ملفات
العلمانية في العالم الإسلامي.. تساقط الأوراق
(2 - 3)
العلمانية في قفص الاتهام
الغزو العلماني للتشريع وأثره على المجتمع
(دراسة حالة)
المحامي/ صبحي صالح موسى
تعد التشريعات القانونية مرآة تعكس حقيقة المجتمعات؛ فمن خلالها نستطيع
التعرف على النمط السياسي والاقتصادي والاجتماعي لأي مجتمع لا سيما
المجتمعات ذات الاتجاهات الأيديولوجية التي تحكمها تشريعات تصدر عن هذه
الاتجاهات وتصب فيما يحقق الفلسفة الفكرية للاتجاه السائد.
ولما كانت الشريعة الإسلامية نظاماً كاملاً شاملاً (وضمن ذلك جانبها
التشريعي القانوني) يستند إلى أساس عقدي، وتصدر عن أصل مقدس قائم على
الكتاب والسنة، وهما أصلا الاستدلال عند المسلمين؛ فإنها تتميز بلون وسمت
مميز ومختلف تماماً عن كافة النظم القانونية الأخرى السائدة في العالم كله [صِبْغَةَ
اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ] (البقرة: 138)
ومن السهل تمييز المجتمعات المحكومة بنظام الإسلام من أي مظهر من
مظاهر هذه المجتمعات سواء كان هذا المظهر عقدياً أو أخلاقياً، فكرياً أو سلوكياً،
فردياً أو مجتمعياً.
وقد ظلت المجتمعات الإسلامية جميعها محكومة بنظام الشريعة الإسلامية منذ
ظهور الإسلام، وفي النكبة الأخيرة التي كان أبرز مظاهرها سقوط الخلافة
العثمانية (في تركيا) سنة 1924م على يد مصطفي كمال أتاتورك، وما تبع ذلك
من انهيارات مدوية في البلاد الإسلامية إلا ما رحم ربك، ولم يكن ذلك فجأة ولا من
فراغ، وإنما تم ذلك بعد هجوم ضار منظم تمثل في حملات عسكرية متتابعة
يتزامن معها وعلى المحاور نفسها حملات غزو فكرى وثقافي أشد ضراوة وأكثر
تنظيماً.
وإذا كانت الأمور قد انتهت باحتلال عسكري أجنبي (صليبي) في معظم
البلاد الإسلامية؛ فإن الأشد فداحة هو وصول الأمر إلى أبعد غاية ممكنة، تمثلت
في احتلال عقول وقلوب ومن ثم: سلوك وعادات كثير من أهالي هذه البلدان.
وعلى الرغم من حصول هذه البلدان على الاستقلال السياسي، وجلاء القوات
العسكرية الأجنبية عن أراضيها على مدار سني القرن العشرين؛ ومع ذلك وبعد
مرور قرن بأكمله فإنه لا يستطيع أحد أن ينكر أن عقول وقلوب وعادات وسلوكيات
أبناء هذه البلاد لا سيما كثيرًا من النخب السياسية الحاكمة فيها ما زالت محتلة
احتلالاً أجنبياً، وأبرز صور هذا الاحتلال وضوحاً وأبلغها أثراً: هذا الاحتلال
الفكري والثقافي والاجتماعي المسيطر على كثير من مناحي التشريعات القانونية
لبلدان العالم الإسلامي؛ فما زالت أحكام الشريعة الإسلامية مهمشة ومبعدة عن دفة
الأمور ومنصة الأحكام عن عمد وإصرار، بل الأشد من ذلك والأنكى: أن هذا
الاحتلال أصبح قوياً وممكناً إلى درجة اعتبار الدعوة إلى الاستقلال التشريعي،
والمطالبة بالتحرر القانوني، والعودة إلى التشريعات الأصلية لهذه البلدان والتي
تنبع من عقيدتها، والمطالبة من ثم بتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية أصبح ذلك
جريمة شائنة تعامل بأشد صور المعاملة القانونية قسوة وبشاعة، وتطبق عليها أشد
العقوبات صرامة وضراوة، وتحكمها عادةً إجراءات استثنائية وأحكام عرفية غير
مسبوقة في التاريخ.
ولكن قبل استعراضنا لدراسة الحالة التي نمثل لها يحسن بنا تقديم عرض
تمهيدي موجز لفكرة سيادة القانون في التشريعات العلمانية مقارنة بالشريعة.
أولاً: فكرة (سيادة القانون) بين الإسلام والعلمانية:
تعد فكرة سيادة القانون عند المفكرين القانونيين قمة التطور الإنساني في مجال
كرامة المواطن وحقوق الإنسان، كما أنها تمثل قمة الديمقراطية؛ فهي النموذج
المحتذى والمثل المقتدى في الدول الحرة والمتقدمة، وهذه الفكرة تتمثل في سيادة
القانون وتدرُّجه؛ بحيث يكون الدستور هو القانون الأعلى والأسمى للبلاد، وهي
فكرة تحقق توازن الحقوق والواجبات بين الحاكم والمحكوم، كما أنها تحقق مبدأ
الفصل بين سلطات الدولة، بما يضمن عدم تعدي سلطة على أخرى أو انفراد
إحداها بالسلطة بما يتيح المناخ للظلم والقهر والتسلط والدكتاتورية.
ونظراً لما تتسم به المجتمعات العلمانية من قصر نظرٍ مرجعه عدم الإيمان
بالغيب، فضلاً عن سطحية في التصور مرجعها عبادة العقل والتمرد على الوحي
فإن فكرة المشروعية الدستورية وسيادة القانون هي بالنسبة لهم غاية المرتجى
ونهاية المجد.
لكن في الشريعة الإسلامية تبدو هذه الفكرة أشبه بآلهة التمر التي كان يصنعها
كفار مكة قبل الإسلام، فإذا جاع أحدهم أكل الإله أو بعضه، ثم أعاضوا له ما أكلوه
منه، ثم خرُّوا له ساجدين.
وبيان ذلك يتضح من هذا الفرق الجوهري والخطير بين المشروعية
الدستورية العليا عند العلمانيين والمشروعية الإسلامية العليا عند علماء الشريعة
الإسلامية؛ إذ إن الدستور الوضعي وهو أسمى القوانين؛ بحسبانه القانون الأعلى
للدولة إنما يضعه البشر (نواب عن الأمة) ، بينما القانون الأسمى والأعلى عند
المسلمين هو وحي الله المنزل (كتابه العزيز وصحيح السنة النبوية المطهرة)
والفرق بين الاثنين واضح، والأثر المترتب على ذلك أوضح:
فالوحي مقدس قداسة منزله عز وجل، وباق بقاء منزله سبحانه، ومن ثم فهو
يستعصي على الإلغاء أو التعديل لقوله عز وجل: [قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن
تِلْقَاءِ نَفْسِي] (يونس: 15)
كما أن كون الوحي منزلاً من عند الله فإنه ينفي وجود أي درجة أو امتياز
لأحد على أحد؛ فكل الناس عباد لله الواحد المعبود، وهو بهذه المثابة عال،
ومقدس، ومنزه، وباق، وعادل، وهذه صفات مطلقة لله عز وجل، ووحي الله
صفة من صفات الله تعالى، والصفات تابعة للذات.
أما أن فكرة سيادة القانون عند العلمانيين لا تحظى بهذه الصفات التي تتميز
بها الفكرة نفسها في الشريعة الإسلامية؛ فذلك لأن الدستور يضعه بشر (أياً كانت
صفتهم) ، وأن الجهة التي تصدر الدستور تملك تعديله، كما تملك أيضاً تبديله،
ولا يستبعد وجود الأهواء والشهوات والمصالح الشخصية أو النظرات القاصرة في
هذا التعديل والتبديل؛ إذ إن ذلك من طبائع البشر، والواقع خير شاهد ودليل،
وهذا الأمر يستحيل حدوثه أو حتى تصوره في الشريعة الإسلامية ولا يملكه ولا
يقدر عليه أحد كائناً من كان.
فالدستور إذن من صنع أيدي هؤلاء ونتاج عقلهم القاصر وثقافتهم المحدودة؛
فهو لمن أصدروه مثلما كانت آلهة التمر لكفار مكة؛ إذ إن القاعدة أن الصانع سيد
المصنوع، فإذا كان الدستور من صنع البشر فإن البشر هم سادة الدستور، وهذا
الذي لا يستطيع أحد أن يدعيه على الشريعة الإسلامية قط، وهذا أيضاً وجه من
وجوه إعجازها.
