بأقلامهن
أمل القصيمي
علم تفسير القرآن من العلوم المهمة التي يجب على الأمة تعلمها، وهو من
أشرف العلوم الشرعية وأجلّها؛ فالشيء إنما يشرف بشرف موضوعه. وموضوع
علم التفسير كلام الله وهو أشرف الكلام وأصدقه، وهو أصل الدين ومنبع الصراط
المستقيم، وينبوع كل حكمة، وقد أوجب الله سبحانه على الأمة حفظ القرآن، كما
أوجب عليهم فهمه وتدبّر معانيه، قال تعالى: [أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ
عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً] (النساء: 82) ، وقال سبحانه
[كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ] (ص: 29) ،
وقال جل من قائل: [أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا] (محمد: 24) .
والتفسير المعتد به عند جمهور العلماء سلفاً وخلفاً ينقسم إلى قسمين:
الأول: التفسير بالمأثور:
ويعتمد على القرآن وصحيح السنة، والمنقول عن الصحابة رضوان الله
عليهم والمنقول عن التابعين.
الثاني: التفسير بالرأي والاجتهاد: وينقسم إلى قسمين:
1 - التفسير المذموم المردود: وهو التفسير من غير تأهُّل له بالعلوم التي لا
بد للمفسر منها، أو التفسير بالهوى والاستحسان، أو التفسير المؤيد لمذهب فاسد أو
رأي باطل، وهذا اللون من التفسير كثيراً ما يشتمل على المرويات الواهية
والباطلة.
2 - التفسير الممدوح المقبول: وهو التفسير المبني على المعرفة الكافية
بالعلوم اللغوية والشرعية والأصولية وعلم السنن والحديث، ولا يعارض نقلاً
صحيحاً ولا عقلاً سليماً، مع مراقبة الله غاية المراقبة في كل ما يقول.
ومدار حديثنا عن النوع الأول وما يتصل به وهو التفسير بالمأثور؛ فكما
علمنا أن التفسير بالمأثور يشمل التفسير بالقرآن والسنة بما صح عن النبي صلى
الله عليه وسلم؛ وليس لأحد أن يرفضه أو يتوقف بعد ثبوته، ثم تفاسير الصحابة،
ثم التابعين وهي أكثر من أن تُحصى؛ ففيها الصحيح والحسن والضعيف
والموضوع والإسرائيليات؛ فما هي الإسرائيليات؟
الإسرائيليات: «جمع إسرائيلية، نسبة إلى بني إسرائيل، وإسرائيل هو
يعقوب عليه السلام وبنو إسرائيل: هم أبناء يعقوب ومن تناسلوا منهم فيما
بعد» [1] . ولفظ الإسرائيليات وإن كان يدل بظاهره على اللون اليهودي للتفسير،
وما كان للثقافة اليهودية من أثر ظاهر فيه، إلا أن المراد بهذا اللفظ عموم
اللون اليهودي واللون النصراني للتفسير وما تأثر به التفسير من الثقافتين اليهودية والنصرانية، ويُطلق لفظ الإسرائيليات من باب التغليب للجانب
اليهودي على الجانب النصراني؛ فإن الجانب اليهودي هو الذي اشتهر أمره فكثر
النقل عنه؛ وذلك لكثرة أهله، وظهور أمرهم، وشدة بالمسلمين [2] [*] .
أقسام الإسرائيليات:
تنقسم الأخبار الإسرائيلية إلى ثلاثة أقسام.. وهي:
القسم الأول: قسم علمنا صحته لموافقته القرآن وصحيح السنة: وفيه ورد
قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «بلغوا عني ولو آية، وحدّثوا عن بني
إسرائيل ولا حرج، ومن كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار» [3] . وهذا
القسم صحيح، وفيما عندنا ما يغنينا عنه، ولكن يجوز ذكره وروايته للاستشهاد به
ولإقامة الحجة عليهم من كتبهم؛ وذلك مثل ما ذُكر في صاحب موسى عليه السلام
وأنه الخضر كما ورد في الحديث الصحيح.
