مجله البيان (صفحة 3792)

ملفات

العلمانية في العالم الإسلامي.. تساقط الأوراق

(1 - 3)

جذور العلمانية والتغريب في العالم الإسلامي

خالد أبو الفتوح

abulfutoh@hotmail.com

تُعد العلمانية (فصل الدين عن الحياة) أحد الانحرافات الكبرى التي أصابت

الأمة الإسلامية؛ إذ إنها حملت في طياتها مجموعة من التشوهات والمفاسد التي

مسَّت أو تغلغلت بدرجات متفاوتة في تصورات أفراد هذه الأمة وقيمهم، أو

نشاطاتهم وعلاقاتهم، أو نُظُمهم ومؤسساتهم.

ومن المعروف في دراسة أحوال المجتمعات وتحولاتها أنه من غير الممكن

الوقوف على نقطة محددة (زمنية أو فكرية) في مجتمع ما والإشارة إليها على أنها

نقطة التحوُّل العمراني (الحضاري) هبوطاً أو صعوداً في هذا المجتمع؛ فهذه

النقطة قد تكون (محطة) في منحدر الهبوط أو سُلَّم الارتقاء، ولكنها لا تكون

منعزلة أو منبتَّة الصلة بغيرها من الأفكار والأحداث والشخصيات الأخرى التي

تكوِّن (المحطات) الأخرى في مسيرة هذا المجتمع.

ومن هذا المنطلق فإننا لا نستطيع دراسة نشأة العلمانية في العالم الإسلامي من

غير البحث في الحامل الذي جاء بها (التغريب) ، ومن غير البحث في الخلفيات

والعوامل الثانوية التي ساعدت على هذه النشأة، وبعد ذلك يمكننا تتبع شبكة

التطورات التي انتهت إلى ما نحن فيه.

نظرة من بعيد:

يمكن القول: إن العلمانية إحدى الصور الفجة لانفصال السلطان عن القرآن

الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم: « ... ألا إن الكتاب والسلطان سيفترقان؛

فلا تفارقوا الكتاب ... » [1] ، وقد بدأ هذا الانفصال التدريجي بشكل خافت بعد

الخلافة الراشدة إثر انفصال أهل العلم والتقوى عن أهل السلطان والغلبة؛ حيث

تغيرت معايير اختيار أصحاب السلطان، وإن بقي أهل العلم يمثلون مرجعية للأمَّة

وفي كثير من الأحيان لأهل السلطان أنفسهم، ولكن هذا الانفصال لم يكن في مبدأ

أمره انفصالاً عن الأفكار والتصورات والعلاقات والتشريعات الإسلامية بقدر ما كان

انفصالاً بين (جهاز) التفكير و (جهاز) التنفيذ، وإن قُدِّر وحدث انحراف ما في

التنفيذ فإنه كان يقع في دائرة الاجتهاد الخطأ أو الهوى والمعصية، ولكن لم يتعد

إلى دائرة التصورات والأفكار وتغييرها بغية إيجاد مسوِّغ وتشريع لهذا الانحراف

والتعدي كما هو حادث في العلمانية، أقول ذلك على الرغم من وجود بعض الفتاوى

التي كانت تصدر أحياناً من علماء السلطان لإيجاد مسوِّغ لمعاصيهم وتفلتهم من

الأحكام الشرعية، ولكن المدقق يمكنه أن يرى أن هذه الفتاوى لم تكن أكثر من

استخدام سيئ وبمهارة لأصول شرعية يُسلِّم المجتمع بمرجعيتها.

غير أننا لا نعدم أيضاً في بواكير (التراث الفكري الإسلامي) بعض الجذور

العميقة لتصورات ومفاهيم منحرفة عن الإسلام الصحيح ساهمت إلى حد كبير في

إخصاب الأرضية الفكرية التي عملت عليها العلمانية.

فمن ذلك: الأثر الذي تركته الفلسفة اليونانية والفارسية والهندية على فكر

بعض الفرق وخاصة المعتزلة؛ حيث شاع عندهم تقديم العقل على النقل عند توهم

تعارضهما، حتى عدُّوا ذلك أصلاً من أصول الاستدلال، فكانوا ينكرون ما

يستطيعون من الأحاديث النبوية التي تتعارض مع المعقول بحسب تصورهم لهذا

المعقول بدعوى عدم ثبوتها أو عدم حجيتها لكونها أحاديث آحاد لا تفيد اليقين،

وهذه الفكرة في أحد جوانبها من شأنها تضييق نطاق النصوص الشرعية وما يستنبط

منها لحساب توسيع مجال عمل العقل الذي أخذ يحتل مكانة النصوص في منهجية

الاستدلال.

كما أخذوا يؤولون الآيات القرآنية تأويلاً أياً كان بُعْده ليوافق أصولهم

ومعارفهم العقلية التي عدُّوها يقينية، فكان استخدام هذا الأصل بقدر ما يُعلي من

قيمة العقل البشري بقدر ما يحط من قوة الإيمان بالغيب وصفاء التسليم للشريعة.

ومن ذلك أيضاً: الأثر الذي تركه الفكر الإرجائي على تصور كثير من

المسلمين لحقيقة الإيمان؛ فقد ابتدع المرجئة القول بخروج الأعمال من حقيقة

الإيمان؛ وعليه: بات يُكتفى في الإيمان بتصديق وقول على اختلافٍ بينهم، ومن

ثم: كثرت الأعمال التي لا تنسب إلى الإيمان، وهي تشمل الحياة كلها، وبتعبير

آخر: اتسعت المساحة التي يمكن أن يتحرك فيها العصيان والتبديل والانحراف

بأمان تاركاً الإيمان قابعاً في زاوية ضيقة تسمى القول، ثم تحول هذا القول على يد

المرجئة الجدد إلى مجرد ألفاظ خالية من مدلولاتها ومعانيها.

ومما زاد من أثر آراء المرجئة على حياة الأمة: اندثار المرجئة الفرقة،

وبقاؤها بل وانتشارها أفكاراً وآراءاً.

ثم كان للصوفية نصيب من هذا الإخصاب: إذ تعانق مع الفكر الإرجائي

انحراف مفهومي (العبادة) و (القضاء والقدر) عند المتصوفة؛ حيث تحوَّل

مفهوم الزهد الإيجابي الذي كان عليه السلف على يد المتصوفة إلى سلوك انسحابي

أخذ شكل التفرغ (للعبادة) في مسجد أو زاوية أو خلوة أو حتى كهف، وأما من

انصرف إلى معالجة شؤون الدنيا فقد كان ينظر إليه عند هؤلاء على أنه انصرف

عن العبادة، وكما رأينا اضطراب العلاقة بين العقل والنقل عند المعتزلة الذي

تطور لاحقاً عند (التنويريين) إلى اضطراب في العلاقة بين العلم والدين، نجد

هنا على يد المتصوفة علاقة متنافرة غريبة بين الدين والدنيا، أو بين الآخرة والدنيا،

فمن أراد الدين والآخرة فله المسجد لا شأن له بالدنيا، فلمن تترك هذه الدنيا؟ !

