمان القانوني.

وكانت الدولة في عهد سليمان هذا قد بلغت ذروة تنظيمها وقوتها؛ فقد كان

حريصاً على إقامة العدل، وتنظيم القضاء، وكان شعاره الذي كتبه على ديوانه

يتضمن بيان ترابط قوة الدولة بقوتها الاقتصادية، وارتباط قوة الاقتصاد بالعدل؛

فأصدر بمعونة شيخ الإسلام تنظيمات للقضاء، وبعض القوانين لضبط جوانب مما

لم يستطع تركه للاجتهاد، كتنظيم أراضي بعض المناطق الصربية المفتوحة،

وتقرير بعض القواعد مثل منع نظر الدعوى المتقادمة لدى القضاء العام وغير ذلك،

ويمكننا أن نقسم مراحل التغيير القانوني في الدولة العثمانية إلى مراحل رئيسية،

أحاول تقريب شتاتها فيما يلي:

1 - مرحلة التنظيم الأصيل المؤسس بإرادة ذاتية: ويشمل هذا التنظيمات

التي افتتحها السلطان سليم الأول المتوفى سنة 1520م بتبني المذهب الحنفي مذهباً

للدولة، وشهدت ذروتها مع السلطان سليمان القانوني، وكان التقنين يصدر في هذه

المرحلة على شكل فتاوى يصدرها شيخ الإسلام بناءً على استفتاء السلطان، وكانت

تتم وفق أصول الشريعة في الغالب، ويرعاها فقهاء متخصصون، من أشهرهم

شيخ الإسلام أبو السعود [15] .

وقد انتاب هذه المرحلة تجاوزات عديدة، وكانت في مجملها - رغم تدين

السلطان سليمان - أعمالاً سياسية تهدف إلى تعزيز قدرة الدولة العثمانية بعد تحقيق

البرتغاليين لنصرهم الكبير بالسيطرة على طريق تجارة الشرق باكتشافهم لطريق

رأس الرجاء الصالح، وتحول التجارة عن البحر المتوسط والموانئ العربية

والإسلامية إلى لشبونة مما أفقد اقتصاد المنطقة أخطر وسائله الإنتاجية، غير أنها

كانت محلية المصدر عميقة التأثير.

2 - مرحلة تقديم الامتيازات القانونية للدول الأجنبية: وأول ما بدأ هذا

التنظيم بمعاهدة بين الخلافة وفرنسا في سنة 1536م، تقدم للرعايا الفرنسيين

حصانة ضد القضاء العثماني، وتولية القنصل الفرنسي القضاء بين الفرنسيين ومن

يخاصمهم [16] . وقد تلاها فيما بعد معاهدات مماثلة مع دول أخرى.

في تلك الفترة كانت الدولة قوية العود مرهوبة الجانب، وفي سنة 1699م =

1111هـ هزمت الدولة العثمانية في معركة (كارلوفجا) وواجهت فيها تكتلاً

أوروبياً قوياً يتكون من ألمانيا وروسيا وبولونيا، وقد فوجئ العثمانيون بتقنيات

تلك الجيوش، وهزت هذه المعركة الدولة، فالتفتت إلى إصلاح مؤسساتها، فتوجه

السلطان أحمد الثالث 1703م 1730م يفتح النوافذ على أوروبا القوية يستلهم منها

وسائل القوة؛ فأغضب ذلك قادة الجيش الإنكشاري الذي كان عمود الجيوش

العثمانية خوفاً من تقليص نفوذه بالإصلاحات العسكرية الجديدة، فتآمر الإنكشاريون

على الخليفة فعزلوه، واستمر نفوذهم حتى قررت الدولة القضاء عليهم في معركة

شهيرة، وانفتح بذلك الطريق أمام إصلاح الجيش، وفي سنة 1734م بدأت عملية

إصلاح عسكرية جديدة يشرف عليها التقنيون الفرنسيون، وفي سنة 1792م أعلن

السلطان سليم الثالث إصلاحات جديدة؛ فعين سفراء في أوروبا يستطلعون وسائل

القوة والإدارة، فتواردت عليه التقارير، وعين مجلس شورى للإصلاح ناقش تلك

التقارير، وقرر سلسلة من الإصلاحات في الأنظمة المالية والعسكرية والتعليمية،

وقد افتتح ذلك عهد تغريب التعليم الحديث، وفصله عن التعليم التابع للمؤسسات

الشرعية، وسنتناول ذلك في الفقرة التالية.