القسم الثاني: قسم علمنا كذبه؛ لأنه يعارض القرآن وصحيح السنة، وعندنا
ما يخالفه، وهذا القسم لا يصح قبوله ولا روايته؛ ومثل ذلك: ما ذكروه في
قصص الأنبياء من أخبار تطعن في عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كبعض
أخبارهم في قصة يوسف، وداود، وسليمان، وكقصة الغرانيق.
القسم الثالث: ما هو مسكوت عنه لا من هذا ولا ذاك.
فلا نؤمن به ولا نكذّبه؛ لاحتمال أن يكون حقاً فنكذّبه أو باطلاً فنصدّقه،
ويجوز حكايته لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا
تكذبوهم، وقولوا آمنا بالله وما أُنزل إلينا وما أُنزل إليكم» [4] ، وغالب هذا القسم
مما لا فائدة فيه تعود إلى أمر ديني؛ ومن هذا: أسماء أصحاب الكهف، ولون
كلبهم، وعددهم، وعصا موسى من أي الشجر كانت، ونوع البضع الذي ضرب
به قتيل بني إسرائيل، إلى غير ذلك مما أبهمه الله تعالى في القرآن مما لا فائدة في
تعيينه تعود على المكلفين في دينهم ولا دنياهم [5] .
والحق أن رواية الإسرائيلية شيء وإيرادها في التفسير شيء آخر؛ فإيرادها
في صدد تفسير آية تصديق لها وأي تصديق، ورسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول: «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم» [6] [7] .
قال ابن الملك في (مبارق الأزهار) : «إنما نهى رسول الله صلى الله عليه
وسلم عن تصديقهم وتكذيبهم؛ لأنهم حرّفوا كتابهم، وما قالوه إن كان من جملة ما
غيروه فتصديقهم يكون تصديقاً بالباطل، وإن لم يكن كذلك يكون تكذيبهم تكذيباً لما
هو حق» .
مبدأ دخول الإسرائيليات في التفسير:
بدأ تعرّف المسلمين على هذه القصص في عصر الصحابة رضوان الله عليهم
حيث كان هناك عدد من التابعين كانوا من أهل الكتاب قبل دخولهم الإسلام ومن
العلماء بدينهم، فلما أسلموا كانوا كثيراً ما يُسألون عما ورد في كتبهم اليهودية
والنصرانية مما يتصل ببعض قصص القرآن [8] ، فكان الصحابي إذا مر على قصة
من قصص القرآن يجد نفسه ميالاً إلى السؤال عن بعض ما طواه القرآن منها ولم
يتعرّض له، فلا يجد من يجيبه على سؤاله سوى هؤلاء النفر الذين دخلوا في
الإسلام، وحملوا إلى أهله ما معهم من ثقافة دينية، فألقوا إليهم ما ألقوا من الأخبار
والقصص الديني.
غير أن الصحابة رضوان الله عليهم لم يسألوا أهل الكتاب عن كل شيء، ولم
يقبلوا منهم أي شيء، بل كانوا يسألون عن أشياء لا تعدو أن تكون توضيحاً للقصة
وبياناً لما أجمله القرآن منها مع توقفهم فيما يُلقى إليهم؛ فلا يحكمون عليه بصدق أو
بكذب ما دام يحتمل الأمرين امتثالاً للحديث آنف الذكر. كما أنهم لم يسألوهم عن
شيء مما يتعلق بالعقيدة أو يتصل بالأحكام اللهم إلا إذا كان على جهة الاستشهاد
والتقوية لما جاء به القرآن، كما لم يسألوهم عن الأشياء التي يشبه أن يكون السؤال
عنها نوعاً من العبث واللهو كالسؤال عن لون كلب أهل الكهف، والبعض الذي
ضُرب به القتيل من البقرة.
