مجله البيان (صفحة 3715)

المسلمون والعالم

نحو تفعيل أفضل لانتفاضة الأقصى

د. يوسف الصغير

لم يحر قلمي مثلما حار عند كتابة هذه الخواطر؛ لأنها تقتضي التخلص من

كثير من الرواسب العالقة في الذهن والمتمكنة من السلوك.

لقد كان دخول شارون إلى ساحة المسجد الأقصى هو الخطوة ما قبل الأخيرة

في خطوات بناء الهيكل، وكان المتابع للأحداث يصاب بالأسى ويحس بالعجز؛

فقد وصلت الأمور إلى أن نقطة الخلاف الأساسية ليست شرعية وجود دولة اليهود

في فلسطين، ولا حق اللاجئين بالعودة، ولا حقيقة شكل دولة فلسطين الموعودة

ومضمونها؛ بل ولا اسم عاصمة كل كيان وحدوده؛ فكل هذه الأمور تم تجاوزها

وحلها أو تجاهلها، ولكن بقيت القشة التي قصمت ظهر البعير ألا وهي أنه إذا

سلَّمت السلطة القدس لليهود وجعلوها عاصمة لهم وسموها أورشليم؛ فماذا سيكون

وضع المسجد الأقصى وقبة الصخرة؟ إن هذه القضية لم يستطع عرفات تجاوزها،

وكان الإعلام يركز على الخلاف حول هذه النقطة مما يعني ضمناً أن اتفاقاً ما قد

تم التوصل إليه حول بقية القضايا، وكانت مناورة السلطة في إظهار التمسك بحق

السيادة على الحرم من أجل جس النبض في مدى تقبُّل التنازل عن بقية القضايا.

والحقيقة أن موقف الناس ومنهم الدعاة لا يتعدى الحوقلة وبعض المقالات

والكتب التي توضح رأي المسلمين فيما يجري؛ ولكن لم تبرز أي مواقف عملية،

ولا أعْدُو الحقيقة عندما أؤكد أن عامة الناس لا يحسون بما يجري؛ بينما ساسة

اليهود وخدمهم في الإدارة الأمريكية ينتظرون على أحرِّ من الجمر إقدام عرفات

على التوقيع على آخر التنازلات.

نعم! لقد كانوا ينتظرون انتحار القضية، وعندما لم تستطع الضحية الانتحار

قام شارون بمحاولة قتل القضية وإثبات السيادة على آخر جزء متنازع عليه مع

السلطة، لقد كان اليهود مستعدين لاحتمال قيام مظاهرات واحتجاجات تستمر لعدة

أيام، ويتم قمعها بعد عدة أيام، ويسدل الستار على القضية أيضاً بعد أيام، ثم تبدأ

المرحلة الأولى من مراحل بناء الهيكل ألا وهي تدمير المسجد.

لقد بدأت الأحداث كما توقعوا: مظاهراتٍ، وقتلاً للعُزل، ومحاولات تنسيق

مع السلطة لإيقاف الاحتجاجات. ولكن حدث ما لم يكن بالحسبان، لقد كان محمد

الدُّرة عائداً مع والده من سوق للسيارات المستعملة عندما وقعا في منطقة يقوم فيها

جنود يهود بالتسلي بقتل رماة الحجارة، وكان اليهود من القرب بحيث يسمعون

صراخ الطفل المرعوب مع صياح الوالد يطلب منهم عدم إطلاق النار عليهم؛ فهما

أعزلان حتى من الحجارة، وبالطبع لم يزد ذلك اليهود إلا غياً وإجراماً فاستمروا

بإطلاق النار حتى خمد الطفل وأصيب أبوه؛ بل تم قتل سائق أول سيارة إسعاف

تأتي لإخلائهما. إن هذا حدث عادي ومتكرر، وكل واحد من المئة والستين الذين

وقعوا ضحية الأحداث له قصة مشابهة، ولكن الفرق أن الله قدَّر أن أحد المصورين

الفلسطينيين قد وقع مثلهما في مصيدة النيران، واختبأ بقربهما وقام بتصوير

مأساتهما وإرسالها إلى وكالة الأنباء الفرنسية التي قامت ببثها؛ وهنا حصل ما لم

يكن بالحسبان: لقد كانت المشاهد مؤثرة بشكل أجبر كثيراً من وسائل الإعلام على

عدم تجاهلها طويلاً.

وفي العالم الإسلامي كانت الصور مؤثرة بحيث أخرجت الناس إلى الشوارع

تعبيراً عن مساندتهم إخوانهم في فلسطين، وللاحتجاج على المجازر التي يرتكبها

اليهود، ودفعت هذه المشاهد القضية إلى الواجهة، وبدأت القنوات في التنافس على

المشاهدين عن طريق طرح قضية فلسطين من جديد.

وإذا كان شعار الانتفاضة هو: (لا إله إلا الله، والدعوة إلى الجهاد وطلب

الشهادة) ، فإن هذا انعكس على نبض الشارع، وبدأتَ تسمع كلمة الجهاد من جديد

وأنها السبيل الوحيد لاستعادة الحقوق بعد أن نجح العدو في جعل الجهاد مرادفاً

للإرهاب حتى في وسائل الإعلام في العالم الإسلامي.

