دراسات في الشريعة والعقيدة
(1 - 2)
محمد بن عبد الله الهبدان
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فتعظيم الآثار ظاهرة قديمة، تأخذ صوراً وأشكالاً متعددة عند كثير من
الشعوب والأمم، وقد درجت بعض الدول في العصور المتأخرة على إحياء آثارها
التاريخية لأسباب سياسية واقتصادية، ونشطت كثير من المنظمات الدولية في
رعاية تلك الآثار ودعوة الدول إلى العناية بها.
وبعد حادثة تحطيم الأصنام التي جرت في أرض أفغانستان كثر حديث الساسة
والمنظمات الدولية والقنوات الإعلامية عن الآثار التاريخية وضرورة العناية بها،
فكتبت هذه الدراسة المتواضعة توضيحاً للمنهج الشرعي الصحيح، وبياناً للحق
مستعيناً بالله - تعالى - فأقول، وبالله التوفيق:
تعريف الآثار لغة واصطلاحاً:
1 - تعريف الأثر لغة [1] :
الهمزة والثاء والراء، لها ثلاثة أصول: تقديم الشيء، وذكر الشيء، ورسم
الشيء الباقي.
فالأول وهو تقديم الشيء: كأن تقول افعل يا فلان هذا آثِراً ما، أي: إنْ
اخترت ذلك الفعل فافعل هذا إما لا. قال ابن الأعرابي: معناه: افعله أوَّلَ كلِّ
شيء.
والثاني وهو ذكر الشيء: ومنه قول ابن عمر - رضي الله عنهما -: «ما
حلفت بعدها آثِراً ولا ذاكراً» فقوله: آثِراً: أي مخبراً عن غيري أنه حلف به.
والثالث وهو رسم الشيء الباقي: قال الخليل: والأثر بقية ما يرى من كل
شيء، وما لا يرى بعد أن تبقى فيه علقة. والآثار الأثر، كالفلاح والفلح، والسداد
والسدد، قال الخليل: أثر السيف ضربته، وتقول: من يشتري سيفي وهذا أثره،
يضرب للمجرب المختبر.
وقال الأصفهاني: أثر الشيء: حصول ما يدل على وجوده، يقال: أَثَر
وإثْرٌ، والجمع: الآثار، قال - تعالى -: [ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِرُسُلِنَا]
(الحديد: 27) ، [وَآثَاراً فِي الأَرْضِ] (غافر: 21) .
ومن هذا يقال: للطريق المستدَل به على مَنْ تقدم: آثار، نحو قوله -
تعالى-: [فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ] (الصافات: 70) ، [قَالَ هُمْ أُوْلاءِ عَلَى
أَثَرِي] (طه: 84) .
2 - تعريف الآثار اصطلاحاً:
من خلال البحث لم أجد أحداً عرَّف الآثار، ومجمع اللغة العربية عرَّف علم
الآثار بقوله: علم الوثائق والمخلفات القديمة [2] .
وهذا التعريف قاصر؛ إذ لا يتناول المواقع التي لا يوجد فيها أمور عينية، وهي
من الآثار.
ويمكن أن يقال في تعريفها بأنها: ما يدل على أثر مَنْ سلف من الأمم.
منهج الرسول صلى الله عليه وسلم ومن بعده وموقفهم من الاهتمام
بالآثار:
من خلال تتبع بعض الأحداث يتبين لنا منهج رسول الله، فمن ذلك:
1 - الأماكن التي زارها النبي قبل البعثة وبعد البعثة لم يرد دليل واحد على
أن النبي قصد زيارتها أو أمر بزيارتها أو حث على الاهتمام بها، ونحو ذلك. قال
شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: «فإن النبي بعد أن أكرمه [الله] بالنبوة لم
يكن يفعل ما فعله قبل ذلك من التحنث في غار حراء أو نحو ذلك، وقد أقام بمكة
بعد النبوة بضع عشرة سنة، وأتاها بعد الهجرة في عمرة القضية، وفي غزوة الفتح،
وفي عمرة الجعرانة ولم يقصد غار حراء، وكذلك أصحابه من بعده، لم يكن أحد
منهم يأتي غار حراء..» [3] ويقول أيضا: «وكذلك قصد الجبال والبقاع التي
حول مكة غير المشاعر؛ عرفة ومزدلفة ومنى مثل جبل حراء والجبل الذي عند
منى الذي يقال إنه كان فيه قبة الفداء ونحو ذلك؛ فإنه ليس من سنة رسول الله
زيارة شيء من ذلك بل بدعة» [4] .
2 - عندما فتح النبي مكة وطاف بالكعبة كسر الأصنام التي حول الكعبة كلها
كما جاء في حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِي اللَّه عَنْه - قَالَ: دَخَلَ النَّبِيُّ مَكَّةَ
وَحَوْلَ الْكَعْبَةِ ثَلاثُ مِائَةٍ وَسِتُّونَ نُصُباً فَجَعَلَ يَطْعَنُهَا بِعُودٍ فِي يَدِهِ وَجَعَلَ
يَقُولُ صلى الله عليه وسلم: [جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ إِنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً]
(الإسراء: 81) [5] وهذه الأصنام تعتبر من الآثار التي يحافظ عليها في مثل
هذا الزمن؛ فلماذا لم يحافظ عليها الرسول صلى الله عليه وسلم ويعتني بها،
ويجعلها في متحف ونحوه؟ ! !