أمّا التابعون فقد توسعوا في الأخذ عن أهل الكتاب، فكثرت على عهدهم
الروايات الإسرائيلية في التفسير، ويرجع ذلك لكثرة من دخل من أهل الكتاب في
الإسلام، فظهرت في هذا العهد جماعة من المفسرين أرادوا أن يسدّوا هذه الثغرات
القائمة في التفسير بما هو موجود عند اليهود والنصارى، فحشوا التفسير بكثير من
القصص المتناقضة، ومن هؤلاء مقاتل بن سليمان المتوفى سنة (150هـ) ، ثم
جاء بعد عصر التابعين من عظم شغفه بالإسرائيليات وأفرط في الأخذ منها إلى
درجة جعلتهم لا يردُّون قولاً.. واستمر هذا الشغف بالإسرائيليات والولع بنقل هذه
الأخبار التي أصبح الكثير منها نوعاً من الخرافة إلى أن جاء دور التدوين للتفسير،
فوجد من المفسرين من حشوا كتبهم بهذا القصص الإسرائيلي [9] .
سبب الاستكثار من الإسرائيليات:
لعل من المناسب إيراد مقالة ابن خلدون في مقدمته عن أسباب الاستكثار من
المرويات الإسرائيلية؛ فإنه خير من كتب في هذا الموضوع.
قال رحمه الله: «وقد جمع المتقدمون في ذلك يعني التفسير النقلي وأوعوا،
إلا أن كتبهم ومنقولاتهم تشتمل على الغث والسمين، والمقبول والمردود؛ والسبب
في ذلك أن العرب لم يكونوا أهل كتاب ولا علم، وإنما غلبت عليهم البداوة والأمية،
وإذا تشوقوا إلى معرفة شيء مما تتشوق إليه النفوس البشرية في أسباب المكونات،
وبدء الخليقة، وأسرار الوجود، فإنما يسألون عنها أهل الكتاب قبلهم،
ويستفيدونه منهم، وهم أهل التوراة من اليهود ومن تبع دينهم من النصارى. وأهل
التوراة الذين بين العرب يومئذ بادية مثلهم، ولا يعرفون من ذلك إلا ما تعرفه العامة
من أهل الكتاب، ومعظمهم من (حِمْيَر) ، الذين أخذوا بدين اليهودية، فلمّا أسلموا
بقوا على ما كان عندهم مما لا تعلّق له بالأحكام الشرعية التي يحتاطون لها، مثل
أخبار بدء الخليقة، وما يرجع إلى الحدثان والملاحم، وأمثال ذلك، وهؤلاء مثل:
» كعب الأحبار، ووهب ابن منبه، وعبد الله بن سلام «فامتلأت التفاسير من
المنقولات عنهم، وفي أمثال هذه الأغراض أخبار موقوفة عليهم، وليست مما
يرجع إلى الأحكام فيتحرى فيها الصحة التي يجب بها العمل، وتساهل المفسرون
في مثل ذلك، وملؤوا الكتب بهذه المنقولات، وأصلها كما قلنا عن أهل التوراة
الذين يسكنون البادية ولا تحقيق عندهم بمعرفة ما ينقلونه من ذلك، إلا أنهم بَعُدَ
صيتهم، وعظمت أقدارهم، لما كانوا عليه من المقامات في الدين والملة، فتُلقيت
بالقبول من يومئذ» [10] .
ومن أسباب الإكثار من المرويات الإسرائيلية بالإضافة إلى ما ذُكر كثرة حذف
الأسانيد، وغلبة الدخيل في أواخر القرن الثالث الهجري وما بعده، حيث ألف في
التفسير خلق كثير، فاختصروا الأسانيد، ونقلوا الأقوال من غير عزوها إلى قائلها؛
فمن ثم دخل الدخيل أكثر من ذي قبل، والتبس الصحيح بالعليل، وصار كل من
يسنح له قول يورده، ومن يخطر بباله شيء يعتمده، ثم ينقل ذلك من يجيء بعده
ظاناً أن له أصلاً غير ملتفت إلى تحرير ما ورد عن السلف الصالح ومن يُرجع
إليهم في التفسير [11] .
هذا وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على رسوله
الأمين.