ملفات
العلمانية في العالم الإسلامي.. تساقط الأوراق
(1 - 3)
الليبرالية العربية..
هدم «النص» والسقوط في التبعية..!
محمود سلطان
الخطاب الليبرالي العربي، منذ كان غضاً أي وهو يحاول أن يعبر عن نفسه
في عالم الفكر والمعرفة وحتى الآن ظل محصوراً داخل نطاق ضيق لا يتخطى
حدود خطاب «إطراء وإعجاب» بالمنظومة الفكرية والحضارية الغربية، ولم
يستطع أن يتجاوز تلك الحدود ليشيد قاعدة فكرية واجتماعية تكون بمثابة «شريحة»
مناضلة تقود التغيير بمعناه الشامل، أي أنه لم ينتظم في حركة تملك مشروعاً أو
رؤية نجد بالفعل أثر آلياتها في المجتمع، ولكنه خط لنفسه حدوداً، وأرسى أبنية
فكرية هي أقرب إلى الترف والدعة منها إلى الجدية المتوخاة في مثل هذا الموقف،
وظل حبيساً داخلها! ! فكان مجرد صوت مخنوق جلُّ همِّه وحَسْب تمجيد الآخر
«المتقدم» ، ومقت حاضره «المتخلف» وماضيه أيضاً..!
وغاب عنه حقيقة أن الأزمة الخانقة التي تفترس الفكر (الليبرالي العلماني)
العربي، ولا تزال، ومن ثم موضوعه (أي الواقع العربي) ترجع في المقام الأول
إلى «التخندق» داخل نسق أيديولوجي مغلق عبَّر عن نفسه من خلال الثقة إلى
مرتبة القداسة في النزعة المتطرفة نحو «النمذجة» واقتفاء أثر الآخر: «في
حلوه ومره، خيره وشره» كما عبَّر عنها طه حسين وأقرها أقرانه الليبراليون
المتطرفون أمثال شبلي شميل، وفرح أنطون، وسلامة موسى، وأحمد لطفي
السيد، وإسماعيل مظهر، وقاسم أمين وغيرهم.
بل إن الأمر اتخذ أبعاداً أكثر جرأة مع أول تنظير فكري مصاغ بعقلية أزهرية
تحاول علمنة الإسلام، وتأويل «النص القرآني» أو قسره كي يوازي في
مضامينه ومحتواه النص المسيحي الشائع: «دع ما لقيصر لقيصر، ودع ما لله لله»
تلك القضية التي فجرها القاضي الأزهري الشيخ «علي عبد الرازق» في كتابه:
«الإسلام وأصول الحكم» [1] والذي لا يزال حتى الآن يعد الإطار المرجعي
الذي يستند إليه العلمانيون المعاصرون في مواجهة التيار الصاعد الداعي إلى أسلمة
الدولة العلمانية العربية المعاصرة.
ففي إطار منطق «اقتفاء الأثر» السقيم الذي أصَّل له طه حسين في كتابه:
«مستقبل الثقافة في مصر» ظل المجتمع العربي على مدى العقود السبعة الماضية
انظر المثقف الليبرالي العربي بناءاً يستند إلى قاعدة لبنتها الأساسية «النص» ؛
ومن ثم شُغلت هذه الثلة المثقفة بمهمة تكاد تكون هي الوحيدة التي حشدوا من أجلها
آلياتهم المستوردة من كل حدب وصوب: وهي كيفية تقويض «النص» والماضي
العربي الذي أفرز هذا «النص» ؛ إذ إن بتقويضه وفق هذا التصور وفي ظل
هيمنة الفكر الاستشراقي سينهار الصرح الاجتماعي العربي «التقليدي» برمَّته..!
معتقدين أن ذلك يمهد لهم السبيل نحو بناء عالم جديد مستحدث وإلحاقه ثقافياً
وحضارياً بالغرب!
ولئن كان التراث (أو الماضي) جملةً ظل مرفوضاً في الخطاب الليبرالي
العربي فإن تهافت هذا الخطاب وانزلاقه إلى الانفصام الكامل عن الموضوعية وعن
الواقع أيضاً وتحوُّله إلى دوغمائية مغلقة، لم يكن في رفض التراث في حد ذاته ولا
في مسعاه إلى تقويض الأطر المرجعية التي تؤسس التراث وتشكله؛ إذ إن هذا
المنحى لم يتبلور في شكل موقف إزاء الماضي عامة بغض النظر عن هويته عربياً
كان أم غير عربي، ولكن المشكلة في أن الماضي عند المثقف الليبرالي ظل
مرفوضاً ومطلوباً في آن واحد؛ ومعيار المفاضلة عنده هو هوية هذا التراث
ومصدره، فهو يدَّعي على حد تعبير «سلامة موسى» أنه يريد «تخريج الرجل
العصري» ، وأن الطريق الذي يراه إلى ذلك، هو طرد القدماء «!