وعلى هذا المنوال سار أتباعه الكرام، وإليك البيان:
لقد كان هدي السلف الصالح الاهتمام بالآثار الفعلية والقولية من أقوال
المصطفى صلى الله عليه وسلم وأفعاله، ولا أدل على ذلك من هذه الكتب التي
تزخر بالكثير من الآثار الفعلية والقولية.. فأفنوا أعمارهم من أجل المحافظة عليها،
وقطعوا القفار وكابدوا مشقة الأسفار؛ وواصلوا الليل بالنهار؛ كل ذلك جمعاً لآثار
النبي المختار صلى الله عليه وسلم وتدوينها ليعمل بها.. وبلغ من حرصهم على
تتبع آثار النبي صلى الله عليه وسلم القولية والفعلية أن يُنقَل لنا حتى شؤون النبي
صلى الله عليه وسلم الزوجية في غسله ووضوئه، في أكله وشربه، وفي نومه
واستيقاظه.. في كل شيء.. هذا كان ديدنهم، وتلك كانت همتهم. ولم يكن معروفاً
عنهم تتبع الآثار المكانية والعينية والاهتمام بها وتشييدها أو عمل مزارات. يقول
الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله -: «ومعلوم أن أصحاب النبي صلى الله
عليه وسلم - ورضي الله عنهم - أعلم الناس بدين الله وأحب الناس لرسول الله
صلى الله عليه وسلم وأكملهم نصحاً لله ولعباده ولم يحيوا هذه الآثار، ولم يعظموها،
ولم يدعوا إلى إحيائها.. ولو كان إحياؤها أو زيارتها أمراً مشروعاً لفعله النبي
صلى الله عليه وسلم في مكة وبعد الهجرة أو أمر بذلك أو فعله أصحابه أو أرشدوا
إليه..» [6] .
ومما يدل على ذلك:
1 - موقفهم من الآثار الموجودة في مكة والمدينة وبيت المقدس: فلم يعرف
أن أحداً منهم زار تلك الآثار أو تتبعها وأمر بتشييدها، بل كانوا يسدون هذا الباب؛
فإن المسلمين لما فتحوا تُستَر، وجدوا هناك سرير ميت باق ذكروا أنه «دانيال»
ووجدوا عنده كتاباً فيه ذكر الحوادث، وكان أهل تلك الناحية يستسقون به، فكتب
في ذلك أبو موسى الأشعري إلى عمر، فكتب إليه أن يحفر بالنهار ثلاثة عشر قبراً،
ثم يُدفَن بالليل في واحد منها ويعفَّى قبره؛ لئلا يفتتن الناس به [7] ولذلك يقول
شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: «لم تَدَعِ الصحابة في الإسلام قبراً ظاهراً
من قبور الأنبياء يفتتن به الناس؛ ولا يسافرون إليه ولا يدعونه، ولا يتخذونه
مسجداً؛ بل قبر نبينا صلى الله عليه وسلم حجبوه في الحجرة، ومنعوا الناس منه
بحسب الإمكان، وغيره من القبور عفوه بحسب الإمكان؛ إن كان الناس يفتتنون به،
وإن كانوا لا يفتتنون به فلا يضر معرفة قبره..» [8] .
وفي بعض الأحايين تحصل مناسبة لزيارة تلك الأماكن الأثرية ومع ذلك لا
يزورونها كما حصل لعمر ابن الخطاب وابنه عبد الله - رضي الله عنهما - فقد
زارا بيت المقدس ولم يأتيا الصخرة ولا غيرها من البقاع [9] ، بل إذا خشيت الفتنة
أمروا بإزالتها كما أمر عمر بقطع الشجرة التي حصلت تحتها بيعة الرضوان.
2 - وجود الأهرامات في مصر: فبعد دخول الفتح الإسلامي بقيادة عمرو بن
العاص - رضي الله عنه - لم تذكر كتب التراجم والسير والتاريخ أن أحداً منهم
زار تلك الأهرامات مع أنها تعتبر معلماً من معالم مصر فضلاً عن الاهتمام بها
وتشييدها.
وكم هم العلماء الذين رحلوا إلى مصر لطلب العلم والحديث! ! فهل نقل أن
أحداً منهم زار تلك الآثار؟ ! ! فهذا الإمام الشافعي والعز بن عبد السلام وابن
خزيمة وأبو حاتم وغيرهم كثير.. وقد سئل الزركلي عن الأهرام وأبي الهول
ونحوها: «هل رآها الصحابة الذين دخلوا مصر؟ فقال: كان أكثرها مغموراً
بالرمال ولا سيما أبا الهول» [10] .
بل إن كثيراً من هذه الآثار لم تكتشف إلا أخيراً؛ فمعبد أبي سمبل مثلاً الذي
يعد من أكبر معابد الفراعنة كان مغموراً بالرمال مع تماثيله وأصنامه إلى ما قبل
قرن أو نصف قرن تقريباً، وأكثر الأصنام الموجودة في المتاحف المصرية في هذا
الوقت لم تكتشف إلا قريباً.
«ومما يدل دلالة واضحة على عدم الاهتمام بها أن بعض تلك الآثار يعلو
عليها التراب، يقول ياقوت الحموي: وفي سفح أحد الهرمين صورة آدمي عظيم
مصبغة وقد غطى الرمل أكثرها» [11] مما يدل على أنها مهملة.
وأشد من ذلك صدور محاولات عدة من الولاة لهدمها كالمأمون [12] والملك
العزيز الأيوبي [13] . وقد ذكر ابن خلدون أن الخليفة الرشيد حاول كسر إيوان
كسرى على ضخامته مع أن بعضهم أشار عليه بتركه؛ لا من أجل التفاخر به؛
ولكن من أجل أن يستدل به على عظم ملك آبائه الذين سلبوا الملك لأهل ذلك
الهيكل [14] ؛ ومع ذلك لم يستجب فقام بمحاولة تكسيره - رحمه الله -.
وقال أبو علي الأوقي: سمعت أبا طاهر السِّلَفي [15] يقول: «لي ستون سنة
بالإسكندرية ما رأيت منارتها إلا من هذه الطاقة، وأشار إلى غرفة يجلس
فيها» [16] . مع أنها معلم من معالم الإسكندرية.
ولكن بدأ هذا النوع ينمو ويسري في بلاد المسلمين كلها وهو: العناية بالآثار،
وعمل المزارات لها وارتيادها، والاهتمام بها، والحفاظ عليها، بل هذا يعتبر من
أبرز اهتمامات وزارات السياحة، وإدارات الآثار.
