في رياض المصلحين
جهود الشيخ ابن عثيمين في بيان العقيدة
ومنهجه في تقريرها
د. أحمد بن عبد الرحمن القاضي [*]
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن
سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا
إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله الله تعالى
بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، فبلَّغ الرسالة،
وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، فصلوات الله وسلامه
عليه، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد [1] :
فإن الله سبحانه وتعالى بمنِّه وفضله نزَّل الذكر على عبده، وتكفل بحفظه،
فـ[لاَ يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ] (فصلت: 42) ، وطمأن عباده
المؤمنين فقال: [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ] (الحجر: 9) ، وكان
من مظاهر حفظ الدين وأسبابه أن قيض الله من كل خَلَف عدوله، ينفون عنه
تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، وهم بقايا أهل العلم
والإيمان، ورثة محمد صلى الله عليه وسلم، وخلفاؤه في أمته بالعلم النافع والعمل
الصالح.
فلم يزل الله سبحانه وتعالى يصنع لهذه الأمة، ويجدد لها ما اندرس من أمر
دينها، وما اندثر من سنة نبيها صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، كما بشر بذلك
صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه مرفوعاً:
«إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها» [2] ، وهؤلاء
المجددون يستعملهم الله في إقامة الدين؛ أصوله وفروعه، وردِّ الناس إلى الجادة
الصحيحة، والمَهْيَع الرشيد، حين ينحرفون عنه أو يهجرونه، وربما انتدب الله
لهذا الأمر جماعة من المجددين على رأس كل قرن، بل هو الواقع، فلا تقتضي
دلالة الحديث السابق أن يكون المجدد فرداً، قال ابن الأثير رحمه الله: «والأَوْلى
أن يحمل الحديث على العموم ... ولا يلزم منه أن يكون المبعوث على رأس المائة
رجلاً واحداً، وإنما قد يكون واحداً، وقد يكون أكثر منه؛ فإن لفظة» من «تقع
على الواحد والجمع» [3] . كما ذكر العلماء أن من صفة هذا المجدد وشرطه أن
يأتي عليه رأس القرن وهو أوله وهو حي عالم مشهور بنصر السنة وقمع
البدعة [4] .
وأحسب أن شيخنا الإمام الفقيه المفسر الأصولي الداعي إلى الله على بصيرة
محمد بن صالح العثيمين [5] قدس الله روحه، ونوَّر ضريحه ممن ينطبق عليه هذا
الشرط، وذلك الوصف، في طائفة من أهل العلم والإيمان على رأس القرن
الخامس عشر الهجري.
ولا ريب أن أعظم أركان التجديد، تجديد أمر الإيمان وتجليته، وشد معاقد
الاعتقاد وتقويته، وكشف شبه الابتداع وتنحيته، وقد كان له رحمه الله في هذا
المضمار قصب السبق في تقريره وتقريبه، ومواجهة نوازله، والتصدي لخصومه،
وسوف نتناول في هذه المقالة أمرين:
أحدهما: جهوده رحمه الله في بيان العقيدة.
ثانيهما: منهجه في تقريرها.
وذلك بالتتبع والاستقراء لسيرته وأعماله وآثاره، مما هو مسطور في كتبه،
أو عَلِمَهُ الكاتب من مخالطته.
أولاً: جهوده في بيان العقيدة:
لما كان صلاح الباطن أصل صلاح الظاهر اتجهت همته رحمه الله إلى
إصلاح القلوب وتنقيتها من شوائب البدع العقدية والظنون الفاسدة، وعمارتها بما
خلقت له من العبودية التامة، والاعتقادات الصحيحة. وقد تنوعت جهوده في هذا
السبيل، وتوسل بجميع الوسائل الشرعية لبلوغ هذا الهدف النبيل، فمن ذلك:
1 - التأليف في مسائل الاعتقاد الإجمالية والتفصيلية: وقد جاء على صورٍ
متعددة:
أ - التلخيص والتقريب: فقد عمد الشيخ رحمه الله إلى بعض مصنفات شيخ
الإسلام ابن تيمية رحمه الله التي تأثر بها، وانتفع بقراءتها في مستهل شبابه،
فأعاد ترتيبها وتبويبها، وهذبها، وقرب معانيها للقراء، وصنع لها العناوين الدالة،
والتراجم المعبرة، والتعريفات الجامعة المانعة لما ورد فيها من مصطلحات عقدية
وهي:
* فتح رب البرية بتلخيص الحموية: وهو أول كتاب صنَّفه في حياته، وقد
طبع أول مرة سنة 1380هـ، وله من العمر ثلاث وثلاثون سنة، لخَّص فيه
«الفتوى الحموية» لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهي من أعظم فتاواه أثراً،
وأبلغها حجة ونظراً؛ فلا غَرْوَ أن تجتذب همة شيخنا وعنايته في مقتبل عمره، لما
تضمنته تلك الفتوى العظيمة من الأدلة القاطعة، والنقولات الواضحة عن أئمة
السلف المتقدمين أن مذهبهم في باب الصفات هو الإثبات، لا التحريف ولا التعطيل
ولا التمثيل ولا التفويض. قال شيخنا رحمه الله: «ولما كان فهم هذا الجواب
والإحاطة به مما يشق على كثير من قرائه أحببت أن ألخص المهم منه، مع
زيادات تدعو الحاجة إليها» [6] .