ثانياً: القانون والإسلام:
ويلاحظ كثير من المؤرخين وفقهاء القانون أن الصلة بين الدين الإسلامي
خاصة والشريعة صلة تقوم على التغذية المتبادلة دائماً؛ فالشريعة انتشرت حيث
انتشرت العقيدة الإسلامية، وبالعكس فإن العقيدة الإسلامية بدأت تنحسر وتضعف
حيث تقلص نفوذ الشريعة وتقلص دورها في المجتمعات التي أحلَّت القوانين
الوضعية محل أحكام الشرع.
هذه العلاقة بين الدين والقانون توجد في جميع المجتمعات غير الإسلامية من
الديانات المختلفة، ولكنها بالنسبة للإسلام خاصة تتخذ رباطاً وثيقاً للغاية؛ لأن
الصلة بين الدين والقانون في الإسلام صلة ارتكان.
ثالثاً: الشريعة والتجديد:
ونظراً لكثرة الكلام حول وجوب التجديد في الشريعة يتعين الإشارة إلى أنه
عند الحديث عن التجديد والمجددين في الإسلام ينبغي ملاحظة الفارق المهم بين
الشريعة الإسلامية والفقه الإسلامي.
1- فالشريعة هي الأحكام التي أنزلها الله سبحانه وتعالى لعباده، ومصادرها
الرئيسية هي القرآن وسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
2 - بينما الفقه هو معرفة الأحكام الشرعية التي تتعلق بأفعال العباد بأدلتها
التفصيلية عن طريق الاستدلال والاستنباط والاجتهاد في فهم نصوص الشريعة
الإسلامية؛ فالشريعة ذاتها أصل ووضع إلهي لا يتغير، بينما الفقه وهو فهم البشر
للنصوص وتطبيقه على أوضاع مجتمعاتهم وظروفهم ذو وضع بشري يَرِد عليه
الخطأ والصواب، ويَرِد عليه التجدد وإعادة النظر.
ولكن تتبقى نقطة بالنسبة للتجديد وهي أنني لا أظن أن أحداً أو كثيرين لا
يؤمنون بأهمية تجديد الفقه والفكر الإسلامي، ولا نجد خلافاً حقيقياً في هذه النقطة،
وإنما المشكلة الأساسية هنا هي: كيف يمكن أن نمارس التجديد في الفقه الإسلامي
الآخذ عن الشريعة ونحن مستنفذو القوى في معركة فكرية أخطر، وهي: تثبيت
الشريعة أو تعطيلها؟
هذه هي المشكلة الحقيقية! المشكلة أن الشريعة تجد هجوماً شديداً عليها
وتجتث أصولها من المجتمع، مما يجعلنا نسائل أنفسنا: ما الذي ننصرف إليه؟
ننصرف إلى الاجتهاد في الفروع؟ أم نهتم بتثبيت الأصول؟
هذه هي المشكلة، وهذه هي النقطة التي تحتاج منا إلى صياغات جيدة؛ فهل
نستطيع أن نقوم بالعملين معاً بغير تضارب بينهما وبحيث لا يطغى أحدهما على
الآخر؟
- لا بد من تثبيت الأصول، هذه نقطة.
- النقطة الثانية: لا بد من التجديد في فروع الشريعة الإسلامية وفي الفقه.
- والتلاؤم وعملية المزاوجة بين هذين الأمرين تحتاج من الكافة إلى جهد
كبير.
رابعاً: الشريعة والجماعة السياسية:
إن التشريع المأخوذ عن الشريعة الإسلامية يشكل أساساً حيوياً وجوهرياً
لتوحيد ما يمكن توحيده من أقطار العرب والمسلمين، وقد قام بدوره التوحيدي هذا
من قبل، ومما له دلالته أن تفتت أمتنا العربية والإسلامية أقطاراً جاء متواكباً مع
العدول عن التشريع الإسلامي، وأن التقنين الوضعي واختلاف مدارسه صار أحد
معوقات إمكان التوحيد بين شعوبنا؛ إذ بينما يخضع المصري والشامي للتشريعات
اللاتينية كان يخضع السوداني للتشريع الأنجلو سكسوني.. وهكذا [1] .
الغزو العلماني للتشريعات القانونية المصرية:
ونظراً لما تتمتع به مصر من مكانة تاريخية وجغرافية على مدار التاريخ
الإسلامي كله منذ الفتح الإسلامي لمصر إبان خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب
رضي الله تعالى عنه، ودورها الرائد في حماية الإسلام والذود عن المسلمين،
والذي تجلى في أعظم صوره في مواجهة التتار ودحر عدوانهم فضلاً عن صمودها
وجهادها وتضحياتها في مواجهة الحملات الصليبية المتكررة على مدار حركة
الصراع التاريخي كله، ونظراً لأثرها في العالم الإسلامي، فقد ركز عليها الغرب
ضرباته واستهدفها بمؤامراته، مما رشحها بقوة لتكون نموذجاً لـ (دراسة حالة)
لموضوع هذا المقال.
ولبحث مدى اتفاق أو افتراق القوانين المصرية مع الشريعة الإسلامية، وإلى
أي مدى كان الاحتلال الأجنبي (العلماني) للأحكام القانونية المصرية في مختلف
المجالات نعرض أولاً للنشأة والتطور التشريعي تاريخياً.
التطور التاريخي للتشريعات الحاكمة في مصر منذ الفتح الإسلامي وحتى
اليوم:
أولاً: المحاكم الشرعية منذ نشأتها حتى إلغائها:
1 - نشأت مصر نشأة إسلامية تحكم بالشريعة، حيث كان فقهاء الصحابة
والتابعين من بعدهم يرجعون في قضائهم وفتاويهم إلى الكتاب العزيز والسنة
المطهرة وأدلة الاجتهاد.
2 - وفي العصور اللاحقة تداول منصب القضاء في مصر فقهاء من مذاهب
إسلامية مختلفة.
3 - إلى أن فتح الأتراك العثمانيون القطر المصري، فجعلوا قاضي القضاة
حنفياً، وفي كل هذه العهود كان المرجع في القضاء متون كتب الفقه المتعددة،
والشروح والحواشي، وكتب الفتاوى الكثيرة، بدون أن يتقيدوا بقانون مصاغ على
نمط القوانين الحديثة.
4 - وفي أوائل حكم محمد على باشا والي مصر صدر له من الدولة العثمانية
فرمان شاهاني يتضمن تخصيص القضاء والإفتاء بمذهب أبي حنيفة، كما صدرت
له في آخر حكمه إرادة سَنِية تؤكد العمل بذلك الفرمان، وجرى العمل من ذلك
الحين طبقاً لما تضمنه هذا الفرمان وتلك الإرادة، وتقرر هذا التخصيص بشكل
واضح فيما صدر من القوانين للمحاكم الشرعية.
والجدير بالذكر أنه لما جاء النفوذ الأجنبي أزاح ذلك كله وأقام نظاماً جديداً
قوامه القانون الغربي في مختلف مسائل الأسرة والمجتمع والتجارة والمعاملة؛
فأحدث ذلك اضطراباً شديداً، وقد دعم النفوذ الأجنبي سلطانه السياسي والاجتماعي
والاقتصادي بأن أقام معاهد الحقوق والتجارة لتدريس النظم الأجنبية القائمة على
إباحة الربا والزنا والخمر والميسر في المجتمع الإسلامي، وكان قانون العقوبات
من أخطر هذه القوانين التي أباحت جرائم الزنا وهتك الأعراض وأخرجت المجتمع
الإسلامي من ضوابطه وقيمه، وكان الأمر كذلك في دائرة المعاملات حيث فرضت
القوانين التي تبيح الربا وتجعله أساس جميع وجوه التعامل في البيع والشراء
والإجازة وغيرها.