بيان أن الاهتمام بالآثار من عادة غير المسلمين:
من المعلوم أن الدول الغربية هي التي شجعت على ظهور مثل هذا الاهتمام
لتحقيق مطامعها في الشرق الإسلامي.. فها هو (جب) يقول بصراحة تامة:
«وقد كان من أهم مظاهر فرنجة العالم الإسلامي تنمية الاهتمام ببعث
الحضارات القديمة التي ازدهرت في البلاد المختلفة التي يشغلها المسلمون الآن،
فمثل هذا الاهتمام موجود في تركيا وفي مصر وفي إندونيسيا وفي العراق وفي
فارس، وقد تكون أهميته محصورة الآن في تقوية شعور العداء لأوروبا، ولكن من
الممكن أن يلعب في المستقبل دوراً مهما في تقوية الوطنية الشعوبية وتدعيم
مقوماتها» [17] .
وهذا التصريح يعلل لنا عطف حكومات الاحتلال الغربية على كل مشاريع
الحكومات الوطنية في الشرق الإسلامي والعربي منه خاصة التي من شأنها تقوية
الشعوبية فيها وتعميق الخطوط التي تفرق بين هذه الأوطان الجديدة، مثل الاهتمام
بتدريس التاريخ القديم على الإسلام لتلاميذ المدارس وأخذهم بتقديسه، والاستعانة
على ذلك بالأناشيد، ومثل خلق أعياد محلية غير الأعياد الدينية التي تلتقي قلوب
المسلمين ومشاعرهم على الاحتفال بها، ومثل العناية بتمييز كل من هذه البلاد بزي
خاص ولا سيما غطاء الرأس مما يترتب عليه تمييز كل منها بطابع خاص، بعد أن
كانت تشترك في كثير من مظاهره [18] .
وحتى يحصل لهم ما يريدون، ويتحقق لهم ما يشتهون «أعانت الدول
المحتلة كُلاً في منطقة نفوذه على تدعيم قداسة هذه الأوطان الجديدة في نفوس الناس
بأسلوب علمي منظم، وذلك بمساعدتها على إحياء التاريخ القديم لكل قطر من هذه
الأقطار، ونشط الحفر للبحث عن آثار الحضارات القديمة السابقة على الإسلام في
كل من العراق وسوريا ولبنان وفلسطين وشرق الأردن ومصر؛ لتوهين عرى
الجامعة العربية، ولتشتيت القلوب التي ألف بينها الإسلام وجمعها على لغة واحدة؛
فاستيقظت العصبيات الجاهلية، وراح كل بلد يفاخر البلاد الأخرى بمجده العريق،
وشغلت الصحف بالكلام عن الكشوف الأثرية الجديدة وما تدل عليه من حضارات
البابليين والآشوريين والكلدانيين والحثيين والفينيقيين والفراعنة.
وكانت أصابع الغربيين واضحة في هذه الجهود؛ فقد عاش المسلمون دهوراً
وهم غافلون عن هذه الآثار القديمة لا يعيرونها التفاتاً، ولا يتحدثون عنها حين
يتحدثون إلا كما يتحدثون عن قوم غرباء من الكفرة أو العتاة، لا يثير الحديث عنهم
شيئاً من الحماس أو الزهو في نفوسهم، وظلوا على هذه الحال حتى بدأ الغربيون
بالكشف عن كنوزهم ولفت أنظارهم إليها منذ اتجهت مطامعهم إلى بلادهم.
وللأوروبيين في ذلك أسلوب خبيث ماكر؛ فهم يبدؤون التنقيب ببعوث من علماء
الآثار الغربيين، حتى إذا حققوا ما يهدفون إليه من اهتمام كل بلد من هذه البلاد
بتراثه القديم وتحمسه له وغيرته عليه، ورأوا أن هذه الغيرة تدفعه إلى منافسة
الأجانب في هذا الميدان الذي يعتبر نفسه أوْلى به وأحق، بوصفه وارث هذه
الحضارة، عند ذلك يتخلون عن مهمتهم ويتركونها في رعايته، مطمئنين إلى أنه
سيوالي السير في الخطوط التي رسموها له.
والأدلة على هذا الأسلوب الخبيث كثيرة لا تعوز الباحث؛ فقد بلغ من اهتمام
الأوروبيين بنبش هذا التاريخ القديم واتخاذه أساساً لتدعيم التجزئة الجديدة للوطن
العربي أن عصبة الأمم قد نصَّت في صك انتداب بريطانيا إلى فلسطين على
الاهتمام بالحفريات، وذلك في المادة (?) التي تنص على:» أن تضع الدولة
المنتدبة وتنفذ في السنة الأولى من تاريخ تنفيذ هذا الانتداب قانوناً خاصاً بالآثار
والعاديات ينطوي على الأحكام الآتية.. «، وكذلك كان شأن الفرنسيين في سوريا
ولبنان، فقد كان أول ما اهتم به الفرنسيون أن ألَّفوا في خلال الحرب العالمية
الأولى لجاناً في دمشق وبيروت لكتابة تاريخ الشام، فكتبوا منه بعض تاريخ لبنان
وأهملوا تاريخ سوريا، ثم لم يلبث الآباء اليسوعيون في بيروت أن كلفوا ثلاثة من
رهبانهم الفرنسيين سنة 1920م بكتابة هذا التاريخ، بعد أن قسموه إلى ثلاثة
عصور: العصر الآرامي والفينيقي، والعصر اليوناني والروماني، والعصر
العربي.
ومما لا تخفى دلالته في هذا الصدد أن الثري الأمريكي اليهودي الأصل
روكفلر (ابن روكفلر الكبير) صاحب الملايين، قد أعلن سنة 1926م عن تبرعه
بعشرة ملايين دولار أمريكي لإنشاء متحف للآثار الفرعونية في مصر، يلحق به
معهد لتخريج المتخصصين في هذا الفن، واشترط لمنح هذه الهبة أن يوضع
المتحف والمعهد تحت إشراف لجنة مكونة من ثمانية أعضاء ليس فيها إلا عضوان
مصريان فقط، على أن تظل هذه اللجنة هي المسؤولة عن إدارة المتحف والمعهد
لمدة ثلاث وثلاثين سنة.