لقد اتضح لكل ذي لب أن الإعلام كان له أكبر الأثر في إبراز القضية من

جديد، وأن التغطية الإعلامية أساسية في تفاعل الناس مع أحداث الانتفاضة، بل

عامل أساسي في توجيه الرأي العام والحكومات، وتفوقت القنوات العربية لأول

مرة في متابعة الحدث، وبرز مراسلون متميزون لا يقلون مهنياً عن المراسلين

الغربيين، بل يفوقونهم في توضيح الحقائق وتصوير الحدث كما هو.

لقد كان الإعلام غائباً تماماً عن أحداث الفلبين وإندونيسيا وكشمير والجزائر

والبوسنة وكوسوفا، نعم! لقد كانت وجهة النظر الإسلامية غائبة والتغطية من

المسلمين لها غائبة؛ فأين التحقيقات الصحفية الميدانية؟ وأين البرامج الوثائقية

الجيدة عما جرى للمسلمين ويجري في الفلبين؟

وهل قضيتهم تختصر في اختطاف مجموعة من الرهائن الغربيين؟ بل ماذا

يجري في إندونيسيا، وماذا حل بالمسلمين في جزر الملوك من مجازر وإبادة؟

إن الذين يتجاهلون إبادة المسلمين في هذه الجزر هم الذين يسارعون إلى

تصوير جماهير المسلمين المقهورين هناك الذين يحملون السيوف ويدعون للجهاد

في جزر الملوك نصرة لإخوانهم، يصورون ذلك على أنها محاولة لإبادة النصارى،

ويطالبون بفرض الحماية الغربية!

أين الإعلام الصادق عما يجري في الجزائر من مجازر رهيبة؟ هل قام أحد

بإبراز الحقيقة؟ وأنا هنا أجزم أنه لو كان الجاني الحقيقي هم المسلمين لتسابقت

الأجهزة الإعلامية الصليبية لتسليط الضوء عليه ولكن..! !

أما كشمير أفلا يكفي عجز 600 ألف جندي هندي عن السيطرة على المنطقة

لإثبات أن وجود الهند مرفوض شعبياً؟

إن الإعلام الغربي يمارس التعتيم الشامل على أحداث الشيشان إلا ما ندر،

ولم يكسر هذا الحصار إلا تنبه المجاهدين لأهمية مواقع الإنترنت واستخدامها

بنجاح.

إن الذي أريد أن أخلص إليه أن غياب التوجه الإسلامي عن الإعلام،

وتقصيرهم في هذا الجانب أمر يجب تداركه بصورة عاجلة، وهو يحتاج إلى

استنفار عام لتدارك النقص في هذا الجانب؛ لأن الصراع يلعب فيه الإعلام دوراً

حيوياً، ولا يخفى أن أدوات اليهود في السيطرة تعتمد على الاقتصاد والإعلام.

إننا بحاجة إلى العمل الجاد في أوساط العلماء وطلبة العلم وأهل الخير من

أجل بيان أهمية هذا الثغر ووجوب سده.

كما أن هناك كثيراً من المشاريع العاجلة التي تحتاج لتضافر الجهود، ومن

أهمها:

- إنشاء عدد من مؤسسات الإنتاج الإعلامي المسموع والمقروء والمشاهد.

إن هذه المشاريع ضرورية جداً لتدريب الإعلاميين، وكذلك من أجل سد النقص

الشديد في المواد الإعلامية.

إن الربحية ممكنة في هذه المشاريع؛ ولكن أرى أن نجاحها في رسالتها

يقتضي أن تكون مؤسسات لا تسعى للربح.

- تشجيع الشباب الملتزم على الدخول في التخصصات الإعلامية والأدبية

بنيِّة الدعوة إلى الله وتبليغ رسالة الإسلام.

- التعاون مع الصحف ووكالات الأنباء العاملة ومحاولة إيصال الحقيقة.

- إن إنشاء وكالة أنباء إسلامية لكسر احتكار الأخبار هو ضرورة ملحة وأمل

ينبغي العمل على تحقيقه.

- الاستفادة من ثورة الاتصالات في الدعوة إلى الله لمواجهة الكيد، والعمل

على وقف الهجمة التغريبية الشرسة.

قد تبدو الاقتراحات خيالية لبعضنا؛ ولكن الأمر ليس كذلك.

إننا إذا أردنا أن نخرج من الأزمة التي نعيشها فيجب أن نكون جادين في

استثمار الهبَّات العاطفية التي تمر فيها الأمة والعمل على تفعيلها في أعمال مستمرة.

إن التعاطف مع الحدث يخبو ما لم يتم استثماره في عمل منتج، وإن الكثير من

الفرص قد ضاعت بسبب الاعتماد على العواطف فقط في التعامل مع الناس.

إن أهم استثمار ممكن للعواطف الحالية هو ثورة إعلامية إسلامية ملتزمة

تكون رائدة في نشر الإسلام والذب عنه، وإذا لم نقم بذلك فإن الله قد تكفَّل بحفظ

هذا الدين، وكما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «إن الله ليؤيد هذا الدين

بالرجل الفاجر» [1] وقال تعالى: [وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا

أَمْثَالَكُمْ] (محمد: 38) .

فأين نحن من هذا الثغر الذي لم يُسدَّ بعد؟

طور بواسطة نورين ميديا © 2015