5 - وقد جاء هذا التحول الخطير في أعقاب الأزمة الاقتصادية التي وقعت
فيها مصر نتيجة لاستدانة إسماعيل باشا من المصارف الأجنبية، تلك المبالغ التي
جلبت معها نفوذ الدائنين وسيطرتهم على الاقتصاد المصري، ثم سيطرتها على
الحكومة نفسها، مما شجعهم على المطالبة بنظام غربي جديد يمكنهم من فرض
سلطانهم على الاقتصاد، وما يتبع ذلك من تغييرات قانونية واجتماعية، وقد جرى
ذلك في دائرة الامتيازات الأجنبية التي مكنت الأجانب من إقامة محاكم قنصلية
خاصة لهم للفصل بين رعاياهم وبين أهل البلاد (بلغت سبعة عشر محكمة) ، وقد
صدر عن هذه المحاكم أحكام بتعويضات باهظة حتى تجاه الحكومة المصرية نفسها
بلغت في أربع سنوات نحو ثلاثة ملايين من الجنيهات، وهو مبلغ كبير في ذلك
الوقت.
6 - ورأى القائمون على الأمر وقتها أن المخرج من هذا المأزق هو إنشاء
المحاكم المختلطة لتكون بديلاً عن القضاء القنصلي، وقد قامت هذه المحاكم 1875 م
واشتركت فيها أغلب الدول الأوروبية واستدعت إنشاء قوانين غربية المصدر،
منها: القانون المدني والقانون التجاري والقانون البحري وقانون العقوبات وقانون
تحقيق الجنايات وقانون المرافعات.
7 - وكانت هذه القوانين هي الأساس الذي قامت عليه من بعد نظم المحاكم
الأهلية، وبذلك سيطرت القوانين الأجنبية على مختلف شؤون المجتمع المصري
بديلاً للشريعة الإسلامية التي انحسر نفوذها في دائرة الأحوال الشخصية، وهي
مجموعة القواعد التي تحدد العلاقة بين الفرد وأسرته، وهكذا حجب القانون
الفرنسي الشريعة الإسلامية عام 1885م في مؤامرة واسعة النطاق، اشترك فيها
الخديوي مع الحكومة والاحتلال الأجنبي، واستمر العمل بهذه القوانين في المجال
المدني والتجاري والاجتماعي حتى الآن مع تعديلات يسيرة أدخلت خلال تلك المدة
الطويلة التي قاربت قرناً من الزمان.
8 - وظلت المحاكم الشرعية تتولى منازعات الأحوال الشخصية فقط،
وبالرغم من أن الإصلاح بالمحاكم الشرعية قد تناول أكثر النواحي فإنه لم يتناول
القانون الوضعي إلا ابتداءاً من سنة 1925م، ولم يتناول إلا بعض مسائل خاصة
صدر بها القانون رقم 25 لسنة 1920م، والقانون رقم 25 لسنة 1929م.
وقد صدرت عدة لوائح بمصر في أزمنة مختلفة ترتب المحاكم الشرعية
وتقلص ظلها بعد إنشاء المحاكم المختلطة في سنة 1875م والمحاكم الأهلية في سنة
1883م وحصر اختصاصها في مسائل الأحوال الشخصية بالنسبة للرعايا
المصريين المسلمين بصفة عامة، بعد أن كانت المحاكم الشرعية هي صاحبة
الولاية العامة وهي الجهة القضائية المختصة بالنظر في جميع المسائل من مدنية
وجنائية وأحوال شخصية.
9 - وفي سياق هذا الإصلاح ألَّف محمد قدري باشا كتاب: (مرشد الحيران
في معرفة أحوال الإنسان) في المعاملات المدنية على غرار القوانين الوضعية في
مواد اشتملت على 914 مادة، وكل أحكام الكتاب المذكور مأخوذة من مذهب الإمام
أبي حنيفة، وقررت نظارة المعارف بتاريخ 15 سبتمبر سنة 1895م طبع الكتاب
على نفقتها مع جدول يبين مآخذ كل مادة من كتب فقه الحنفية مع تعيين الصفحات.
- وألَّف أيضاً كتاب: (قانون العدل والإنصاف في مشكلات الأوقاف) ،
حيث اشتمل على 646مادة، وقد بين مآخذ كل مادة من كتب فقه الحنفية، وصدر
قرار من ناظر المعارف في 17 سبتمبر سنة 1893م بطبعه على نفقة نظارة
المعارف.
- وألَّف كتاب: (الأحكام الشرعية في الأحوال الشخصية) واشتمل على
647مادة، والأحكام التي تضمنها مأخوذة أيضاً من مذهب الإمام أبى حنيفة، وقد
تناول الكتاب أحكام: الهبة، والحجر، والإيصاء، والوصية، والميراث. وسائر
مسائل الأحوال الشخصية.
10 - وفي سنة 1915م ألفت لجنة من كبار العلماء برئاسة وزير الحقانية
(العدل) ؛ لوضع قانون لمسائل الأحوال الشخصية، فأعدت اللجنة مشروع قانون
للزواج والطلاق والمسائل المتعلقة بهما، واستمدت أحكامه من المذاهب الأربعة،
وطبع المشروع في سنة 1916م، وأعيد طبعه بعد تنقيحه في سنة 1917م، ولكن
المشروع لم يأخذ طريقه إلى التنفيذ، ولا يزال مهملاً ومتروكاً في زوايا النسيان
حتى الآن.
11 - وصدر المرسوم بقانون رقم 25 لسنة 1925م، والمرسوم بقانون رقم
25 لسنة 1929م، وقد عدل فيهما عن مذهب الحنفية المعمول به أمام المحاكم
الشرعية وأخذ بما في المذاهب الإسلامية الأخرى في بعض المسائل المتعلقة بالنفقة،
والعدة، والطلاق، والفرقة بين الزوجين للإعسار وعدم الإنفاق أو لغيبة الزوج
أو للإضرار بالزوجة بما لا يستطاع معه دوام العشرة.
12 - وفي سنة 1936م ألفت وزارة العدل لجنة من كبار العلماء برئاسة
شيخ الجامع الأزهر في ذلك الوقت للنظر في أحكام الأحوال الشخصية.
فأتمت اللجنة المذكورة إعداد مشروعات قوانين للمواريث والوصية والوقف،
فعرضت الحكومة تلك المشروعات على البرلمان، وتمت الموافقة عليها بعد إدخال
تعديلات في بعض موادها، وصدر بها القانون رقم 77 لسنة 1943م بأحكام
المواريث، والقانون رقم 48 لسنة 1946م بأحكام الوقف، والقانون رقم 71 لسنة
1946م بأحكام الوصية.
وقد خولف في تلك القوانين مذهب الحنفية وعدل عنه في كثير من المسائل،
وأخذ بما في المذاهب الأخرى بدون أن يتقيد برأي إمام معين من الأئمة المجتهدين
ولا بمذهب دون مذهب؛ تحقيقاً للعدالة والمصلحة العامة ورفعاً للمشقة ودفعاً للحرج
الذي كان يلحق الناس من إلزام المحاكم الشرعية التقيد بمذهب واحد وهو مذهب
الحنفية والتزام أحكامه الفقهية في القضاء بين الناس والفصل في الخصومات
والمنازعات، فما استحدث في تلك القوانين من تعديل، وخولف فيها مذهب الحنفية،
وروعي في ذلك الأخذ بأيسر الأحكام الفقهية من المذاهب الإسلامية الأخرى
وأقربها إلى ما تنطوي عليه الشريعة الإسلامية السمحة من يسر على الناس يرفع
الحرج والعسر عنهم.
13 - وصدر القانون رقم 185 لسنة 1952م الخاص بإلغاء نظام الوقف
على غير الخيرات، والقانون رقم 247 لسنة 1953م الخاص بالنظر على الأوقاف
الخيرية وتعديل مصارفها.
14 - وأخيراً صدر القانون رقم 462 سنة 1955م بإلغاء المحاكم الشرعية
والمحاكم الملِّيَّه، وأصبحت بذلك جميع المحاكم في مصر بمختلف درجاتها محاكم
علمانية تصدر أحكامها وفق الترتيب الوارد بنص المادة الأولى فقرة (?) من القانون
المدني المصري، والتي تنص على أنه: (إذا لم يوجد نص تشريعي يمكن تطبيقه:
حكم القاضي بمقتضى العرف، فإذا لم يوجد فبمقتضى مبادئ الشريعة الإسلامية،
فإذا لم توجد فبمقتضى مبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة) .
وهكذا صار موقع الشريعة الإسلامية على خريطة تشريعات مجمل النظام
القانوني وهيكل السلطة القضائية في الدرجة الثالثة، بعد التشريع الوضعي، وبعد
العرف.
