متابعات
عبد الرزاق بن سعد آل يحيى
كانت عملية المراجعة والنقد التي استفتح بها كاتب مقالة (قراءة في الذهنية
السلفية) فكرة جديرة بالطرح الدوري، وهي في الوقت نفسه مغامرة جريئة إن
صح التعبير؛ لأن عمليات النقد من أشق المراجعات؛ إذ تمر بمرحلة صراع مع
النفس لا تخلو عادة من حظوظ ذاتية، يصاحب ذلك قدر من غبش الرؤية الذي
سببه خطأ التصور الأول.
والقدرة على الاستفادة من النقد ذاتياً كان أو خارجياً مهارة ينبغي أن يتحلى بها
ذوو طموح النجاح والمتطلعون إلى الأفضل، متناسين في سبيل ذلك ما قد يشوب
الانتقاد الموجه إليهم من عوامل إضعاف القبول أو يعترضه من ظنون أو جراح.
وأظن الكاتب حين أراد التمثيل بنماذج مما يستحق النقد، وقدم لها شواهد حية
من تجارب النقد لم يسعفه تحرير النص تماماً، فحصل له خلط في مقدمات الحقائق،
وغموض الرؤية في نماذج مما ذكر، ومبالغات نقلته من طرف إلى طرف،
أظنها ستكون عقبة في قبول بعض القراء للفكرة العامة أو تشوش عليها، وأقيد
السطور التالية إيضاحاً للمقالة السابقة داعياً الله أن يهدينا جميعاً لما اختلف فيه من
الحق بإذنه إنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
تنحصر الملاحظات في الآتي:
1 - مقدمات تفتقر إلى فهم أعمق:
مقارنة أعمالنا بأعمال الغرب أصبحت مما يسود كتاباتنا النقدية، وأصبح من
الطبيعي أن نجد جملة (هُم.. وأما نحن) في نصوص تصحيح المسار وغيرها!!؛
وربما كان أحد أسباب ذلك ضخامة الإنتاج الغربي على كافة الأصعدة، وتفوقه
(النسبي) فيها حتى نصّب نفسه معياراً أو رضيه الناس مقياساً، فأصبح سائغاً
عند بعض النقاد عقد مقارنة بالنموذج الغربي في ممارسات أو سلوكيات تقبل عادة
الاختلاف والتنوع.
وأتجاوز هذا الملحظ إلى القدر الذي استدل به الكاتب حين ذكر أن
الديمقراطية وعدداً من المبادئ كالحرية المطلقة، والرأسمالية، والعلوم الإنسانية،
والمواقف والنظريات تطورت (بالنقد) ؛ فحين لا أخالف الكاتب في ضرورة النقد
وأثره فإن مما ينبغي أن نفرق فيه أن الغرب حين نجح في عمليات المراجعة والنقد
في الأمور المادية المحسوسة والنظريات العملية وتقنين نواميس الحياة: كان غاية
ما وصل إليه في النظريات الفكرية و (الأيديولوجيات) وكمٍّ ليس بالقليل من
التصورات هو نوع من الاضطراب والفوضى الفكرية، وانتقال الغربيين أو
طوائف منهم من نظرية إلى أخرى هو ثمرة الحيرة وأمارة الخواء، وبخاصة في
الأمور الغيبية أو التشريعات العامة التي لا تخلو من أنانية وحب الذات، وليس
تطوراً، بل هو هروب من عنت إلى شقاء.
فالديمقراطية المزعومة في الغرب أحد نماذج الخداع والفشل التشريعي؛
والذي منحها البقاء حتى يومنا هذا مع عوامل أخر أنها أكذوبة خدرت الناس
بإشعارهم بنفوذ رأيهم، وحققت للمتنفذين فعلاً ما يطمعون فيه تحت هذا الشعار
البراق؛ فقد جعلوا عقول الناس وعواطفهم خاضعة لتأثير إعلام يملكونه أو يديرونه،
فصار الإعلام يتقوَّل على الناس ويفتعل الأحداث أو يوظفها، فيردد الناس ما
يقوله الإعلام؛ فهي نوع من (الديكتاتورية) المقنعة التي استبدلت بالإكراه التخيير
فيما تريد.
وأما الحرية المطلقة التي تطورت كما يرى الأخ الكاتب بالنقد لتصبح
مسؤولية جماعية، فهما في الواقع شيء واحد؛ فإن الحرية المطلقة هي نتاج الثورة
الفرنسية التي صاحب اندلاعها وأجج اضطرامها نشوء المذهب الرومانسي، وهو
تيار فكري شمل الأدب والفكر والفن، نشأ رد فعل لغلو الكلاسيكيين في تبنيهم
مبادئ الكلاسيكية، ويقوم على مبادئ منها: الإيمان بمعتقد (تأليهي) غامض
يجعل محور التدين الضمير، ويقلل من شأن الإثم الفردي، ويُحمِّل المجتمع تبعاً
مسؤوليات آثام الأفراد، وعليه يتبين أن المسؤولية الجماعية هي الحرية نفسها،
وليس تطوراً عنها.