* مذكرة على العقيدة الواسطية: وهي أيضاً من تالد آثار الشيخ رحمه الله،
ألَّفها «مذكرة للمهم من مقرر السنة الثانية الثانوية في المعاهد العلمية في التوحيد،
على العقيدة الواسطية» [7] ، وقد سلك فيها مسلك التلخيص والتقريب، بوضع
التقسيمات النافعة، والتعريفات المركزة، مع المحافظة على مضمون الأصل،
وإضافة ما تدعو الحاجة إليه، ومن المعلوم أن شيخ الإسلام رحمه الله كان يحتفي
بها، ويحيل عليها، ويتحدى الخصوم أن يأتوا بحرفٍ واحد عن أحد من السلف
يخالف ما جاء فيها [8] .
وقد كانت هذه العقيدة المباركة أول متن يتعلمه شيخنا في صباه على يد أحد
المعيدين من كبار تلاميذ شيخه عبد الرحمن بن ناصر السعدي [9] رحمه الله، فظل
يعتني بها تلخيصا وشرحاً وتدريساً كما سيأتي.
* تقريب التدمرية: وقد قرب فيها الشيخ رسالة شيخ الإسلام ابن تيمية،
الموسومة بـ (تحقيق الإثبات للأسماء والصفات، وحقيقة الجمع بين القدر
والشرع) ، المشهورة اختصاراً بـ (التدمرية) ، قبل وفاته بإحدى عشرة سنة
تقريباً؛ لما رأى من صعوبتها على طلبة جامعة الإمام، أثناء تدريسهم إياها كما
أخبرني مع عظم قدرها، وقوة إحكامها، قال في مقدمتها: «هذه الرسالة من
أحسن وأجمع ما كتب في موضوعها، على اختصارها، ومن أجل ذلك فإني
أستعين الله عز وجل في لَمِّ شعثها، وجمع شملها، وتقريب معانيها لقارئها، مع
زيادة ما تدعو الحاجة إليه، وحذف ما يمكن الاستغناء عنه على وجه لا يخل
بالمقصود» [10] .
وهذا اللون من التصنيف خدم هذه المتون العقدية خدمة جمَّة، ويسرها
لطالبيها، فانتفع بها المبتدئ، واستفاد منها المنتهي، وذلك فضل الله يؤتيه من
يشاء.
ب - الشرح والتعليق: سلك الشيخ رحمه الله هذا المسلك تجاه بعض المتون
المهمة التي تحتاج إلى مزيد بسط لبيان مجملها، وتحليل عباراتها، وكشف مشكلها،
وهي:
* شرح لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد: شرح فيه الشيخ رحمه الله
«لمعة» الموفق أبي محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي رحمه الله، وفرغ منه
في مطلع سنة 1392هـ، وكان مقرراً على طلاب المعاهد العلمية فترة من الزمن،
وقد وصف عمله فيه بأنه: «كلمات يسيرة تكشف غوامضه، وتبين موارده،
وتبرز فوائده» [11] .
* شرح العقيدة الواسطية: وهو في الأصل مستنسخٌ من التسجيل الصوتي
لشرح فضيلته وتقريره على الطلبة في الجامع الكبير بعنيزة، على العقيدة الواسطية،
فطبع لأول مرة على تلك الصفة، ثم راجعه رحمه الله وصححه، وقال في
طبعته الثانية: «لما كان الشرح المتلقى من التقرير ليس كالشرح المكتوب
بالتحرير، رأيت من المهم أن أقرأ الشرح بتمهل، من أجل إخراج الشرح على
الوجه المرضي، ففعلت ذلك ولله الحمد، وحذفت ما لا يحتاج إليه، وزدت ما
يحتاج إليه» [12] .
وكان فراغه من تنقيحه سنة 1415هـ، فوقع في مجلدين.
* القول المفيد على كتاب التوحيد: وهو شرح قيم جليل على متن (كتاب
التوحيد الذي هو حق الله على العبيد) لشيخ الإسلام الإمام المجدد محمد بن
عبد الوهاب رحمه الله، وقد تضمن تقريرات نافعة، وبحوثاً مفيدة دقيقة في
مسائل التوحيد العلمي والعملي، وهو كسابقه مستنسخ من الأشرطة، لكن جرت
قراءته عليه في درس الجامع الكبير عدة ليالٍ حتى أتمه، سنة 1414هـ، ووقع في
ثلاثة مجلدات.
* شرح الأصول الثلاثة لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله.
* تفسير آية الكرسي: تضمن الكلام على أصولٍ عقدية هامة في الأسماء
والصفات.
* شروح أحاديث الاعتقاد: وهي رسائل مفردة في بعض الأحاديث النبوية
في باب الاعتقاد، مثل حديث جبريل في الإسلام والإيمان والإحسان والساعة
وعلاماتها، وحديث ابن مسعود في القدر، وحديث عائشة في الاتباع ورد الابتداع.
ج - التأليف ابتداءاً في مجمل الاعتقاد ومفصله، فمن ذلك:
* نبذة في العقيدة الإسلامية: وهي رسالة واضحة مختصرة، ألَّفها رحمه الله
لطلاب السنة الثالثة الثانوية في المعاهد العلمية سنة 1402هـ، عرَّف فيها دين
الإسلام وأركانه تعريفاً إجمالياً، ثم أفاض في بيان أسس العقيدة الإسلامية، أركان
الإيمان الستة، بأسلوب بيِّن منظم، يذكر ما يتضمنه كل ركن من أركان الإيمان
بالأدلة النقلية والعقلية، منبهاً على من ضل في كل باب، ويختم ببيان ثمرات
الإيمان بكل ركن على حدة، وينهي الرسالة بتعداد أهداف العقيدة الإسلامية، وهذه
النبذة حَرِية أن يُبتدأ بها في دراسة العقيدة، وأن تقدم لكل راغب في معرفة الإسلام،
لوضوحها وإحاطتها واختصارها.