فما هي ظروف ميلاد هذه التشريعات العلمانية وكيفية نشأتها، واختراقها لنظم
المجتمع؟
ثانياً: اختراق القوانين الوضعية للمجتمع:
في محاولة للبحث في ظروف ميلاد تلك القوانين ونشأتها فإن المدخل لذلك
ينحصر في الإجابة عن السؤال الآتي: هل استُولدت أحكام هذه القوانين من القواعد
العامة للشريعة الإسلامية بطريق صحيح مشروع، حتى يمكن نسبتها إلى الشريعة
الإسلامية بنسب شرعي صحيح، أو أن العكس هو الصحيح؟
وقبل الإجابة عن هذا السؤال نعرض لكل من المجموعتين الأساسيتين
للتشريعات (المجموعة الجنائية، والمجموعة المدنية) حيث تجدر الإشارة إلى أن
ظروف نشأتها التاريخية تشير إلى أنها ولدت على يد محام فرنسي غير مسلم في
أواخر القرن الماضي، وذلك على الإيجاز الآتي:
أولاً: التشريعات المدنية:
1 - في الثامن والعشرين من يونية سنة 1875م صدر التقنين المدني
المختلط، وقد قام بوضعه المحامي الفرنسي مانوري الذي اتخذه الوزير الأرمني
نوبار باشا أمين سر له ثم عينه بعد ذلك أمين سر اللجنة الدولية التي كانت تدرس
مشروع إنشاء المحاكم المختلطة آنذاك [2] .
2 - وقد اقتُبس التقنين المدني المختلط من التقنين المدني الفرنسي، ونقل
بعض المسائل عن القضاء الفرنسي، وعن التقنين المدني الإيطالي القديم الذي
صدر في سنة 1866م، ويقول أحد كبار رجال الفقه الوضعي في مصر وهو
الدكتور عبد الرزاق السنهوري: «إن مانوري لم يغفل الشريعة الإسلامية، فنقل
عنها بعض الأحكام» [3] .
ويقول د. السعيد مصطفى السعيد (أستاذ القانون الجنائي) [4] : «وبالطبع
فقد تم وضع القانون باللغة الفرنسية، ثم شكلت لجنة تكفلت بعد ذلك بترجمته
وسائر القوانين المختلطة إلى اللغة العربية» .
من الناحية الرسمية كانت الشريعة الإسلامية هي القانون الوطني السائد في
البلاد حتى ذلك التاريخ [5] ، ثم ما لبثت حكومة ذلك العهد بعد استقرار المحاكم
المختلطة أن تطلعت إلى تغريب القضاء الوطني بتنظيمه على غرار القضاء
المختلط [6] .
3 - فتألفت في أواخر سنة 1880م لجنة لوضع لائحة لمحاكم وطنية نظامية،
كان من بين أعضائها رجل يدعى (موريوندو) وهو محام إيطالي عين قاضياً في
محكمة الإسكندرية المختلطة في سنة 1875م وقامت هذه اللجنة بوضع لائحة
لترتيب المحاكم الوطنية الجديدة (صدرت في 17 من نوفمبر سنة 1881م) وقام
أعضاء اللجنة في الوقت ذاته بوضع تقنينات لهذه المحاكم صيغت كلها على مثال
التقنينات المختلطة، وكان أن وضع موريوندو التقنين المدني الوطني فنقله على حد
تعبير السنهوري نقلاً يكاد يكون حرفياً من التقنين المدني المختلط.
4 - وفي 14 من يونية سنة 1883م صدرت لائحة المحاكم الوطنية، ثم
صدر التقنين المدني الوطني في 28 من أكتوبر سنة 1883م، فالتقنينات الخمسة
الأخرى في 13 من نوفمبر سنة 1883م، وقد وضعت هذه التقنينات الوطنية كلها
باللغة الفرنسية، ثم ترجمت إلى اللغة العربية.
5 - وفي سنة 1936م ظهرت الحاجة إلى تعديل هذه التقنينات، فشكلت
لجنتان: إحداهما لتعديل التقنين المدني والتقنين التجاري وتقنين المرافعات،
والأخرى لتعديل التقنين الجنائي وتقنين الإجراءات الجنائية، وكان ضمن أعضاء
اللجنة الأولى كل من: صليب سامي، ومسيو لينان دابلفون، ومتر مري جراهام،
ومسيو موريس دي فيه، ومسيو ألفريد، وإسكولي.
6 - ثم تشكلت لجنة ثانية كان من أعضائها: شيفاليه أنطونيونيتا، ومسيو
ليون باسار، ومسيو فان أكر، وفي يونيو سنة 1938م تشكلت اللجنة الثالثة
والأخيرة مكونة من إدوار لامبير وهو من أكبر رجال القانون في فرنسا في ذلك
الوقت ومن الدكتور عبد الرزاق السنهوري وذلك لوضع المشروع التمهيدي للقانون
المدني، وقد قام لامبير وحده بوضع نصوص الباب التمهيدي ونصوص عقد
المقاولة والتزام المرافق العامة والعمل والتأمين، كما عاون اللجنة القاضيان:
إستونيت، وساس، اللذان كانا قاضيين بالمحاكم المختلطة، فوضع الأول المشروع
الابتدائي للباب الخاص بإثبات الالتزام والفصل الخاص بعقد الشركة، وعاون
الثاني في وضع النصوص الخاصة بتنازع القوانين من حيث المكان، كما عاون
في عمل اللجنة كذلك الدكتور سليمان مرقص الذي وضع المشروع الابتدائي
للنصوص الخاصة بتقسيم الأشياء، وعقود القرض، والعارية، والوديعة.
7 - وفي 15 من أكتوبر سنة 1949م بدأ العمل بالقانون المدني الجديد الذي
ولد من رحم القانون المدني القديم تهذيباً وتقنيناً لما استقر من المبادئ في أحكام
القضاء الحالي.
وهذا الأخير لم يولد من رحم الشريعة الإسلامية أصلاً، ولم ينتسب لها بأي
نسب.
ثانياً: مجموعة القوانين الجنائية:
وهي: المجموعة الصادرة في سنة 1883م، فقد لحقها التعديل أيضاً بسلسلة
من القوانين، جاء بعضها معدلاً لنصوص سابقة وبعضها متضمناً لأحكام جديدة:
1 - ففي سنة 1904م صدر قانونان جديدان للعقوبات وتحقيق الجنايات،
يقول د. السعيد مصطفى: «إن المشرع لم يتقيد عند تعديلهما بالتشريع الفرنسي
فاتخذ أساسه قانون سنة 1883م، ولجأ إلى قوانين أخرى، وهي: القانون الهندي،
والبلجيكي، والإيطالي، فاستمد منها ما رآه علاجاً للنقص والعيوب التي شوهدت
في القانون القديم وما وجد أكثر ملاءمة لأحوال البلاد، وقد ساعد على ذلك: أن
القائمين بالتعديل كانوا من مشرعي الإنجليز.
2 - وفي سنة 1973م صدر قانون العقوبات الجديد، وهو لا يختلف كثيراً
عن قانون العقوبات الأهلي الصادر سنة 1904م؛ فقد اتخذ هذا الأخير أساساً له مع
تعديل وإضافة جزأين، وهذا هو القانون المعمول به الآن [7] .
بعض مظاهر الغزو العلماني للتشريعات القانونية المصرية، وشيء من
أثرها على المجتمع:
المطلب الأول: التشريعات الجنائية:
تعد التشريعات الجنائية يد السلطة وسطوة القانون ووسيلته في ضبط المجتمع
وتحقيق الأمن والاستقرار وحماية قيم المجتمع أو ما يسمى قانوناً: النظام العام
والآداب وتؤدي العقوبات الجنائية في المجتمع وظيفة معاقبة الجاني الخارج على
القانون والنظم، والمعتدي على الآداب العامة وقيم المجتمع، كما تؤدي أيضاً
وظيفة الردع العام لكل من تسول له نفسه الخروج على المجتمع وقيمه ونظامه.
وبناءاً على ذلك وتفريعاً عليه تتفاوت العقوبات الجنائية بحسب جسامتها
وشدتها بما يتفق وقيمة المصلحة المشمولة بالحماية الجنائية وقدرها عند المجتمع؛
فكلما عظمت المصلحة غلظت العقوبة، كما أن العدوان على أي قيمة عند المجتمع
يجب أن تعتبر جريمة معاقباً عليها قانوناً، ويقابل ذلك في الشريعة الإسلامية ما
يمكن أن نسميه: (انطباق دائرة التحريم مع دائرة التجريم) بمعنى أن كل ما هو
حرام شرعاً يجب أن يكون مجرَّماً قانوناً، وعليه: فإن كل تصرف أو سلوك غير
مؤثَّم قانوناً فهو بالضرورة مباح غير معاقب عليه وهو ما اصطلح عليه بالقاعدة
الدستورية: (لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص) .
