في رياض المصلحين
محمد بن عبد الله الدويش
www. dweesh. com
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور
أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له،
وأشهد ألاَّ إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد:
فالحديث عن القيادات والرموز العلمية والدعوية حديث له أهميته، ويتأكد
كلما فقد الناس واحداً من هؤلاء، وفي العامين الأخيرين فقدت الأمة طائفة من خيار
علمائها وقادتها.
وقد أحببت المشاركة في هذا الملف الذي عقدته المجلة حول هذا الموضوع
بهذه المشاركة المتواضعة.
أدوار القيادات:
إن للقيادات العلمية والدعوية أدواراً مهمة في الأمة، ومن هذه الأدوار:
1 - التعليم والدعوة:
للرموز والقيادات العلمية والدعوية أثر بالغ في تعليم الناس ودعوتهم، وفي
نشر العلم، وليس أدل على ذلك من أن كثيراً من الدعوات الإصلاحية كان من
ورائها قيادات ورموز سار الناس وراءهم واستجابوا لهم.
إنهم الذين يعقدون حِلَقَ العلم ومجالسه، ويقصدهم طلاب العلم ويلازمونهم،
ويوجهون معاهد العلم ومؤسساته، وهم الذين يحملون لواء الدعوة إلى الله تبارك
وتعالى ويسير الدعاة وراءهم.
2 - بيان الحق للناس:
تمر بالناس مواطن كثيرة يلتبس فيها الحق بالباطل، وتسُود فيها الأهواء
والفتن؛ وحينئذ يبدو دور القيادات العلمية والدعوية لتبيِّن الحق للناس وتجلِّيه لهم.
وفتاوى العلماء المعاصرين في كثير من النوازل كالتجنس بجنسية الدول الكافرة،
والحكم بغير ما أنزل الله، وقضايا المرأة، والتأمين وغيرها دليل على عظم
منزلتهم وحاجة الناس إليهم.
3 - إنكار المنكرات وإزالتها:
حين تقع المنكرات العامة يكون للقيادات دور مهم في إنكار هذه المنكرات
والاحتساب عليها، وقد عاب الله عز وجل على طائفة من أحبار أهل الكتاب
ورهبانهم كان ينتظر منهم أن يبينوا الحق للناس وينهوهم عما يأتون من منكر، قال
عز وجل: [لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا
كَانُوا يَصْنَعُونَ] (المائدة: 63) قال الحسن: [لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ]
(المائدة: 63) قال: الحكماء العلماء [1] .
وإنكار هؤلاء ليس كإنكار غيرهم؛ فأصحاب المنكر إما أن يستجيبوا لهم ثقة
في علمهم ورأيهم، أو مجاملة وخشية، وحين يتجرؤون على مخالفتهم فهم أجرأ
على مخالفة غيرهم.
4 - منع الفساد والمنكر قبل وقوعه:
كما أن للقيادات العلمية الدعوية أثراً في إنكار المنكر والنهي عنه قبل وقوعه
فوجودهم يحول دون كثير من المنكرات ويردع كثيراً من أهل الفساد أن يمتدوا في
غيهم وفسادهم. قال ابن أكثم: قال لنا المأمون: لولا مكان يزيد بن هارون
لأظهرت أن القرآن مخلوق. وقال ابن الجوزي عن المأمون: وكان يتردد ويراقب
الشيوخ، ثم قوي عزمه وامتحن الناس [2] .
وهذا إنما يتحقق حين تعرف هذه القيادات منزلتها ومكانتها، وحين تأخذ على
عاتقها أن تقول بالحق وتصدع به.
5 - قيادة الأمة في الأزمات:
حين تحل الفتن والأزمات بالأمة يختلط الحق بالباطل ويلتبس على الناس،
فيأتي دور أهل العلم؛ ويتمثل في أمرين مهمين:
الأول: تمييز الحق من الباطل، وبيان الموقف الشرعي للناس في مثل هذه
النوازل.
الثاني: اتخاذ المواقف العملية وقيادة الناس.