3 - مرحلة تأسيس التعليم الحديث في مدارس تسمى المكاتب، لتكون

مؤسسة موازية للمدارس العامة التابعة لمشيخة الإسلام، وكانت تلك المكاتب

فرنسية المناهج، وتعليم اللغة الفرنسية فيها إجباري منذ سنة 1793م، وقد نتج عن

نظام التعليم الحديث كليات مثل الطب التي أسست سنة 1827م، غير أن ازدواجية

التعليم قد أدت إلى استقطاب عميق متنافر بين خريجي المدارس التقليدية والمدارس

الحديثة أدى إلى تقسيم المجتمع إلى تيارين رئيسين: أحدهما: تقليدي محافظ لا

يحسن رطانة التحديث وغاياته، والآخر: مبهور بالنموذج الجديد الذي استعلى

بقواته على مقام الخلافة رغم قرون التمكين والقوة، ومرغ عزتها في معارك

متوالية كان آخرها حرب القرم، وتعديات روسيا التي لا تنقطع، واحتلال مصر

سنة 1798م.

وازداد الإقبال على التعليم الحديث لتقديمه العلوم الحديثة، وكونه الطريق

النافذ إلى مناصب الدولة. ومن أسباب تعاظم النفور من التعليم التقليدي: ضعفه،

وعجزه عن استيعاب المتغيرات وملاحقتها بالتأصيل والبيان في الوقت المناسب قبل

استيراد الحلول المستغربة وفرض هيمنتها [17] .

4 - مرحلة إصدار القوانين العثمانية الحديثة التي بدأت بما يعرف بـ

(شريف كلخانة) نسبة إلى المكان الذي أعلنها فيه السلطان عبد الحميد سنة 1255

هـ = 1839م، وقد أعادت تنظيم مؤسسات الدولة وقررت المساواة بين المواطنين

وبدأت الدولة تنظم القوانين الخاصة لكل فرع من فروع القضاء كالقانون التجاري

الذي صدر 1850 م، وقانون الأراضي وقانون الجزاء و ... ، وفي هذه المرحلة

كانت القوانين تتنازعها مرجعيتان هما القوانين الأوروبية، والشريعة الإسلامية.

يقول المحامي محمد فريد بك:» وكل هذه القوانين مقتبسة من القوانين الفرنسية

مع مراعاة الشريعة الإسلامية « [18] .

وكان مرجع هذه القوانين القضائي محاكم مدنية، يراجع أحكامها قضاة تمييز

برئاسة قضاة شرعيين [19] .

5 - مرحلة الاستنساخ الكثيف المباشر؛ ففي سنة 1272هـ = 1856م

حدث تحول في مسار التشريع العثماني بسبب ضغوط هائلة من التيار الإصلاحي

الذي قرأ الإصلاح السياسي الأوروبي، وأعجب به، فتشربه ولم يكن يملك رؤيته

الخاصة، وعلى رأس هذا التيار مدحت باشا الصدر الأعظم، وكان هذا التيار

مدعوماً من بعض القوى الغربية، ومع ذلك فالمصادر تشير إلى أن مدحت باشا كان

حافظاً للقرآن الكريم، وانتظم في حلقات العلم الشرعي في جامع الفاتح في الآستانة،

كما تعلم اللغة الفرنسية ودرس الأنظمة السياسية والاجتماعية، وكان محافظاً على

الصلاة عارفاً بمدارس المدنية في العالم، وقد أظهر براعة متميزة وحزماً في عدل

في الولايات التي حكمها كالصرب وبلغاريا رغم الفتن التي كانت تموج فيها،

وكان فيه:» دروشة ويقظة « [20] .