* عقيدة أهل السنة والجماعة: وهي عقيدة مركزة مختصرة في مجمل
الاعتقاد، قرر فيها رحمه الله مسائل الاعتقاد على طريقة السلف المتقدمين في سرد
عقيدتهم، وقد قدم لها شيخه الإمام عبد العزيز بن باز رحمه الله وأثنى عليها، ثم
قال: «وقد ضم إلى ذلك فوائد جمّة تتعلق بالعقيدة، قد لا توجد في كثير من الكتب
المؤلفة في العقائد» [13] .
* القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى: قعَّد فيها رحمه الله قواعد
محكمة رصينة في أسماء الله تعالى، وفي صفاته، وفي أدلة الأسماء والصفات،
وحررها تحريراً بالغاً، وطعمها بالأمثلة والتطبيقات الكاشفة، والحجج القوية
الباهرة، ثم انعطف على أهل التأويل الفاسد مفنداً شبهاتهم، مبيناً اطراد طريقة
أهل السنة والجماعة في نصوص الصفات من خلال خمسة عشر مثالاً، يلوِّح بها
أهل التحريف على ضرورة التأويل الفاسد، فنزَّلها رحمه الله منازلها، وحملها على
مراد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وقطع شبه الجاهلين والمجادلين، ثم عقد
فصلاً في الكلام على أبي الحسن الأشعري رحمه الله وأصحابه على قواعد العدل
والانصاف، وقدَّم له أيضاً سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله، وأثنى
عليه وعلى كتابه.
وقد ألَّف شيخنا رحمه الله هذين الكتابين: العقيدة، والقواعد، سنة 1404هـ،
بعد أن شغب عليه بعض السفهاء، وطعن في عقيدته بسبب سوء فهمهم لكلام
صدر منه في صفة المعية كما سيأتي فألَّف هذين الكتابين العظيمين، وكما قيل:
وإذا أراد الله نشر فضيلة ... طُويت أتاح لها لسان حسود
لولا اشتعال النار فيما جاورت ... ما كان يُعرف طيب عَرف العود [14]
2 - الخطابة: اعتلى شيخنا رحمه الله منبر الجامع الكبير في عنيزة ثاني
جمعة بعد وفاة شيخه عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله الذي توفي يوم
الخميس الموافق للثالث والعشرين من شهر جمادى الآخرة سنة 1376هـ، وبين
أول جمعة خطب فيها في غرة رجب 1376هـ، وآخر خطبة جمعة ألقاها في 30
/7/1421هـ أكثر من خمس وأربعين سنة، ضمت نحو ألفين ومائتين وخمسين
خطبة منبرية، سوى ما تخلل ذلك من خطب العيدين والاستسقاء والكسوف، مما لا
يحصيه إلا الله (فكان مثالاً يحتذى في إخلاص النية، وإصلاح العمل، وتوجيه
الناس إلى الخير، بقدر ما يستطيع بأسلوبٍ بيِّن واضح للعام والخاص) [15] ،
وكان لبيان أمور الاعتقاد ومسائل الإيمان منها النصيب الأوفر، كما يتضح ذلك من
مسرد خطبه التي انتقاها، وألف منها ديوان خطبه الحافل: (الضياء اللامع من
الخطب الجوامع) ، فكان يفرد خطباً بأكملها في شرح أسماء الله الحسنى، وبيان
آثارها، وخطباً في ذكر آيات الله الكونية ومظاهر الربوبية المستلزمة لتوحيد العبادة،
وخطباً في النبوة ودلائلها، وفي الإيمان بالقدر، وفي الساعة وأشراطها، وأحوال
القيامة، وصفة الجنة والنار، وغير ذلك، بل إن خُطَب الأخلاق والأحكام كان
يسوقها رحمه الله في إطار الإيمان كطريقة القرآن.
ومما تضمنته خطبه التحذير من البدع العقدية الطارئة، كبدعة المولد، وبدعة
الدعوة إلى تقارب الأديان، والذهاب إلى السحرة والمشعوذين، والتحذير من
الخرافات المتداولة بين الناس كخرافة سادن الحجرة النبوية، وقصة السيدة زينب
المزعومة، وقد رأيته بنفسي يقوم بتمزيق هذه الأوراق المتداولة، وهو على المنبر،
ليكون أبلغ في التحذير، وأعظم في التأثير.
3 - الدروس العلمية: لم تخل دروس الشيخ المسائية، والصباحية في
الإجازات الصيفية، من شرح متنٍ من متون الاعتقاد، أو قراءة كتاب من كتب
شيخ الإسلام ابن تيمية في العقيدة، ومن أهم المتون العقدية التي كان يقررها رحمه
الله:
- العقيدة الواسطية.
- الفتوى الحموية.
- منظومة السفاريني.
- لمعة الاعتقاد.
- كتاب التوحيد.
- القواعد المثلى.
- الرسالة التدمرية.