وقد أمر الله تبارك وتعالى الناس بالرجوع إلى أهل العلم في مثل هذه المواقف
فقال: [وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ
وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ] (النساء: 83)
وها هو شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يجمع بين الأمرين في موقفه من
التتار؛ فقد تردد الناس في حالهم، فأفتى بكفرهم ووجوب قتالهم وقال: «وقتال
هذا الضرب واجب بإجماع المسلمين، وما يشك في ذلك من عرف دين الإسلام
وعرف حقيقة أمرهم» [3] . وقام في قتالهم وقال للناس: «إذا رأيتموني في ذلك
الجانب وعلى رأسي مصحف فاقتلوني» [4] .
6 - لجوء الناس إليهم في الفتن والشدائد:
ولما يعلمه الناس من أن أهل العلم أعلم الناس بالفتن وأكثرهم إدراكاً لها؛
فإنهم يلجؤون إليهم حين يحل بهم خطب أو أمر جلل، وها هم أصحاب النبي صلى
الله عليه وسلم يتجهون لأبي بكر رضي الله عنه وينصتون له حين خاض الناس في
أمر وفاة النبي صلى الله عليه وسلم؛ وما أن سمعوا كلامه حتى انصرفوا موقنين.
ومن بعد هذا الجيل كان لأهل العلم هذه المواقف. يقول ابن القيم رحمه الله
عن شيخ الإسلام ابن تيمية: «وكنا إذا اشتد بنا الخوف، وساءت منا الظنون،
وضاقت بنا الأرض أتيناه؛ فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه فيذهب ذلك كله،
وينقلب انشراحاً وقوة ويقيناً وطمأنينة» [5] .
7 - حل مشكلات الناس والإصلاح بينهم:
أهل العلم والقيادات لهم منزلة بين الناس، ويصدر الناس عن رأيهم؛ ولذا
كان من آثارهم الإصلاح بين المتخاصمين من المسلمين، كما كان النبي صلى الله
عليه وسلم يفعل ذلك؛ فعن سهل بن سعد رضي الله عنه أن أهل قباء اقتتلوا حتى
تراموا بالحجارة، فأُخْبِرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال: «اذهبوا بنا
نصلح بينهم» [6] .
وقد كان للشيخ ابن باز رحمه الله جهود لا تنكر في الإصلاح بين طوائف
كثيرة من العاملين للإسلام، وأبرز ما في ذلك إصلاحه بين قادة المجاهدين الأفغان.
آثار فقدهم:
1 - غياب أدوارهم:
للقيادات العلمية والدعوية أدوار مهمة وآثار حميدة سبق الحديث عنها، ومن
أعظم آثار غيابهم فقدان هذه الأدوار وضمورها.
2 - فقد العلماء من علامات رفع العلم:
فَقْدُ العلماء رفعٌ للعلم؛ وقد أخبر بذلك صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله
بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم
بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبقِ عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسُئلوا فأفتوا بغير
علم فضلُّوا وأضلُّوا» [7] .
وقبض العلم درجات ثلاث:
الأولى: أن يقبض روح العمل وهو الخشوع، وقد دل على ذلك حديث أبي
الدرداء رضي الله عنه إذ قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فشخص
ببصره إلى السماء، ثم قال: «هذا أوان يُختلَس العلم من الناس حتى لا يقدروا منه
على شيء» فقال زياد بن لبيد الأنصاري: كيف يختلس منا وقد قرأنا القرآن؟
فوالله لنقرأنه ولنقرئنه نساءنا وأبناءنا، فقال: «ثكلتك أمك يا زياد! إن كنت
لأعدُّك من فقهاء أهل المدينة؛ هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى فماذا
تغني عنهم؟ !» قال جبير: فلقيت عبادة بن الصامت قلت: ألا تسمع إلى ما يقول
أخوك أبو الدرداء؟ ! فأخبرته بالذي قال أبو الدرداء، قال: صدق أبو الدرداء؛
إن شئت لأحدثنك بأول علم يرفع من الناس: الخشوع، يوشك أن تدخل مسجد
جماعة فلا ترى فيه رجلاً خاشعاً « [8] .