بناءً على ذلك نستعرض بعض نصوص قانون العقوبات المصري في محاولة
لبحث مظاهر علمنة التشريع الذي يعمل على ترسيخ القيم العلمانية، ومدى الفجوة
بين هذا التشريع وقيم ومبادئ وأحكام الشريعة الإسلامية، مما يترك أثراً سلبياً
كبيراً لا شك فيه على المجتمع.
أولاً: مكانة الدين والعقيدة في القانون:
1 - الحماية الجنائية المقررة للدين:
- أورد قانون العقوبات باباً كاملاً تحت عنوان: الباب الحادي عشر: الجنح
المتعلقة بالأديان، في المادتين رقم 160، 161، وتنص المادة 160 عقوبات
المعدلة بالقانون رقم 29 لسنة 1982م على أنه:
(يعاقب بالحبس، وبغرامة لا تقل عن مائة جنيه ولا تزيد على خمسمائة
جنيه، أو بإحدى هاتين العقوبتين:
أولاً: كل من شوَّش على إقامة شعائر ملة أو احتفال ديني خاص بها أو
عطلها بالعنف أو التهديد.
ثانياً: كل من خرَّب أو كسر أو أتلف أو دنس مباني معدة لإقامة شعائر دين
أو رموزاً أو أشياء أخرى لها حرمة عند أبناء ملة أو فريق من الناس.
ثالثاً: كل من انتهك حرمة القبور أو الجبانات أو دنسها، وتكون العقوبة
السجن الذي لا تزيد مدته على خمس سنوات إذا ارتكبت أي من الجرائم المنصوص
عليها تنفيذاً لغرض إرهابي) .
بينما تنص المادة 161 عقوبات على أنه:
(يعاقب بتلك العقوبات على كل تعد يقع بإحدى الطرق المبينة بالمادة 171
على أحد الأديان التي تؤدى شعائرها علناً، ويقع تحت أحكام هذه المادة:
أولاً: طبع أو نشر كتاب مقدس في نظر أهل دين من الأديان التي تؤدى
شعائرها علناً إذا حرف عمداً نص هذا الكتاب تحريفاً يغير من معناه.
ثانياً: تقليد احتفال ديني في مكان عمومي أو مجتمع عمومي بقصد السخرية
به أو ليتفرج عليه الحضور) .
وهاتان المادتان هما كل الباب، ومن ثم: فهما جميع الحماية الجنائية المقررة
للأديان في قانون العقوبات، وواضح أن الإسلام يتساوى في هاتين المادتين مع أي
دين آخر أيّاً كان هذا الدين، وواضح أيضاً مدى هزالة العقوبة التي قد تصل إلى
غرامة مائة جنيه، مما يعكس مدى الإهمال وعدم الاكتراث بحماية العقيدة والدين،
بل مما يُهوِّن على الملحدين والمارقين الاجتراء على الاعتداء على الدين ومقدساته،
وهذا أمر يعكس إلى أي مدى بلغت علمانية التشريع في استخفافها بالدين، وهذا
أمر بدهي وفق تصورات العلمانيين ومعتقداتهم.
2 - مقارنة مدى الحماية الجنائية لمقدسات العقيدة مع غيرها لحماية بعض
الشخصيات:
بينما تنص مواد قانون العقوبات أرقام 179، 181، 182، 184، 185،
186 على معاقبة كل من أهان أو عاب رئيس الجمهورية، أو مَلِك دولة أجنبية أو
رئيسها، أو ممثلاً لدولة أجنبية معتمداً، أو مجلس الشعب أو الشورى أو غيره، أو
موظفاً عاماً أو شخصاً بصفة نيابية أو خلافه.
ومن ذلك: المادة 179 عقوبات التي تنص على أنه: (يعاقب بالحبس كل
من أهان رئيس الجمهورية بواسطة إحدى الطرق المتقدم ذكرها) ، والمادة 181
عقوبات التي تنص على أنه: (يعاقب بالحبس كل من عاب بإحدى الطرق المتقدم
ذكرها في حق مَلِك أو رئيس دولة أجنبية) .
وهكذا باقي المواد سالفة الذكر، نجد أن جميع نصوص قانون العقوبات
جاءت خلواً من عقوبة جنائية لمن سبَّ الله أو رسول الله أو دين الله أو كتاب الله أو
كل ما هو مقدس عقائدياً، وذلك ما قد يعطي معنى فقدان القداسة لهذه العقائد (وذلك
لب الفلسفة العلمانية) .
3 - على الجانب الآخر (التشريعات المقيدة للدين) :
فهناك جملة من التشريعات الفضفاضة التي تهدف إلى تقييد قيام الدين بدوره
الإصلاحي الطبيعي في المجتمع، وإليك النصوص القانونية الآتية:
أ - تنص المادة 201 عقوبات المضافة للقانون رقم 29 لسنة 1982م على
أنه:
(كل شخص ولو كان من رجال الدين أثناء تأدية وظيفته ألقى في أحد أماكن
العبادة أو في محفل ديني مقالة تضمنت قدحاً أو ذماً في الحكومة أو في قانون أو في
مرسوم أو قرار جمهوري أو في عمل من أعمال جهات الإدارة العمومية أو أذاع أو
نشر بصفة نصائح أو تعليمات دينية رسالة مشتملة على شيء من ذلك يعاقب
بالحبس وبغرامة لا تقل عن مائة جنيه ولا تزيد على خمسمائة جنيه أو بإحدى
هاتين العقوبتين، فإذا استعملت القوة أو العنف أو التهديد تكون العقوبة السجن) ،
وهو ما يعني مصادرة وتجريم فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ب - كما تنص المادة 98 (و) المضافة أيضاً بالقانون رقم 29 لسنة 1982 م
على أنه:» يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر ولا تجاوز خمس سنوات
أو بغرامة لا تقل عن خمسمائة جنيه ولا تتجاوز ألف جنيه كل من يستغل الدين في
الترويج أو التحبيذ بالقول أو بالكتابة أو بأية وسيلة أخرى لأفكار متطرفة بقصد
إثارة الفتنة أو تحقير أو ازدراء أحد الأديان السماوية أو الطوائف المنتمية إليها أو
الإضرار بالوحدة الوطنية أو السلام الاجتماعي «.
ج - وتقضي المادة 102 عقوبات المعدلة بالقانون رقم 29 لسنة 1982م بأن:
» كل من جهر بالصياح أو الغناء لإثارة الفتن يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على
سنة أو بغرامة لا تزيد على مائتي جنيه «، ويدخل في ذلك أيضاً الأناشيد.
د - والأشد من ذلك والأنكى والأمرّ ما أوردته المادة 88 مكرر (ج) من أنه:
» لا يجوز تطبيق أحكام المادة 17 من هذا القانون عند الحكم بالإدانة في جريمة
من الجرائم المنصوص عليها في هذا القسم (قضايا أمن الدولة) عدا الأحوال التي
يقرر فيها القانون عقوبة الإعدام أو الأشغال الشاقة المؤبدة، فيجوز النزول بعقوبة
الإعدام إلى الأشغال الشاقة المؤبدة، والنزول بعقوبة الأشغال المؤبدة إلى الأشغال
الشاقة المؤقتة التي لا تقل عن عشر سنوات «.
ملحوظة: تنص المادة 17 بأنه (يجوز في مواد الجنايات إذا اقتضت أحوال
الجريمة المقامة من أجلها الدعوى العمومية رأفة القضاة تبديل العقوبة..) وهو ما
يسمى قانوناً باستعمال الرأفة مع المتهم.
قارن ذلك مع العقوبات المقررة للمعتدي على الأديان حيث يجوز استعمال
الرأفة معه، بينما لا يجوز استعمالها مع المتدين المتهم باستغلال الدين لأغراض
سياسية (أمن الدولة) ، وهي قضايا فضفاضة مطاطة تتسع وتضيق حسب
الظروف والأحوال السياسية.