... يتصدى لها أهل الفساد والانحراف، ولا يكون ذلك مستهجناً، كما لا يكون

مستغرباً أن يُنظِّموا هذه الدنيا بمنأى عن الدين الذي ترك في خلوات العبادة وحلقات

الفقه، وفي قول أو شعائر يؤديها الفرد المسلم، بل يتم التسليم بذلك الانحراف على

أنه قضاء وقدر.

أضف إلى ذلك: أن ما روَّجه الصوفية عن الفَرْق بين الحقيقة والشريعة كان

بابًا واسعاً للانسلاخ من الشرع والتفلت من الدين تحت مظلة ادِّعاء (الولاية) ،

وقد كان هذا المفهوم مطية لتأويلات عديدة غير منضبطة بأصول شرعية أو لغوية

أو عقلية.

ومن العوامل الفكرية التي ساهمت في إخصاب الأرضية التي قامت عليها

العلمانية: الفصل الحاد بين (العبادات) و (المعاملات) الذي اقتضته (الأصول

الفنية) للمنهجية العلمية التي قامت عليها الكتب الفقهية المتأخرة.

وكذلك بعض الآراء الأصولية الفقهية الشاذة أو الاستخدام السيئ لبعض

الأصول والقواعد الفقهية، فلقد ناقش الفقهاء مسألة (نسخ القياس والإجماع للقرآن

والسنة) وردُّوها [2] ، ولكن إثارتها من بعض العلماء وإن كانوا قلة يدل على

استعداد فكري مبكر لتطويع الشريعة.

كما ساهم في ذلك: الانحراف عن ضوابط بعض الأصول والقواعد الفقهية،

مثل: الخروج بالاستحسان والمصالح المرسلة من كونها المصالح الشرعية إلى

المصالح التي يرتئيها المتنفذون حسب عقولهم وأهوائهم [3] ، ومثل الانحراف

بنظرية العرف أو قاعدة (العادة محكَّمة) ليكون العرف والعادة هما الأصل الذي

يُقدَّم على ما سواه.

ومن هذه العوامل: إغلاق باب الاجتهاد منذ أواخر القرن الرابع الهجري،

هذا الإغلاق وإن كان دافعه حُسن النية حتى لا يدَّعي في دين الله من ليس أهلاً

للنظر والاجتهاد، إلا أننا نلاحظ أن آثاره كانت عظيمة؛ فهو وإن كان فيه نوع من

إعلاء لقدر عقول علماء السلف واجتهاداتهم، إلا أن فيه أيضاً نوعاً من الحَجْر على

الكتاب والسنَّة، وتقليص المعاني والحكم المستنبطة منهما بما لا يتجاوز ما قاله

هؤلاء العلماء الأجلاء، كما أن فيه أيضاً تصوراً خاطئاً عن طبيعة تطور الحياة

الإنسانية؛ فمن منعوا الاجتهاد المطلق تصوروا أن من سبقهم من العلماء افترضوا

وتخيلوا كل ما يمكن وقوعه من حوادث في حياة البشر ووضعوا لها الحلول

والفتاوى الشرعية، وهذا وذاك أدى إلى مرضين خطيرين في الحياة الفكرية

والفقهية لدى المسلمين، هما: التقليد وما يتبعه من تعصب، والجمود وما يتبعه من

انغلاق وتحجر.

وفي عصر الدولة العثمانية عندما تطورت الحياة أكثر كانت الحاجة ملحة

لإعادة فتح باب الاجتهاد، ولكن العلماء رفضوا ذلك ولم يُقدِّموا في الوقت نفسه

الحلول البديلة أو يُبدوا الاستعداد لتهيئة من يكونون أهلاً لهذا الاجتهاد، عندها

استغل رواد العلمانية الأوائل ومن يريدون الكيد بالأمة الفرصة وتقدموا هم بالبديل:

التغريب والعلمانية.

حرث الأرض الهامدة:

لم يُفتح باب الاجتهاد، بل انكسر ليلج منه كل مدَّعٍ وصاحب هوى باسم

(التجديد والإصلاح) .

ولا شك أن مجرد وجود هذه العوامل والمؤثرات كان لا يعني حتمية نشوء

العلمانية في العالم الإسلامي؛ ذلك أن في الإسلام ذاته وفي العالم الإسلامي في

مجمله من القيم الأخرى الأصيلة والقوى المعادلة لهذه العوامل والمؤثرات ما يبطل

أو يضعف أثر هذه العوامل، ولكن الحقيقة أيضاً أن هذه العوامل والمؤثرات شكلت

عندما انتشرت وتعاظمت حالة يمكن أن نطلق عليها: (القابلية للعلمنة) ، شبيهة

بتلك (القابلية للخضوع) التي قصدها الشيخ عبد الحميد بن باديس، والمفكر مالك

بن نبي، والتي أطلقوا عليها: القابلية للاستعمار، إضافة إلى أن هذه العوامل مثلت

ثغوراً نفذ منها العلمانيون إلى البناء الفكري الإسلامي.

وعلى ذلك: فإن هذه العوامل والمؤثرات رغم وجودها في مسيرة الأمة، إلا

أنها لم تكن عناصر فاعلة إلا في القرنين الأخيرين؛ ذلك لأن العوامل المساعدة

المنشطة التي تحث هذه العناصر على التفاعل لم تكن متوفرة بشكل كافٍ قبل ذلك،

ومن أبرز هذه العوامل المساعدة: الهزيمة النفسية لدى المسلمين، وتوجه الغرب

إلى الغزو الفكري مع (أو بدلاً من) الغزو العسكري الذي ثبت إخفاقه وحده عبر

حروب صليبية طويلة.

ولكن كيف أثيرت هذه العوامل؟

يرى بعض الباحثين أن الشرارة الأولى لهذا التوجه الغربي الصليبي (الغزو

بالفكر والقيم) اتقدت في ذهن لويس التاسع (1214م - 1270م/611هـ - 669

هـ) ملك فرنسا وقائد آخر حملتين صليبيتين كبيرتين على العالم الإسلامي؛

فحينما هُزم في الحملة الصليبية السابعة، وأُسر بالمنصورة سنة 1250م

(648هـ) [4] ، أتيحت له فرصة التأمل والتدبر، فوضع مخططاً من أربعة

محاور لغزو جديد (سلمي) للعالم الإسلامي [5] .