وقد غاب أثر هذا العلم منذ وقت، بل صار الناس لا يعدونه علماً؛ فالوعظ
والرقائق باب آخر غير باب العلم الذي هو سرد المسائل وأقوال الرجال، أما العلم
في كتاب الله تبارك وتعالى فله أثره على القلوب والنفوس، قال تبارك وتعالى:
[قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ
سُجَّداً * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ
وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً] (الإسراء: 107-109) وقال عبد الأعلى التيمي:» من
أوتي من العلم ما لا يبكيه لخليق أن لا يكون أوتي علماً ينفعه؛ لأن الله تعالى نعت
العلماء، ثم قرأ القرآن: [إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ مِن قَبْلِهِ] (الإسراء: 107) [9] .
وقال مالك رحمه الله: «العلم والحكمة نور يهدي به الله من يشاء، وليس
بكثرة المسائل» [10] .
وقد كان صلى الله عليه وسلم يعنى بذلك في تعليمه لأصحابه؛ فعن جندب بن
عبد الله رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن فتيان
حزاورة، فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن، ثم تعلمنا القرآن فازددنا به
إيماناً « [11] .
والدرجة الثانية: قبض العلماء، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم بذلك في
حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما في قبض العلم، وقد سبق.
وأخبر صلى الله عليه وسلم أن ذلك من أشراط الساعة؛ فعن أنس بن مالك قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:» إن من أشراط الساعة أن يُرفع العلم،
ويثبت الجهل، ويُشرب الخمر، ويظهر الزنا « [12] .
عن هلال بن خباب قال: قلت لسعيد بن جبير: ما علامة هلاك الناس؟ قال:
إذا مات علماؤهم [13] .
عن الحسن قال: كانوا يقولون: موت العالم ثلمة في الإسلام لا يسدها شيء
ما اختلف الليل والنهار [14] .
عن أبي مسعود قال:» لا يأتي عام إلا والذي بعده شر منه. قالوا: إنَّا فيه
يأتي علينا العام يخصب والعام لا يخصب فيه. قال: إني والله لا أعني خصبكم
ولا جدبكم، ولكن ذهاب العلم والعلماء؛ قد كان قبلكم عمر فأروني العام
مثله! « [15] .
وروى ابن جرير في تفسيره عن ابن عباس في قوله تعالى: [أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا
نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا] (الأنبياء: 44) قال موت علمائها وفقهائها،
وروي عن مجاهد قال: إنه فسرها بموت العلماء [16] .
والدرجة الثالثة: قبض القرآن في آخر الزمان: وقد أخبر عنه صلى الله
عليه وسلم في قوله:» يَدرُسُ الإسلام كما يَدرُسُ وشي الثوب حتى لا يُدرى ما
صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة، ويُسرى على كتاب الله في ليلة فلا يبقى في
الأرض منه آية، وتبقى طوائف من الناس الشيخ الكبير والعجوز يقولون: أدركنا
آباءنا على هذه الكلمة يقولون: لا إله إلا الله فنحن نقولها « [17] .
3 - فقدهم مدعاة لتصدر الجهلة:
حين تُفقد القيادات الدعوية والعلمية يتسع المجال لتصدُّر طائفة من الجهال،
فيخوضون فيما لا يحسنون، فيَضلون ويُضلون وهذا ما أخبر عنه صلى الله عليه
وسلم في قوله:» فإذا لم يُبق عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسُئلوا فأفتوا بغير
علم فضلُّوا وأضلُّوا «.
وفي هذا العصر اتسعت فرص الشهرة لمن ليس أهلاً لها؛ فوسائل الإعلام
تتيح تصدُّر أي مغمور، وغلبة الجهل بالشرع وأحكامه تجعل الناس يصدقون من
يسمعون، بل إن معايير الناس في الحكم على من يحمل العلم فيقبل قوله أو من هو
دون ذلك، هذه المعايير ليست معايير موضوعية، بل هي معايير تتفق مع ثقافة
عامة الناس وطريقة تفكيرهم. إن من يجيد الحديث عن بعض مشكلات الناس
المعاصرة، ويتحدث لهم باللغة التي يفهمونها، وتتسم آراؤه بالتساهل أو (الانفتاح
والمرونة) كما يسمى اليوم إن هذا الصنف هو الذي يجد له رواجاً وقبولاً بين
الناس، حتى وإن كان لا يحمل من العلم الشرعي الموروث أي رصيد.
