وقفات
أحمد بن عبد الرحمن الصويان
كنت في زيارة لأحد المراكز الإسلامية في ألمانيا فرأيت فتاة متحجبة حجاباً
شرعياً ساتراً قلَّ أن يوجد مثله في ديار الغرب؛ فحمدتُ الله على ذلك، فأشار عليَّ
أحد الإخوة أن أسمع قصة إسلامها مباشرة من زوجها، فلما جلستُ مع زوجها قال:
زوجتي ألمانية أباً لجدٍّ، وهي طبيبة متخصصة في أمراض النساء والولادة، وكان
لها عناية خاصة بالأمراض الجنسية التي تصيب النساء، فأجْرَت عدداً من الأبحاث
على كثير من المريضات اللاتي كنَّ يأتين إلى عيادتها، ثم أشار عليها أحد الأطباء
المتخصصين أن تذهب إلى دولة أخرى لإتمام أبحاثها في بيئة مختلفة نسبياً،
فذهَبَتْ إلى النرويج، ومكثت فيها ثلاثة أشهر، فلم تجد شيئاً يختلف عمَّا رأته في
ألمانيا، فقررت السفر للعمل لمدة سنة في السعودية.
تقول الطبيبة: فلما عزمتُ على ذلك أخذت أقرأ عن المنطقة وتاريخها
وحضارتها، فشعرت بازدراء شديد للمرأة المسلمة، وعجبتُ منها كيف ترضى بذُلِّ
الحجاب وقيوده، وكيف تصبر وهي تُمتهَن كل هذا الامتهان..؟ !
ولمَّا وصلت إلى السعودية علمت أنني ملزمة بوضع عباءة سوداء على كتفيَّ،
فأحسست بضيق شديد وكأنني أضع إساراً من حديد يقيدني ويشلُّ من حريتي
وكرامتي (! !) ، ولكني آثرت الاحتمال رغبة في إتمام أبحاثي العلمية.
لبثت أعمل في العيادة أربعة أشهر متواصلة، ورأيت عدداً كبيراً من النسوة،
ولكني لم أقف على مرض جنسي واحد على الإطلاق؛ فبدأت أشعر بالملل
والقلق.. ثم مضت الأيام حتى أتممت الشهر السابع، وأنا على هذه الحالة، حتى
خرجت ذات يوم من العيادة مغضَبة ومتوترة، فسألتني إحدى الممرضات
المسلمات عن سبب ذلك، فأخبرتها الخبر، فابتسمت وتمتمت بكلام عربي لم
أفهمه، فسألتها: ماذا تقولين؟ ! فقالت: إن ذلك ثمرة الفضيلة، وثمرة الالتزام
بقول الله تعالى في القرآن الكريم: [وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ]
(الأحزاب: 35)
هزتني هذه الآية وعرّفتني بحقيقة غائبة عندي، وكانت تلك بداية الطريق
للتعرف الصحيح على الإسلام، فأخذت أقرأ القرآن العظيم والسنة النبوية، حتى
شرح الله صدري للإسلام، وأيقنت أنَّ كرامة المرأة وشرفها إنما هو في حجابها
وعفتها.. وأدركت أن أكثر ما كُتب في الغرب عن الحجاب والمرأة المسلمة إنما
كتب بروح غربية مستعلية لم تعرف طعم الشرف والحياء..!
إن الفضيلة لا يعدلها شيء، ولا طريق لها إلا الالتزام الجاد بهدي الكتاب
والسنة، وما ضاعت الفضيلة إلا عندما استُخدمت المرأة ألعوبة بأيدي المستغربين
وأباطرة الإعلام.
وإن أخشى ما نخشاه أن تؤول ديار المسلمين إلى ما آلت إليه بلاد الغرب،
إذا ما اتبعنا أبواق العلمانيين والإباحيين، وتخلينا عن الفضيلة والعفة والأخلاق التي
يضعها ديننا في صورة منهج كامل للحياة. ومن النُّذُر الجديرة بالانتباه تقرير نشرته
مؤخراً منظمة الصحة العالمية عن انتشار مرض نقص المناعة المكتسب (الإيدز)
في المنطقة العربية، وكانت الإحصاءات المنشورة مذهلة جداً تنبئ عن واقع محزن
مع الأسف الشديد..! [1] .
إنَّ هذا المرض ثمرة خبيثة من ثمار التفلت الأخلاقي والانحراف الجنسي،
ثمرة من ثمار الحرب الضروس التي تشنها بعض وسائل الإعلام على الأخلاق
والآداب الإسلامية، ثمرة من ثمار ذلك الطوفان الجارف من الأفلام الهابطة
والمسلسلات الماجنة التي طغت على كثير من القنوات الإعلامية من المشرق إلى
المغرب. ثمرة من ثمار الدعوات المحمومة لدعاة الرذيلة والفساد التي تشد فتيان
الأمة وفتياتها إلى مستنقعات الغرب الآسنة باسم التحرر والتحضر، وتزيّن لهم
الوقوع في الفواحش بكل ألوان الزينة المخادعة..! !
وإن السلامة من ذلك المرض وأشباهه لا تكون إلا بالعودة الصادقة إلى
حياض الفضيلة، وتربية الأمة على العفة والحياء، ومراقبة الله تعالى سراً وجهراً.
ألا فلتسكت تلك الأقلام الملوثة التي ما فتئت تشيع الفاحشة، وتنادي أبناءنا
وبناتنا للوقوع في حمأة الرذيلة باسم الرقي والتقدم..!
ألا فلتسكت تلك الأصوات الكالحة العبوس التي تتشدق بالدعوة إلى نزع
الحجاب والاختلاط باسم الحرية والتمدن..!
[إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا
وَالآخِرَةِ] (النور: 19)
وأحسب أخيراً أن من أكبر التحديات التي تواجه الدعاة والمصلحين هي إيجاد
البدائل التربوية والمحاضن الاجتماعية التي يتفيأ في ظلالها فتيان الأمة وفتياتها،
بعيداً عن شرر دعاة العلمنة وعبثهم.