والرأسمالية هي الأخرى إفراز للحرية المطلقة التي تعد الاشتراكية نداً لها
ومناقضاً لمقتضياتها، ولم تزاحمها على السلطة قط، إلا إن أراد الكاتب السلطة
على مستوى العالم، وأما الطريق الثالث الذي توهمه الكاتب تطوراً جديداً فهو في
الواقع مشاهد احتضار هذه النظرية التي جسدت الطبقية وألغت التكافل.
2 - السلفية مصطلح غير مؤطر:
من النقاط التي تستحق تقديمها على غيرها؛ إذ عليها قوام المقالة، تحرير
مصطلح السلفية، وأي معنى يقصده الكاتب بمقالته ابتداءاً بالعنوان وحتى آخر
سطر منها؟ فهل كان حديثه عن (السلفية) المنهج نفسه؛ فإن ما يتحدث عنه كان
سلوك أفراد، وعنوان المقالة إن كان من صنعه وسياقها لا يحققان فهم الحديث عن
الأفراد! !
فهل كان حديثه عن (السلفية) طوائف المنتمين إليها؛ فأي طائفة يريد:
طائفة المنتمين إلى المنهج بتبني مبادئه، أم المنتمين إليه بالادعاء؟ لم أجد تحديداً
لشيء من ذلك قدر ما في النص الآتي: «السلفية ليست نمطاً واحداً بل هي ألوان
متعددة، وفيها أصوات هادئة وأخرى متشنجة لا نستطيع تجاهلها، وندعو إلى
التعامل معها وتصحيح مواقفها، وهي مع ذلك تحوي جمهوراً غالباً له مشاركات
كثيرة، ويسوده تقارب كبير في الأفكار وطريقة التنشئة، وهذه الشريحة هي التي
نقصدها» .
لم أفلح في التعرف على تلك الشريحة من خلال النص السابق، ولم أنجح في
التوفيق بين هذا الوصف والتسمية الكبيرة (الذهنية السلفية) ، غير أنه غلب على
ظني أنه يريد عصبة ما تنتسب إلى السلفية؛ فهي طائفة وأعمالها بالنسبة للسلفيين
فردية، فتعميمها على السلفية أو (الذهنية السلفية) تجاوز في غير محله، لكني لا
ألبث طويلاً حتى أجد نصاً يفسد عليَّ هذا النزر اليسير من الفهم حين يقول: «إن
غالبية التيار السلفي المعاصر» و «خارج التيار السلفي» و «في صفوف التيار
السلفي» إذن هو تيار وليس طائفة.
لذا ألتمس من الكاتب أن يضع لاحقاً إطاراً يختاره للسلفية، وإطاراً آخر
للسلفية ذات الأصول المتشنجة، والجمهور الغالب متقارب الأفكار، وطريقة
التنشئة غير الأوصاف الفضفاضة المتقدمة؛ لنتمكن بعد من فهم نقاط الانتقاد فنوافق
أو نخالف، ونفيد ونستفيد!
أرجو ألا يكون مردُّ هذا الإبهام شعور الأخ الكاتب بعدم وجود جو ملائم للنقد
الفكري أو التربوي؛ لأن ذلك جعل صانعي المعرفة كما يقول صاحب «تجديد
الوعي» : ص 228 يعمدون إلى التلميح، مما أوجد الكثير من حالات سوء الفهم.
3 - عيوب السلفية.. عيوب المجتمع:
بعيداً عن مصطلح (السلفية) أرى أن الفكرة العامة للأمثلة الانتقادية لا
تصلح أن تنسب للتيار الإسلامي باعتباره تياراً سلفياً أو غير سلفي، يتبين ذلك من
تلخيص الانتقادات حسب رؤية الكاتب، وسأجتهد في تقديم الفكرة بشمولها في لفظ
موجز:
الانتقاد الأول: القيمة لا تعطى إلا للمعلومة المجردة المستقلة عن دائرة
الأفكار، وهي مجال التفوق والتميز، ولا قيمة لدائرة الأفكار وما تحويه من
الاستنتاج وربط الأحداث وتوليد الأفكار والقدرة على النقد.
الانتقاد الثاني: يلخصه سؤاله: ما مدى معرفة الناس بالأيديولوجيات التي
سيطرت زمناً على منطقتنا العربية كالقومية والماركسية والبعث العربي والنظرية
الليبرالية؟
الانتقاد الثالث: عدم مبادرة المتخصصين إلى التعرف على النظريات
المطروحة السابقة والحديثة وفهمها بعمق، وأسلمة ما يمكن منها، أو إيجاد البديل
المناسب لما لا تمكن أسلمته.