وهكذا من يتناول بعض الموضوعات الحيوية لدى الناس، ويجيد الإلقاء
والخطابة، فيرتب بعض الأفكار والعناصر التي يعرفها معظم المستمعين له،
ويدعم حديثه ببعض الشواهد والقصص، وربما بعض الأرقام والمعلومات، مثل
هذا الصنف من المتحدثين يجد رواجاً وقبولاً واسعاً لدى الناس.
ولا اعتراض على ما يقدمه هؤلاء؛ فطائفة كثيرة منهم هم من الغيورين
الصادقين نحسبهم كذلك والله حسيبهم لكن المشكلة تتمثل في تسيُّد أمثال هؤلاء،
وتحدثهم فيما لا يحسنون، واستشارة شباب الصحوة لهم وصدورهم عن رأيهم،
والجانب الآخر من المشكلة يتمثل في تسطيح تفكير المستمعين لهم، والقعود بهم
عن الارتقاء في الفهم وتناول المشكلات.
واجبنا تجاه القيادات العلمية والدعوية:
إذا كان تأثير القيادات العلمية والدعوية في ساحة العلم والدعوة بهذا القدر،
وكان غيابهم يترك هذا الفراغ الهائل؛ فإن الدعاة إلى الله وطلبة العلم هم من أكثر
الناس التصاقاً بهذه القضية، وأوْلى الناس أن يُعنَوْا بها ويتدارسوها، وتتمثل
واجباتنا تجاه هذه القيادات فيما يأتي:
1 - إيجاد القيادات العلمية والدعوية:
إن من واجب الدعاة إلى الله تبارك وتعالى السعي لإيجاد القيادات العلمية
والدعوية التي تقود الناس وتوجههم وتأخذ بأيديهم، ومن وسائل تحقيق ذلك:
أ - الاعتناء بهذا الجانب:
ويتمثل ذلك بإعطاء الاعتبار اللائق للبناء العلمي ضمن المناهج الدعوية،
وبخاصة أننا نعيش في عصر قلَّ الاهتمام فيه بالعلم الشرعي، حتى إن طائفة من
ناشئة الصحوة بدؤوا يزهدون في هذا العلم، محتجين بأنه شأن المختصين، وأن
الناس لا يمكن أن يكونوا كلهم علماء، وتضيع اليوم أوقات طائفة من هؤلاء أمام
شاشات الإنترنت في جدل تافه، وتعالم ممقوت، أو في قراءة طائفة من الكتب
المترجمة التي قد تفيد في جوانب من الحياة، لكنها ليست بأوْلى من الفقه في دين
الله.
وينبغي أن يُعنى بهذا الجانب في التخطيط للأعمال الدعوية ورسم الأهداف
لها، فيأخذ حيزه اللائق به.
ب - إعادة النظر في المناهج التربوية:
إن تربيتنا اليوم بحاجة إلى مزيد مراجعة؛ فهي تربِّي على التقليد والتبعية،
وتخرِّج جيلاً من الأتباع أكثر من أن تخرِّج قادة يقودون الناس، ومن مجالات
المراجعة ما يلي:
1 - التخلص من الاستبداد الدعوي والتربوي؛ فثمة طائفة من المربين تنقل
الشاب من التقليد لأهل العلم إلى التقليد لهم؛ فخطأ مربيه خير من صوابه هو،
وليس من حقه أن يقول: لِمَ، فضلاً عن أن يقول: لا.
2 - التخلص من التسلط الذي لا يسمح للشاب أن يستفيد من غير أستاذه
ومربيه، بحجة المحافظة عليه وحمايته.
3 - إعادة النظر في كثير من الأساليب التي توارثها المربون والدعاة،
والبحث عن مدى جدواها، ومدى مناسبتها مع هذه المرحلة التي نعيشها بمتغيراتها
وظروفها.