وقد استرد الثري الصهيوني الأمريكي هبته وقتذاك، بعد أن أرسل مندوباً
يمثله من علماء الآثار الأمريكيين المعروفين وهو الأستاذ بْرِسْتِدْ ومعه أحد محاميه،
وذلك لرفض الحكومة شرط إشراف الأجانب الفني على المعهد، وقد كان واضحاً
من تحديد صاحب الملايين مدة الإشراف بثلاث وثلاثين سنة أنه يهدف إلى خلق
جيل من المتعصبين للفرعونية ثقافياً وسياسياً، ومصلحة الصهيونية في ذلك ظاهرة؛
لأنها إذا نجحت في سلخ الدول العربية عن عروبتها فقد سلختها من إسلامها، وإذا
انسلخت هذه الدول من إسلامها ومن عروبتها أمن اليهود كل معارضة لاستقرارهم
في فلسطين، وعاشوا مع جيرانهم في هدوء يمكن لهم من الإعداد لوثبة جديدة
يأكلون فيها جيرانهم النائمين؛ لأن معارضة الدول العربية لمطامع اليهود في
فلسطين إنما تستند إلى الإسلام والعروبة، فإذا انسلخ المصريون مثلاً من الإسلام
والعروبة ولبسوا ثوب الفرعونية مات الحافز الذي يدفعهم إلى مجاهدة اليهود
ومعارضة دولتهم في فلسطين؛ إذ يصبح اليهود والعرب لديهم عند ذلك
سواء» [19] .
وقد وضح الشيخ صالح الفوزان - حفظه الله - أن إحياء الآثار القديمة تعتبر
من دسائس الأعداء فقال: «ومن دسائس هذه المنظمات الكفرية دعوتها إلى إحياء
الآثار القديمة والفنون الشعبية المندثرة حتى يشغلوا المسلمين عن العمل المثمر
بإحياء الحضارات القديمة والعودة إلى الوراء وتجاهل حضارة الإسلام، وإلا فما
فائدة المسلمين من البحث عن أطلال الديار البائدة! والرسوم البالية الدارسة! وما
فائدة المسلمين من إحياء عادات وتقاليد أو ألعاب قد فنيت وبادت! في وقت هم في
أمسّ الحاجة إلى العمل الجاد المثمر، وقد أحاط بهم أعداؤهم من كل جانب واحتلوا
كثيراً من بلادهم وبعض مقدساتهم! إنهم في مثل هذه الظروف بحاجة إلى العودة
إلى دينهم وإحياء سنَّة نبيهم، والاقتداء بسلفهم الصالح حتى يعود لهم عزهم
وسلطانهم، وحتى يستطيعوا الوقوف على أقدامهم لرد أعدائهم، وأن يعتزوا
برصيدهم العلمي من الكتاب والسنة والفقه، ويستمدوا من ذلك خطة سيرهم في
الحياة، ويقرؤوا تاريخ أسلافهم لأخذ القدوة الصالحة من سيرهم، أما أن ينشغلوا
بالبحث عن آثار الديار، وإحياء الفنون الشعبية بالأغاني والأسمار، وإقامة مشاهد
تحاكي العادات القديمة؛ فكل ذلك مما لا جدوى فيه، وإنما هو استهلاك للوقت
والمال في غير طائل، بل ربما يعود بهم إلى الوثنية، والعوائد الجاهلية» [20] .
أسباب الافتتان بالآثار:
إن الله - تعالى - أرسل الرسل، وأنزل الكتب تبياناً لأهم قضية خُلقت
الخلائق من أجلها ألا وهي قضية التوحيد والنهي عن الشرك، وقد ركز القرآن
والسنة في بيان هذه القضية ووضحها غاية الإيضاح، وبينها غاية البيان حتى غدت
من ضروريات هذا الدين التي لا يمكن جهلها، ولكن لما اشتدت غربة الإسلام
وتباعد عصر النبوة؛ انتشر الشرك في الأمة وعظم الخطب في آثار الأنبياء
والصالحين، وأصبحوا يعتقدون فيهم الاعتقادات الباطلة، والخرافات الساقطة،
فلما كان ذلك كذلك احتاج الأمر إلى دراسة الأسباب التي جعلت الكثير من أفراد
الأمة يفتنون في مثل هذه الآثار، حتى يتم علاجها وإيجاد الحلول المناسبة لهذه
القضية الجلل «لأن معرفة المرض وسببه يعين على مداواة أصحابها وإزالة
شبهاتهم» [21] وهذه الأسباب متفاوتة من جهة تأثيرها على الناس ومتعددة،
وسأذكر إن شاء الله - تعالى - بعض هذه الأسباب مقدماً الأهم فالأهم، فأقول وبالله
التوفيق:
السبب الأول: الجهل بحقيقة هذا الدين:
لقد كان الناس قبل البعثة في جاهلية جهلاء، وضلالة عمياء، حتى جاءهم
بمن أخرجهم من ظلمات الجهل، إلى نور العلم، جاءهم خاتم الأنبياء محمد صلى
الله عليه وسلم جاءهم ليعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم: [لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى
المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ
وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ] (آل عمران: 164) . فما مات
صلى الله عليه وسلم حتى بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وتركها على
المحجة البيضاء، ثم قام أصحابه بتبليغ رسالته لمن بعدهم فكانوا أعلم الناس بنبيهم
صلى الله عليه وسلم ثم حمل عنهم العلم مَنْ بعدهم، وهكذا كل جيل يحمل العلم عن
سلفه، وفي هذا كله لا يزال العلم ينقص، ويكثر الجهل كلما امتد الزمان؛ وذلك
مصداقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «يقبض العلم ويظهر الجهل
والفتن» [22] .