ومع تدينه وما ظهر من صدقه فيما تولاه من أعمال إلا أنه اصطدم ببعض

العلماء الذين وقفوا في وجه تغيير الحال دون تفصيل أو برهان، فاستقطبت حركة

مدحت باشا رجالات الثقافة الحديثة المتغنين بالحريات نسجاً على منوال الغرب مثل

الكاتب الشهير نامق كمال، فصارت المعركة بين تيارين: أحدهما يدعو إلى

التحديث، والآخر يمجد الواقع ويزجر من يروم تغييره. فوقع من الفتن ما انتهى

بعزل الخليفة وتولية السلطان عبد الحميد ومن ثم إعلان التعديلات الجديدة بصدور

ما يسمى بإصلاحات: (خطي هُمايوني) أي مرسوم السلطان الإصلاحي ليتضمن

كثيراً من المكاسب كتأسيس مجلس نيابي، وبيان الحقوق والواجبات لرجالات

الدولة ومؤسساتها، وفي الوقت نفسه ما يماثلها من المخاطر وخاصة تعزيز مواقع

الأقليات غير المسلمة من النصارى واليهود وغيرهم، ومنحهم من الامتيازات ما

يفوق حقوق المسلمين [21] ؛ ليتكون من كل ذلك وسيلة فاعلة لخلخلة وحدة الشعب

العثماني بين التحديث والتقليد والوطن والقوى الغربية، وقد حدث ذلك رغم وعي

مدحت باشا بمخاطر استنساخ النظم القانونية والمؤسسية الغربية؛ فقد كان يشبِّه أخذ

قوانين أوروبة باستيراد آلة نسج لا يعرف أهل البلاد تشغيلها، إلا أنه مع ذلك لم

يزد على أن:» يدرس قوانين أوروبة ونظمها ويختار أنسبها «. ويلاحظ أن

مشروعه يعتمد على الاختيار بين الأنسب من القوانين الموجودة، ولم يكن التطوير

الذاتي متاحاً.

فهل كان يملك من الوقت أو الرجال القادرين على ابتكار الحلول النابعة من

مؤسسات المجتمع وشريعته، وإدخال ما تحتاجه من وسائل الأداء الحديثة الناجمة؛

فأعرض عن ذلك وتنكبه، أم أن العلاقة بين هذا التيار والفقهاء والقوى المحافظة لا

تساعد على تحقيق ذلك الهدف، أم أنه الضغط الأجنبي، أم هي غفلته ودروشته

التي أشار إليها أحمد أمين تحت هاجس الإصلاح الضروري لبعث القوة في الدولة

التي تدهورت وأنهكتها الديون والفساد؟ وما دور حزب تركيا الفتاة وأحراره، وما

مدى صلة فروع الحزب بألمانيا في فرع مدينة سالونيك الذي استغله الألمان، وفرع

الحزب في مانستر بيوغسلافيا الذي استغله البريطانيون من خلال علاقاتهم السرية

المعقدة؟ وما الذي كان يفعله السلطان عبد الحميد مقتنعاً، وما الذي فعله تحت

الضغط وأمل جمع المعارضين؟

أسئلة كثيرة تتوقف إجابتها على مزيد من التحقيق والبحث، وربما تتيسر

العودة إلى دراسة التطورات الدستورية في دولة الخلافة في وقت لاحق.

إن أشد ما يلفت النظر في تلك التغييرات ما تضمنته من دعم للتغيير

الاجتماعي واللبرالية وتعطيل حد الردة، وفتح الأبواب للمؤسسات الغربية لتنتشر

في المجتمع العثماني كالمدارس التبشيرية، والمؤسسات الثقافية الأوروبية؛ ففي

المراحل اللاحقة بلغ عدد الطلاب المترددين على المدارس الفرنسية وحدها ما يزيد

عن ثمانية وسبعين ألف مواطن عثماني في السنة الواحدة، ولنقرأ آثار تغريب

التعليم بهذا الشكل في نص للشيخ مصطفى صبري - رحمه الله - يقول:

» والعجب أن الضغط على الدول الإسلامية لكفها عن العمل بقوانين الشرع الإسلامي

كان يأتي في الزمن القديم من الدول الصليبية، وكان يقتصر على مسألة التسوية

بين المسلم والذمي، والآن ينوب عن تلك الدول فريق من المسلمين المتعلمين في

مدارس تلك الدول نيابة تعدت حدود الأصالة « [22] .