4 - الارتقاء بالمربين وحسن اختيارهم؛ ففاقد الشيء لا يعطيه، ولا
يتصور من البسطاء محدودي العلم والتفكير أن يرتقوا بغيرهم أو يهيئوهم للقيادة
والريادة.
5 - تطوير أساليب التعليم والارتقاء بمدارسنا؛ فأسلوب التلقين والإملاء لا
يمكن أن يُخرِجَ طلبة علم متميزين، فضلاً عن أن يخرج قيادات.
6 - مراجعة المناهج العلمية والبرامج التي تقدم للناشئة وإعادة النظر فيها.
ج - تهيئة الفرص ومراجعة الأساليب الإدارية:
إن البيئة التربوية السائدة اليوم في مدارسنا، وفي مؤسسات الصحوة التربوية
لا تتيح الفرص لنمو القيادات؛ فالفرص المتاحة للمبادرة والتفكير المستقل فرص
محدودة، وأجواء الحوار واختلاف الرأي ليست كما ينبغي، وهذه الفرص وتلك إن
وجدت على المستوي النظري فهي نادرة على المستوى العملي وكثيراً ما تُوأد أمام
الصرامة الإدارية التي تليق بالتربية العسكرية أكثر مما تليق بالتربية التي تسعى
لإعداد الرجال والقيادات.
وحين نفكر في تطوير أدائنا التربوي مع الإصرار على النمط الإداري السائد
فهذا التفكير لن يكون تفكيراً رحباً، وسيعوقنا ذلك عن الوصول إلى حلول عملية،
وما ورثناه واعتدنا عليه من الأساليب إن ساغ أنه ناجح في ظرف وبيئة، فلا يعني
أنه سينجح في كل زمان ومكان.
د - تطوير طرق التعليم الشرعي:
إن الظروف والمستجدات المعاصرة اليوم تتطلب منا مراجعة لأساليب وطرق
التعليم الشرعي السائدة، ومن مجالات التطوير المقترحة:
أ - الاعتناء بالمستويات العليا في التعليم، والبعد عن الاقتصار على التذكر
والاستدعاء، فلا بد من الاعتناء بالفهم والاستيعاب والتطبيق لما تعلَّمه الطالب في
مواقف جديدة، والاعتناء بالتقويم وإصدار الأحكام، وكذا التحليل والتركيب.
ب - زيادة دور الطالب في التعلم.
ج - الاعتناء بتعليم أسس التفكير العلمي، والبحث العلمي، ومهارات الحوار
والإقناع.
د - الاعتناء بدراسة النوازل والقضايا المعاصرة.
هـ - الاعتناء بتعليم قدر مناسب من الثقافة المعاصرة يتيح لطلاب العلم
استيعاب المشكلات المعاصرة، ويرقى بلغة خطابهم بما يتناسب مع الفئات المتعلمة
والمثقفة في المجتمع.
و الاعتناء بتعليم المهارات الاجتماعية، وأساليب التعامل مع الناس
والتأثير عليهم.
2 - إبراز سير علماء السلف:
يفتقر الناس اليوم إلى القدوات، وإلى المعايير التي يعرفون فيها العالم الذي
يستحق أن يُتلقى منه، والعالم الذي لا يستحق ذلك.
ومن ثم فإبراز سِيَر علماء السلف ومنهجهم في التعامل مع النصوص، وفي
الفقه والفهم، وفي السلوك والهدي، وفي القيام بواجب الدعوة وقيادة الناس، كل
ذلك من شأنه أن يعطي الناس صفات العالم الذي ينبغي الاقتداء به والأخذ منه.
3 - السعي لإبراز القيادات أمام الناس:
من واجب الدعاة إلى الله تبارك وتعالى السعي لتعريف الناس بالقيادات
الناضجة الواعية، وإبرازهم أمام الناس، ويمكن أن يتحقق ذلك من خلال جوانب
عدة منها:
1 - تذكيرهم بالمسؤولية ودفعهم للمشاركة والدعوة.
