قضايا دعوية
د. شاكر بن عبد الرحمن السروي
كثيرون أولئك الذين يجيدون النقد، وأكثر منهم أولئك الذين يجيدون الحديث
عن الأخطاء وهم يحتسون فنجان شاي على أريكة مريحة.
وعلى العكس من ذلك فإن قلة فقط هم الذين يفكرون بجدية لتجنُّب الزلاَّت
وسدِّ الثغرات، وأقل منهم من ينقل هذه التصورات إلى الواقع المشهود.
إن مما لا شك فيه أن أول خطوة للعلاج هي اعتراف المريض بأنه يحتاج إلى
المساعدة، ثم تأتي الخطوة التالية في محاولة تشخيص المرض ثم علاجه من بعد
ذلك، وإنه لمن الواضح الجلي أن مسيرة العمل الإسلامي في الوقت الحاضر تئنُّ
تحت وطأة كثير من المشكلات التي خلَّفتها سنون عصر التخلف والجمود.
وإننا عندما ننتقد أولئك الذين يتحدثون عن الأخطاء لا ننتقدهم لأنهم تجاوزوا
الحدود أو لأنهم تعدَّوْا على العصمة، أو لمجرد أنهم مارسوا حق النقد.
وإنما ننتقد ذلك النوع الذي لا يتجاوز حدود التشفي والتسخط أو التسلية
وقضاء الأوقات، فضلاً عما قد يبثه من الفرقة والخصومات أو ما قد يورثه من
الدعة والكسل وترك العمل والمبادرات.
إننا بأمسِّ الحاجة إلى كل نقد هادف وفكرة رشيدة أو مساهمة فاعلة مهما كانت
صغيرة، إننا بحاجة إلى توظيف كل الطاقات، وبحاجة أشد إلى العناية بالمراجعات
وتقويم الذات.
وحتى لا تصبح الأمور مضطربة والواقع فوضى؛ فإن هناك أطُراً عامة
تصلح أن تكون منطلقاً لترشيد هذا النقد وتوجيهه نحو الهدف الأسمى (حمل همِّ هذا
الدين) ليصبح نقدُنا بعد ذلك عامل بناء لا معول هدم وبلاء.
أولاً: الإخلاص:
وبالرغم من كثرة الحديث عنه وعن أهميته إلا أن تحقيقه ليس بالأمر الهيِّن
إلا لمن وفقه الله تعالى لذلك، ولذلك قال سهل بن عبد الله التُسْتَري: «ليس على
النفس شيء أشق من الإخلاص؛ لأنه ليس لها فيه نصيب» ، وقال سفيان الثوري:
«ما عالجت شيئاً أشد علي من نيتي؛ إنها تتقلب عليَّ» .
ومن أجمع ما ذكر في تعريف الإخلاص أنه: إخراج الخلق عن معاملة الربِّ.
ثانياً: الإنصاف من النفس والابتعاد عن الميول الشخصية والتجارب
المحدودة:
فإنه كثيراً ما يكون سبب النقد هو ميل شخصي أو فكرة خاصة أو تجربة
قاصرة.
ثالثاً: وضوح الفكرة وشمولية النظرة:
فلا ينبغي التجرؤ على النقد قبل أخذ تصور كامل عن الموضوع أو الفكرة
المراد نقدها، والإحاطة بالمسألة من جميع جوانبها وحبذا معرفة الدوافع التي كانت
سبباً في القيام بها أو الدعوة إليها، فقد يقوم بها من الأسباب ما يجعلها أفضل من
غيرها في مقامها ذلك، هذا إن لم تكن الأفضل.
وكم من عائب قولاً سليماً ... وآفته من الفهم السقيم
رابعاً: التأني قبل إصدار الأحكام:
وذلك لإعطاء النفس فرصة للتفكير السليم القائم على اختمار الفكرة وتحليلها
ومن ثم إصدار الحكم فيها بعيداً عن الانفعالات العاطفية وضغوط الاستعجال.
خامساً: حصر النقد في أضيق مجال، والحرص
على ألا يؤدي إلى الفرقة:
فلا ينبغي أن يتحول نقد فكرة ما أو خطوة واحدة إلى حكم عام على منهج
كامل أو شخص ما بكل مواقفه؛ فإن هذا من الظلم المشين والبغي بغير الحق، مع
ما قد يؤول إليه من رفض الحق الذي قد يكون في جملة ما يحمله، والحق ضالة
المؤمن أينما وجده أخذه.
سادساً: طرح حلول عملية وبدائل:
وهذا يكون من الأدلة البالغة على حرص الناقد على الخير وسعيه إليه، مع ما
فيه من فتح آفاق جديدة للتصحيح، كما أنه أدعى للقبول من الطرف الآخر.
سابعاً: الاستشارة وتبادل الآراء:
وذلك حتى لا تكثر الانتقادات وتتشعب الاجتهادات، ومع الاستشارة يمكن
الوصول إلى جملة من الآراء الجامعة المفيدة التي تحقق الخير والصلاح.
ثامناً: عدم التعرض للأشخاص في ذواتهم وهيئاتهم:
خصوصاً إذا كانوا معك على نفس الطريق؛ وإنما المنهج هو المطلب،
والرجال إنما يُعرَفون بالحق ولا يقاس الحق بهم. كما أنه من المعلوم أن هذا
المسلك يقود إلى حظوظ النفس أكثر منه إلى الحق، ويؤدي إلى كثرة التفرق
والاختلاف أكثر من التصحيح والائتلاف.
تاسعاً: الحرص على استمرار الجوانب الإيجابية:
فلا ينبغي للناقد أن يلغي العمل المنتقَد من أساسه بما فيه من الحق؛ فإن هذا
هدم وليس نقداً.
وبما أن كل عمل لا يخلو من نقص؛ فإن هذا الأسلوب في النقد يستلزم أن
نوقف كل أعمالنا، ولا نكاد نبدأ شيئاً ما إلا ويأتي عليه معول الناقد فيجتثه.
متى يبلغ البنيان يوماً تمامه ... إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم
عاشراً: عدم الاستعجال في نقد كل جديد أو ما لم يكتمل بناؤه:
فكل جديد مستنكر، والنفوس تعشق المألوف، كما أن الحكم على الأمر من
بداياتٍ غير واضحة يحمل كثيراً من الإجحاف وعدم الإنصاف.
الحادي عشر: الاعتدال والعدل:
قال الله تعالى: [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ
النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ] (النساء: 58) ، وقال تعالى: [وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ
قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى] (المائدة: 8) .
الثاني عشر: الاستعداد للاعتراف بالخطأ والقصور، وقبول
الرأي المخالف:
فما كل منتقد مصيب، وينبغي على الناقد كما جوَّز الخطأ والقصور على من
انتقدهم أن يجوِّز ذلك على نفسه.
الثالث عشر: الاستمرار في العطاء:
فإن الملاحظ أن كثيراً ممن ينقد غيره إنما هو يخادع نفسه ويُسهِّل عليها حياة
الدعة والكسل، والتملُّص من أية مسؤولية أو مشاركة بنَّاءة. فعلى المرء أن يستمر
في العطاء بحسب وسعه وطاقته مع سعيه لتصحيح ما قد يراه من خلل، وليتذكر
أنه: أن تُشعِلَ شمعة واحدة خير من أن تلعنَ الظلام ألف مرة.