وقد نشط هذا المخطط مجدداً بدءاً من عام (1082 هـ = 1671م) على يد

الملك لويس الرابع عشر بواسطة وزيره الشهير (كولبير) الذي كلف بعض

المعتمدين في الشرق بالبحث عن المخطوطات العربية [6] . يقول الدكتور محمود

المقداد: «وقد تلقن الفرنسيون هذا الدرس القاسي باشتراكهم مع الأوروبيين

الآخرين في هذه الحروب، وخلاصة هذا الدرس أن (الحملات المسيحية الأولى

إلى الأرض المقدسة، وإلى مصر جاءت من غير خطة مدروسة جيداً، ومن غير

معرفة شيء عن أخلاق الشعوب التي ذهبوا لقتالها أو عن تسليحها) » ، ثم يقول:

«وهكذا حاول الفرنسيون أن يتعرفوا أخلاق العرب والشرقيين وعاداتهم وتقاليدهم

وما لهم من معارف وثقافات ... ولهذا اتجه الغربيون عامة والفرنسيون خاصة إلى

جمع أعداد من المخطوطات ... وقد جُنِّد لهذا الغرض رهبان ومبشرون وتجار

وجواسيس ودبلوماسيون وسفراء في العالم العربي والإسلامي ورحَّالة وسواح

ومستعربون، كُلِّفوا خصيصاً بهذا العمل» [7] .

ففي أرض مصر إذن بدأ المخطط يدور في رأس لويس التاسع ملك فرنسا،

وبعد أكثر من 500 عام، وعلى ثغر الإسكندرية من أرض مصر أيضاً نزل القائد

الفرنسي نابليون بونابرت يُنفِّذ الحملة الفرنسية (علمانية العقل صليبية القلب) على

العالم الإسلامي سنة (1213هـ/1798م) .

لم تستغرق هذه الحملة عسكرياً أكثر من ثلاث سنوات، ولكنها خلفت وراءها

زلزالاً كبيراً كانت أعدت له عدته، وكانت أحوال المسلمين مهيأة له؛ وأهم ملامح

هذا الزلزال ما يلي:

أولاً: أنها ابتدئت بالتلبيس بادعاء تحلي نابليون وجنوده بحُلَّة الإسلام

والمبادئ والأهداف السامية؛ فقد كان أول منشور لنابليون متصدراً بما يلي: «بسم

الله الرحمن الرحيم، لا إله إلا الله لا ولد له ولا شريك له في ملكه» ، وفيه أيضاً:

«يا أيها المصريون، قد قيل لكم إنني ما نزلت بهذا الطرف إلا بقصد إزالة دينكم؛

فذلك كذب صريح فلا تصدقوه، وقولوا للمفترين: إنني ما قَدِمْت إليكم إلا لأخلِّص

حقكم من يد الظالمين، وإنني أكثر من المماليك أعبد الله سبحانه وتعالى وأحترم

نبيه والقرآن العظيم، وقولوا أيضاً لهم: إن جميع الناس متساوون عند الله، وإن

الشيء الذي يفرقهم عن بعضهم هو (العقل) و (الفضائل) و (العلوم) فقط

(! !) ... أيها المشايخ والقضاة والأئمة ... قولوا لأمتكم إن الفرنساوية هم أيضاً

مسلمون مخلصون، وإثبات ذلك أنهم قد نزلوا في رومية الكبرى وخرَّبوا كرسي

البابا ... » [8] .

لقد كان هذا الأسلوب خطاً ثابتاً في سياسة نابليون أينما حل؛ فقد كان يحرص

في مثل هذه المسائل أن يستعمل دواءً من جنس الداء! ، ولما كان نابليون يُشخِّص

داء الشعب المصري في تدينه؛ حيث إن «الأفكار الدينية كانت على الدوام

مسيطرة على الشعب المصري في شتى العصور» ... كان دواء هذا الداء عند

نابليون هو استخدام «لقاح ضد الدين» ، فسياسة نابليون كانت قائمة على

(ترويض) الدين لا مقاومته [9] ، وهذه السياسة ذات أبعاد خطيرة، وسيكون لها

أثرها الذي لا يستهان به في آلية إدخال العلمانية والتغريب إلى العالم الإسلامي.

ولكنا نشير هنا إلى الثغرة التي حاول نابليون ورجال حملته استغلالها

لاختراق الفكر والشعور الإسلامي، ألا وهي الفكر الإرجائي؛ إذ يبدو أن نابليون

وقواده وخاصة ساعده الأيمن (فينتور دي بارادي) الذي قضى أربعين سنة يتجول

في العالم الإسلامي قبل أن يلتحق بالحملة [10] كانوا يدركون جيداً تأثير الفكر

الإرجائي على مشاعر المسلمين ومواقفهم؛ ولذا: كانوا يستغلون رصيد انفصال

القول (أو الشعارات) عن العمل بمهارة واطمئنان، وقد كانوا أيضاً امتداداً لهذه

السياسة حريصين على إنفاذ الحج وإقامة الموالد! وإظهار البهجة بأعياد المسلمين

واحترام شعائرهم.

ثانياً: بدء تنحية الشريعة وإحلال بعض التنظيمات والدواوين (مجالس

الشورى) مكانها، وقد أسندوا معظم الدواوين إلى أناس غير علماء بالشريعة، بل

إن بعضها كان يرأسه نصارى؛ فمن ذلك ما يحكيه الجبرتي: «شرعوا في ترتيب

ديوان آخر وسمَّوْه محكمة القضايا، وكتبوا في شأن ذلك طوماراً [أي: وثيقة]

وشرطوا فيه شروطاً ورتبوا فيه ستة أنفار من النصارى القبط، وستة أنفار من

تجار (!) المسلمين، وجعلوا قاضيه الكبير ملطي القبطي ... وفوضوا إليهم

القضايا في أمور التجار والعامة والمواريث والدعاوى، وجعلوا لذلك الديوان قواعد

وأركاناً من البدع السيئة ... » [11] ، بل وصل الأمر إلى حد مناقشة النصارى

الأقباط والفرنج للمشايخ في مدى صلاحية أحكام شرعية منصوص عليها في القرآن

ومقارنتها بقوانينهم [12] .

ثالثاً: التوجه إلى تهميش القوى الإسلامية المناهضة للتبعية للغرب وتنحيتها،

الذي تطور بعد ذلك إلى محاربة تلك القوى، كما وضح التوجه إلى تدجين بعض

المشايخ واستمالة أصحاب النفوذ والتأثير بشد وثاق متين بينهم وبين الغرب

وإدخالهم في نطاق التبعية لفرنسا، ومن الحوادث ذات الدلالة على ذلك: محاولة

نابليون تقليد شيخ الأزهر باعتباره رئيساً للديوان وشاحاً يحمل ألوان علم فرنسا

ورَفْض شيخ الأزهر لذلك ... [13] .

ومنذ ذلك الحين يحرصون على ألا يرقى الرئاسة إلا من يضع على صدره

وسام الرضى الغربي! .

رابعاً: في مقابل ذلك: ظهر التوجه الواضح إلى إبراز دور النصارى

والأقليات الدينية الأخرى وإعلاء قدرهم وإشراكهم في مراكز التأثير واتخاذ القرار

بصورة ملحوظة، وأحداث الحملة الفرنسية زاخرة بالدلالة على ذلك [14] .

خامساً: كما أشاعوا الفجور والتحلل الأخلاقي بواسطة نسائهم وبغاياهم،

وشجعوا الفسقة وضعاف النفوس من المسلمين على الخوض فيه والتبجح به، وكان

واضحاً حرصهم على إخراج المرأة المسلمة من إطارها المعتاد [15] .