ثانياً: حماية القيم والأخلاق:
1 - في مجال شرب الخمور:
لقد وقف المشرع الجنائي المصري جرياً على نهج رائده الفرنسي من جريمة
الشرب موقف الإغفال التام، فخلت نصوص قانون العقوبات من أية إشارة إلى
تأثيمه وعقابه؛ مما يعني أن المشرع الوضعي لا يعتد بتحريم الله تعالى لفعل
الشرب ولا يعاقب عليه بالجلد حداً، أي أن شرب الخمر حرام عند الله حلال في
القانون الوضعي.
ولم يكتف المشرع المصري بذلك، بل عمد إلى تلك الأماكن التي يتعاطى
الناس فيها الخمر فأسبغ عليها بعض أوجه الحماية، من ذلك: ما نصت عليه المادة
الحادية عشرة المكررة من قانون الأسلحة 394 لسنة 1954م، من أنه: (لا يجوز
حمل الأسلحة في المحال العامة التي يسمح فيها بتقديم الخمور ولا في الأمكنة التي
يسمح فيها بلعب الميسر) ، وبموجب هذا النص أسبغ القانون رعايته على محال
تعاطي الخمور وأمكنة لعب الميسر، حين نزع سلاح الناس فيها توفيراً لأكبر قدر
من الأمان لروادها.
2 - في مجال حماية الأعراض:
المفهوم القانوني لجريمة الزنا:
في بيان المصلحة التي يحميها قانون العقوبات في مجال حماية الأعراض
يقول شراح القانون الجنائي: (رأى المشرع أن المصلحة الاجتماعية عدم تجريم
كافة أفعال المساس بها [أي: بالأعراض] وإنما فقط الأفعال التي تمثل اعتداءاً على
الحرية الجنسية للفرد، فضمان هذه الحرية أمر لازم لوجود الناس في المجتمع
وحفظ النظام الطبيعي للحياة) ؛ لذا: عاقب القانون على (المساس بالحرية
الجنسية) المشكّلة في:
أ - حالة استعمال الإكراه، ويتحقق ذلك في جريمة اغتصاب الإناث وهتك
العرض بالقوة أو التهديد؛ حيث تنص المادة 267 على أنه: (من واقع أنثى بغير
رضاها يعاقب بالأشغال الشاقة المؤبدة) .
كما تنص أيضا المادة 268 على أنه: (كل من هتك عرض إنسان بالقوة أو
بالتهديد أو شرع في ذلك يعاقب بالأشغال الشاقة من ثلاث سنين إلى سبع) .
ب - حالة التغرير بصغير السن أو حديث الخبرة، ويتحقق ذلك في جريمة
هتك العرض بغير قوة أو تهديد، (أما ممارسة الحرية الجنسية في غير الحدود
التي لا ينهى عنها القانون كهتك العرض بالرضا لمن بلغ ثمانية عشر عاماً فهو لا
يعاقب عليه القانون) [8] .
ويتضح من هذا الشرح الذي يكشف عن منهج المشرع الوضعي وسياسته
الجنائية فيما يتعلق بحماية العرض: أن المصلحة المعتبرة في الحماية هنا هي
(الحرية الجنسية) وليست طبيعة العلاقة الجنسية وشكلها، فليس للقانون أن يتدخل
إلا عندما يشكل فعل الجاني اعتداءاً على حق الحرية الجنسية؛ فهو لا يحمي شرف
المجني عليه ولا اعتباره ولا حياءه، وإنما هو يحمي حريته في ألا يمارس الوطء
الجنسي إلا بإرادته، فإذا مارسه بهذه الإرادة في أي شكل فليس ثمة مصلحة معتبرة
متطلبة للحماية.
وقد عَرَضَ القانون المصري لجرائم العِرْض في الباب الرابع من قانون
العقوبات تحت عنوان: (هتك العرض وإفساد الأخلاق) ، وذلك في المواد (267
حتى 279) وهي من المواد التي يمكن وصفها بأنها ترجمة شبه حرفية لمثيلاتها
الفرنسية.
وفيما يتعلق بتحديد (كنه الفعل المؤثم) فقد بان أنه ليس الزنا، وإنما هو
شيء آخر يتمثل في الاعتداء على حق الإنسان في ألا يزني إلا بإرادته، أما الزنا
وفق تعريفه في شرع الله تعالى فليس مما يُشكِّل في عرف القانون الوضعي
الفرنسي والمصري جريمة تستحق العقاب.
ولذلك فحين تعرض المادة (273) وما بعدها من قانون العقوبات لزنا
الأزواج، فإنها لا تعاقب أيّاً منهما بسبب إتيانه لفاحشة من الكبائر التي نهى الله
تعالى عنها، وإنما هي تؤثم اعتداء الجاني على الرابطة الزوجية، ولذلك يجري
نص المادة (273) من قانون العقوبات على أنه: (لا تجوز محاكمة الزانية إلا
بناءً على دعوى زوجها، إلا أنه إذا زنى الزوج في المسكن المقيم فيه مع زوجته
لا تسمع دعواه عليها) .
ومن ذلك: أن الزوج هو صاحب الحق الوحيد في تحريك العقوبة في مواجهة
زوجته، فإن عفا عنها بعد بلوغ الأمر للسلطة ولو بعد صدور الحكم سقطت عنها
العقوبة، حيث تقضي المادة 274 بأن: (المرأة المتزوجة التي ثبت زناها يحكم
عليها بالحبس مدة لا تزيد على سنتين، لكن لزوجها أن يوقف تنفيذ هذا الحكم
برضائه معاشرتها له كما كانت) .
هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية فإن الزوج الزاني في مسكن الزوجية لا
يستطيع أن يحرك الدعوى في مواجهة زوجته الزانية؛ إذ إنه باعتدائه على الرابطة
الزوجية يكون قد أسقط حقه في طلب العقاب على اعتدائها على ذات الرابطة.
ومن ناحية ثالثة جديرة بالعجب فإن الرجل الزوج لا يعاقب على الزنا إلا إذا
كان زناه في منزل الزوجية وثبت عليه هذا الأمر بدعوى الزوجة، وفقاً لنص
المادة (277) من قانون العقوبات التي تنص على أن: (كل زوج زنى في منزل
الزوجية وثبت عليه هذا الأمر بدعوى الزوجة يجازى بالحبس مدة لا تزيد على ستة
أشهر) وأعظِم بها من عقوبة!
العقوبات الجنائية المقدرة للزنا:
أ - عقوبة الزوجة الزانية: سبق أن ذكرنا نص المادة (274) من قانون
العقوبات التي تقول: (المرأة المتزوجة التي ثبت زناها يحكم عليها بالحبس مدة لا
تزيد عن سنتين، لكن لزوجها أن يوقف تنفيذ هذا الحكم برضائه معاشرتها له كما
كانت) .
وينزل حكم هذا النص (الفرنسي) المصري بعقوبة الزنا للمحصن من القتل
(الإعدام) رمياً بالحجارة وفقاً لما هو مقرر في شريعة الإسلام كحد لله تعالى لا
يملك الإمام تخفيفه أو العفو عنه، إلى عقوبة الحبس اليسير لمدة سنتين قابلتين
للإلغاء برضاء الزوج معاشرة زوجته.
ب - عقوبة الزوج الزاني: كما حددت المادة 277 عقوبة الزاني بأن (كل
زوج زنى في منزل الزوجية وثبت عليه هذا الأمر بدعوى الزوجة يجازى بالحبس
مدة لا تزيد عن ستة أشهر) .
ومما هو جدير بالملاحظة هنا أن المشرع الفرنسي ومن بعده مقلده المصري
يجعل من الزنا بمعناه الشرعي (أي الإيلاج الكامل) في حالة المادتين (274-
277) جنحة لا تزيد مدة الحبس فيها عن سنتين، بينما يعاقب على أي استطالة
لجسم المجني عليه بعقوبة الجناية التي يمكن أن تصل إلى الأشغال الشاقة المؤبدة،
اعتداداً بالمصلحة المعتبرة فيها (وهي حق الحرية الجنسية) ، وراجع المواد 267
وما بعدها حتى 279 من قانون العقوبات.
وأما ممارسة الفجور والدعارة على وجه الاعتياد فقد عاقب عليها ما يسمى
بقانون مكافحة الدعارة (القانون رقم (10) لسنة 1961م) في مادته التاسعة:
بالحبس مدة لا تقل عن ثلاثة أشهر ولا تزيد على ثلاث سنوات، أو الغرامة التي لا
تقل عن خمسة وعشرين جنيهاً ولا تزيد على ثلاثمائة جنيهاً، أو كليهما.