إن الاستطراد في بيان نفوذ التغريب الثقافي في هذا المقام هدفه بيان الضغط

الذي تولده الثقافة الناشئة عن الثقافة الجديدة، وأهدافها.

لم تكن الأهداف التغريبية الاستعمارية سراً؛ فقد تأسست هيئات متخصصة

في رعاية تلك الأعمال منها البعثة العلمانية الفرنسية سنة 1902م وكان هدفها

» نشر التعليم العلماني والعمل من خلاله على توسيع دائرة النفوذ الفرنسي في

الخارج «. أما استهداف النخب في البلاد التي تعمل فيها تلك المؤسسة فقد جاء

صريحاً في خطاب وزير الخارجية الفرنسي أمام مجلس الشيوخ قال فيه:» أعتقد

أن بالإمكان تقديم دعاية وطنية حقاً، وذات فائدة كبيرة في بلدان المشرق إذا دعمنا

بقوة البعثة العلمانية التي تضم أعداداً كبيرة من القوى المتنورة « [23] .

وفي تقرير لمؤسسة أخرى ورد:» كانت تركيا دوماً في رأس

اهتماماتنا « [24] .

وتعمل مؤسسة أخرى على دعم اليهود في تركيا تسمى: (الأليانس

الإسرائيلية العالمية) تأسست سنة 1860م. يقول عنها أحد النواب الفرنسيين:

» هكذا نفهم إلى أي مدى كانت هذه المؤسسة بأعمالها العظيمة في خدمة مصالح

بلادنا.. وفي توسيع دائرة نفوذ الأفكار والحضارة الفرنسية « [25] .

وقد كانت مدارس هذه المؤسسة في الخلافة العثمانية تضم قرابة خمسين ألف

طالب في مرحلة تالية. ومن جهتها أظهرت الجهود الفرنسية اليهودية نموذجاً

للمثابرة الغربية الدؤوبة لتقويض اللحمة الوطنية وخلخلتها لتمكين النفوذ الأجنبي

بدعم شامل من التشريعات التي ضغطت تلك الدول لإصدارها.

ويدعم هذا التيار العام صحافة ليبرالية قوية تبنت إصلاح الوضع السياسي

المتدهور، ومزجت معه دعوات التغريب الشامل، في الدولة، والأخلاق،

والتشريع، والإعلام.

لقد أدرك المفكرون بشكل عام والفقهاء بشكل خاص خطر موجة التغريب

التشريعي الجارية، والظروف التي تؤدي إلى إقبال رجال الدولة على استنساخ

النماذج الغربية ومنها القوانين؛ وخاصة أن الاندفاع الهائل للثورة الفرنسية قد

أدهش العالم، وضاعف ذلك الزخم النفسي الذي ولدته حملات نابليون بونابرت

على دول أوروبا، وانتصاراته التي توجته سيداً لأوروبا غير منازع من قواها

التقليدية؛ اكتمل ذلك في فجر القرن التاسع عشر، وحمل معه مبادئ الثورة المدوية

فاستجابت له المجتمعات الأوروبية التي كانت ترزح تحت نير الإقطاع وسلطان

الكنيسة، وتشدها آمال النهضة التي تجسدت في البرجوازية الناشئة في قطاع

التجارة والصناعة، وبريق العلم الذي أجاب عن كثير من أسئلة تلك المجتمعات.

امتدت ظاهرة تغريب القوانين أو فرنستها لتشمل اليابان والصين والهند

وإيران ومصر وشمال أفريقيا، وأفريقيا السوداء، فضلاً عن دول أوروبا وبعض

ولايات أمريكا وكندا [26] .