سادساً: تدشين عهد النبش في الحضارات القديمة السابقة على الإسلام،

وإثارة النعرات الوطنية وروح الفخر بهذا الماضي الوثني، مع عد المسلمين ضمن

الغزاة لمصر؛ فمن ذلك قولهم في أحد المنشورات الموجهة إلى الشعب المصري:

« ... وإن العلوم والصنائع والقراءة والكتابة التي يعرفها الناس في الدنيا أُخذت عن

أجداد أهل مصر الأُوَل، ولكون قطر مصر بهذه الصفات طمعت الأمم في تملكه،

فملكه أهل بابل وملكه اليونانيون والعرب والترك الآن ... » [16] ، وهذا أحد

أسباب بذل جهودهم المعروفة في التنقيب عن الآثار الفرعونية وإبرازها والاهتمام

بها، ومن ضمن هذه الجهود تأسيس معهد الآثار الفرعونية.

سابعاً: ظهور الحملة الفرنسية بمظهر الدولة الحديثة من تنظيمات إدارية

وعسكرية وعمران مدني، بل بمظهر الحرص على الرحمة والعدل بين الناس في

بعض الأحيان، تلك المظاهر التي بَعُد عهد المسلمين بها في عهود تخلفهم

وانحطاطهم، ففوجئوا بها تأتيهم على يد (الكفار) [17] .

ثامناً: وفي مقابل ذلك: وضح استعراض الحملة لقوتها العسكرية وقدرتها

العلمية؛ وذلك من خلال مظاهر البطش والتنكيل وإحراق القرى والبيوت وإذلال

المسلمين الذي كان أبرز أحداثه اقتحامهم الأزهر بخيولهم وسكرهم وتغوُّطهم فيه،

كما كانوا يتعمدون إظهار الفارق العلمي بينهم وبين المسلمين، وذلك بإجراء بعض

التجارب الكيميائية والفيزيائية التي كان المسلمون يومها يحارون في تفسيرها [18] .

تاسعاً: حاول نابليون إيجاد قاعدة دعائية له ولمبادئه العلمانية التغريبية

بإرسال (بعثات) إجبارية لبعض الأشخاص؛ ليشكلوا بعد عودتهم تياراً يدعو إلى

التغريب ويغير من تقاليد البلاد وعاداتها، كما عمل على غزو المسلمين اجتماعياً

باستخدام (الفن) والتمثيل، وقد ذكر ذلك صراحة في رسالة بعث بها بعد رحيله

من مصر إلى خليفته كليبر، يقول في ختامها: «ستظهر السفن الحربية الفرنسية

بلا ريب هذا الشتاء أمام الإسكندرية أو البرلُّس أو دمياط، يجب أن تبني برجاً في

البرلس.

اجتهد في جمع (500) أو (600) شخص من المماليك، حتى متى لاحت

السفن الفرنسية تقبض عليهم في القاهرة أو الأرياف وتسفِّرهم إلى فرنسا، وإذا لم

تجد عدداً كافياً من المماليك فاستعض عنهم برهائن من العرب أو مشايخ البلدان،

فإذا ما وصل هؤلاء إلى فرنسا يُحجزون مدة سنة أو سنتين، يشاهدون في أثنائها

عظمة الأمة (الفرنسية) ويعتادون على تقاليدنا ولغتنا، ولمَّا يعودون إلى مصر

يكون لنا منهم حزب يضم إليه غيرهم.

كنتَ قد طلبتَ مراراً جوقة تمثيلية، وسأهتم اهتماماً خاصاً بإرسالها لك؛

لأنها ضرورية للجيش، وللبدء في تغيير تقاليد البلاد!» [19] ، ولكن يبدو أن مقتل

كليبر على يد سليمان الحلبي وما تلاه من أحداث حال دون تنفيذ هذا المسعى.

هذه هي أهم ملامح الحملة الفرنسية على قلب العالم الإسلامي

(مصر والشام) ، وقد ظلت هذه الملامح نفسها هي ملامح الحملات العلمانية

(المحلية!) اللاحقة، ونلاحظ في نتائج هذه الملامح أنها ولَّدت الآثار المطلوبة

لقيام العوامل المساعدة بدورها التفاعلي، فإذا كان الغزو الفكري المنظم لم يظهر

بصورة كاملة، فإن الحملة حققت نجاحاً ملحوظاً في الغزو النفسي والاجتماعي

للمسلمين، وهو ما أدى إلى هزيمة نفسية أمام الغرب لدى كثير من المسلمين، ومن

ثم استعدادهم للتلقي عن هذا المنتصر (حضارياً) ، فالحملة الفرنسية أطلقت قبل

رحيلها رصاصة العلمانية والتغريب التي أصابت عقل الأمة بعد حين من هذا

الرحيل، أو بعبارة أخرى: قلَّبت الأرض الهامدة وأثارتها حتى تهيأت لغرس

البذور الفكرية الأولى للعلمانية والتغريب، وقد تولى من جاء بعد الحملة مهمة غرس

هذه البذور ورعايتها ثم قطف ثمارها.

غرس البذور:

لم ترحل الحملة الفرنسية عن مصر مكتفية بتقليب الأرض الاجتماعية

الإسلامية الهامدة، بل خلّفت وراءها بذوراً ملقَّحة فكرياً يمكن استنباتها في هذه

الأرض، ويعد الشيخ حسن العطار (11901250هـ/1776 1834م) نموذجاً لهذه

الشريحة من المتأثرين فكرياً بالحملة، فقد اندمج إلى حد كبير في علوم الحملة

الفرنسية وكثيراً ما تغزل في أشعاره بأصدقائه منهم، كما إنه نقل عنهم علومهم،

وفي الوقت نفسه تولى تعليمهم اللغة العربية، وهو الذي أطلق قولته الشهيرة:

«إن بلادنا لا بد أن تتغير أحوالها ويتجدد بها من المعارف ما ليس فيها» [20] لذا:

يعده العلمانيون المعاصرون «رائداً من رواد النهضة؛ حيث تتلمذ على يديه جيل

من الرواد كرفاعة الطهطاوي، ومحمد عياد الطنطاوي» [21] .

غير أن هذه البذور ما كانت لتنبت بغير رعاية لها، وهذا ما كان؛ فبعد

خروج الحملة الفرنسية من مصر استطاع الجندي الألباني تاجر الدخان سابقاً محمد

علي (1769م 1849م/ 1183هـ 1265هـ) الوثوب إلى رأس السلطة في

مصر، وبعد أن اطمأن الحاكم الجديد إلى قوته ضرب العلماء بعضهم ببعض،

وتخلص من خصومه المماليك (القوى الرجعية!) في مذبحة شهيرة سنة

(1226 هـ /1811م) .

وبعد أن قضى على القوى المناوئة له في الداخل والقوى المهددة له في

الخارج تفرد بالحكم وتفرغ (للإصلاح) و (التحديث) ، وهما الاسمان اللذان

استخدما مطية للعلمنة والتغريب!