الانتقاد الرابع: التخوف على النشء من تأثره بالمعلومات والأفكار المتدفقة
في عالم اليوم، وحصر القدرة على فهمها في الرموز والمربين، وممارسة الوصاية
على من دونهم.
الانتقاد الخامس: تصور التآمر الغربي في كل علاقة للغرب بالمسلمين،
وتفسير الظواهر العدائية أنها موجهة إلى المتدينين (المسلمين) ، والحساسية من
المستجدات التقنية ذات الطابع الجمهوري العام.
لعلِّي وفقت في حصر الانتقادات لأصِلَ إلى تأييد الكاتب فيها كما هي عليه
الآن باعتبارها انتقادات عامة واقعية نلامسها ونراها ونشمها، إلا أن الشيء الذي
عكّر عليها أنها نسبت لتيار إسلامي أيّاً كان توجهه؛ فإن هذه الانتقادات هي في
حقيقتها أزمة عربية [1] في الإقليم العربي، وأزمة غثائية في وطن رعاع المسلمين
الذين يتقلبون بين حالين: كدّ مضنٍ للوصول إلى سد الرمق، أو سعي دؤوب
لتحقيق الترف واللهو!
أنا لا أنفي وجودها في الوسط الإسلامي؛ فإن المسلم مهما حاول العزلة القلبية
يبقى ابن مجتمعه، والسلبيات الاجتماعية تتقلص في النخبة ولا تختفي، بل إن
كثيراً من أزمات الوسط الإسلامي يعز أن يتوصل إلى علاجاتها ضمن وضعية
الوسط الإسلامي نفسه، وإنما في تحسين الواقع الاجتماعي المحيط، فأزمة عدم
احترام الوقت الذي ينعى فيها على الفئة المتدينة ويبدى فيها ويعاد هي أزمة مجتمع،
وأحد أسباب التوتر من هذه الأزمة وغيرها أن الشعور بالتأزم خاص بنخبة ذات
ثقافة ووعي عاليين بينما من دونهم ثقافة ووعياً يكتفون بمسايرة ما هو سائد، مما
ولَّد طموحاً وهمياً ومحاولة لتخطي السلبيات في وقت سريع بطريق يسير (وهو ما
يقل حصوله) ، لكن ما من شك أن الفئة المتدينة في باب الوقت وغيره من
الفضائل حققت مستويات جيدة يجب أن نعترف بها؛ لنحقق الاتزان في النظر،
والتوسط في التقويم: فيشكرون على ما فيهم من حميد الخصال، وينبهون إلى
درجات الكمال التي تنتظر الإكمال.
ولعل الأخ القارئ يشاركني أن السلبيات في الفئة المتدينة فضلاً عن
الراسخين منهم التي انتقلت عدواها إليهم من المجتمع هي أقل فيهم ممن سواهم،
وأن فضائلهم بالنسبة إلى غيرهم كبيرة، مع ضرورة التنبه إلى أن هذا القدر من
القلة والكثرة لا يعني الاكتفاء به، بل الازدياد من الخير سمة الصالحين وشعار
المتطلعين إلى رضوان الله والجنة، ورغبتنا في كمالهم واقترابهم من الكمال لا
يعنيان الكمال.
وحين أوافق الأخ الكاتب على عموم الأفكار الانتقادية أقيد ملحظين خاتمين:
1 - أن في سطور شرح الفكرة الانتقادية فقرات لا يُسلَّم بها تماماً؛ من
الأمثلة أو التعليلات أو الاستطرادات فأتجاوزها ولا أعرج على شيء منها؛ فالعبرة
في مثل هذه الحوارات بصحة الفكرة العامة؛ إذ يكاد لا يوجد حديث من أحاديث
البشر خلا الرسل صلوات الله وسلامه عليهم يسلم من مثل هذا؛ ولو فعلته مع نصِّ
أخ ناصح لعددت ذلك تمحلاً وانشغالاً بالجزئيات وقتلاً للموضوع الأساس.
2 - تضمن تحرير بعض الأفكار الانتقادية التي ساقها الكاتب قدراً من
المبالغة التي ربما دفعته إلى التزيد في وصف الظاهرة المنتقدة، أو الاقتراب من
الطرف الآخر عند تقديمه البديل المقترح، وهذا الإجراء كما أظن مما يسود الكتابة
الانتقادية، وربما أصبحت ركناً في بعض أنواع النقد، حتى عُرِفَتْ بها، وإن كان
الحياد والموضوعية هي الطريقة الوسط؛ لكن لا يسوغ أن يفسد استفادتنا مما جاء
من ملحوظات أنها تضمنت ذلك القدر.