أمام هذه التحديات بادر أحمد جودت باشا وزير العدل المرشح لهذا المنصب

من قِبَل شيخ الإسلام وأحد فضلاء فقهاء الخلافة المطلعين على القوانين الغربية؛

فتبنى حماية الحصون الفقهية من خلال تدوين الفقه الحنفي بطريقة حديثة تزحم

القوانين الوافدة، وترعى مصالح المجتمع الحديثة دون إخلال بأصول الشرع، وقد

نجح في مسعاه فأنجز مجموعة من كبار الفقهاء وضع المجلة في بضع سنين،

ويظهر من تقرير اللجنة إلى الصدر الأعظم - رئيس الوزراء - سنة 1286هـ =

1867م أن هدف المجلة تقريب الفقه الحنفي إلى رجال القانون الذين يطبقون

القوانين الجديدة حتى لا تؤدي صعوبة الوصول إلى الفقه الشرعي إلى سن القواعد

الوضعية في المجال المدني. يقول التقرير:» والحال أن أعضاء مجالس تمييز

الحقوق - أي القانونيين - لا اطلاع لهم على مسائل علم الفقه.. الدعاوى التجارية

التي لا حكم لها في قانون التجارة فيحصل بها مشكلات عظيمة.. وإذا قيل لأعضاء

محاكم التجارة أن يراجعوا الكتب الفقهية فهذا أيضاً لا يمكن؛ لأن هؤلاء الأعضاء

على حد سواء مع مجالس تمييز الحقوق في الاطلاع على المسائل الفقهية.. بناءً

على ذلك لم يزل الأمل معلقاً بتأليف كتاب في المعاملات الفقهية سهل المأخذ لكل

من نواب الشرع، ومن أعضاء المحاكم النظامية، والمأمورين بالإدارة، فيحصل

لهم بمطالعته انتساب إلى الشرع.. فيصير هذا الكتاب معتبراً مرعيَّ الإجراء في

المحاكم الشرعية، مغنياً عن وضع قانون لدعاوى الحقوق التي ترى في المحاكم

النظامية.. وبموجب الإرادة العلية اجتمعنا في دائرة ديوان الأحكام، وبادرنا إلى

ترتيب مجلة مؤلفة من المسائل الكثيرة الوقوع.. « [27] . وقد صدر الأمر العالي

بتطبيقها سنة 1293هـ = 1876م.

آثار صدور مجلة الأحكام:

يبين تاريخ التشريع الدور المؤثر لمجلة الأحكام العدلية في حماية مرجعية

الشريعة على مستويات عديدة، من أهمها:

1 - تقديم بديل شرعي أدى إلى ضمان مرجعية الشريعة في النظام القانوني

العثماني والبلاد التابعة له مدة طويلة في وجه التغريب؛ فقد استمر تطبيقها حتى

ألغيت سنة 1926م في تركيا ضمن عمليات التغريب الشاملة الأتاتوركية، واستبدل

بها قانون الديون السويسري. أما في العالم العربي فقد استمر تطبيقها إلى سنة

1976م في الأردن، ولا زال بعضها مطبقاً في لبنان وقبرص وبعض البلاد [28] ،

وأسهمت المجلة في حماية عدد من البلدان من هجمات التغريب القانوني حيث

ورثت التشريعات العربية مكان المجلة بعد عودة روح الاستقلال والعودة للشريعة

كما في الأردن وسوريا والعراق والإمارات، وإن كانت العودة في مراحلها

الأولية.

2 - إقامة الصلة الوثيقة بين المحاكم الحديثة والفقه الشرعي في المسائل

المسكوت عنها في القوانين الحديثة وهي مسائل واسعة، ويظهر ذلك من تقرير

النظارة العدلية المشار إليه أعلاه، وهو منشور بكامله في مقدمة درر الحكام للعلامة

علي حيدر شارح المجلة ورئيس محكمة التمييز ووزير العدل وأستاذ الحقوق في

كلية الحقوق بالآستانة.

3 - أن المجلة أوجدت فرصة عظيمة لإعادة تدوين مسائل الفقه الإسلامي

المتناثرة في مراجع الفقه الحنفي في مرجع واحد سهل المأخذ، منظم وفق الهيكل

المعتاد في الدراسات القانونية الحديثة؛ مما أقام الصلة بين خبراء القانون والفقه

الحنفي، ويعرف هذا بمراجعة الدراسات القانونية المقارنة على امتداد أكثر من مائة

عام.