ونقف هنا لنلاحظ:

* أن تفوق أوروبا الحربي والصناعي ورغبة الشرق الإسلامي وخاصة مصر

وتركيا في اللحاق بهذه القوة وهذا التقدم.. كان دائماً وراء انفتاح كثير من بلاد

المسلمين على الغرب ونظمه، بل وقيمه ومبادئه، وهذا ما دعا الإصلاحيين إلى

استقدام الخبراء والمدرسين من أوروبا وابتعاث الطلاب المسلمين إليها، ولكن

هؤلاء (المصلحين) لم ينتبهوا أو ربما لم يكترثوا إلى أن من العبث كما يقول

المؤرخ البريطاني الشهير أرنولد توينبي: «من العبث القول بأن في وسع مجتمع

إقامة جيشه على النمط الغربي، وترك جوانب حياته الأخرى تجري على ما كانت

عليه ... فإن الأمر لا يقتصر على جيش يقام على النمط الغربي ويدعمه العلم

والصناعة والتعليم المقتبس من الغرب؛ ذلك لأن ضباط هذا الجيش أنفسهم

يحصلون على أفكار لا تمت بصلة إلى مهاراتهم في فنهم، ولا سيما إذا ما ابتعثوا

إلى الخارج ليحذقوا مهنتهم.

ويوضح تاريخ هذه البلاد الثلاثة [مصر وتركيا وروسيا] ظاهرة عجيبة،

هي: قيام جماعات من ضباط الجيش بتزعم (ثورات تحريرية) » [22] .

* أن البذور الأخرى المعاكسة للعلمانية والتغريب بدأت تغرس أيضاً في العالم

الإسلامي في هذا الوقت المبكر، وإن لم تتضح هذه الهوية أو يلتفت إليها، فقضاء

الدولة العثمانية عن طريق محمد علي، القوة العلمانية الصاعدة على الواقع الذي

انبثق من دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب لم يقض على الدعوة نفسها؛ فصحيح

أن دعوة الشيخ لم تكن من القوة أو الكبر بحيث تحتوي الأمة كلها احتواءً شاملاً،

أو توقف انهيار الدولة العثمانية وتعيد الصعود بمدها، أو تواجه القوة العلمانية

الصاعدة وتقضي عليها، إلا أنها أيضاً لم تكن من الضعف والصغر بحيث يقضى

عليها بدون أن يبقى لها أثر على العالم الإسلامي وحركته الفكرية، بل لعل في

القضاء عليها سياسياً في هذا الطور أدى إلى عدم الانتباه إلى انتشار ما تدعو إليه

في أنحاء كثير من العالم الإسلامي.

لقد كان الأثر المباشر الواضح لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب هو محاربة

البدع والخرافات والأوهام والقضاء على شرك القبور والأضرحة، ولكنها أيضاً

أصَّلت وجوب رد الأمر كله إلى الكتاب والسنة وهو ما يناقض فصل الدين عن

الحياة الذي هو جوهر العلمانية، إضافة إلى أنها رسخت مفهوم الولاء والبراء على

أساس الدين والعقيدة، وهو ما يناقض مفهوم الوطنية والقومية العلمانيين.

نعود إلى بذور العلمانية:

لم يكتف الغارسون باستيراد بذور علمانية أوروبية صرفة، بل دأبوا على

تصنيع بذور هجين من العالم الإسلامي نفسه، واستخدموا في هذا التصنيع كافة

أساليب الهندسة الفكرية.

فقد شرع محمد علي أيضاً في تنفيذ ما طلبه نابليون من خليفته كليبر ولم يمتد

به الأجل لتنفيذه، ولكن محمد علي استطاع تنفيذه بصورة أدق وأخطر مما اقترحه

نابليون نفسه، فقد انتقى بعض الشباب المختارين بعناية ثم أرسلهم في بعثات إلى

أوروبا وخاصة فرنسا؛ ليكونوا في باريس تحت إشراف أحد أعضاء المعهد العلمي

الذي أسسه نابليون في مصر من قبل، ويدعى: جومار.

وعندما فتح محمد علي ودعاة النهضة المدارس والمعاهد وأرسلت البعوث إلى

أوروبا بهدف اللحاق بنهضتها.. كان بدهياً أن تُمَد هذه المدارس «بالأساتذة

الأوروبيين أو بالمتعلمين في أوروبا، ورغبوا بطبيعة الحال في أن يدرِّبوا أساتذة

من عندهم، وبهذا أوسعوا المجال للمؤثرات التي كانوا يرجون تجنبها وزادوا في

قوتها، فليس هناك طالب ذكي يقضي ثلاث أو أربع سنين في عاصمة أوروبية

مختلطاً بأهلها كل يوم وقارئاً ما يكتبون خيره وشره من غير أن يشرب في نفسه

شيئاً أكثر من قشور المدنية الغربية، ثم عاد الطلبة أفراداً وبعوثاً، لا بدراسات فنية

بحسب، ولكن بجراثيم الأفكار السياسية، بل بجراثيم العادات الاجتماعية أحياناً،

مما كان متضارباً مع تقاليدهم الموروثة، وقد كان الأثر في مجموعه ضعيفاً في

الجيل الأول، ولكنه تضاعف في الجيل الثاني، وظل يتضاعف باطراد» [23] .

كان من أبرز المتأثرين في هذه البعثات والمؤثرين في غيرهم: الشيخ رفاعة

رافع الطهطاوي الذي ذهب إلى باريس بترشيح من أستاذه الشيخ حسن العطار سنة

(1241هـ/1826م) مع بعثة كبرى ليقيم الصلاة في أعضائها، فكان سبَّاقاً إلى

قراءة كتب آباء الثورة الفرنسية! كجان روسو ودومونتسكيو وفولتير، كما نهل

من كبار المستشرقين الفرنسيين وعاين الحياة الفرنسية (بحلوها ومرها) .

وبعد رجوعه إلى مصر أثَّر الطهطاوي في الحركة الفكرية لدى قطاعات

كثيرة من مثقفي الشعب المصري، بل نستطيع القول: إن القسم الأكبر من

المصريين الذين دخلوا المدارس الحديثة بين عامي (1831م و1880م) (1246

هـ 1297هـ) هم من تلاميذ رفاعة المباشرين أو غير المباشرين عن طريق من

تخرجوا على يديه، هذا إذا لم نأخذ في حسابنا قراءه خارج هذه الحلقة، ولا شك

أنهم كانوا كثيرين [24] .

وإضافة إلى كونه أول الداعين إلى (تحرير المرأة) وإلى استعمال العامية

لغة للكتابة والتصنيف، ساهم الطهطاوي في تحبيذ بزوغ وعي وطني مصري

بمفهوم تغريبي، ف «كان هو الأول في تمييز (الوطن) عن (الأمة

الإسلامية) ... وها هو كل شيء يبدو في صورة جديدة: لقد بدَّد ابن طهطا

ظلمات القرون الوسطى التي غمرت الجماعة الإسلامية واستعاد جذوره

الفرعونية ... » [25] .