وقد حصل بالفعل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم فقد انتشر «الجهل
بحقيقة ما بعث الله به رسوله، بل جميع الرسل من تحقيق التوحيد، وقطع أسباب
الشرك، فقلّ نصيبهم جداً من ذلك، ودعاهم الشيطان إلى الفتنة، ولم يكن عندهم
من العلم ما يُبطل دعوته، فاستجابوا له بحسب ما عندهم من الجهل، وعصموا
بقدر ما معهم من العلم» [23] بل وصل الأمر عند بعض دهماء الأمة إلى جعل
المعروف منكراً والمنكر معروفاً؛ ولذا يقول ابن القيم - رحمه الله -: «قد غلب
الشرك على أكثر النفوس لظهور الجهل، وخفاء العلم، فصار المعروف منكراً،
والمنكر معروفاً، والسنة بدعة، والبدعة سنة، ونشأ في ذلك الصغير وهرم عليه
الكبير، وطمست الأعلام، واشتدت غربة الإسلام، وقلّ العلماء، وغلب السفهاء،
ولكن مع هذا لا تزال طائفة من العصابة المحمدية بالحق قائمين، ولأهل الشرك
والبدع مجاهدين إلى أن يرث الله سبحانه الأرض ومن عليها وهو خير
الوارثين» [24] .
وقد بين ابن الجوزي - رحمه الله - أن «الباب الأعظم الذي يدخل منه
إبليس على الناس هو الجهل، فهو يدخل منه على الجهال بأمان، وأما العالم فلا
يدخل إلا مسارقة» [25] . وقال القرافي المالكي «.. أصل كل فساد في الدنيا
والآخرة إنما هو الجهل؛ فاجتهد في إزالته عنك ما استطعت، كما أن أصل كل
خير في الدنيا والآخرة إنما هو العلم؛ فاجتهد في تحصيله ما استطعت والله - تعالى -
هو المعين على الخير كله» [26] .
وهذا الجهل الذي وقعت به الأمة ناتج والله أعلم عن أمرين:
الأول: الإعراض عن الكتاب، والسنة تعلماً وتعليماً، وتدبراً وتفهماً لما
فيهما:
فمن أعرض عن السنة اشتغل بالبدعة، «وأما من أصغى إلى كلام الله بقلبه،
وتدبره وتفهمه، أغناه عن السماع الشيطاني الذي يصد عن ذكر الله وعن الصلاة،
وينبت النفاق في القلب، وكذلك من أصغى إليه وإلى حديث الرسول صلى الله
عليه وسلم بكليته، وحدّث نفسه باقتباس الهدى والعلم منه لا من غيره أغناه عن
البدع والآراء والتخرصات والشطحات والخيالات التي هي وساوس النفوس
وتخيلاتها، ومن بَعُدَ عن ذلك فلا بد له أن يتعوض عنه بما لا ينفعه، كما أن من
غمر قلبه بمحبة الله - تعالى - وذكره، وخشيته، والتوكل عليه، والإنابة إليه،
أغناه ذلك عن محبة غيره وخشيته والتوكل عليه، وأغناه أيضاً عن عشق الصور،
وإذا خلا من ذلك صار عبد هواه، أي شيء استحسنه ملكه واستعبده.
فالْمُعْرِض عن التوحيد مشرك، شاء أم أبى، والمعرض عن السنة مبتدع
ضال، شاء أم أبى.. والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي
العظيم» [27] .
الثاني: أنهم حملوا نصوص الكتاب والسنة على أناس قد مضوا، وأما هم
فغير مخاطبين بهما؛ وهذا ما يتصوره «أكثر الناس، [حيث] لا يشعرون بدخول
الواقع تحته، وتضمنه له، ويظنونه في نوع وفي قوم قد خلوا من قبل ولم يعقبوا
وارثاً، وهذا هو الذي يحول بين القلب وبين فهم القرآن، ولعمر الله إن كان أولئك
قد خلوا فقد ورثهم من هو مثلهم أو شر منهم أو دونهم، وتناول القرآن لهم كتناوله
لأولئك، ولكن الأمر كما قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه-:» إنما تُنقَض
عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية «، وهذا لأنه
إذا لم يعرف الجاهلية والشرك، وما عابه القرآن وذمه وقع فيه وأقره، ودعا إليه
وصوَّبه وحسَّنه وهو لا يعرف أنه هو الذي كان عليه أهل الجاهلية أو نظيره أو شر
منه، أو دونه فينقض بذلك عرى الإسلام عن قلبه..» [28] .
وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ - رحمه الله -:
«.. ومن الأسباب المانعة عن فهم كتاب الله أنهم ظنوا أن ما حكى الله عن
المشركين، وما حكم عليهم ووصفهم به خاص بقوم مضوا، وأناس سلفوا
وانقرضوا، ولم يعقبوا وارثاً، وربما سمع بعضهم قول من يقول من المفسرين:
هذه نزلت في عباد الأصنام، هذه في النصارى، هذه في الصابئة؛ فيظن الغُمْر أن
ذلك مختص بهم، وأن الحكم لا يتعداهم، وهذا من أكبر الأسباب التي تحول بين
العبد وبين فهم القرآن والسنة» [29] .