4 - أن المجلة أصبحت هي اللبنة الأساسية التي أقيم عليها مشروعات

القوانين المدنية في الدول الإسلامية بعد انفراج ضغوط الاستعمار وإن لم تبلغ تلك

القوانين مستوى التحرر المطلوب، وكان للمجلة أثر ملموس في التعبئة المعنوية

للأمة في مراحل الانبهار بالغرب الغازي.

5 - أن المجلة كانت وسيلة فعالة لتخليص الفقهاء من الجمود المذهبي الذي

كاد أن يؤدي إلى إحلال القوانين الغربية إحلالاً شاملاً، وخاصة مع ضيق الفقه

الحنفي في أبواب المعاملات والشروط بوجه خاص؛ فتقرير تقديم المجلة المذكور

أظهر صعوبة مواجهة التقليد المذهبي الذي كاد يعصف بمشروع المجلة كله، لكن

الله - تعالى - يسر لها أن ترى النور. ويبين التقرير أمثلة على المسائل المذهبية

التي اختيرت في المجلة مما قرره الفقهاء مما يخالف المذهب الحنفي، وقد صدرت

تعديلات للمجلة توسع مجال الشروط لتأخذ بما قرره ابن تيمية من جواز الشروط.

أود أن أختم هذه الحلقة بتسجيل نجاح التحديثيين وانتصارهم بقيادة الصدر

الأعظم مدحت باشا في مشروعهم الدستوري بالمقاييس التي فكروا في إطارها؛ فقد

أدخلوا الدولة التي دمرها الفساد والاستبداد في دائرة الدولة النيابية والدستورية،

غير أن المسار العام الذي اختاروه لم يحقق ما كانوا يطمحون إليه لتنهار الأمة

العثمانية في المشروع الاتحادي نسبة إلى حزب الاتحاد والترقي فتتهاوى مؤسسات

الدولة وأقاليمها، ثم يعلن الاتحاديون تصفية الخلافة التي ضحى مدحت باشا ورفاقه

لتعزيزها وتطويرها من خلال التحالف على مفاهيم وآليات لم تتواءم مع نسيج الأمة

الراسخ وثقافتها التي تحقق لحمة سوادها العريض، فكان ذلك النصر سبباً لتفويت

مصالح كبرى لم تكن لتضيع لو قدر لذلك الإصلاح أن يستنبت في نسيج الأمة

ويترقى بها على مهل وروية فكرية وسياسية.

أما النصر الثاني فهو ما حققته المجلة وفقهاؤها؛ فقد حفظت للأمة الفقه

الحنفي، بل وسلمته لأجيال تالية فتلقفته وقد ذهب وهج انتصارات أوروبا

وتطويحها بأنظمة الإقطاع وسلطة الكنيسة ليكون فقه المجلة وسيلة التواصل بين

القانونيين والفقه الإسلامي، ويكفي لبيان هذا الأثر العميق للمجلة أن أحد أشهر

مراجع الفقه الإسلامي في كليات الحقوق وأقسام الفقه في الجامعات العامة هو كتاب

(المدخل الفقهي العام) للشيخ مصطفى الزرقا - رحمه الله - وهو تنظيم وتطوير

للمادة الفقهية مستقى من الفقه الحنفي ومجلته على وجه الخصوص، وبهذا قادت

المجلة قوافل العودة إلى الفقه الإسلامي في أبحاث الحقوق رغم أنها لا تؤدي إلا إلى

مذهب الحنفية، فكانت هذه الظاهرة نصراً لتيار تجديد الفقه، وقارن هذا النجاح

الفقهي مع تيارات المجتمع التركي المتذمرة من مشروع التغريب العلماني المتطرف

التي لم تبتكر وسائل فاعلة لمقاومة التغريب واستيعاب المصالح المشروعة التي

نشأت حركة التغريب لتحصيلها [فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ

فِي الأَرْضِ] (الرعد: 17) .

في الحلقة التالية سوف نتدارس - إن شاء الله - التجربة المصرية وما فيها

من العبر لنصل إلى خطوات العمل التي يفتقر إليها واقعنا بعون الله - تعالى -.

والله الموفق.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015