وهكذا لم يرحل الطهطاوي عن الدنيا عام 1873م (1290هـ) إلا وقد ترك

مصر واقعة في شَرَك العلمانية والتغريب:

ففي مجال التعليم: عمل محمد علي على (إصلاح) التعليم بما يخدم أهدافه

(الإصلاحية) والتوسعية، فنحَّى الأزهر جانباً، وشرع في تأسيس المدارس

النظامية والمعاهد المتخصصة التي يقوم عليها أوروبيون.

وفي مقابل تهميش الثقافة الإسلامية وتنحية الأزهر عن مكانته في قيادة العملية

التعليمية والجور على أوقافه التي كانت تكفل له الكفاية والاستقلال المادي، وفي

موازاة لعمل البعثات التعليمية الخارجية.. توسع التعليم الذي أسسه محمد علي،

وانتشرت مدارسه وخاصة في عهد الخديوي إسماعيل.

وفي الوقت نفسه: فتح المجال لمدارس الأقباط ومدارس الإرساليات

(التبشيرية) ، بل كانت بعض هذه المدارس تتلقى الدعم المادي من الخديوي نفسه

أحياناً [26] ، «وعلى الرغم من أن فرنسا كانت تسودها روح الإلحاد فإنها شجعت

رجال الدين الذين ينشرون الثقافة الفرنسية في الخارج، وأرسلت البعثات

(العلمانية) إلى مصر، فأسست عدداً من المدارس» [27] ، فكان الهدف الظاهر لهذه

البعثات نَشْر الدين الكاثوليكي، ولكنها عملت على خدمة الاستعمار الفرنسي

والتمكين لنفوذ فرنسا الفكري والأدبي في مصر [28] هذا في مجال التعليم.

أما في مجال القضاء والتشريع: ف «مع بناء الدولة الحديثة في مصر،

سعى محمد علي لتقليص نفوذ القضاء الشرعي، حتى يحقق هدفه في التحديث،

عن طريق استيراد المدنية الغربية والتقرب للقوانين الأوروبية من ناحية، والعمل

على تخفيف سيطرة الدولة العثمانية التي ارتبط بها القضاء الشرعي من ناحية

أخرى» [29] .

تركيا [30] :

في هذه المرحلة الزمنية نفسها (1830 1881م) خرج من سلطان الدولة

العثمانية بعض البلدان؛ مما عمق إحساس الدولة العثمانية بالانكسار والهزيمة،

ودفعها إلى إجراء مزيد من (الإصلاحات) في الجيش ونظم الحكم، ولكن الدولة

كانت تهوي في الحقيقة إلى هاوية التبعية والتغريب بتشجيع الغرب؛ فقد زود

السفير الإنجليزي (ستراتفورد كاننج) بتعليمات من وزير خارجيته اللورد

(إبردين) خلال سفارته الثانية لدى الباب العالي عام 1842م (1258 هـ) لتأييد

الإصلاحات الحكيمة التي درست دراسة جيدة «مما يوفر لحكومة السلطان

الاستقرار والثبات اللازمين لها» [31] ، وهذا السفير نفسه كان يعتقد أن

«الإمبراطورية التركية تحث الخطا نحو تفككها بصورة واضحة، والفرصة

الوحيدة التي تمكنها من البقاء متماسكة لأي فترة زمنية أطول يتيحها لها تقربها من

حضارة العالم المسيحي» [32] .

وفي هذا الإطار وبذريعة (الإصلاح) صدرت (التنظيمات) ، «وقد

استندت حركة (التنظيمات) إلى مرسومين سلطانيين صدرا خلال عهد السلطان

عبد المجيد.. أولهما في عام 1839م (خط شريف همايوني) ، المشهور بـ

(منشور كُلْخانة) الذي وضعه [الصدر الأعظم] مصطفى رشيد باشا تلميذ المستشرق

[الفرنسي] سلفستر دي ساس، ووزير الخارجية [محمد أمين عالي باشا] في مطلع

عهد عبد المجيد.

وقد كفلت [هذه] (التنظيمات) مساواة المسلمين والذميين من الرعايا

العثمانيين أمام القانون، مقابل الحفاظ على كيان الدولة العثمانية بعد أن هددها محمد

علي [في الفترة] (1839 1841م) بموجب معاهدة لندن.

وثانيهما في عام 1856م (خط شريف همايوني) الذي عرف بـ (منشور

التنظيمات الخيرية) ، وقد صدر عقب حرب القرم (1854-1856م) .. فكان

ثمن هذه الهزيمة أيضاً منشور التنظيمات الخيرية الذي أكد كسابقه المساواة في ذلك

بالضرائب (إلغاء الجزية) وتمثيل الطوائف غير الإسلامية بمجالس محلية وفي

مجلس القضاء الأعلى» [33] .

وقد كان وراء هذه التنظيمات رشيد باشا الصدر الأعظم للسلطان الشاب عبد

المجيد، أكبر شخصية ماسونية في وقته، ومن ثم: احتضن الماسونيين العثمانيين،

ووجه أجهزة الدولة نحو التمسك بتمثل أوروبا والبعد عن التوجه الإسلامي.

وفي عام (1282هـ/1865م) وفي ظل الحماية التي وفَّرها مدحت باشا

(تلميذ رشيد باشا) للتيار التغريبي قامت مجموعة صغيرة (6 أفراد) من العناصر

العثمانية ذوي الميول الليبرالية بعقد اجتماع سري اتفق فيه على تأسيس (جمعية

شباب العثمانيين) [34] على غرار جمعية إيطالية أقرب إلى الماسونية العسكرية،

هي جمعية الكاربوناري (إيطاليا الفتاة) ، وقد أطلق الأوروبيون على (جمعية

شباب العثمانيين) اسم: (تركيا الفتاة) ، وكان من أبرز أعضائها: الشاعر نامق

كمال، وضياء باشا، وآية الله بك، وإبراهيم شناسي، وقد اصطبغ نشاطها في

البداية بالصبغة الأدبية الثقافية، باعتبارها حركة تهدف إلى الدعوة لإصلاح الدولة

العثمانية من منظور غربي علماني، وتجلت أهدافها في أربعة مبادئ: الحرية

الفردية، وقيام النظام الدستوري، والقضاء على الإقطاع، والتحرر من السيطرة

الأجنبية.

وقد تلاقت أفكار هذه الجمعية مع أفكار دعاة (الإصلاح) المتنفذين في الحكم

وعلى رأسهم مدحت باشا فكوَّنوا تياراً قوياً يرى أن الإصلاح الذي يجب أن يسود

الدولة العثمانية هو الحكم الديموقراطي على نمط الحكم في إنجلترا وفرنسا، ومظهر

هذا الحكم هو الدستور وإنشاء المجالس النيابية، واستطاع هذا التيار التحكم في

السلطان عبد العزيز ودفعه إلى هذا السبيل، فتابع (الإصلاحات) السابقة.