- عقيدة أهل السنة والجماعة.
كما قرئت عليه النونية والميمية لابن القيم، واقتضاء الصراط المستقيم لشيخ
الإسلام ابن تيمية.
وفي جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في القصيم درَّس أجيالاً من
الطلبة الرسالة التدمرية، والعقيدة الطحاوية، كما كانت دروسه في المسجد الحرام
في شهر رمضان جسراً لنقل العقيدة السلفية إلى سائر بلدان المسلمين.
4 - المحاضرات العامة: كان للشيخ رحمه الله حضور دائم في المنتديات
العامة، في العديد من مدن المملكة، يستجيب للدعوات، ويلقي المحاضرات حيثما
حل، كما كان يلقي العديد من المحاضرات الهاتفية في السنوات الأخيرة للأقليات
المسلمة في أوروبا وأمريكا، وكان ينشر من خلالها طريقة أهل السنة والجماعة
في الاعتقاد والعمل، ويرد على المخالفين، ومن نماذج هذه المحاضرات المحفوظة:
- أسماء الله وصفاته وموقف أهل السنة منها.
- منهاج أهل السنة والجماعة في العقيدة والعمل.
- القضاء والقدر.
- الإبداع في بيان كمال الشرع وخطر الابتداع.
- التوسل.
- مفاتح الغيب.
- آيات الأنبياء وأثرها في المجتمع [16] .
هذا وقد جعل الله لشيخنا القبول والإقناع في سائر محاضراته العامة، لما
تتميز به من القوة العلمية، والبيان، وحسن العرض، والموضوعية في الطرح،
وقد بلغني هذا كثيراً عمن يستمعون إليه في أوروبا وأمريكا من المسلمين.
5 - الفتاوى: بلغ مجموع الفتاوى العقدية المثبتة في مجموع فتاواه أكثر من
خمسمائة فتوى [17] في العديد من المسائل الإيمانية، والنوازل المعاصرة، تميزت
بالدقة والإحكام والمتانة العلمية، وكان رحمه الله يفتي الناس في الجامع والطريق،
وعبر الهاتف، وخلف المذياع في برنامج نور على الدرب، وفي المسجد الحرام،
ويحرر بعض الفتاوى للصحف والمجلات والتلفاز، ولسائر المسلمين في داخل
المملكة وخارجها، مما لا يحصيه إلا الله؛ ولا ريب أنها أثرت تأثيراً بالغاً في
تصحيح عقائد الناس، وتحذيرهم من المخالفات العقدية.
6 - الرسائل الشخصية: من الجهود الخفية، والمساعي الحميدة النقية التي
تنم عن إخلاصه رحمه الله وحرصه على صلاح الأمة ما كان يحرره من المكاتبات
لذوي الهيئات والمقامات العلمية، والمنسوبين إلى العلم والدعوة إذا بدر منهم ما
يخالف الحق، لا سيما في باب الاعتقاد؛ فهو لا ينصب لهم المناظرات على
صفحات الجرائد والمجلات، بل يكاتبهم سراً، ويمحضهم النصيحة، ويجتهد في
بيان الحق لهم، ويرغبهم في قبوله وإعلان الرجوع إليه. بل حين اقتضى الأمر
نشر بعض تلك المراسلات الخاصة، لما فيها من العلم والحجة، رفع ذكر الأسماء
وما يدل على الذوات، واكتفى بالمضمون [18] .
ثانياً: منهجه في تقرير العقيدة:
إن المتأمل في جهود الشيخ رحمه الله المتنوعة في بيان العقيدة وتوضيحها
لَيستخلص جملة من السمات المنهجية المطردة التزمها الشيخ وسار عليها في جميع
تقريراته، وهي سمات سلفية لا يختص بها رحمه الله بل هو متبع لطريقة السلف
المتقدمين، ولكن اجتمع عنده ما تفرق في غيره، فمنها:
1 - تعظيم شأن التوحيد: فهو يلهج دوماً في تقريراته المسموعة والمكتوبة
بأهمية تحرير أمر الاعتقاد، والبداءة به، وتعظيمه وتفخيمه؛ إذ هو الأساس
والأصل، والأعمال بناء وفرع. ومن شواهد ذلك قوله: «إن (علم التوحيد)
أشرف العلوم، وأجلها قدراً، وأوجبها مطلباً؛ لأنه العلم بالله تعالى وأسمائه
وصفاته وحقوقه على عباده، ولأنه مفتاح الطريق إلى الله تعالى وأساس شرائعه،
ولذا أجمعت الرسل على الدعوة إليه، قال الله تعالى: [وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن
رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ] (الأنبياء: 25) . وشهد لنفسه
تعالى بالوحدانية، وشهد له بها ملائكته، وأهل العلم، قال الله تعالى: [شَهِدَ اللَّهُ
أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا العِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ]
(آل عمران: 18) .
ولما كان هذا شأن التوحيد كان لزاماً على كل مسلم أن يعتني به تعلماً،
وتدبراً، واعتقاداً ليبني دينه على أساس سليم واطمئنان وتسليم، يسعد بثمراته
ونتائجه» [19] .