2 - التعريف بهم وبيان منزلتهم لدى الناس.
3 - استضافتهم في البرامج العامة، وإفساح المجال لهم للحديث في مجامع
الناس.
4 - دفعهم للمشاركة في وسائل الإعلام؛ فلها الأثر البارز في تعريف الناس
بهم وانتشار كلمتهم.
4 - الحذر من تصدير الجهلة:
حين تخلو الساحة من القيادات العلمية المؤهلة يتسع المجال أمام الرؤوس
الجهال، وتسهم المنطلقات الحزبية الضيقة في تسويد فئات ممن لا يحملون التأهل
الشرعي الكافي، وإتاحة الفرص والمنابر الإعلامية أمامهم.
إن شعور فئة أو حركة أنهم هم وحدهم المؤهلون للتغيير، وأنهم هم الذين
يملكون الحق وغيرهم على الباطل هو الذي يدفعهم إلى تصدير فئة من أتباعهم لا
يملكون من التأهيل إلا مجرد الانتماء.
وأظن أن الوقت قد حان ليدرك العاملون للإسلام أنه ليس بوسع فرد أو فئة
تحمل عبء الإصلاح والتغيير وحدهم؛ فالواقع أكبر من جهد فرد أو جماعة، وأنه
قد حان الوقت لسعة الأفق في التعامل مع اجتهادات الآخرين وتوسيع مجال التعاون.
5 - الحكمة في التعامل مع اجتهادهم المخالف:
البشر من طبيعتهم النقص والقصور، وما فتئ أهل العلم منذ عصر صدر
الإسلام وإلى يومنا يخالف بعضهم بعضاً ويرد بعضهم على بعض، وقد أدت
أوضاع الأمة اليوم إلى فقدان الاتزان في التعامل مع كثير من مسائل الاختلاف،
ومن أكبر مظاهر ذلك الصراع بين طائفة من حملة العلم الشرعي وطائفة من شباب
الصحوة لاختلاف الآراء حول بعض القضايا والمواقف، مما أدى إلى نشوء فئة
تدعو إلى إسقاط هؤلاء وانتقاصهم، أو فئة أخرى تغلو في اجتهاداتهم وتحولها إلى
نصوص قاطعة.
لا بد أن يتربى الناس وطلاب العلم بوجه أخص على أن الحق لا يعرف
بالرجال، وعلى أن العبرة بما دل عليه الدليل من الكتاب والسنة، وأن قول البشر
كائناً من كان إنما يعرض على الأدلة الشرعية فيقبل ما وافقها ويترك ما خالفها،
وهي قضية بدهية على المستوى النظري، أما على المستوى العملي فكثيراً ما يقع
فيها الخلل.
ومع ذلك لا بد أن يتعلم الجيل اليوم أن المخالفة في الاجتهاد لا تعني
الانتقاص والذم؛ فنحن نرى فئة من صغار طلاب العلم، بل بعض من ليس لهم
رصيد في العلم الشرعي، وغاية ما يملكونه بعض المشاركات الدعوية، والثقافة
المعاصرة، نرى هؤلاء يتحدثون دوماً وبجرأة بل باستخفاف أحياناً عن كثير من
أهل العلم ومواقفهم، وما أن تصدر فتوى أو موقف لأحدهم إلا وينبري هؤلاء
لتقويم الموقف والفتوى، وغالباً ما يكون ذلك انتقاداً، وقد يكون لاذعاً ساخراً،
مصحوباً بوصف هؤلاء بالسذاجة والبساطة وغيرها من الألقاب، ومن المآسي أن
يشترك في الحملة على هؤلاء طائفة من أبناء الصحوة، مع فساق الصحفيين
وسقطتهم، بغض النظر عن اختلاف الموقف والدافع.
قال أبو سنان الأسدي:» إذا كان طالب العلم قبل أن يتعلم مسألة في الدين
يتعلم الوقيعة في الناس، فمتى يفلح؟ ! « [18] .