بلاد الشام [35] :

أما في الشام التي كانت خاضعة آنذاك للدولة العثمانية فقد نشطت الإرساليات

التنصيرية الأجنبية فيها، ومدت جسوراً من التواصل والتعاون مع نصارى المنطقة

منذ حُكم إبراهيم باشا بن محمد علي أثناء احتلاله للشام. وبعد عهد التنظيمات في

الدولة العثمانية بدأ التغلغل الصليبي يزداد في الشام مستفيداً من الامتيازات

والتسهيلات الجديدة، ومستغلاً إمكاناته المالية والبشرية الهائلة وغطاء حماية الدول

الأوروبية؛ حيث كانت كل من هذه الدول تدَّعي حماية الأقلية النصرانية التابعة

لمذهبها (فرنسا للكاثوليك، وروسيا للأرثوذكس، وأمريكا وإنجلترا

للبروتستانت) ، وتنفذ من خلال ذلك مخططاتها التغريبية والاستعمارية التي كان

هدفها العلمانية والتغريب ووسيلتها الثقافة والتعليم.

ففي عام (1263هـ/1847م) تشكلت تحت رعاية الإرساليات (التبشيرية)

الأمريكية (جمعية العلوم والفنون) ، ومن مؤسسيها بطرس البستاني وناصيف

اليازجي وكانا ماسونيين على صلة بهذه الإرساليات الأمريكية وضمت أيضاً بعض

(المبشرين) الأمريكيين من هذه الإرسالية، مثل: فان دايك، وإيلي سميث،

وكان هدفها: نشر العلوم الغربية والدعاية لدول أوروبا! ولكن لم ينضم إلى هذه

الجمعية خلال عامين سوى خمسين عضواً كلهم من نصارى الشام، وتعد هذه

الجمعية البذرة الأولى للقومية العربية العلمانية.

وفي عام (1273هـ/1857م) وهي السنة التالية لصدور منشور التنظيمات

الخيرية العثماني الذي ساوى بين أصحاب جميع الديانات في الولايات العثمانية

حدث تطور مهم على النشاط التغريبي العلماني في الشام؛ فعلى إثر حل الجمعية

السابقة مع صنوتها الكاثولكية (الجمعية الشرقية) تكونت بدلاً منهما جمعية أكبر

باسم: (الجمعية العلمية السورية) ، كانت غاياتها ووسائلها وقانونها وأنظمتها كلها

على غرار جمعية العلوم والفنون أيضاً، ولكنها ضمت لأول مرة بين أعضائها

الخمسين والمئة: دروزاً، ومسلمين، إضافة إلى النصارى من جميع الطوائف،

كان يجمعهم اهتمامهم بتقدم البلاد على أساس (الوحدة الوطنية) ، كما أن جميع

أعضائها كانوا من العرب، ولذا: أصبح الرباط الذي يؤلف بينهم هو اعتزازهم

بالتراث العربي.

ولم تأت سنة (1275هـ/1858م) إلا وكانت الإرسالية الأمريكية قد افتتحت

أكثرمن ثلاثين مدرسة ودار طباعة تنشر مبادئها وثقافتها من خلالها.

وفي عام (1276هـ/1860م) حدثت فتنة كبرى بين الموارنة والدروز أَوقَفت

إلى حين تصاعد المد القومي وحفزت في الوقت نفسه جهود الداعين إليه، وبعد هذه

الفتنة أصدر بطرس البستاني صحيفة سياسية أسبوعية باسم (نفير سوريا) ،

«ودعا فيها إلى الاتحاد والتعاون بين أبناء الطوائف المختلفة، وإلى ضرورة

فصل الدين عن الدولة، وإحلال الشعور القومي العربي مكان التعصب

الطائفي» [36] .

وفي عام (1281هـ/1862م) حدث تطور آخر مهم؛ إذ افتتحت (الكلية

السورية الإنجيلية) في بيروت، التي عرفت فيما بعد باسم: (الجامعة الأمريكية)

لتكون بديلاً محلياً عن البعثات الخارجية التي كانت لا تؤتي الثمار المطلوبة،

ولتلعب دوراً كبيراً في مجريات الأحداث فيما بعد، حيث كانت معقلاً من معاقل

الحركة القومية العلمانية وموئلاً ضم الداعين إلى العلمانية والتغريب في الشام.

وفي سنة 1863م (1282 هـ) أنشأ بطرس البستاني (المدرسة الوطنية)

على أساس وطني لا ديني.

ثم في سنة (1285هـ/1868م) نالت الجمعية العلمية السورية اعتراف

الحكومة بها، وفسحت المجال للاشتراك فيها حتى ضمت أعضاءً كثيرين بارزين

من الذين كانوا يقطنون خارج البلاد، وخاصة في إستانبول والقاهرة، وتحسنت

الصلات بين بعض الساسة من أوروبا وأعضاء فيها، وفي هذه الجمعية ظهر أول

صوت يدعو بوضوح وصراحة لحركة القومية العربية، وذلك عندما ألقى إبراهيم

بن ناصيف اليازجي على ثمانية من أعضائها قصيدة اتخذت صورة النشيد الوطني،

وَرَد فيها تحريض للعرب على الثورة على الترك، وفخر بأمجاد العرب وأدبهم،

وقد ذاعت هذه القصيدة ذيوعاً واسعاً.

وفي سنة 1870م (1287هـ) أصدر بطرس البستاني صحيفة (الجنان)

وهي صحيفة سياسية أدبية دعا فيها إلى أن ازدهار الشرق يقوم على «الحكم

الصالح الذي لا يمكن أن يقوم إلا بفضل اشتراك الجميع فيه، وفصل الدين عن

السياسة، وقبل كل شيء: إقامة العدل والاتحاد بين أبناء الأديان المختلفة، وتقوية

الشعور الوطني الموحد بين جميع المواطنين العثمانيين» [37] ، وقد جعل شعار

صحيفته: (حب الوطن من الإيمان) ، وهو شعار لم يكن يعرفه العالم العربي

حتى ذلك الزمن، وهكذا بات الطريق مفتوحاً أمام الجيل الأول من دعاة الوطنية

الذين ينادون صراحة بأن الولاء الديني لا يصلح أساساً للحياة السياسية.

وفي سنة 1875م (1292هـ) أسَّس خمسة شبان تلقوا العلم في الكلية

السورية الإنجيلية في بيروت وهم جميعاً نصارى من مريدي اليازجي والبستاني،

ومن أبرزهم: إبراهيم اليازجي والدكتور فارس نمر [38] أسَّسوا جمعية سرية قامت

على أساس قومي هي (جمعية بيروت) «، وهي تعد أول حزب سياسي في هذه

البلاد، فعادت العثمانيين وسمَّت دولتهم باسم تركيا، وكان من أهم مبادئها: فصل

الدين عن الدولة واعتبار الجنس العربي هو الأساس، والغريب من تلك الجمعية

اتهامها الدولة العثمانية باغتصاب الخلافة الإسلامية من العرب والتفريط في الدين،

مع العلم أن أعضاءها المؤسسين ليسوا بمسلمين كما ذكر سابقاً، وأن من انضم

إليها لاحقاً كان قومياً علمانياً، بل إن كاهناً كاثوليكياً كان يدعو في جريدته (النحلة)

في الفترة نفسها إلى» الإصلاح الديني [الإسلامي] بلهجة العربي القومي، وهاجم

عبد الحميد واصفاً إياه (بمغتصب لقب الخليفة) « [39] .