ولكن أي قدماء؟ ! إنهم القدماء العرب واستبدالهم بفريق آخر من القدماء
الغربيين! ! بحيث يحل فرويد وفوكو وفولتير وروسو ونوتسيكو، محل
الشافعي وابن حنبل وابن رشد وسيبويه والأصمعي! !
لعل الدافع الأساس والرئيس لنزوع الليبرالي العربي نحو القطيعة مع تراثه
وماضيه قد تأسس على الطريقة التي اعتمدها وهو يُعيد قراءتها من جديد، وهي
طريقة تعوزها الحيدة والمنطق في آن؛ إذ إنه كان يقرأ التاريخ والثقافة
العربية و» أوروبا «المتقدمة في رأسه، أي إنه قاس» الماضي «العربي
على» حاضر «العالم الغربي المتقدم الآن، وهو خلل معياري كانت نتيجته
الطبيعية والمترتبة عليه هو الحكم الظالم بجمود التراث أو تخلفه أو أي
مرادف آخر لهما! ! فهو يدَّعي أن ماضينا» متخلف «. ولكن ألم يسأل
نفسه: متخلف بالنسبة لمن؟ ! أبالنسبة إلى الحاضر العربي الآن، أم بالنسبة
إلى المنظومات الحضارية الأخرى التي عاصرت ماضينا نفسه؟ ! أم بالنسبة إلى
الحضارة الغربية المعاصرة؟ ! إن» الأخير «هو الذي كان مهيمناً على عقل
الليبرالي العربي، وهو ما جعله يطلق وصف» التخلف «على تراثه
بالكامل! ! بالإضافة إلى أن انتصار أوروبا عسكرياً وكذلك تفوقها التقني على
معظم دول العالم الإسلامي منذ أواخر القرن الثامن عشر وإلى ما بعد الحرب
العالمية الثانية زاد من حالة الانبهار بما تفرزه» أوروبا «المنتصرة» من قيم
ومفاهيم ونظريات ومدارس فكرية وفلسفية؛ مما رفعها بمضي الوقت، في نظر
المثقف الليبرالي، والأكثر انبهاراً بها إلى مرتبة الحضارة «النموذج»
التي تتحدث دائماً من موقع المصداقية، وتملك من وجهة نظره مشروعية
الحكم على «المهزومين» ! ومن ثم نظر المثقف الليبرالي العربي إلى
حاضره وماضيه من خلال نظرة أوروبا إليهما! ولا يخفى على أحد نظرة
الاحتقار والازدراء التي كان ولا يزال ينظر بها إلينا العالم الغربي.
وفي ظل هذه الهيمنة الاستعلائية للنموذج الحضاري الغربي أثير هذا السؤال:
«لماذا تأخرنا، وتقدم غيرنا؟ !» . وفي غياب الوعي بالأسباب الحقيقية
للتحديث اختار المثقف الليبرالي العربي الطريق الأسهل: وهو التقليد والتشبه
بالغالب المنتصر، ويبدو أنها كانت حالة اختلط فيها «الوعي» بـ «اللاوعي»
مدفوعة بروح الإعجاب بالغالب المنتصر، والمؤدية إلى التبعية الكاملة له والتبرؤ
من كل ما يتعلق بالذات «العربية الإسلامية» من خصوصية، وهوية واستقلال
تاريخي، وأكثر تجسيداً لما صاغه ابن خلدون بـ «أن المغلوب يتبع الغالب
في الملبس والمذهب» [2] ، ألم يقل أحد الليبراليين العرب بأن أوروبا المنتصرة:
«هي المرشد الأول والقبلة التي يجب أن نحج إليها» ؟ [3] ، ألم يقل سلامة
موسى: «فلنولِّ وجهنا شطر أوروبا.. ونجعل فلسفتنا وفق فلسفتها ونؤلف
عائلاتنا على غرار عائلاتها» ؟ [4] أوَ لم يقل فرح أنطون: «يجب أن تكون
مدارسنا كالمدارس الفرنسوية معزولة عن الدين عزلاً قطعياً» ؟ [5] .