وفي مقابل هذا التساهل مع جريمة الزنا التي حرمها الله عز وجل، نجد
تضييقاً وتصعيباً لحق تعدد الزوجات الذي أباحه الله تعالى، وهو ما سنعرض له
بعد قليل عند مناقشة تشريعات الأسرة.
ولا شك في أثر ذلك على أخلاق المجتمع عندما تفتح لأفراده أبواب العلاقات
المحرمة بإباحة الزنا طالما كان بالإرادة الحرة المحضة وبتهوين عقوبته، وتوصد
في الوقت نفسه أبواب العلاقات المباحة بالتضييق على الزواج الشرعي، بل عندما
يعاقب عليه أحياناً كما رأينا في بعض البلاد (الإسلامية) الأخرى أو عندما تهدم
الأسرة بإعطاء الزوجة حق طلب الطلاق عند حدوث التعدد.
3 - حماية الأموال (جريمة السرقة) :
نص قانون العقوبات المصري على السرقة والجرائم الملحقة بها في الباب
الثامن من الكتاب الثالث تحت عنوان: (السرقة والاغتصاب) ، حيث تنص
المواد من (311) إلى (327) في أولاها على أن (كل من اختلس منقولاً
مملوكاً لغيره فهو سارق) .
ولا يستحق هذا التعريف للسرقة كثير نقاش في الفقه الجنائي المقارن بين
الشريعة والقانون؛ إذ المفهومان مشتركان من حيث إن كلاً منهما يُخرِج من معنى
السرقة صوراً متعددة من وسائل الاستيلاء على مال الغير، ويعني ذلك بصورة
جزئية أن أركان جريمة السرقة في القانون الوضعي المصري قريبة الشبه بأركانها
في الشريعة الإسلامية وفقاً لشروطها المتفق عليها، وهي: أن تقع السرقة على مال
الغير، وأن تقع على مال لم يكن قد ائتمن عليه، وتأتي بعد ذلك أمور محل خلاف
في الفقه الإسلامي، مثل: السرقة من حرز، ونصاب المسروق، ونوع بعض
الأموال المسروقة.
عقوبة السرقة:
يعاقب على السرقة في شريعة الإسلام بعقوبة الحد المقدرة في قول الله تعالى:
[وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ
حَكِيمٌ] (المائدة: 38) ، وهو نص عام خصصته السُّنَّة بأحاديث متعددة، وتقطع
اليد اليمنى من مفصل الكف وهو الكوع [9] ، فإن سرق مرة ثانية بعد قطعه قطعت
رجله اليسرى من مفصل الكعب، وهو قول أبي بكر وعمر، وقد روي عن أبي
هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله في السارق:» إن سرق فاقطعوا يده،
ثم إن سرق فاقطعوا رجله « [10] ، وهو قول علي والحسن والشعبي والزهري
وحماد والثوري وغيرهم، فإن سرق ثالثة فلا قطع وإنما يحبس تعزيراً.
بينما في قانون العقوبات المصري: الأصل في السرقة أنها جنحة يعاقب
عليها بالحبس مع الشغل مدة لا تتجاوز سنتين؛ حيث تنص المادة 321 على أنه
(إذا كانت السرقة في حالة الشروع فيعاقب عليها بالحبس مدة لا تتجاوز نصف الحد
الأقصى المقرر في القانون للجريمة التامة أو بغرامة لا تزيد على عشرين جنيهاً
مصرياً) .
وإذا كان هذا هو الأصل العام في العقوبة المقدرة للسرقة فإن هذه الجريمة قد
تقترن بظروف مخففة أو أخرى مشددة، قد تصل بالعقوبة إلى الأشغال الشاقة
المؤبدة أو المؤقتة.
ويعني ذلك بشكل واضح أن المشرع المصري في حذوه حذو رائده الفرنسي
قد أسقط حد القطع بوصفها عقوبة مقدرة للسرقة، ولا يعنى هذا الإسقاط في الحقيقة
غير الانسلاخ من كنف الشريعة؛ فالحد في الشرع هو (عقوبة مقدرة واجبة حقاً لله
تعالى عز شأنه) ، والمقصود بكونها (مقدرة) أن الشارع العزيز حدد كمَّها وكيفها
سلفاً بخلاف التعزير، والمقصود بكونها (حقاً لله) الاحتراز عن القصاص الذي
هو حق للعباد في غالب عناصره، ومن ثم: ليس للعباد حق التبديل في هذه الحدود
أو العفو عنها؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:» إن الله حد حدوداً فلا
تعتدوها « [11] ، فالحد حق الله، نسب إليه تعالى لعظم خطره وشمول نفعه.
المطلب الثاني: تشريعات الأسرة:
تعد تشريعات الأسرة من أخطر مجالات الغزو العلماني على الإطلاق؛ نظراً
لحساسيتها وخصوصيتها وخطورة شأنها وأثرها، ولذلك كانت آخر المجالات
المغزوة من حيث الترتيب الزمني على النحو المبين سابقاً؛ بيد أن حملة الغزو
العلماني لهذا المجال بات مجنوناً محموماً متسارعاً في الآونة الأخيرة، إلى أن فقد
مجال الأسرة حصانته أمام تلك الحملات المحمومة التي تتبناها كافة شراذم
العلمانيين في مؤسسات التشريع أو الإعلام أو منابر الثقافة ومعاهد التعليم، وهو
مجال يستحق بحثه بإفراده ببحث خاص، ولكن على سبيل المثال نذكر بعض
الوقائع والتشريعات الآتية:
1 - الحملة الشرسة التي لم تتوقف رغم صدور القانون 46 لسنة 1955م
بإلغاء القضاء الشرعي بل تواصلت حتى تُوِّجت بإصدار الرئيس الراحل السادات
قراراً بقانون رقم 44 لسنة 79 (والمشهور عند عامة المصريين بقانون جيهان)
والذي ظل معمولاً به حتى قضت المحكمة الدستورية العليا بإلغائه.
2 - ورغم اغتيال السادات وإلغاء قانون جيهان الشهير على يد المحكمة
الدستورية العليا إلا أن الحملة لم تتوقف، حتى صدر القانون رقم 100 لسنة
1985م الذي تضمن جل ما كان يهدف إليه القانون سالف الذكر، ويوضح ذلك:
أن المذكرة الإيضاحية المقدم بها هذا القانون كانت هي ذاتها المذكرة التي قدم بها
القرار بقانون 44 لسنة 79، كذلك ما نص عليه من إعماله بأثر رجعي من تاريخ
حكم المحكمة الدستورية العليا، بما مفاده استمرار ذات النظام القانوني نفسه منذ
1979م وحتى الآن.. رغم حكم المحكمة الدستورية العليا.
أما من حيث أهم الأحكام التي يستحدثها هذا القانون باعتبارها أثراً من آثار
الغزو العلماني لمجال الأسرة فتشمل: حق الزوجة في طلب التطليق إذا تزوج
زوجها بأخرى، وكذلك تقرير نفقة متعة واجبة للزوجة المطلقة بغير رضاها تعادل
نفقة عامين حدّاً أدنى ودون حد أقصى، واستقلال الزوجة الحاضنة بمسكن الزوجية،
ورفع سن حضانة الصغير قبل انتقاله إلى الحضانة.
3 - صدور القانون رقم 3 لسنة 1996م بشأن تنظيم إجراءات مباشرة
دعوى الحسبة في مسائل الأحوال الشخصية، والذي تنص المادة الأولى منه على
أن:
(تختص النيابة العامة وحدها دون غيرها برفع الدعوى في مسائل الأحوال
الشخصية على وجه الحسبة، وعلى من يطلب رفع الدعوى أن يتقدم ببلاغ إلى
النيابة العامة المختصة يبين فيه موضوع طلبه والأسباب التي يستند إليها مشفوعة
بالمستندات التي تؤيده، وعلى النيابة العامة بعد سماع أقوال أطراف البلاغ وإجراء
التحقيقات اللازمة أن تصدر قراراً برفع الدعوى أمام المحكمة الابتدائية المختصة
أو بحفظ البلاغ، ويصدر قرار النيابة العامة المشار إليه مسبباً من محام عام،
وعليها إعلان هذا القرار لذوي الشأن خلال ثلاثة أيام من تاريخ صدوره) .