وإضافة إلى الاهتمام بالتعليم وتكوين الجمعيات السرية والعلنية، نشط

نصارى الشام في نشر أفكارهم المتمثلة في العلمانية والقومية العربية عن طريق

إصدار الصحف والمجلات التي كانت الوسيلة الإعلامية العامة الوحيدة آنذاك.

ولكن لم يكن النصارى وحدهم الدعاة إلى هذه الأفكار الجديدة في الشام، بل

كان هناك بعض (علماء المسلمين) الذين تأثروا بهذه الدعوة، وعلى رأس هؤلاء

برز في هذه المرحلة: عبد الرحمن الكواكبي (12651320هـ/1848 1902م)

الذي أخذ على عاتقه الدعوة إلى (الوحدة الوطنية) وفصل الدين عن الدولة، فكان

كما يقول حفيده سعد زغلول الكواكبي عنه:» أول رائد لفلسفة العلمانية مجاهراً بها

بين المسلمين « [40] .

الجزائر [41] :

يعد الاحتلال الفرنسي للجزائر سنة (1246هـ/1830م) ، نقطة تحول كبرى

في تاريخ المنطقة، وقد كان لهذا الاحتلال عوامل دينية وعمرانية (حضارية) لا

تخفى، عبَّر عن هذا بورمون قائد الحملة على الجزائر عندما أقام صلاة الشكر

احتفالاً بالنصر، وبعث للملك الفرنسي وصفاً لهذا الاحتفال قال في نهايته:

» مولاي! لقد فتحت بهذا العمل باباً للمسيحية على شاطئ إفريقيا، ورجاؤنا أن

يكون هذا العمل بداية لازدهار الحضارة التي اندثرت في تلك البلاد «، ولم

يُخف المؤرخون المحدثون هذه الحقيقة، فوصف إدوارد يور المؤرخ الفرنسي

المعروف حادث الاستيلاء على الجزائر بأنه:» كان أول إسفين دُقَّ في ظهر

الإسلام « [42] .

وفي هذه الفترة المبكرة وبعد أن استقرت أقدامهم عمل الاحتلال الفرنسي على

مصادرة الأوقاف وإغلاق مراكز التعليم بالمساجد والكتاتيب، وإذا ما سمحوا بالتعليم

ورخصوا بالكتاتيب على قلة ذلك» فمن شروط الترخيص ألا يُدرَّس تفسير القرآن،

أو تاريخ الجزائر ... « [43] .

وفي القضاء انتزع الفرنسيون تدريجياً اختصاصات المحاكم الشرعية

وحولوها إلى محاكمهم المدنية.

كما عمل (جنرالات الجيش الفرنسي) وسياسيوه بالتعاون مع (رجال الدين

المسيحي) على استنبات بذور تغريبية جزائرية النسب وفرنسية الولاء، فاستمالوا

في هذه المرحلة المبكرة بعض مشايخ الطرق الصوفية ورجال الزوايا والأعيان

وأشباه الفقهاء ممن أنابهم الاحتلال عنه، فشرع الاحتلال ينظم لهم الرحلات إلى

فرنسا، وربما أقدم على تسريب الفتيات الفرنسيات زوجات لبعضهم مؤثِّرات

وجاسوسات، فتحولت بعض هذه الزوايا وأصحابها إلى بؤر لترويج التغريب

وتشويه الدين ومسالمة الاستعمار معتبرة إياه (قضاءً وقدراً) ؛ حيث أفتى بعضهم

بقبول الاحتلال كقدر.

أما من جهة المقاومة: فقد بايعت بعض القبائل عام 1832م (1248هـ)

الأمير عبد القادر على الأساس الديني (للجهاد ضد الكفار) فاتخذ لقب أمير

المؤمنين ودعا القبائل لطاعته بدافع الدين، وأطلق على الأراضي المحتلة اسم

(دار الكفر) وعلى البلاد التابعة له (دار الإسلام) .

ولكن في الوقت نفسه استعان عبد القادر بالأوروبيين من مختلف الجنسيات

لتدريب الجيش ولإقامة مصانع للذخيرة، وقرّب بعضهم، وقد اشتهر من بين هؤلاء

المستشرق الفرنسي (!) ليون روش الذي اتخذه الأمير مستشاراً له بعد أن اعتنق

الإسلام، فأقام عنده نحو أربع سنوات، وعندما انقطع الصلح بين الأمير وجيش

الاحتلال سنة 1839م (1255هـ) رفض روش اتِّباع الأمير في استئناف القتال،

واعترف له بأنه تظاهر باعتناق الإسلام، ومع ذلك فقد أخلى سبيله، ثم تبين بعد

ذلك أنه كان جاسوساً.

ويقدم لنا الأمير عبد القادر الجزائري نموذجاً واضحاً لأثر العوامل المساعدة

التي ذكرناها سابقاً (كالهزيمة النفسية وانحراف مفهوم القضاء والقدر، إضافة إلى

البعثات والرحلات المنظمة والمقصودة) في التحول نحو القبول والميل تجاه

التغريب والعلمنة، فهذا الأمير الذي قضى من عمره خمسة عشر عاماً في (جهاد

الكفار) حدث له تحول كبير بعد ذلك؛ فبعد هزيمته العسكرية في آخر سنة 1847م

(1263هـ) التي أعقبها إيقافه للقتال ثم غدر الفرنسيين به وأسره وترحيله إلى

فرنسا.. أطلقه نابليون الثالث من الأسر» وأمر بنقله إلى (بروسة) من أملاك

الدولة العثمانية، وأثناء مروره بباريس قدم تعهداً كتابياً بألا يفعل شيئاً ضد فرنسا.

ومنذ ذلك الوقت أصبح يسوده شعور بالعرفان بالجميل نحو نابليون ونحو

فرنسا بصفة عامة! حتى إنه طلب الاشتراك في الاقتراع على الإمبراطورية في

نوفمبر 1852م [1269هـ] (لأن الأخوَّة تجعلنا مواطنين فرنسيين!) .. كذلك ساد

الأمير شعور بالتفاوت الحضاري وتفوق قوة فرنسا المادية، وأصبح مقتنعاً (بأن

الله هو الذي أراد هزيمة المسلمين لأنهم انحرفوا عن دينهم، وعليهم أن يقبلوا

بالمصير الذي انتهوا إليه) .. بل إنه أظهر في مناسبات كثيرة تعاونه مع فرنسا،

كما اشتهر بإنقاذه للمسيحيين في أحداث سنة (1276هـ/1860م) بدمشق « [44] ،

ولا غرابة في ذلك إذا عرفنا أن الأمير عبد القادر كان راسخ القدم في التصوف [45] ،

كما أنه شايع الماسونية بعد انتقاله إلى سورية [46] .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015