تأملات دعوية
(2 - 2)
محمد بن عبد الله الدويش
www. dweesh. com
الدعوة إلى الله تبارك وتعالى تدعو صاحبها إلى التخلي عن التعلق بالدنيا؛
فهي تتطلب منه أوقاتاً كثيرة في العمل، وفي التخطيط والإعداد له، وفي التقويم
والمراجعة، ومهما أوتي المرء الجاد اليوم من وقت الفراغ، فهو يدرك أن مطالب
الدعوة إلى الله أكثر بكثير من الوقت المتاح له، بل إنه كثيراً ما يحتار في الاختيار
بين البدائل والفرص المتاحة، وفي ترجيح بعض الأعمال الدعوية على بعض لغلبة
مصالحها، ومن حِيَل الشيطان بالعبد إشغاله بالعمل المفضول عن العمل الفاضل،
وهذا كله يتعارض مع التوسع في التحصيل لمتاع الدنيا.
كما أن الدعوة تتطلب من أصحابها الإنفاق والجود في سبيل الله، بخلاف
حال أهل الدنيا الذين يصرفون ما يفتح عليهم في التوسع فيها والازدياد منها.
والتعلق بالدنيا يشغل قلب الإنسان ويفرق عليه همَّه. عن أنس بن مالك
رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كانت الآخرة همَّه
جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت
الدنيا همَّه جعل الله فقره بين عينيه، وفرق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما
قدر له» [1] .
والحديث عن متاع الدنيا في القرآن والسنة يأتي في مقام الذم في الأغلب
الأعم، بل أخبر صلى الله عليه وسلم أن بسط الدنيا سبب للهلاك؛ فعن عمرو بن
عوف رضي الله عنه قال: «قدم أبو عبيدة بمال من البحرين فسمِعَتِ الأنصار
بقدومه فوافته صلاة الصبح مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما انصرف
تعرضوا له، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآهم وقال: أظنكم سمعتم
بقدوم أبي عبيدة وأنه جاء بشيء! قالوا: أجل يا رسول الله. قال: فأبشروا وأمِّلُوا
ما يسرُّكم فوالله ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى عليكم أن تُبسَط عليكم الدنيا كما
بُسِطَت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها وتلهيكم كما ألهتهم» [2] .
ودأب أهل العلم على الحديث في مصنفاتهم عن ذم التعلق بالدنيا والتنافس في
تحصيلها، وأُلِّفَت مؤلفات عدة حول الزهد فيها والتقلل منها.
وكما أشرنا في المقالة السابقة إلى صور من الخطأ في إهمال الكسب المشروع
من الدنيا، فنشير في هذه المقالة إلى نماذج من الطرف الآخر:
* ثمَّة طائفة ممن كانت لهم مشاركة في الدعوة كانوا في وظائف عامة تحقق
لهم القدر الكافي لأمثالهم، ليتفرغوا بعد أوقات الدوام لأعمالهم الدعوية، دون أن
تنشغل أذهانهم بجمع الدنيا، واتجه هؤلاء لأعمال خاصة، رغبة في التحرر من
قيود الوظائف، وادِّعاءاً بأن المال الصالح خير للرجل الصالح، فغرقوا في الدنيا
وانشغلوا بها ولم يعد للدعوة نصيب من أوقاتهم، بل إن ما يجودون به من تبرعات
لا يساوي ما ينفقه من هو دونهم من عامة المسلمين، وأفسدت الدنيا حال هؤلاء
وعاشوا في حياة الترف، وامتد الأمر لدى بعضهم إلى ارتكاب المخالفات الشرعية
والتهاون فيها.
* يتجه بعضهم من أصحاب المهن الراقية كما يقال إلى أعمال مسائية رغم
أنهم من أكثر الناس دخلاً- فلا يبقى لدعوتهم إلا النزر اليسير من الوقت، أو يختار
أحدهم عملاً يشغل نهاره كله؛ ليعود كليلاً مجهداً، وكل ذلك في الحقيقة سعي إلى
التكثر من الدنيا.
* يسيطر على حديث طائفة من الصالحين الاستثمار وجمع المال، وتقصيرنا
في ذلك، بينما نحن أحوج إلى التحذير من فتنة الدنيا؛ فعن كعب بن مالك
الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما ذئبان
جائعان أُرسِلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه» [3] .
* من صدق العبد مع ربه ودعوته أن يقدم دينه ودعوته على دنياه، وهذا
يقتضي أن يرضى بعمل له أثره في الدعوة، على حساب غيره مما هو أكثر منه
دخلاً.
فاللهمَّ ارزقنا القناعة، والزهد في الدنيا، والرغبة فيما عندك.