ولهذا كان ينعى على «أهل التفويض» طريقتهم الفاسدة، ويسميهم «أهل
التجهيل» لما يفضي إليه مذهبهم من الجهل بأعظم ما أدركته العقول، والحرمان
من أشرف ما اكتسبته القلوب، وهو العلم بالله بمقتضى ما دلت عليه نصوص
الوحيين من معاني الأسماء والصفات. يقول رحمه الله: «من المحال أن يُنزل الله
تعالى كتاباً، أو يتكلم رسوله صلى الله عليه وسلم بكلامٍ، يقصد بهذا الكتاب وهذا
الكلام أن يكون هداية للخلق، ويبقى في أعظم الأمور وأشدها ضرورة مجهول
المعنى، بمنزلة الحروف الهجائية التي لا يفهم منها شيء؛ لأن ذلك من السفه الذي
تأباه حكمة الله تعالى وقد قال تعالى: [الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ
حَكِيمٍ خَبِيرٍ] (هود: 1) ، وبهذا علم بطلان» مذهب المفوضة «الذين
يفوضون علم معاني نصوص الصفات، ويدَّعون أن هذا مذهب السلف. والسلف
بريئون من هذا المذهب، وقد تواترت الأقوال عنهم بإثبات المعاني لهذه النصوص
إجمالاً أحياناً، وتفصيلاً أحياناً، وتفويضهم الكيفية إلى علم الله عز وجل» [20] .
ولا ريب أن مذهب المفوضة يؤدي إلى توهين شأن التوحيد.
2 - إبراز آثار العقيدة وثمراتها على الفرد والأمة: وهذه خاصية عظيمة
اعتنى الشيخ رحمه الله بها؛ فالعقيدة في نظره ليست متناً يحفظ أو يستشرح فحسب،
ثم تبقى معرفة ذهنية لا أثر لها في حياة الفرد والأمة! كلا، فهو يحرص رحمه
الله أن لا يذكر مسألة من مسائل الاعتقاد إلا ويتبعها بذكر ثمارها، كما صنع في
أركان الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، من
تعداد الثمرات لكل ركنٍ على حدة، ثم ختم ببيان أهداف العقيدة الإسلامية على وجه
العموم بما يكشف عن الفهم الثاقب لآثار هذه العقيدة على الفرد والأمة، وهي على
سبيل الاختصار:
أولاً: إخلاص النية والعبادة لله تعالى وحده.
ثانياً: تحرير العقل والفكر من التخبط الفوضوي الناشئ عن خلو القلب من
هذه العقيدة.
ثالثاً: الراحة النفسية والفكرية.
رابعاً: سلامة القصد والعمل من الانحراف في عبادة الله تعالى أو معاملة
المخلوقين.
خامساً: الحزم والجد في الأمور.
سادساً: تكوين أمة قوية تبذل كل غالٍ ورخيص في تثبيت دينها، وتوطيد
دعائمه.
سابعاً: الوصول إلى سعادة الدنيا والآخرة بإصلاح الأفراد والجماعات، ونيل
الثواب والمكرمات [21] .
فيا لها من أهداف سامية نبيلة لو أن معلمي العقيدة وضعوها نصب أعينهم
وهم يشرحون متونها، ويربطون ذلك بالواقع المعاش للفرد والأمة؛ إذن لحصل
بذلك خير عميم، وتأثير بالغ. كما كان رحمه الله حين يقرر أسماء الله وصفاته في
شرحه للعقيدة الواسطية يتبع كل صفة ببيان الفائدة المسلكية للإيمان بها، ومن
شواهد ذلك:
- (والفائدة المسلكية في الإيمان بصفة القوة والرزق أن لا نطلب القوة
والرزق إلا من الله تعالى، وأن نؤمن بأن كل قوة مهما عظمت فلن تقابل قوة الله
تعالى) [22] .
- (ما نستفيده من الناحية المسلكية في الإيمان بصفتي السمع والرؤية: أما
الرؤية فنستفيد من الإيمان بها الخوف والرجاء؛ الخوف عند المعصية؛ لأن الله
يرانا، والرجاء عند الطاعة؛ لأن الله يرانا. ولا شك أنه سيثيبنا على هذا،
فتتقوى عزائمنا بطاعة الله، وتضعف إرادتنا لمعصيته. وأما السمع فالأمر فيه
ظاهر؛ لأن الإنسان إذا آمن بسمع الله استلزم إيمانه كمال مراقبة الله تعالى فيما
يقول خوفاً ورجاءاً: خوفاً؛ فلا يقول ما يسمع الله تعالى منه من السوء، ورجاءاً:
فيقول الكلام الذي يرضي الله عز وجل) [23] وهكذا صنع في سائر الصفات.
ولا شك أن هذا منهج تربوي ينبغي أن يعتمده المعلمون والمربون ليحصل
الانتفاع بالقرآن العظيم.
3 - الاعتصام بالكتاب والسنة: لما كان الكلام في الله، والقول عليه من
أخطر المقامات تعيَّن لزوم ما جاء في نصوص الوحيين: الكتاب والسنة، والحذر
من التقدم بين يدي الله ورسوله مهما كانت المسوغات، وسلوك سبيل السلامة
والأدب؛ ولهذا حذر رحمه الله من طريقة أهل التحريف الذين يسمون أنفسهم:
«أهل التأويل» لما فيها من الافتيات على النصوص، والقول على الله بغير علم.