قال ابن عساكر رحمه الله:» اعلم وفقني الله وإياك لمرضاته، وجعلني
وإياك ممن يتقيه حق تقاته: أن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك من
ناوأهم معلومة، وقلَّ من اشتغل في العلماء بالثلب إلا عوقب قبل موته بموت القلب:
[فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ]
(النور: 63) .
وذكر الثعالبي في آداب الملوك عن علي رضي الله عنه أنه قال: من استخف
بالعلماء ذهبت آخرته.
ولا يسوغ كذلك أن يصرح طلاب العلم بانتقاد هؤلاء في مجالس الناس العامة،
وبمخالفتهم في الاجتهاد.
فترك إبداء الرأي في مسألة من المسائل، أو ترك التصريح بخطأ فلان بعينه
أقل مفسدة من إسقاط هؤلاء الرموز والقيادات، وحين يفقد عامة الناس ثقتهم في
هؤلاء؛ فمن البديل؟
هل قدمت الصحوة اليوم علماء فقهاء يتصدون لقضايا الناس ومشكلاتهم؟ أم
أن الموجود من هؤلاء يعاني الناس أي معاناة في الاتصال به والوصول إليه؟
إن البديل سيكون عند عامة الناس أحد أمرين: أولهما: أن يفتوا أنفسهم ويخوضوا
في دين الله بغير علم، والثاني: أن يلجؤوا إلى طائفة من أهل الترخيص
والانفلات في الفتوى.
6 - الحذر من الغلو فيهم:
في مقابل من يستهينون بأهل العلم ثمة طائفة من الناس تغلو فيهم، ومن
مظاهر الغلو:
أ - التسليم بصحة كل ما يقوله العالم فيعتقد فيهم العصمة بلسان الحال لا
بلسان المقال فحين يخالفهم أحد في اجتهاد أو رأي، أو حين يناقش قولاً لهم يشنون
عليه حرباً شعواء، ويتهمونه بانتقاص أهل العلم وازدرائهم.
ب - الزعم بأنهم يحيطون بكل دقيقة وجليلة، وحين تناقش أحدهم في قول
يردُّ عليك بأن الشيخ لا يخفى عليه ذلك لكنه يراعي ويقدر أموراً لا تقدرها، بينما
هو يقرر في حديثه انتقاد أتباع المذاهب الذين يقولون بأن كل حديث بخلاف
المذهب فهو مؤول أو منسوخ.
ج - القطع بما لا يجوز القطع به، كقول بعضهم: انتقل إلى الرفيق الأعلى،
أو إن فلاناً من أولياء الله وإن لم يكن ولياً فلا أعلم لله ولياً، أو إن الله أحب فلاناً
فأحبه الناس، ومنهج أهل السنة الاعتدال في الثناء على الرجال؛ فليقل من يثني
عليهم: إن فلاناً نحسبه والله حسيبه من أولياء الله، ونرجو أن يكون ممن أحبه الله
فأحبه الناس.
د - الاعتقاد بأن الدين سيأفل نجمه بموت هؤلاء وانصرافهم؛ فمع أن فقد
أهل العلم ثلمة لا تسد، وأن ذلك من علامات رفع العلم إلا أن الخير باق في الأمة،
وقد فقدت الأمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وبقي الدين محفوظاً
قائماً.
7 - الاعتناء بالأعمال المؤسسية:
إن ضخامة الجهد الإصلاحي اليوم، والمتغيرات الجديدة، والضعف الذي
تعاني منه الأمة يقلل من فرص نجاح القيادات الفردية، وهذا يتطلب الاعتناء
بإيجاد المؤسسات العلمية والمؤسسات الدعوية؛ فهي تقلل من سلبيات الفرد،
وتعطي إمكانات وقدرات أعلى.
إننا بحاجة إلى مؤسسات وجمعيات مستقلة من العلماء والفقهاء المعتبرين تفتي
الأمة في النوازل، وبحاجة إلى مؤسسات دعوية تعنى بتنظيم جهود دعوية عامة
يمكن أن تسد ثغرات لا يسدها الأفراد.
وهذا النمط الذي نتطلع إليه من المؤسسات ليس النمط التقليدي الذي يقوده
فرد ووراءه مجموعة من الموظفين التابعين.