السبب الثاني: علماء الضلال:
من أسباب انتشار الفتنة بآثار الأنبياء والصالحين علماء أهل الضلال،
وهؤلاء ابتليت الأمة بهم حتى وصل الأمر ببعضهم - كما قال شيخ الإسلام - أنهم:
«يُصنِّفون لأهل السيف والمال من الملوك والوزراء في ذلك، ويتقربون إليهم
بالتصنيف فيما يوافقهم..» [30] ، وقد صنف شيخ الرافضة ابن النعمان المعروف
عندهم بالمفيد كتاباً سماه: «مناسك المشاهد» جعل قبور المخلوقين تحج كما تحج
الكعبة البيت الحرام الذي جعله الله قياماً للناس، وهو أول بيت وضع للناس فلا
يطاف إلا به، ولا يُصلى إلا إليه، ولم يأمر الله إلا بحجه [31] . وهؤلاء الذين
صنفوا هذه الكتب لهم أغراض فاسدة؛ منها التقرب إلى الأئمة، ومنها إضلال الأمة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: «وهذا إنما ابتدعه وافتراه في
الأصل قوم من المنافقين والزنادقة ليصدوا به الناس عن سبيل الله، ويفسدوا عليهم
دين الإسلام، وابتدعوا لهم أصل الشرك المضاد لإخلاص الدين لله.. ولهذا صنف
طائفة من الفلاسفة الصابئين المشركين في تقرير هذا الشرك ما صنفوه، واتفقوا هم
والقرامطة الباطنية على المحادة لله ورسوله حتى فتنوا أمماً كثيرة وصدوهم عن دين
الله. وأقل ما صار شعاراً لهم تعطيل المساجد وتعظيم المشاهد؛ فإنهم يأتون من
تعظيم المشاهد وحجها والإشراك بها ما لم يأمر الله به ولا رسوله صلى الله عليه
وسلم؛ بل نهى الله عنه ورسوله عباده المؤمنين. وأما المساجد فيخربونها؛ فتارة
لا يصلون جمعة ولا جماعة بناءً على ما أصلوه من شعب النفاق، وهو أن الصلاة
لا تصح إلا خلف معصوم، ونحو ذلك من ضلالتهم..» [32] . بهذا تعرف مدى
تأثير هؤلاء العلماء في انتشار الفتنة بآثار الأنبياء والصالحين.
السبب الثالث: الأئمة المضلون:
لا يشك عاقل في خطر الأئمة المضلين، وكما قيل: الناس على دين ملوكهم،
وقد حذر صلى الله عليه وسلم الأمة منهم بقوله كما في حديث ثوبان - رضي الله
عنه -: «إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين» [33] ، وعن زياد بن حدير قال:
قال لي عمر: هل تعرف ما يهدم الإسلام؟ قال: قلت: لا، قال: يهدمه زلة
العالم، وجدال المنافق بالكتاب، وحكم الأئمة المضلين « [34] .
فمثلاً القبة التي على الصخرة لم تكن موجودة في عهد الصحابة رضي
الله عنهم كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - بل كانت مكشوفة
حتى تولى عبد الملك بن مروان الملك فبنى القبة على الصخرة وكساها في
الشتاء والصيف ليرغب الناس في زيارة بيت المقدس [35] . وقال في موضع
آخر:» وظهر في ذلك الوقت تعظيم الصخرة وبيت المقدس ما لم يكن
المسلمون يعرفونه بمثل هذا، وجاء بعض الناس ينقل الإسرائيليات في
تعظيمها « [36] .
وذكر الشيخ أحمد بن عبد الحميد العباسي رحمه الله المتوفى في القرن العاشر
الهجري في كتابه:» عمدة الأخبار في مدينة المختار «أنه لما كان عام ثمان
وسبعين وستمائة هجرية أمر السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون الصالحي والد
السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون ببناء قبة على الحُجرة الشريفة، ولم يكن
قبل هذا التاريخ عليها قبة ولها بناء مرتفع وإنما كان حظير حول الحجرة الشريفة
فوق سطح المسجد، وكان مبنياً بالآجر مقدار نصف قامة بحيث يميز سطح الحجرة
الشريفة على سطح المسجد، وكان مبنياً بالآجر فعملت هذه القبة الموجودة
اليوم..» [37] .
والمشاهد لم تكن معروفة في العصور المفضلة، ولكن ظهرت وكثرت في
دولة بني بويه، لما ظهرت القرامطة بأرض المشرق والمغرب وكان بها زنادقة
كفار، مقصودهم تبديل دين الإسلام، وكان في بني بويه من الموافقة لهم على
بعض ذلك [38] ، وفي دولتهم أظهر المشهد المنسوب إلى علي - رضي الله عنه -
بناحية النجف [39] .
السبب الرابع: الشبهات التي يتمسكون بها في تسويغ فعلهم:
ومن الأسباب التي أدت إلى الاهتمام بآثار الأنبياء والصالحين بعض الشبهات
التي يتشبث بها أصحاب الأهواء والشهوات، وهي شبه كبيت العنكبوت في
الضعف والوهن، وكما قيل:
حجج تهافت كالزجاج تخالها ... حقاً وكل كاسر مكسور [40]
فمن تلك الشبهة مثلاً قولهم: «إن من التماثيل ما يعد أصناماً وما لا يعد كذلك،
والأولى هي التي تعبد من دون الله ومن ثم فتحريمها مقطوع به على المسلمين،
أما التماثيل التي لا تعبد فوصفها بأنها أصنام فيه افتئات ينبغي أن يتنزه عنه العقل
الرشيد» ، واستدل على هذا التفريق بقوله الله - تعالى -: [يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ
مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ] (سبأ: 13) فسليمان - عليه السلام - كانت تصنع له
التماثيل، وذكر أنها صور الأنبياء والعلماء [41] .
والجواب على هذا:
أولاً: أن ما فُرِقَ به بين التمثال والصنم لا دليل عليه لعموم النصوص
الشرعية؛ فالحكم واحد؛ سواء جعل للعبادة أو لم يجعل لما رواه الترمذي
(2806) وصححه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«أتاني جبريل فقال: إني كنت أتيتك البارحة فلم يمنعني أن أكون دخلت عليك
البيت الذي كنت فيه إلا أنه كان في باب البيت تمثال الرجال، وكان في البيت قرام
ستر فيه تماثيل، وكان في البيت كلب؛ فمُرْ برأس التمثال الذي بالباب فليقطع
فليصيَّر كهيئة الشجرة، ومُرْ بالستر فليقطع ويجعل منه وسادتين منتبذتين يوطآن،
ومُرْ بالكلب فيخرج. ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم» . «ومن المعلوم
أن هذا التمثال الذي في بيت النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن متخذاً للعبادة، ولا
يشك في ذلك مسلم؛ ومع ذلك فقد أمره جبريل بإزالته. وروى مسلم من حديث أبي
هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:» لا
تدخل الملائكة بيتاً فيه تماثيل أو تصاوير « [42] .