هكذا كان حال المثقف الليبرالي العربي كما يصفه الباحث الليبرالي السوري
هاشم صالح: «كالفلاح الفقير الذي يقف خجلاً بنفسه أمام الغني الموثر، يقف
مثقفنا العربي أمام نظيره الغربي، وهو يكاد يتهم نفسه ويعتذر عن شكله غير
اللائق و (لغته غير الحضارية) ، و (دينه المتخلف) ويستحسن المثقف الغربي
منه هذا الموقف ويساعده على الغوص فيه أكثر فأكثر حتى ليكاد يلعن نفسه أو
يخرج من جلده لكي يصبح حضارياً أو حداثياً مقبولاً!» [6] . هذا الموقف ربما
نلتمس العذر لأصحابه، وخاصة هؤلاء الذين عاشوا مناخ «الصدمة» التي أفقدت
العقل العربي اتزانه في بدايات القرن الماضي حين أذهلته المنظومة الحضارية
الغربية بتفوقها الهائل وديناميتها السريعة وهو ما أدى إلى سقوط المثقف العربي
دون أن يدري إلى التبعية، ولكن بعد ذلك كان الوقت كافياً لالتقاط الأنفاس،
وإعمال الفكر والنظر لاحتواء الصدمة، وانبثاق فكر ليبرالي جديد متحرر من
تأثيرها، وغير ملتفت إلى فكر «التبعية» السابق عليه، والذي يمكن أن نقول إنه
صيغ في إطار خصوصيته التاريخية؛ ولكن ما حدث هو إنتاج وإعادة إنتاج الفكر
السابق (فكر القطيعة مع الهوية العربية الإسلامية) ، والوقوف عنده، دون تقديم
جديد يستحق الاهتمام به، فما نقرؤه الآن هو النص نفسه الذي كتبه طه حسين،
وسلامة موسى، وشبلي شميل، وفرح أنطون، وغيرهم، ولكن منسوباً لأسماء
جديدة دخلت عالم الفكر حديثاً.
فنحن حين نقرأ لأدونيس قوله بأن «الحداثة هي ظاهرة تتمثل في تجاوز
القديم العربي لتصهره في قديم أشمل يوناني، مسيحي، كوني» [7] وحين نقرأ
لفرج فودة قوله: «إن هوية مصر فرعونية، قبطية، إسلامية، متوسطية» [8]
حينذاك نجد أنفسنا أمام الفكرة نفسها والنص نفسه الذي كتبه طه حسين من قبل في
«مستقبل الثقافة في مصر» !
وكذلك حين نقرأ لـ «هشام ترابي» قوله بأن «التراث الذي ينبغي دراسته
والحفاظ على إنجازاته هو التراث الذي صنعته الأجيال الثلاثة أو الأربعة
الماضية» [9] فإننا نجده النص ذاته الذي كتبه من قبل سلامة موسى حين قال إن
هدفه من النهضة: «هو تخريج الرجل العربي العصري الذي لا يرجع تاريخه إلى
أكثر من خمسمائة سنة فقط» [10] .
إن هذا الموقف يحمل دلالات عدة تطرح إمكانية وصفه بالجمود أو الركود أو
الإفلاس الفكري، غير أن هذه النتيجة ربما تنفيها احتمالات أخرى؛ إذ إنها يمكن
أن تكون إعلاناً عن إغلاق باب «الاجتهاد الليبرالي» ، ورفضاً لإعادة تجديد
الرؤى حول وظيفة التراث في النهضة المنشودة على أساس أن «الحكم» السابق
بإقصائه من قبل السلف الليبرالي أصبح عند المثقف الليبرالي العربي المعاصر
القول الفصل، أما ظاهرة اجترار الفكرة نفسها بصورة أو بأخرى في وقتنا الراهن؛
فربما تكون على سبيل التأكيد والثبات على الموقف. وفي رأينا أن كل هذه
الاحتمالات ليس لها إلا معنى واحد وهي الدوغمائية الرافضة للحوار ليس مع
الطرح الإسلامي السائد والمتنامي الآن؛ ولكن مع الواقع العربي الذي يرفض
تغريب قيمه وتزييف ذاكرته الجماعية.
والنتيجة كانت جلية وواضحة، وهي أن المجتمع العربي وبعد مرور مائتي
عام من عمر العربي الحديث لا يتجه نحو «العلمنة» ولا نحو «الحداثة»
المستندة في مضامينها ومحتواها إلى الإطار المرجعي القيمي الغربي، ولا يعتمد
النمط الرأسمالي الليبرالي، ولم يتخذه نمطاً أمثل للفرد والدولة والمجتمع، ولم
تستطع «الاشتراكية» المدججة بالسلطة وبزعامات «كاريزمية» في عقدي
الخمسينيات والستينيات أن تجد لنفسها موطئ قدم من المحيط إلى الخليج؛ ولكنه
أي المجتمع العربي يتجه نحو إحياء تراثه والتمسك أكثر بمرجعيته الدينية متمثلة
في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، متحدياً ما يحيط به من ترتيبات
وتحولات دولية تحاول إيهامه بأن العالم كله يتجه نحو «الليبرالية» !