قال رحمه الله: «وأهل السنة والجماعة يؤمنون بأن ما سمى الله به نفسه، وما
وصف الله به نفسه في كتابه، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم فهو حق
على حقيقته، وعلى ظاهره، ولا يحتاج إلى تحريف المحرفين، بل هو أبعد ما
يكون عن ذلك، وهو أيضاً لا يمكن أن يفهم منه ما لا يليق بالله عز وجل من
صفات النقص أو المماثلة بالمخلوقين، وبهذه الطريقة المثلى يسلمون من الزيغ
والإلحاد في أسماء الله وصفاته، فلا يثبتون لله إلا ما أثبته لنفسه، أو أثبته له
رسوله صلى الله عليه وسلم، غير زائدين في ذلك ولا ناقصين عنه، ولهذا كانت
طريقتهم أن أسماء الله وصفاته توقيفية، لا يمكن لأحد أن يسمي الله بما لم يسم به
نفسه، أو يصف الله بما لم يصف به نفسه، فإن أي إنسان يقول: إن من أسماء
الله كذا، أو ليس من أسماء الله، أو من صفات الله كذا، أو ليس من صفات الله،
بلا دليل؛ لأنه لا شك قول على الله بلا علم، وقد قال الله سبحانه وتعالى: [قُلْ
إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وَأَن
تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]
(الأعراف: 33) .
وقال تعالى: [وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ
أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً] (الإسراء: 36) . [24]
ومن تتبع آثاره المكتوبة والمسموعة رحمه الله علم مبلغ تعظيمه للنصوص،
ودقة لزومه لدلالتها.
4 - الاستدلال بالعقل مع النقل، واستعمال الأقيسة الصحيحة ما أمكن: كان
رحمه الله يرتب الأدلة في إثبات المسائل العقدية مبتدئاً بالكتاب، مثنِّياً بالسنة
الصحيحة، مثلِّثاً بالعقل فيما كان للعقل فيه مساغ، ليكون أبلغ في طمأنينة القلب
بتوافر الأدلة، وموافقة المعقول للمنقول.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:» كل ما يدل عليه الكتاب والسنة فإنه
موافق لصريح المعقول، وإن العقل الصريح لا يخالف النقل الصحيح، ولكن كثيراً
من الناس يغلطون إما في هذا وإما في هذا؛ فمن عرف قول الرسول صلى الله
عليه وسلم ومراده كان عارفاً بالأدلة الشرعية، وليس في المعقول ما يخالف
المنقول، وكذلك (العقليات الصريحة) إذا كانت مقدماتها وترتيبها صحيحاً لم تكن
إلا حقاً، لا تناقض شيئاً مما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم « [25] .
وقد استدل شيخنا رحمه الله بالعقل في العديد من المسائل العقدية كإثبات وجود
الله، وإبطال الشرك، وإثبات البعث، والرد على من احتج بالقدر على ترك
الطاعات وفعل المحرمات، وإثبات اتصاف الله بصفات الكمال من حيث الجملة،
وسائر الصفات سوى الخبرية المحضة كالعلم والقدرة والإرادة والعلو ونحوها، تبعاً
للنقل لا استقلالاً. كما استعمل الأقيسة العقلية الصحيحة التي استعملها السلف
المتقدمون كعثمان بن سعيد الدارمي رحمه الله وغيره مثل:» قياس الأوْلى «،
» نفي الصفة إثبات لنقيضها «، وإلزام المخالفين باللوازم الباطلة، وكل ذلك مبثوث
في كتبه لا يخلو منه مقام.
وأما ما ليس للعقل فيه مدخل كالاستقلال بإثبات الأسماء والصفات، وحكاية
الغيبيات، وكيفيات الصفات، فإنه رحمه الله يلجم فيه عنان العقل والفكر، كما ذكر
في القاعدة الخامسة من قواعد الأسماء:» أسماء الله تعالى توقيفية، لا مجال للعقل
فيها: وعلى هذا: فيجب الوقوف فيها على ما جاء به الكتاب والسنة، فلا يزاد فيها
ولا ينقص؛ لأن العقل لا يمكنه إدراك ما يستحقه تعالى من الأسماء؛ فوجب
الوقوف في ذلك على النص، ولأن تسميته تعالى بما لم يسم به نفسه أو إنكار ما
سمى به نفسه جناية في حقه تعالى، فوجب سلوك الأدب في ذلك، والاقتصار على
ما جاء به النص « [26] ، وقال مثل ذلك في القاعدة السابعة من قواعد الصفات [27] .
وكان رحمه الله يزجر عن الأسئلة الفاسدة المبنية على لوثة التكييف العقلي،
كمن يستشكل إثبات النزول الإلهي إلى سماء الدنيا ثلث الليل الآخر مع دوام دوران
الليل على الكرة الأرضية؟ فيقول في معرض إجابته:» وهذا وإن كان الذهن قد
لا يتصوره بالنسبة إلى نزول المخلوق، لكن نزول الله تعالى ليس كنزول خلقه
حتى يقاس به، ويجعل ما كان مستحيلاً بالنسبة إلى المخلوق مستحيلاً بالنسبة إلى
الخالق « [28] ، وقال أيضاً:» يجب على الإنسان أن يمنع نفسه عن السؤال بـ
(لم؟) و (كيف؟) فيما يتعلق بأسماء الله وصفاته، وكذا يمنع نفسه من التفكير في
الكيفية « [29] . قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:» إن الرسول لا يجوز
عليه أن يخالف شيئاً من الحق، ولا يخبر بما تحيله العقول وتنفيه، لكن يخبر بما
تعجز العقول عن معرفته، فيخبر بمحارات العقول، لا بمحالات العقول « [30] ،
وقال أيضاً:» الرسل جاءت بما يعجز العقل عن دركه، ولم تأت بما يعلم بالعقل
امتناعه « [31] .