أما استدلاله بالآية فقد وضح الإمام القرطبي - رحمه الله - في تفسيره وغيره
أن هذه الآية تدل على أن تصوير التماثيل كان مباحاً في ذلك الزمان، ونسخ بشرع
محمد صلى الله عليه وسلم [43] . والنصوص في تحريم صناعة التماثيل المجسمة
كثيرة جداً لا يتسع المقام لذكرها وهذا قول جماهير العلماء قاطبة، بل نقل كثير من
المالكية الإجماع على ذلك [44] .
السبب الخامس: الغلو في التعظيم [45] :
من الأسباب التي أدت إلى انتشار الفتنة بآثار الأنبياء والصالحين هو الغلو في
التعظيم، وقد جاءت النصوص الكثيرة في التحذير من هذا الداء العضال على سبيل
العموم سواء كان ذلك في جانب العقيدة أو العبادة، يقول الله - تعالى -: [قُلْ يَا
أَهْلَ الكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الحَقِّ] (المائدة: 77) ، وقوله سبحانه: [يَا
أَهْلَ الكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الحَقَّ] (النساء: 171)
فهاتان الآيتان وإن كان الخطاب موجه فيهما إلى أهل الكتاب فإن أمة محمد صلى
الله عليه وسلم تدخل فيهما تبعاً [46] لأنها قد نُهيت عن اتخاذ سبيلهم والسير على
منوالهم واتباع نهجهم، وهذا واضح غاية الوضوح لمن تتبع الأدلة واستقرأها [47] .
وجاء في حديث الفضل بن العباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
» إياكم والغلو في الدين؛ فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين « [48] . قال شيخ
الإسلام رحمه الله:» وهذا عام في جميع أنواع الغلو في الاعتقادات والأعمال،
وسبب هذا اللفظ العام رمي الجمار وهو داخل فيه مثل الرمي بالحجارة بناءً على
أنها أبلغ من الصغار، ثم علله بما يقتضي مجانبة هديهم أي هدي من كان قبلنا
إبعاداً عن الوقوع فيما هلكوا به، وأن المشارك لهم في بعض هديهم يخاف عليه من
الهلاك « [49] .
وقد بين شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى - أن سبب شرك بني آدم هو الغلو
في تعظيم قبور الصالحين فقال:» والشرك في بني آدم أكثره عن أصلين: أولها:
تعظيم قبور الصالحين، وتصوير تماثيلهم للتبرك بها، وهذا أول الأسباب التي بها
ابتدع الآدميون، وهو شرك قوم نوح.. « [50] . وقد ذكر ابن القيم أن من أعظم
مكائد الشيطان التي كاد بها أكثر الناس، وما نجا منها إلا من لم يرد الله - تعالى -
فتنته» ما أوحاه قديماً وحديثاً إلى حزبه وأوليائه من الفتنة بالقبور، حتى آل الأمر
فيها إلى أن عُبد أربابها من دون الله، وعُبدت قبورهم، واتخذت أوثاناً، وبنيت
عليها الهياكل وصورت صور أربابها فيها، ثم جعلت تلك الصور أجساداً لها ظل،
ثم جعلت أصناماً، وعبدت مع الله - تعالى -، وكان أول هذا الداء العظيم في قوم
نوح، كما أخبر - سبحانه - عنهم في كتابه، حيث يقول: [قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ
عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً * وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً * وَقَالُوا لاَ
تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَداًّ وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً * وَقَدْ أَضَلُّوا
كَثِيراً] (نوح: 21-24) . قال غير واحد من السلف: «كان هؤلاء قوماً
صالحين في قوم نوح عليه السلام، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا
تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم» . فهؤلاء جمعوا بين الفتنتين: فتنة
القبور، وفتنة التماثيل، وهما الفتنتان اللتان أشار إليهما رسول الله صلى الله
عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته عن عائشة - رضي الله عنها -:
«أن أم سلمة - رضي الله عنها - ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم
كنيسة رأتها بأرض الحبشة، يقال لها مارية، فذكرت له ما رأت فيها من
الصور، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:» أولئك قوم إذا مات فيهم العبد
الصالح، أو الرجل الصالح، بنوا على قبره مسجداً، وصوروا فيه تلك الصور،
أولئك شرار الخلق عند الله « [51] . فجمع في هذا الحديث بين التماثيل والقبور،
وهذا كان سبب عبادة اللات؛ فقد روى ابن جرير بإسناده عن سفيان عن منصور
عن مجاهد [أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى] (النجم: 19) قال:» كان يلت لهم السويق
فمات، فعكفوا على قبره «. وكذلك قال أبو الجوزاء عن ابن عباس رضي الله
عنهما:» كان يلت السويق للحاج «.
فقد رأيتَ أن سبب عبادة وَدّ، ويغوث ويعوق ونسر واللات، إنما كانت
من تعظيم قبورهم، ثم اتخذوا لها التماثيل وعبدوهم كما أشار إليه النبي صلى الله
عليه وسلم..» [52] .
السبب السادس: الحرص على تحصيل المال والجاه:
من أسباب الاهتمام بآثار الأنبياء والصالحين ونحوها الحرص على الحصول
على الأموال والجاه والشرف والمكانة بين الناس؛ فمن ذلك ما ذكره عبد القدوس
الأنصاري أن الحجر الذي جلس عليه النبي صلى الله عليه وسلم في مسجد بني
ظفر [53] رآه في خزانة زجاجية عالية بمدخل دار الكتب المصرية، وعلم من
المدير العام لها أن شخصاً من أهل المدينة نقله إلى مصر فيما بعد وباعه إلى الدار
بثمن كبير! ! ! [54] .