- كما تنص المادة الثانية على أن: (للنائب العام إلغاء القرار الصادر برفع
الدعوى أو بالحفظ خلال ثلاثين يوماً من تاريخ صدوره، وله في هذه الحالة أن
يستكمل ما يراه من تحقيقات والتصرف فيها، إما برفع الدعوى أمام المحكمة
الابتدائية المختصة أو بحفظ البلاغ، ويكون قراره في هذا الشأن نهائياً) .
أما المادة الثالثة فقد قررت أنه: (إذا قررت النيابة العامة رفع الدعوى على
النحو المشار إليه في المادتين السابقتين تكون النيابة العامة هي المدعية فيها،
ويكون لها ما للمدعي من حقوق وواجبات) .
- وصادرت المادة الرابعة من القانون المذكور أي حق من حقوق الحسبة
الشرعية لأي شخص كان، حتى ولو كان هذا الشخص هو شيخ الجامع الأزهر أو
مفتي الديار المصرية أو وزير الأوقاف أو رئيس جامعة الأزهر أو رئيس المجلس
الأعلى للشؤون الإسلامية أو أي شخص آخر؛ حيث تنص على أنه: (لا يجوز
لمقدم البلاغ التدخل في الدعوى أو الطعن في الحكم الصادر فيها) .
- وتنص المادة الخامسة على أن: (تنظر الدعوى في أول جلسة بحضور
ممثل النيابة العامة ولو لم يحضر المدعى عليه فيها) .
- أما المادة السادسة فقد أوجبت على المحاكم أن: (تحيل المحاكم من تلقاء
نفسها ودون رسوم ما يكون لديها من دعاوى في مسائل الأحوال الشخصية على
وجه الحسبة والتي لم يصدر فيها أي حكم إلى النيابة العامة المختصة ووفقاً لأحكام
هذا القانون، وذلك بالحالة التي تكون عليها الدعوى) .
ولعله من المناسب التذكير بسبب صدور هذا القانون؛ فقد صدر عقب حكم
التفريق الصادر ضد نصر حامد أبو زيد وزوجته، بعدما قضت محكمة الأحوال
الشخصية بردته لآرائه وبذاءاته العلمانية في العقيدة والشريعة والوحي والرسالة،
وبعد تأييد هذا الحكم من محكمة النقض وهي أعلى محكمة قضائية في مصر، ومن
ثم: يمكن القول: إن هذا القانون صدر لضمان (الأمان المدني) إن صحت
التسمية بعدما ضمن قانون العقوبات (الأمان الجنائي) لكل علماني، مهما بلغت
درجة انفلاته وتجرئه.
4 - ثم صدور القانون رقم (?) لسنة 2000م المسمى بقانون تنظيم إجراءات
التقاضي في مسائل الأحوال الشخصية الذي يعد علامة بارزة على السعي الحثيث
لعلمنة نظام الأسرة المسلمة، وأهم ما استحدثه هذا القانون ما يلي:
- إلغاء لائحة ترتيب المحاكم الشرعية، وإلغاء لائحة إجراءات تنفيذ الأحكام
الشرعية، وهما آخر ما تبقى من تشريعات تحمل وصف (الشرعية) ، لتبقى كل
التشريعات وطنية (علمانية) .
- إلغاء التقويم الهجري بالمادة رقم (?) منه، وهو آخر مجال قانوني كان
يتعامل بالتقويم الهجري.
- ولعل أشهر ما تضمنه هذا القانون: التعديل الوارد بالمادة 20، وهو
المسمى (بالخُلع) ، حيث أعطى القانون للزوجة حق خلع نفسها من الزوج
بالتراضي، فإن أبى الزوج تحكم المحكمة بالتطليق للخلع بعد محاولة الصلح بين
الزوجين، وأغرب ما في هذا التعديل ما تضمنه النص بوقوع الخلع في جميع
الأحوال طلاقاً بائناً، ويكون الحكم في جميع الأحوال نهائياً غير قابل للطعن عليه
بأي طريق من طرق الطعن، وعليه: أصبحت المرأة المتخالعة المتمردة على
زوجها الهاربة من منزل الزوجية والتي ليس لديها سبب واحد شرعي أو منطقي
يسوِّغ لها الطلاق، أصبحت أحسن حالاً من المرأة التي تطلب الطلاق للضرر
الواقع عليها.
وواضح من مطالعة النصوص أن هذه التعديلات جميعها تتجه إلى إلغاء
الدرجة التي قررها الله عز وجل للرجل على المرأة في قوله تعالى: [وَلِلرِّجَالِ
عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] (البقرة: 228) ، وكذلك محاولة التقليد
المستميت للنموذج الغربي المقيت.
المطلب الثالث: تشريعات خاصة:
- وأهم ما يعنينا في هذا المطلب تلك التشريعات التي يمكن أن نسميها قوانين
تأميم الدين، وأهمها:
1- قانون تأميم المنابر: القانون رقم 238 لسنة 1996م، بتعديل المادة
(10) من القانون رقم 272 لسنة 1959م بتنظيم وزارة الأوقاف ولائحة إجراءاتها،
ويقضي بالآتي:
يستبدل بنصي الفقرتين الرابعة والخامسة من المادة (15) من القانون رقم
272 لسنة 1959م بتنظيم وزارة الأوقاف ولائحة إجراءاتها النص الآتي:
(ويصدر وزير الأوقاف قراراً بالشروط الواجب توافرها في الأشخاص
الذين يحق لهم ممارسة إلقاء الخطب أو أداء الدروس الدينية بالمساجد،
وبالإجراءات اللازم اتخاذها للحصول على تصريح من وزارة الأوقاف لممارسة
ذلك.
ويعاقب كل من يمارس النشاط المبين بالفقرة السابقة بغير مقتض بالحبس مدة
لا تجاوز شهراً وبغرامة لا تقل عن مائة جنيه ولا تجاوز ثلاثمائة جنيه أو بإحدى
هاتين العقوبتين.
ولوزير العدل بالاتفاق مع وزير الأوقاف منح صفة الضبطية القضائية
لمفتشي المساجد فيما يقع من مخالفات لأحكام هذا القانون) .
وقد مر بنا سابقاً عند الحديث عن التشريعات المقيدة للدين نصوص المواد:
201 عقوبات المضافة للقانون رقم 29 لسنة 1982م، والمادة 98 (و) المضافة
أيضاً بالقانون رقم 29 لسنة 1982م، والمادة 102 عقوبات المعدلة بالقانون رقم
29 لسنة 1982م، والتي نرى أنها تصب في اتجاه يمكن أن يطلق عليه البعض:
تأميم الدين لصالح النظام السياسي العلماني.
2- قانون إلغاء معظم المناهج الشرعية (بالمعاهد الأزهرية) : حتى الأزهر
أعلى وأقدم مرجعية إسلامية في مصر والعالم الإسلامي لم يسلم هو الآخر من الغزو
العلماني؛ حيث صدر القانون رقم 164 لسنة 1998م بتعديل بعض أحكام القانون
رقم 103 لسنة 1961م بشأن إعادة تنظيم الأزهر والهيئات التي يشملها، متضمناً
اختزال سنوات الدراسة وما يستتبعه ذلك من تقليص المناهج حيث نص على:
يستبدل بنص الفقرة الأولى من المادة [87] من القانون رقم 103 لسنة
1961م بشأن إعادة تنظيم الأزهر والهيئات التي يشملها النص الآتي:
(مدة الدراسة في المعاهد الثانوية الأزهرية ثلاث سنوات، يعد فيها التلميذ
إلى جانب ما يحصل عليه من علوم الدين واللغة للحصول على الشهادة الثانوية
العامة بأحد قسميها العلمي والأدبي أو الحصول على الشهادة الثانوية الفنية بأحد
أنواعها الصناعي والتجاري والزراعي وغيرها) .
وقد نصت المادة الأولى على الآتي: (يتولى شيخ الأزهر إصدار القرارات
اللازمة لتنفيذ هذا القانون، وله بعد موافقة المجلس الأعلى للأزهر أن يصدر من
الأحكام المؤقتة ما يقتضيه نظام الدراسة أو الخطط الدراسية أو مناهج الدراسة
خلال فترة الانتقال التي يحددها بقرار منه) .