5 - تقريب المعاني، واجتناب ما يؤدي إلى اللبس: قد تقدم في بيان جهوده
رحمه الله في بيان العقيدة اعتماده طريقة التلخيص والتقريب لطائفة من المتون
العقدية الصعبة، ليسهل تصورها وإدراك معانيها، وقد وُفِّق رحمه الله في ذلك
توفيقاً عظيماً، وليس مراده بالتلخيص كما يظن بعض الناس مجرد الاختصار،
وإنما إعادة عرض الموضوع بما يحصل به البيان وإن استدعى الشرح والإضافة
أحياناً [32] ، وهذا ما فعله رحمه الله حين صنع لتلك الكتب من التراجم والعنوانات
والتعريفات والتقسيمات والإضافات ما جعلها كالعروس المجلاة، فهو مثلاً يدرج في
تلخيص الحموية قاعدة نافعة استفادها من كتاب» العقل والنقل «، وذكر
خلاصتها [33] .
أما ما ألَّفه ابتداءاً، أو قرره مشافهة ففي غاية السهولة والبيان في ألفاظه
وتراكيبه، وكثرة أمثلته ووضوحها، ولعله لهذا السبب وغيره لم يكن يحتفي
بتدريس المنطق إلا أن ترد بعض المصطلحات المنطقية عرضاً، أو تبعاً لبعض
المتون التي يشرحها، كخاتمة منظومة السفاريني، وطالما ردد رحمه الله مقولة
شيخ الإسلام ابن تيمية:» إني كنت دائماً أعلم أن المنطق اليوناني لا يحتاج إليه
الذكي، ولا ينتفع به البليد «.
وحين قرر ذات مرة في مسألة» صفة المعية «لله تعالى، فقال:» إن
عقيدتنا أن لله تعالى معية حقيقية ذاتية تليق به، وتقتضي إحاطته بكل شيء علماً
وقدرة وسمعاً وبصراً وسلطاناً وتدبيراً «استشكل بعض أهل العلم التعبير بـ
» ذاتية «، وتجرأ بعض السفهاء فنسبوه إلى مقالة حلولية الجهمية حاشاه وكلا!
مع أنه أراد بذلك توكيد حقيقة معيَّته تبارك وتعالى، وكلامه كله صريح وفير في
النكير على أهل الحلول والظنون الفاسدة، لم يجد غضاضة أن يهجر هذا التعبير
دفعاً للتوهم، ونشر ذلك في مجلة الدعوة، في غرة محرم سنة 1404هـ، وقال:
» رأيت من الواجب استبعاد كلمة (ذاتية) ، واعلم أن كل كلمة تستلزم كون الله
تعالى في الأرض، أو اختلاطه بمخلوقاته، أو نفي عُلوِّه، أو نفي استوائه على
عرشه، أو غير ذلك مما لا يليق به تعالى فإنها كلمة باطلة يجب إنكارها على
قائلها، كائناً من كان، وبأي لفظ كانت وكل كلام يوهم ولو عند بعض الناس ما لا
يليق بالله تعالى؛ فإن الواجب تجنبه لئلا يظن بالله تعالى ظن السوء، لكن ما أثبته
الله تعالى لنفسه في كتابه، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم فالواجب
إثباته وبيان بطلان وهم من توهم فيه ما لا يليق بالله عز وجل « [34] فللَّه درُّه!
» وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله « [35] .
ومما يلتحق بهذه السمة المنهجية في تقريره رحمه الله للعقيدة، مراعاة حال
العامة، وعدم مبادأتهم بالمسائل المشكلة، والخلافات العقدية المعضلة التي لا تبلغها
عقولهم، ويتشوشون من سماعها، بل كان منهجه رحمه الله في الخطاب العام
لجمهور الناس التعبير بالجمل القرآنية والنبوية الواضحة، وعدم الخوض في
مقالات أهل البدع من غير ضرورة، لغناهم وعافيتهم من ذلك، وهذا المنهج هو
الموافق لفقه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه حين قال:» حدثوا
الناس بما يعرفون! أتريدون أن يُكَذَّبَ اللهَ ورسولُه؟ « [36] ، وقول ابن مسعود
رضي الله عنه:» إنك لن تحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم
فتنة « [37] ؛ فلهذا قال رحمه الله:» من الحكمة في الدعوة ألاَّ تباغت الناس بما
لا يمكنهم إدراكه، بل تدعوهم رويداً رويداً حتى تستقر عقولهم؛ فإن قيل:
أندَعُ الحديث بما لا تبلغه عقول الناس؟ أجيب: لا ندعه، ولكن نحدثهم عن
طريق تبلغه عقولهم، وذلك بأن ننقلهم رويداً رويداً حتى يتقبلوا هذا الحديث
ويطمئنوا إليه، ولا ندع ما لا تبلغه عقولهم، ونقول هذا شيء مستنكر لا يتكلم به ...
ويستفاد من هذا الأثر: أهمية الحكمة في الدعوة إلى الله عز وجل، وأنه يجب على
الداعية أن ينظر في عقول المدعوين، وينزل كل إنسان منزلته « [38] .
