الباب المفتوح
د. محمد جلال
[الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ البُشْرَى فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ]
(يونس: 63-64)
التصديق الخبري [1] وحده لا يكفي لإعطاء صفة الإيمان؛ فما كذّب إبليس
وما كذّب فرعون وما كذبت قريش كلها [فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ
اللَّهِ يَجْحَدُونَ] (الأنعام: 33) . فليس عامة الكفار مكذبين؛ وإن كان هناك من
الكفر ما هو تكذيب، وهذا بابٌ له مظنته [2] ؛ لكني أريد أن أوضح معنى التصديق
الخبري، وكيف أنه لا يُثبِتُ إيماناً وحده، وحتى يتضح ذلك أقول: إن العمل أي
عمل الذي يقوم به الإنسان يمر بثلاث مراحل هي:
أ - مرحلة المعرفة الخبرية: وتسمى في مصطلح علماء العقيدة: «قول
القلب» .
ب - مرحلة الإرادة والتفاعل بالوجدان: وتسمى في مصطلح علماء العقيدة:
«عمل القلب» .
ج - مرحلة العمل الحركي: وتسمى في مصطلح علماء العقيدة: «عمل
الجوارح» .
فمثلاً: لو أن إنساناً قُرّبَ منه إناء فيه «زيْتٌ» يغلي «هذه معرفة خبرية»
فماذا سيحدث؟ يتولد في القلب خوفٌ من الاقتراب من هذا الإناء ورغبة في
البعد عنه «عمل القلب» ، ثم إنه لا يقرب هذا الإناء أبداً ما استطاع «عمل
الجوارح» .
ومثال ذلك كثيرٌ لمن يتتبعه؛ فمثلاً لو أن أحداً علم أن أمامه في الطريق
وحش كاسر أو ثعبانٌ ماكر لا يقدر هو عليه، فهذه معرفة خبرية تنشئ في القلب
رهبة من الأذى ورغبة في حصول السلامة «عمل القلب» ، ثم بعد ذلك يبتعد عن
هذا الطريق «عمل الجوارح» . وهكذا الإيمان يأتي إلى الإنسان معرفةً خبرية
بحتة أولاً، ثم تقابل بالتصديق أو بالتكذيب.
ثم بعد هذا التصديق الخبري يحدث أحد أمرين:
الأول: يقوى هذا التصديق في القلب ويعمل على إحداث رغبة في حصول
المحبوب ورهبة من حصول المكروه، وهذه الرهبة وتلك الرغبة هي من أعمال
القلوب.
ودعني أسأل سؤالاً حتى يزداد الأمر وضوحاً: ما عمل القلب؟ أو ماذا نعني
بعمل القلب؟
عمل القلب: هو ما تنشئه المعرفة الخبرية في ذات القلب.
فمعرفة أن الله هو القادر - معرفة خبرية - تنشئ في القلب الاعتماد على الله
«التوكل» .
ومعرفة أن الله عالم الغيب والشهادة تنشئ «الحياء» .
ومعرفة أن الله مجيب الدعاء تنشئ في القلب التعلق بالله «الرجاء» وهكذا.
وعمل القلب ذاته يختلف قوةً وضعفاً من شخص لآخر، ويختلف عند
الشخص الواحد من حالٍ إلى حال؛ ولعل هذا ما قال عنه ابن مسعود رضي الله
عنه «إن للقلوب إقبالاً وإدباراً؛ فخذوها وقت إقبالها، ودعوها وقت إدبارها» ،
وهو هو ما وصفه حنظلة رضي الله عنه أنه نفاق ووافقه عليه الصدِّيق رضي
الله عنهما.
ثم إن عمل القلب مصاحب تماماً لعمل الجوارح [3] وجوداً وعدماً، قوةً
وضعفاً؛ اللهم إلا في حالة الإكراه فيستقل عمل القلب بالوجود دون عمل الجوارح.
الثاني: يقابل التصديقَ الخبري مانعٌ يحول دون تحوله إلى تصديق باعث
مُولِّد لعمل القلب الذي يستلزم عمل الجوارح إلا في حالة الإكراه، وهذا المانع قد
يكون استكباراً كما هو حال إبليس لعنه الله، كما قال تعالى: [فَسَجَدَ المَلائِكَةُ كُلُّهُمْ
أَجْمَعُونَ * إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الكَافِرِينَ] (ص: 73-74) ، وقد يكون
المانع حبَّ الآباء والأجداد وتقديس الأعراف والتقاليد؛ وخير شاهد على ذلك حال
أبي طالب عمِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد يكون المانع شهوة تمنع الانقياد،
وقد يكون خوفاً من أذى قد يلحق المرء إذا التزم منهج الله - رغم اقتناعه به
تماماً -.
فهذه الموانع تحصر المعرفة، وتقف بها عند حد المعرفة الخبرية فقط.