يقول العلامة الشوكاني - رحمه الله تعالى -: «وربما يقف جماعة من
المحتالين على قبر ويجلبون الناس بأكاذيب عن ذلك الميت ليستجلبوا منهم النذور
ويستدروا منهم الأرزاق ويقتنصوا النحائر ويستخرجوا من عوام الناس ما يعود
عليهم، وعلى من يعولونه، ويجعلون ذلك مكسباً ومعاشاً وربما يهولون على الزائر
لذلك الميت بتهويلات، ويجعلون قبره بما يعظم في عين الواصلين إليه، ويوقدون
في المشهد الشموع، ويوقدون فيه الأطياب ويجعلون لزيارته مواسم مخصوصة
يتجمع فيها الجمع الجم، فيبهر الزائر، ويرى ما يملأ عينه وسمعه من ضجيج
الخلق وازدحامهم وتكالبهم على القرب من الميت والتمسح بأحجار قبره وأعواده،
والاستغاثة به والالتجاء إليه، وسؤاله قضاء الحاجات ونجاح الطلبات، مع
خضوعهم واستكانتهم وتقريبهم إليه نفائس الأموال، ونحرهم أصناف
النحائر» [55] .
السبب السابع: التأثر بأصحاب الديانات الضالة:
من أسباب الاهتمام بالآثار اختلاط المسلمين بأصحاب الديانات الأخرى من
يهود ونصارى وغيرهم، وهؤلاء عندهم اعتقادات وأباطيل كثيرة، تأثر بها بعض
ضعاف المسلمين، فتعظيم القبور كان موجوداً عند اليهود والنصارى، وفي
النصارى أكثر وأشد؛ قال صلى الله عليه وسلم: «لعن الله اليهود والنصارى
اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما صنعوا» [56] ، ولأن النصارى يعيشون بين
المسلمين أكثر من غيرهم من أهل الديانات الأخرى كان التأثر بهم أكثر؛ فشيخ
الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - يذكر أن كثيراً: «من جهال المسلمين ينذرون
للمواضع التي يعظمها النصارى، كما قد صار كثير من جهالهم يزورون كنائس
النصارى، ويلتمسون البركة من قسيسيهم ورهابينهم ونحوهم» [57] .
ولو تأملت بعض ما يفعله القُبوريون لعلمت أنه امتداد لعادات وثنية كانت
سائدة قبل الإسلام: «وأول هذه العادات: تقديس الأولياء، تلك العادة التي لقيت
رواجاً سريعاً وعميقاً في نفوس المصريين لارتباطها بطبيعتهم منذ فجر التاريخ؛
ففكرة تشييد المساجد الجميلة فوق أجساد الموتى وتقديسهم تتصل بجذور الفكر
الديني المصري منذ العصر الفرعوني، ولا سند لها في القرآن والسنة..» [58]
يقول الشيخ محمد رشيد رضا معقباً على ما ادعاه أحد مشايخ القبورية في تسويغ
اتخاذ القبور والأضرحة واسطة للشفاعة: «هذا عين ما كان يحتج به المشركون
الأولون وحكاه الله - تعالى - عنهم ... وهو ما يفعله بعض النصارى عند قبور
القديسين» .
ويقول أيضاً: «ولا تظنوا أن الهندوس ليس عندهم كهنة يتأولون لهم بدعهم
الوثنية كما تأول هذا العالم الأزهري.. واحتج لهم بأنهم كأنجاس الهند المنبوذين،
ليس لأحدهم أن يتقرب إلى الله - تعالى - بنفسه، بل لا بد له من أحد هؤلاء
المعتقدين ليقربه إليه زلفى» [59] .
ويقول الشيخ أبو الحسن الندوي: «وكل ما كان يدور حول قبور الأولياء
والمشايخ كان تقليداً ناجحاً للأعمال والتقاليد التي كانت تنجز في معابد غير
المسلمين وقبور المقدسين عندهم؛ فالاستغاثة منهم والاستعانة بهم، ومد يد الطلب
والضراعة إليهم كل ذلك كان عاماً شائعاً بينهم ... » [60] .
ويذكر الشيخ محمد رشيد رضا صورة من هذا التشابه، فيقول: «في بنارس
[في الهند] قبر أبي البشر آدم - عليه السلام -، وقبر زوجه وقبر أمه! ويقال:
» إنهم يعبرون بأمه عن الطبيعة «، وقبور قضاته، وهي تحت قباب
مصفحة بالذهب كقبة أمير المؤمنين علي في النجف، وقباب غيره.. وجميع هذه
القبور تعبد بالطواف حولها، والتمسح بها، وتلاوة الأدعية والأوراد عندها،
كغيرها من تماثيل معبوداتهم، مع الخشوع وبذل الأموال والنذور لها ولسدنتها
وكهنتها، فلا يحسبن الجاهل بالتاريخ وبعقائد الملل والنحل أو التعبدات فيها أن علماء
وثنيي الهند يعتقدون أن هذه الأشياء تنفع وتضر بنفسها، وأنهم ليس لهم فلسفة في
عبادتها» [61] .
بهذا يتبين أن اختلاط المسلمين بغيرهم، ومساكنتهم لهم ودخول كثير منهم في
الإسلام مع بقاء بعض العادات الجاهلية سبب من الأسباب التي أدت إلى انتشار
الاهتمام بالآثار.
هذه بعض الأسباب التي أدت إلى انتشار الاهتمام بالآثار والبحث عنها في
بلاد الإسلام حتى عمت البلوى بها في كل مكان حتى لا تكاد ترى من يسلم من ذلك
إلا من وفقه الله لسلوك سبيل المؤمنين الموحدين.
فنسأل الله - تعالى - أن يصلح حال الأمة، وأن يزيل عنها الغمة، وينصر
السنة ويقمع البدعة؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه، وهو حسبنا ونعم الوكيل.