6 - مواجهة النوازل العقدية: اتسمت العصور الأخيرة من حياة المسلمين
بكثرة الشبهات وطروء البدع العقدية بسبب انحسار ظل الإسلام، وغلبة المشركين
وأهل الكتاب، وانفتاح أمم الأرض بعضها على بعض، وسريان العقائد والأفكار
والعادات والأوضاع عبر وسائل الإعلام المختلفة، فدهم المسلمين من النوازل
العقدية ما اشتدت الضرورة فيه إلى علماء ربانيين، يُثبِّتون الناس، ويُمسِّكون
بالكتاب، ويُنزلون الأوضاع الطارئة على الأصول الثابتة. وكان شيخنا رحمه الله
في طليعة هؤلاء الموفقين؛ فلم يكتف بالتقعيد النظري لمسائل الاعتقاد أو حتى
منازلة الفرق العتيقة من أهل القبلة وغيرهم، بل ضم إلى ذلك مواجهة ما استجد
من فرق الضلال وكشف زيفها، وما شاع من أفكار منحرفة، ودعوات باطلة،
وأعمال وألفاظ منافية للعقيدة الصحيحة.
- فحذر من الإلحاد المتمثل في زمنه بـ» الشيوعية «و» المادية «
و» الطبيعة «.
- وفصَّل القول في الحكم بغير ما أنزل الله.
- وبيَّن خطر التسرع في التكفير.
- وكفَّر اليهود والنصارى، وأفتى في مسائل معاملتهم ومخالطتهم وتهنئتهم
بأعيادهم.
- وأنكر الدعوة إلى التقريب بين الأديان.
- ونبه على خطأ بعض الألفاظ الشائعة، والمصطلحات الحادثة.
وكل ذلك مبثوث في خطبه المنبرية، ودروسه العلمية، وفتاواه السيارة، مما
يطول المقام بسرده.
ونكتفي بمثالين دالين على معاصرته لقضايا عصره ونوازله.
أحدهما: لما التبس على بعض مواطنيه قبل أكثر من ثلاثين سنة أمر
الوصول إلى القمر، وهل تصديق ذلك حرام مخالف للقرآن، أم أن القرآن يؤيده
ويدل عليه؟ ودار في تلك الأيام جدال وخصومة بين فريقين من الناس؛ فكتب في
حينها رسالة مختصرة بعنوان: (رسالة في الوصول إلى القمر) قال فيها:» وإذا
صح ما تواترت به الأخبار من إنزال مركبة فضائية على سطح القمر فإن الذي
يظهر لي أن القرآن لا يكذبه ولا يصدقه، فليس في صريح القرآن ما يخالفه، كما
أنه ليس في القرآن ما يدل عليه ويؤيده « [39] ثم شرع في تفنيد ما ادعاه كل من
الفريقين دليلاً من القرآن على دعواه، وخلص إلى القول:» وبعد: فإن هذا
البحث في هذا الموضوع قد يكون من فضول العلم، لولا ما دار حوله من البحث
والمناقشات، حتى بالغ بعض الناس في رده وإنكاره، وغلا بعضهم في قبوله
وإثباته، فالأولون جعلوه مخالفاً للقرآن، والآخرون جعلوه مطابقاً للقرآن، فأحببت
أن أكتب ما حررته هنا، على حسب ما فهمته بفهمي القاصر، وعلمي
المحدود « [40] .
وبصرف النظر عما أتيح لنا من معطيات قطعية الآن تجعلنا نستغرب
اختلاف الناس فيه حين سمعوه لأول مرة؛ فالمقصود إبراز مبادرته في إزالة اللبس،
وتحرير الأمر في وقت دعت الحاجة إليه.
الثاني: موقفه رحمه الله من نازلة الدعوة إلى التقريب بين الأديان التي
نشطت في العقود الأخيرة، واستهوت بعض ضعاف العلم والإيمان، ورقاق الدين
والعقيدة، فداهنوا اليهود والنصارى والذين لا يعلمون؛ فاشتد نكيره رحمه الله على
هذه البدعة الكفرية ودعاتها في خطبه ودروسه، فقال رحمه الله:» أيها الإخوة:
إنه قد يسمع ما بين حين وآخر كلمة (الأديان الثلاثة) حتى يظن السامع أنه لا
فرق بين هذه الأديان الثلاثة كما أنه لا فرق بين المذاهب الأربعة، ولكن هذا خطأ
عظيم، إنه لا يمكن أن يحاول التقارب بين اليهود والنصارى والمسلمين إلا كمن
يحاول أن يجمع بين الماء والنار. إن دين اليهود ليس بشيء، ولا ينفعهم، بل هو
مصيرهم إلى النار، إن تمسكوا به، وإن دين النصارى ليس بشيء، ولن ينفعهم،
وإنما يقودهم إلى النار، إن تمسكوا به؛ لأن الواجب على الجميع أن يؤمنوا بالنبي
صلى الله عليه وسلم، وقد أقسم صلى الله عليه وسلم وهو البار الصادق بدون قسم،
فقال: «والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة: يهودي ولا نصراني،
ثم يموت ولم يؤمن بما جئت به إلا كان من أصحاب النار» [41] [42] .
وبعد: فهذا قليل من كثير من جهود شيخنا محمد ابن صالح العثيمين رحمه
الله في بيان العقيدة ونشرها، ومن سمات منهجه في تقريرها وإرسائها، أبقى الله
له غُنْمَه وبره، وجزاه عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير الجزاء، وأحله دار
المقامة من فضله مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء
والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.